رورتي بين منزلتين: الـ"نحن"، أم "ذاتُ التنوير"؟


فئة :  مقالات

رورتي بين منزلتين: الـ"نحن"، أم "ذاتُ التنوير"؟

رورتي بين منزلتين: الـ"نحن"، أم "ذاتُ التنوير"؟

مقدمة:

يشكل التقابل بين مفهوم الـ"نحن" ومفهوم نزعة التنوير العلمية مبحثا رئيساً في الفلسفة المعاصرة، خاصة في سياق نيوبراغماتية الفيلسوف الأمريكي ريتشارد رورتي. يستشكل رورتي في تفكيره الفلسفي إشكالية التنوير الكوني والنزعة المتعالية التي كانت سائدة في الفلسفة الغربية، ويدعو إلى تبني مقاربة براغماتية مرنة تضع الثقافة واللغة في مركز الاهتمام الفلسفي. وفي هذا السياق، يبرز مفهوم الـ"نحن" كأداة لفهم الهوية البشرية في سياقاتها الثقافية والتاريخية، حيث يتجاوز رورتي الفكرة التقليدية للهوية الثابتة والمطلقة التي تمثلها النزعة التنويرية الحديثة، ويؤكد أن الحقيقة ليست كونية أو ثابتة، بل هي نتيجة لعمليات تأويلية مستمرة تجسد ثقافاتنا وممارساتنا الاجتماعية.

تركز هذه الورقة البحثية على دراسة العلاقة بين هذين المفهومين، من خلال تبيان الأسلوب الذي يتبناه رورتي لتحرير الفلسفة من النزعة التنويرية التي سعت إلى فرض براديغم كوني للمعرفة والحقيقة، عبر الانفتاح على التعددية الثقافية والفكرية من خلال مفهوم الـ"نحن" الذي يشير إلى الجماعة الإنسانية في خصوصياتها الثقافية والاجتماعية. ومن ثمة، نتساءل: كيف يمكن إعادة تشكيل وظيفة الفلسفة في سياق التعددية الثقافية؟ وما سبيل الانعطاف من سؤال المعرفة إلى سؤال الفهم؟ وأيّ دور للفلسفة في سياق تعزيز التحادث بين الثقافات؟ هل يمكن التعامل مع مفهومي الحقيقة والهوية في ظل ما هو تاريخي ثقافي متغير؟

الـ"نحن" مقابل تنوير الحداثة:

نفترض، بدءا، أنّ الاستشكال الذي يطرحه رورتي في تناوله لمسألة الفلسفة، لا يتغيا النظر إليها من جهة تعاليها عن مجموع الثقافة الإنسانية، بل يشتغل داخل منطقة الفيلسوف المناهض للفلسفة، خاصة الأطروحة التي تنظر إليها بوصفها محكمة تمتلك مشروعية الحكم على صلاحية الدعاوى المغايرة لها من حيث التخصص. ويمكن تحديد أطروحته الأساسية في الفرضية الآتية: يعبر صوت الفيلسوف عن صوت داخل مجموع الأصوات التي تتحادث فيما بينهما أفقيا. يتبين أن مسعى هذه الدراسة هي الوقوف عند التقابل بين الـ"نحن" ومرجع الهوية الذاتي؛ أي بين تقليد براغماتي ينظر إلى الذات من حيث تشابكها على مستوى الفعل وتعالقها بالتسويغ المؤسس على الممارسة، وتقليد حديث تحدد فيه الذات من خلال مطابقتها لذاتها.

يتأول رورتي الخطاب الفلسفي للعصر الحديث، وتحديدًا خطاب التنوير، من حيث هو سعي إلى تأسيس قناعات مثبتة، تُسوغ بالإحالة إلى العقل في حد ذاته، بوصفه ملكة "فوق-ثقافية*" تُحصّل التطابق مع الواقع. وتخضع هذه الملكة لسلطة معيارية ومنهج واضحين.[1] لا يروم هذا التأويل الدفاع عن مشروعية التنوير، بقدر ما تتمثل غايته في الانعطاف إلى تجاه مغاير، يتأسس على التشخيص الآتي:

أ- نقد النزعة العلمية لعصر التنوير؛ لأنها ترتكز على عنف إقصائي، يجبر الذات على الالتزام بمجموعة محددة من المعايير القادرة على الوصول إلى الحقيقة.

يجابه رورتي هذه الأطروحة، استنادًا إلى خلفية تقوم على:

ب- مناهضة التصور الذي ينبني على ضرورة حساب علاقة التطابق بين الأفكار والأشياء. ويترتب عنه إعطاء الأولوية للقدرات المعرفية للذوات الإنسانية؛ إذ ينبغي أن تضمن هذه القدرات للنوع البشري إمكانية المشاركة في هذه العلاقة[2]. والنتيجة الحاسمة هي: لا تتحدد مشروعية البراغماتية في تسويغ الاعتقاد دون تداول ومشاركة؛ أي إن التسويغ* لا يعتمد على الالتزام بحيادية المعيار، بقدر ما يعبر عن مجموعة من الفوائد العملية[3]. تركز هذه الدعوى على إعادة ربط الفلسفة بشعلة الممارسة الاجتماعية، بناء على ردم الهوة بين ذاتية الممارسة الفلسفة القائمة على البحث في علاقة التطابق بين الفكرة والشيء) وأنسنة فعل التفلسف استنادا إلى فعالية البشر في مشاركة الآراء بحرية، دون الحاجة إلى اعتماد العقل كمعيار حسابي برهاني[4].

يمكن التعبير عما سبق، بصيغة مخصوصة، فنقول: تكمن غاية رورتي في التأسيس للانتقال من نزعة علمية منغلقة إلى الانفتاح على ما يمكن أن يعود على الإنسان بالفائدة. ويستتبع ذلك تمييزا بين ضربين رئيسين: أ- رغبة في الموضوعية (علاقة مع الواقع)؛ ب- رغبة في التضامن (علاقة مع الذوات الإنسانية). يرفض رورتي المسعى العلمي التنويري الذي تأسس على محاولة التعالي عن قيود المجتمع التاريخي في بحثه عن موضوعية الحقيقة الثابتة. وبالمقابل، ينتصر إلى الدعوى التضامنية التي تقوم على نوع من التأويل الذاتي، حيث تسعى إلى رغبة تشتغل ضمن نطاق ربط الإحالة بالــ"نحن*"[5]. لا يتوقف رورتي عند هذا المستوى، بل إنه يُجذر أطروحته، حين يرد الموضوعية ذاتها إلى مجرد اتفاق لغوي مشترك بين الذوات الإنسانية (البينذاتية)، فيقصي بذلك الأطروحة التمثلية التي تتأسس على العلاقة العمودية بين العقل المتمثِل والواقع المتمثَل. فينعطف إلى ربط هدف البحث، في عصر ما بعد الميتافيزيقا/الإبستيمولوجيا، بنفي الدخول في علاقات تأويلية مع شيء يوجد خارج أفق الـ"نحن" التي تنتمي إليها الذات.[6]

يحدد فيلسوفنا مسارًا واضحا للذات كي تسلكه، يربطها بالإحالة إلى الـ"نحن" التي تنتمي إليها، مغلقا بذلك أفق العلاقة بما يتجاوز دائرة الإنساني. ويستتبع ذلك النتيجة الآتية: التأكيد على أوصاف الإجراءات التسويغية المألوفة التي تُستخدم في الممارسة الاجتماعية، دون التقيد بمطلب البحث عن الحقيقة[7]. يشير هذا المسار، في جوهره، إلى نزعة التمركز العرقي، حيث لا تعني الحقيقة سوى الشيء نفسه في جميع الثقافات، تماما مثلما هو الحال مع المصطلحات الثابتة، من قبيل: "هنا، هناك، خير، شر، أنتم، أنا"؛ التي تتوحد في حملها لمعانٍ متماثلة عبر مختلف الثقافات.[8] وعليه، تصبح الحقيقة مرتبطة باللغة، التي هي، كما يعبر نيتشه، "جيش متحرك من الاستعارات"[9]، بعيدا عن أي تطابق مع الواقع أو سعي إلى اكتشاف ماهيته الثابتة.

يؤكد رورتي أنّ كل مجتمع يمتلك القدرة على تسويغ ممارساته الخاصة من خلال تأويله للسياق الثقافي واللغوي الذي ينتمي إليه، مما يعني أنّ الحقيقة والمعايير لا تتشكل إلا ضمن الإطارات التي تخلقها تلك السياقات، وبالتالي تصبح الممارسة الثقافية هي المعيار لتحديد ما هو مقبول أو صحيح داخل كل مجتمع.[10] وبذلك، تتغير مهمة الفلسفة بشكل جذري عما كانت عليه في التقليد الكلاسيكي؛ إذ لم تعد هي المحكمة التي تحدد معايير الثقافة، بل تصبح هي التعبير الممكن لما يمكن أن تكون عليه الثقافة، شريطة "أن تتوقف عن محاولة تعريف نفسها من خلال قواعد واضحة وصريحة"[11]، فتتبدد بذلك صورة الفلسفة كمهيمنة على الفكر، لتأخذ دورًا أكثر مرونة وارتباطًا بالسياق الثقافي المتغير. ويترتب عن إدخال الفلسفة في صلب الثقافة تخلّيها عن مفهوم "عقلانية فوق-ثقافية كونية*"[12]؛ لأنه في الوقت الذي أعلن فيه "هيلاري بوتنام" "أننا قد تخلينا عن فكرة الإله"[13]، أضحى من الممكن "إنتاج مفهوم أكثر عقلانية، وتصورا أفضل للأخلاق، وذلك من خلال المضي من داخل تقاليدنا، نظرا لأننا مدعوون للمشاركة في حوار إنساني حقيقي"[14]، يتجاوز الأطروحات الكونية الثابتة، وينتصر للتعددية الثقافية كسبيل لتحقيق فهم يتعلق بتأويلية ومعنى الوجود الإنساني.

بينما كانت الفلسفة الكانطية تركز على ذات مركزية عابرة للثقافات ولا-تاريخية، فإن النظرية الاجتماعية البراغماتية ترفض هذا المنظور؛ إذ ترى أن التساؤل حول ما إذا كانت قابلية التسويغ للجماعة التي نتماهى معها تتضمن الحقيقة هو ببساطة سؤال غير ذي جدوى. وهذا ما يقصده رورتي بالتمركز العرقي، حيث إن الانتقال من وضعية تاريخية إلى شرط لا-تاريخي هو أمر مستحيل؛ وذلك بسبب تاريخية اللغة وعرضيتها، لأنها تتطور باستمرار ضمن حقل التأويل، حيث لا وجود لوقائع ثابتة أو أبدية خارج تلك المرتبطة باللغة.[15] لا يقتصر هذا المعنى الأنطولوجي للهيرمينوطيقا على التنظير لحياة البشر بطريقة تفرض عليه احترام حقوق الواقع، بل يشمل التشكيك في هذه الحقوق المزعومة واقتراح منظور جديد تمامًا لفهم مفهوم الواقع نفسه. فالهيرمينوطيقا، بهذا المعنى، لا تقتصر على شغل المساحة الثقافية التي خلفتها الميتافيزيقا لتملأها بفلسفة تأسيسية أخرى، بل الأهم من ذلك أنها تبيّن أن الهدف النهائي للبحث الفلسفي لم يعد منصبًّا على السعي للاتصال بشيء موجود بشكل مستقل عن الـ"نحن" التي ينتمي إليها البشر، بل يصبح أكثر اهتمامًا بإعادة تفكيرنا في علاقاتنا بالواقع نفسه وكيفية تأويله.[16]

ومع ذلك، فإن الإحالة إلى الـ"نحن" في فلسفة رورتي تجعلها تتسم بطابع النسبية؛ لأنها تفتح المجال أمام كل ما هو تاريخي، بما في ذلك الثقافة واللغة والأسطورة والدين والرمز... وهذه "النزعة النسبية*" هي ما يعيبه "الواقعي*" على البراغماتي؛ إذ يرى أن ما يجب أن يركز عليه الفكر الفلسفي هو فصل الذات عن أي مجتمع معين، والاكتفاء "بمراقبته من فوق*"؛ أي من وجهة نظر "أكثر كونية*" تنأى عن السياقات الثقافية المحددة.[17] يتمثل رد البراغماتي على هذه التهمة ببساطة في أنه لا يدافع عن "نظرية وضعية*" تحكم على شيء ما بأنه نسبي بالمقارنة مع شيء آخر. وبالمقابل، فإن الموقف الذي يدافع عنه هو "موقف سلبي*"؛ بمعنى أنه يتخلى عن التمييز التقليدي بين الحقيقة والرأي. وبالتالي، يتخلى عن التمييز بين الحقيقة كمطابقة مع الواقع والحقيقة كمصطلح يزكي ويوافق على الاعتقادات التي تم تسويغها بشكل جيد ضمن سياق ثقافي معين.[18]

إذا كان الواقعي يميل إلى تبني نظرية وضعية فيما يتعلق بطبيعة الحقيقة، وهي نظرية تراهن على أن الحقيقة هي الرأي السائد لفرد أو جماعة معينة،[19] فإن البراغماتي يرى أنه ليس هناك ما يمكن إضافته إلى الحقيقة في هذا السياق؛ إذ إذا كانت الحقيقة تقتصر على هذا الفهم، فإن كل شخص سيكون مستعدًا للدفاع عن صدق الاعتقادات التي يراها صالحة للاعتقاد بها والعمل على تأكيدها، مما يفتح المجال لمختلف التسويغات الذاتية التي تدور في فلك النسبية الثقافية. ولعلّ السبب الذي يجعل الواقعي يرى في موقف البراغماتي السلبي موقفًا نسبيًّا، يكمن في كونه غير قادر على الاعتقاد بوجود إمكانية للمرء في رفض وجود حقيقة طبيعية جوهرية وأصلية. فالواقعي يرى أن هناك حاجة لفكرة ثابتة أو مطلقة للحقيقة تكون مستقلة عن السياقات البشرية والتاريخية.[20] ولذلك يقول رورتي:

"إن اليوتوبيا البراغماتية ليست اليوتوبيا التي تكون فيها الطبيعة الإنسانية متحررة ولكن بالأحرى تلك التي يكون فيها لكل واحد الفرصة لكي يقترح طرقا شتى لبناء مجتمع عالمي"[21].

ثم يضيف، وهو إزاء تأكيده على وهم الإقرار بالطبيعة الإنسانية المشتركة، قائلاً:

"في رأينا لا شيء يمكنه دحض هذا المذهب، إلا أن يكون ذلك فكرة أفضل لتنظيم المجتمع. فلا حدث –حتى حادثة أوشفيتس- بإمكانه أن يثبت لنا بوجوب توقفنا عن العمل من أجل يوتوبيا كهذه. وحدها يوتوبيا أخرى، أكثر إقناعا، يمكنها أن تفعل ذلك"[22].

يتأول رورتي النزعة الواقعية استنادا إلى الأطروحة الآتية: يرى الواقعيون أنّ الحقيقة يجب أن تُفهم على أنها تطابق مع الواقع، مما يقتضي بناء ميتافيزيقا قادرة على التمييز بين الاعتقادات الصادقة والكاذبة، وذلك لإثبات إمكانية تسويغ الاعتقادات الطبيعية دون النظر إلى الجانب الثقافي. وهذا يعني ضرورة بناء نظرية في المعرفة تقدم نوعًا من التسويغ الذي ينبع من الطبيعة البشرية ذاتها، وتجد شرط تحققها في الرابط الذي يوحد جزءًا من الطبيعة بما لا ينتمي إليها. ولكي تكتسب نظرية المعرفة هذه صفة العقلانية الحقة، يجب أن تؤدي "إجراءات التسويغ" إلى الحقيقة، والتطابق مع الواقع، وإلى الطبيعة الجوهرية للأشياء،[23] وهو ما يعكس رؤيةً ميتافيزيقية تظل تسعى لإيجاد قاعدة ثابتة للحقيقة خارج السياقات الثقافية والتاريخية. وفي المقابل، فإن نيوبراغماتية رورتي تفتح دائمًا إمكانية لوجود "اعتقاد أفضل*"، مما يعني أنه لا وجود لحقيقة مطلقة تتعالى عن الثقافة. ومن هنا، تتمثل رغبة البراغماتي في إبرام تأويل ذاتي شامل قدر الإمكان؛ أي الرغبة في توسيع نطاق الإحالة إلى الـ"نحن"، وهو ما يعكس أن نوع الإحالة لديه مرتبط بـ"نحن" التي تعبر عن الإنسان في تاريخيته وثقافته ولغته وكل ما يرتبط به. وبالتالي، لا يأخذ البراغماتي بالمساعي التي تهدف إلى ربط الإحالة بما يتجاوز دائرة الإنسان، كالمفاهيم المتعلقة بالواقع أو الطبيعة، بل يسعى لربطها بالسياق الإنساني بحد ذاته.[24]

يرجع سبب تفادي القول بالطبيعة الإنسانية المشتركة[25]، مثل "الإنسان خير بطبعه" أو "على الإنسان أن يلتزم بالواجب؛ لأنه شيء طبيعي فيه" أو "الميل إلى العدالة متجسد في الإنسان بطبيعته"... أي تلك الشعارات التي ارتبطت بالحداثة والتنوير، إلى محاولة تجنب تهميش، بل وحتى إقصاء كل ما هو تاريخي/ثقافي في الإنسان، وذلك بسبب الانتصار لفكرة الكوني/الكلي التي تُعلي من شأن الطابع العام والمطلق. وبالتالي، يؤدي ذلك إلى تعزيز إمكانية العودة إلى الأنظمة التوتاليتارية ذات النزعة الاستبدادية[26]. فقد عاش الغرب هذا التوتر حين انتصر للعقلانية الكونية المتعالية عن الثقافة، وهو ما سعى "يورغن هابرماس" إلى إحيائه من خلال تقديم "العقلانية التواصلية الكونية"، التي تهدف إلى تعويض العقل الكانطي المتمركز حول الذات وتجاوز تحديات هذه النظرة الأحادية[27]. يقود التفكير بهذه الطريقة إلى نتيجة منطقية تقوم على تأسيس الكونية على الموضوعية، أو ما يطلق عليه "هيلاري بوتنام" "اتخاذ وجهة نظر الإله"[28] تجاه كل الأشياء الأخرى والحكم عليها من الخارج، مما يؤدي بشكل مباشر إلى إعدام الخصوصية التي ينتمي إليها الإنسان. فالفكر الفلسفي اليوم يعكف على مراجعة النتائج التي أسفرت عنها هذه النزعة الكونية المتعالية، من خلال إعادة الاعتبار للخصوصي/الثقافي/التاريخي، بهدف "فهم" المجتمع الإنساني الذي ينتمي إليه الفرد. لذلك، نجد رورتي يقول:

"إنما كانت الغاية، أن نفهم.. وليس، أن نحكم.. وكان الأمل، هو أن يفهم المرء ما يقنعه من الشعر، أو ما يقنعه من الدين، أو من الاجتماع، أو ما يحقق إشباعه من الفلسفة، بحيث يتزود بما يثري فهمه وقناعته الخاصة"[29].

لا يعبر "الفهم" عن "المعرفة"، لأن جوهر المسألة يكمن في الانفتاح على الآخر دون فرض حكم مسبق عليه، ودون محاولة جعله يخضع لنمط حياة لا ينتمي إليه. وحدها الهيرمينوطيقا يمكنها حمل لواء هذه المهمة؛ لأنها الوحيدة التي لا تسعى لإعادة تأسيس المجتمعات الإنسانية من منظور فوقي، بل إنها لا تعامِل الإنسان إلا باعتباره مشروعًا يجب أن يكون لذاته، لا في ذاته، كما يؤكد سارتر.[30] وعليه، لا يمكن للمنهج أن يسعفنا هنا في قراءة هذه المجتمعات؛ إذ إن الظاهرة الهيرمينوطيقية لا تتعلق بمسألة منهج، كما يوضح غادمير،[31] بل هي تتعلق بالانفتاح على الإنسان من خلال محادثته. وهكذا، تصبح الموضوعية مسألة "وجود مشترك بين الذوات"، لا ترتبط إلا بالاتفاق الذي يمكن التوصل إليه من خلال محادثات مشتركة بين هذه الذوات، أو بالتسامح تجاه أي عدم اتفاق قد تنتهي إليه هذه المحادثة، كما يشير رورتي.[32]

يتضح مما سبق، أن التفكير مع رورتي بهذه الطريقة يقود إلى فكرة مفادها أنه لا توجد ضرورة لتطبيق نماذج هندسية على ثقافات أخرى؛ إذ إن ذلك سيعيدنا مرة أخرى إلى الوقوع في الوهم الديكارتي الذي لا يرى سوى الاعتقادات المشتركة. وتتمثل النتيجة الأساسية لهذا الطرح في فرضية أن الثقافات لا تمتلك نفس المصير، وبالتالي لكل ثقافة خصائصها وسماتها المميزة التي تميزها عن غيرها.[33] من هنا، لا يمكن للبشر أن يموقعوا أنفسهم من خارج إجراءات التسويغ التي من خلالها يؤولون ثقافاتهم ولغاتهم؛ إذ يستحيل أن يستقر الإنسان على أرض محايدة لا تنير إلا من خلال نور العقل الطبيعي.[34] فكل تأويل للواقع مشروط بالسياقات الثقافية واللغوية التي ينتمي إليها، ولا يمكن للإنسان أن ينفصل عنها ليصل إلى معرفة محايدة أو مطلقة. ما يؤكد طرح البراغماتي هذا هو أن تصوره للمعرفة مشابه لتصوراته للحقيقة. فالمعرفة، في نظره، هي مجرد إعطاء أفضلية للاعتقادات التي يمكن للإنسان تسويغها بشكل جيد. وهذا يعني أن البحث عن طبيعة المعرفة في هذا التصور البراغماتي لا يمكن أن يتم إلا من خلال تأويل "اجتماعي-تاريخي"* للنمط الذي تمكنت من خلاله العديد من الشعوب من الوصول إلى اتفاق حول ما يمكن اعتباره قابلًا للاعتقاد به دون غيره.[35]

يؤكد رورتي، بناء على ما سبق، أن الإنسان هو نتاج بيئته وثقافته وتاريخه وكل العوامل التي شكلت بنيته، حيث تعدّ تسويغاته التأويلية بمثابة إعلان عن رغبته في القطع مع مشروع عصر التنوير الذي كان يتسم بالاتجاه الكوني المطلق، أي تنوير خاضع لسلطة تكتسب مشروعيتها انطلاقًا من ذاتها، دون أن تنفتح على الثقافات الأخرى المختلفة.[36] لذلك، نجد رورتي غالبًا ما ينطلق في صياغة جمله من مفهوم الـ"نحن" في مجمل كتبه، مما يعكس بشكل جلي نزعة الانتماء القوية لديه. وكمثال على هذا الولاء للتقليد البراغماتي، يقول رورتي:

"إنّ البراغماتية كلمة مبهمة وغامضة ومبتذلة. ومع ذلك فهي تحدد المجد الرئيسي للتقليد الثقافي ببلادنا.. فلا أحد من الكتاب الأمريكيين قدم اقتراحا جذريا لجعل مستقبلنا مختلفا عن ماضينا مثلما فعل جيمس وديوي"[37].

وعليه، تصبح مسألة العمل وفقًا للتسويغات الخاصة بكل مجتمع وفرضية الحاجة إلى التمركز العرقي محاولة لجعل الاعتقادات المحايثة لثقافة معينة تتماشى مع تلك الموجودة داخل نفس الثقافة[38]، حيث يسير هذا التماشي بانسيابية تامة ويمنح أفقًا جديدًا للحوار والمحادثة مع الآخرين الذين تم إقصاؤهم وتهميشهم بسبب تطبيق معيار فاصل وموحد كحكم مطلق مؤهل للحكم على بقية الثقافات المختلفة؛ إذ إن "الشيء الذي يجب أن يعيه فلاسفتنا (كما يقول رورتي) هو أن يعبروا عن عبقريتنا القومية من أجل إثراء الروح الإنسانية"[39].

لكن، إذا لم يكن من الممكن انتقاد النزعة البراغماتية بوصفها تؤسس لنظرية نسبية، فإنه يمكن انتقادها بسبب نزعتها العرقية، وهو الأمر الذي يؤكد عليه رورتي نفسه[40]؛ إذ يشير قوله بأننا "لسنا سوى اللحظة التاريخية التي نحن فيها"[41]، إلى التأكيد على "نزعة التمركز العرقي"*، مما يحيل إلى أن فهمنا للعالم واعتقاداتنا تنبثق بشكل أساسي من السياق التاريخي والثقافي الذي ننتمي إليه، مما يفرض حدودًا على قدرتنا على التواصل مع تجارب وثقافات أخرى خارج هذا الإطار. غير أن الملاحظ هو أن رورتي، وهو بصدد معالجة هذا الإشكال، يذهب إلى أن معنى أن تكون لك نزعة عرقية يتمثل أساسًا في التمييز من داخل الجنس البشري بين الاعتقادات الموجودة داخل ثقافة ما والاعتقادات التي لدى ثقافة أخرى. فهو يرى أن هذه النزعة العرقية تنشأ عندما يحاول المرء أن يضع فوارق جوهرية بين الثقافات بناءً على تصورات ثقافية أو تاريخية ثابتة، مما يؤدي إلى نوع من العزل والتفريق بين الاعتقادات بناءً على الأصل الثقافي أو العرقي. وهكذا، تكون عرقية كل شخص، حسب رورتي، عبارة عن إعلان لمشاركة الآخرين في نقاش حقيقي وواقعي، حيث يرى أن إقصاء الموضوعية المتعالية والمتمركزة حول ذات متعالية عن الثقافة أمر لا مفر منه، من أجل أن يكون الدخول في محادثة ذات أفق منفتح ومثمر أمرًا ممكنًا[42]. فإلغاء النظرة الأحادية التي تفرض معيارًا واحدًا للحقيقة والمعرفة يساعد على خلق بيئة تحادثية تسمح بتبادل وجهات النظر بين الثقافات المختلفة، مما يعزز فهمًا مشتركًا بعيدًا عن الأحكام المسبقة أو التمييز الثقافي. وبالتالي، يهدف استعمال رورتي لمفهوم نزعة التمركز العرقي خصيصًا إلى محاولة توطيد شخصية قادرة على أن تكون حرة ومنفتحة على المحادثة، وهي بذلك نقيض للنزعة التمثلية التي تدعي امتلاك الحقيقة[43]. فالقيمة الأخلاقية لهذه النزعة تتحدد في كونها تهدف إلى التسامح مع التعددية والاعتراف بأن الحقيقة ليست ملكًا حصريًّا لأي ثقافة أو مجتمع بعينه[44]. وهذا يعكس رغبة في بناء فضاء تحادثي مفتوح يسمح بتبادل الآراء والاعتقادات بشكل غير خاضع لأحكام مسبقة أو معايير كونية متعالية.

إن تأكيد رورتي على أنه لا يوجد سوى الـ"نحن" يمثل، في الوقت ذاته، رفضًا للبقايا الأخيرة لمفهوم العقلانية المتعالية عن الثقافة.[45] وهذا يعني أن السير في الاتجاه الصحيح يتطلب الاعتراف بقدرة الإنسان على سرد الماضي بوصفه "تاريخًا للتقدم"*؛ أي فهم التاريخ كمسار تطوري يتجاوز التصورات الثابتة والمتعالية التي كانت تحكمه، ويفتح الأفق أمام تأويل ديناميكي يتصل بالسياقات الثقافية والتاريخية الخاصة بكل جماعة. ومن ثمة، يتم التأكيد على الطريق الطويل الذي لا يزال مفتوحًا أمام النوع البشري لقطعه، وذلك لكي لا يُؤخذ بالتصورات الحالية ويُتم تقديسها بشكل مطلق[46]. من منظور رورتي، يتعلق الأمر أولًا بأولئك الذين يطمحون إلى السعي نحو التغيير المستمر، وأولئك الذين لا يزالون متمسكين بقوة الإقناع والبرهان كأدوات لتثبيت الحقيقة. يشير رورتي إلى ضرورة التحول من البحث عن يقينيات مطلقة نحو تبني فكر يتقبل التغيير والتنوع دون الإصرار على استدامة التصورات الثابتة. وبما أن رورتي ينتمي إلى التقليد البراغماتي الليبرالي، فإن الأهم بالنسبة إليه هو قدرة مجتمع المثقفين الذين ينتمون لهذا التقليد على تأويل وفهم التغيرات التي تطرأ على الآراء والاعتقادات؛ أي القدرة على تسويغ الذات لما كانت عليه في الماضي، دون اعتبار أن هذه الأفضلية مغروسة في الطبيعة البشرية، بل هي مرتبطة فقط بطريقة عيش الإنسان في حاضره، حيث يعكس التغيير المستمر في الآراء تكيفًا مع السياقات الثقافية والاجتماعية التي تشكل تجربة الإنسان الراهنة[47].

يؤدي ذلك، حسب رورتي، إلى نتيجة منطقية تتمثل في أن تحديد الفلسفة لا يمكن أن يتم إلا من خلال اعتبارها "تهذيبية" بما فيه الكفاية لتستند إلى "الحكمة العملية"* التي تجمع بين المعرفة والعمل؛ وذلك بهدف الدخول في محادثة مع الغرباء. من هذه الزاوية، تكمن مهمة الفلسفة في تجنب فتح أفق يقطع مع الثقافة التي ينتمي إليها الإنسان. وبالتالي، تصبح الفلسفة محادثة تهذيبية هدفها الأساسي هو الانفتاح على الآخرين من خلال محادثات مفتوحة، بحيث تكون وظيفتها إدامة المحادثة، وتطويرها داخل سياقات ثقافية وتاريخية متعددة، دون ادعاء امتلاك الحقيقة المطلقة.[48]

خلاصة:

يتبين أن انتماء رورتي إلى التقليد البراغماتي الليبرالي ذهب به في اتجاه التأكيد أن الفلسفة لا ينبغي أن تُفهم كمحكمة تسعى لإيجاد حقيقة مطلقة أو كونية، بل كأداة للمحادثة والتفاعل بين الثقافات. فهو يعارض أي محاولة لتحديد الحقيقة على أساس معايير متعالية أو خارجية عن السياقات الثقافية، ويفضل أن تكون الفلسفة مجرد "محادثة" بين الأفراد والثقافات المتنوعة. بالنسبة له، الفلسفة يجب أن تظل مفتوحة، مرنة، وغير متعالية، تسعى لتأويل التغيرات الفكرية بشكل يعكس التاريخية والخصوصية الثقافية، دون ادعاء القدرة على الوصول إلى حقيقة كلية تسود جميع الثقافات.

ينتهي رورتي، بناء على هذه الخلفية، إلى أن الفلسفة ليست منهجا لإعادة تأسيس حقيقة كونية، بل هي جزء من مشروع إنساني مستمر يهدف إلى تعزيز التفاهم بين الثقافات المتعددة، والتفاعل مع الآخر دون فرض تصورات أو أحكام مسبقة. وسعى رورتي، بالاعتماد على مفهومي "التسويغ" و"التمركز العرقي"، إلى تعزيز فكرة أن الاعتقادات والثقافات لا يمكن أن تُحكم بناءً على معيار واحد أو كوني، بل هي نتاج تاريخي اجتماعي يتغير مع الزمن. تصبح الفلسفة، في هذا السياق، مجالًا للتحادث المستمر والاحترام المتبادل بين جميع البشر والثقافات، من دون تقديس لأي مفاهيم ثابتة. ولهذا السبب، يحاجج رورتي بضرورة تعامل الفلسفة مع الماضي والحاضر من خلال تسويغ اعتقاداتنا الثقافية وتفهم التنوع الفكري الذي يميز الإنسان، مما يعزز التعددية ويشجع على التفكير النقدي الذي يرفض المطلقات ويقبل بالخصوصيات الثقافية وينفتح على إمكانية المراجعة المستمرة والقابلية للخطأ.

 

المصادر والمراجع المعتمدة:

Rorty, Richard, Objectivisme, relativisme et vérité, traduit de l’anglais par Jean-Pierre Cometti, Paris, PUF, 1994

......................, L’Homme spéculaire, Traduit de l’anglais par Thierry Marchaisse, Paris, Editions du Seuil, 1990

…………….., Science et solidarité: La vérité sans pouvoir, Traduit de l’américain par Jean-Pierre Cometti, Paris, Editions de l’éclat, 1990

…………….., Consequences of Pragmatism, Minneapolis, University of Minnesota Press, 1982

……………..., "Le cosmopolitisme sans émancipation: en réponse à Jean-François Lyotard", traduit par Pierre Saint-Amand, Critique, N. 456, Mai 1985

……………..., "Grandeur universaliste, profondeur romantique, ruse pragmatiste", Traduit de l’anglais par Francine Marthouret et Frances Albernaz, Puf, 2003

Rorty, Richard et Vattimo, Gianni, L’avenir de la religion: Solidarité, charité, ironie, Traduit de l’italien par Carole Walter, Paris, Bayard Editions, 2006

Putnam, Hilary, Reason, truth and history, New York, Cambridge University Press, 1981

رورتي، ريتشارد، "حول التراكيب البنائية الهزيلة والتحليلات المهنية وثقافة التراث"، تاريخ الفلسفة في أمريكا خلال 200 عام، إعداد بيتر كاز، ترجمة حسني نصار، القاهرة، مكتبة الانجلو المصرية، 1980

جديدي، محمد، الحداثة وما بعد الحداثة في فلسفة ريتشارد رورتي، بيروت، لبنان، الدار العربية للعلوم ناشرون، الطبعة الأولى، 2008

*. Transculturelle.

[1]. Richard Rorty, Objectivisme, relativisme et vérité, traduit de l’anglais par Jean-Pierre Cometti, Paris, PUF, 1994, p. 47

[2]. Ibid., p. 38

*. Justification.

[3]. Ibid., p. 47

[4]. Ibid., p. 46

*. Nous.

[5]. Ibid., p. 38

[6]. Richard Rorty et Gianni Vattimo, L’avenir de la religion: Solidarité, charité, ironie, Traduit de l’italien par Carole Walter, Paris, Bayard Editions, 2006, p. 10

[7]. Richard Rorty, Objectivisme, relativisme et vérité, op. cit., pp. 38 et 39

[8]. Ibid., p. 39

[9]. Nietzsche, "De la vérité et du mensonge au sens extra-moral", in The Viking Portable Nietzsche, Walter Kaufmann (ed.) pp. 46 et 47 ; trad. Franç. Dans le livre du philosophe, Paris, Aubier-Flammarion, 1969. Cité par: Richard Rorty, Objectivisme, relativisme et vérité, op. cit., p. 52

[10]. Ibid., p. 41

[11]. Ibid., p. 42

*. Rationalité transculturelle universelle.

[12]. Voir: Ibid., p. 44

[13]. Ibidem.

[14]. Ibidem.

[15]. Ibid., p. 194

[16]. Richard Rorty et Gianni Vattimo, op. cit., pp. 10 et 11

* Relativisme.

*. Réaliste.

*. Observer de haute.

*. Plus universel.

[17]. Richard Rorty, Objectivisme, relativisme et vérité, op. cit., p. 49

*. Théorie positive.

*. Négative.

[18]. Ibid., p. 39

[19]. Ibid., pp. 39 et 40

[20]. Ibid., p. 39

[21]. Richard Rorty, "Le cosmopolitisme sans émancipation: en réponse à Jean-François Lyotard", traduit par Pierre Saint-Amand, Critique, N. 456, Mai 1985, p. 570

يُنظر: محمد جديدي، الحداثة وما بعد الحداثة في فلسفة ريتشارد رورتي، بيروت، لبنان، الدار العربية للعلوم ناشرون، الطبعة الأولى، 2008، ص، 353

[22]. Ibid., p. 578

يُنظر: محمد جديدي، مرجع سابق، ص، 353

[23]. Richard Rorty, Objectivisme, relativisme et vérité, op. cit., p. 37

*. Croyance meilleure.

[24]. Ibid., p. 38

[25]. Ibid., p. 36

[26]. Rorty Richard, Science et solidarité: La vérité sans pouvoir, Traduit de l’américain par Jean-Pierre Cometti, Paris, Editions de l’éclat, 1990, p. 46

[27]. Richard Rorty, "Grandeur universaliste, profondeur romantique, ruse pragmatiste", Traduit de l’anglais par Francine Marthouret et Frances Albernaz, Puf, 2003, p. 153

[28]. Hilary Putnam, Reason, truth and history, New York, Cambridge University Press, 1981, pp. 49 et 50

[29]. ريتشارد رورتي، "حول التراكيب البنائية الهزيلة والتحليلات المهنية وثقافة التراث"، تاريخ الفلسفة في أمريكا خلال 200 عام، إعداد بيتر كاز، ترجمة حسني نصار، القاهرة، مكتبة الانجلو المصرية، 1980، ص، 457

[30]. Richard Rorty, L’Homme spéculaire, Traduit de l’anglais par Thierry Marchaisse, Paris, Editions du Seuil, 1990, pp. 381 et 382

[31]. Hans-Georg Gadamer, Vérité et Méthode, trad. Fr. d’E. Sacre et de P. Ricoeur, Paris, Ed. du Seuil, 1976, p. 20. Cité par: Richard Rorty, L’Homme spéculaire, op. cit., pp. 393 et 394

[32]. Rorty Richard et Vattimo Gianni, op. cit., p. 10

[33]. Richard Rorty, Objectivisme, relativisme et vérité, op. cit., p. 43

[34]. Ibid., p. 41

*. Socio-historique.

[35]. Ibid., p. 40

[36]. Ibid., p. 43

[37]. Richard Rorty, Consequences of Pragmatism, Minneapolis, University of Minnesota Press, 1982, p. 160

[38]. Richard Rorty, Objectivisme, relativisme et vérité, op. cit., p. 43

[39]. ريتشارد رورتي، "حول التراكيب البنائية الهزيلة والتحليلات المهنية وثقافة التراث"، مرجع سابق، ص، 445

[40]. Richard Rorty, Objectivisme, relativisme et vérité, op. cit., p. 50

[41]. Ibid., p. 49

*. Ethnocentrisme.

[42]. Ibid., p. 50

[43]. Ibid., p. 9

[44]. Ibid., p. 234

[45]. Ibid., p. 53

*. Histoire du progrès.

[46]. Ibid., p. 45

[47]. Ibid., p. 48

*. Savoir-faire.

[48]. Ibid., p. 42