أسئلة حول المثلية الجنسية (1) حوار مع ميشيل فوكو (2)
فئة : حوارات
أسئلة حول المثلية الجنسية (1)
حوار مع ميشيل فوكو (2)
كيف تُفسرون هذه الدهشة التي قوبل بها كتاب "تاريخ الجنسانية"؟
ميشيل فوكو: قد تُعزى هذه الدهشة جزئيًّا إلى بساطة بعض مواقفي السابقة. أو ربما يكون البعض قد كوّنوا في أعمالي هذه الفكرة السطحية والكشفية عن مقاومة جميع أشكال القمع. لقد تغيرت الأمور كثيرًا في العشرين عامًا الماضية.
بدا لي أننا وصلنا إلى حالة أصبحت فيها مفاهيم مثل القمع الجنسي بالية أو مُفرطة الاستخدام، وأن المطلوب هو مناقشة سبل تفعيل هذه المفاهيم كجزء من نضال أو حركة أو نقاش. بالطبع، من الصعب دائمًا الجزم بما إذا كان الكتاب قد فُهم بشكل صحيح أم لا. لا أعتقد أن للمؤلف الحق في تشريع معنى عمله.
كيف نشأت فكرة المثلية الجنسية؟
ميشيل فوكو: يعود مفهوم المثلية الجنسية إلى القرن التاسع عشر، كجزء من نطاق واحد من بين أشكال عديدة من المتعة، وكمجموعة شاملة من الروابط بين الممارسات الجنسية. هذا هو التاريخ السياسي لشكل واحد من المتعة أو مجال واحد من التجارب التي كادت أن تُمحى. وبدأ النضال من أجل إعادة تأكيد هذه التجربة وهذه المتعة في العشرين عامًا التالية، مع ماغنوس هيرشفلد (Magnus Hirshfeld) وأوسكار وايلدOscar Wilde)) وأندريه جيد (André Gide)، من بين آخرين. كان من الضروري استراتيجيًّا محاربة هذا الشكل من الأخلاق، وهذا النوع من التشريعات.
هل أصبحت الجنسانية مفهومًا غير ملائم؟
ميشيل فوكو: أودّ القول إن ما نحتاجه هو إعادة تقييم. لا تظنّوا أن مجرد امتلاكنا لهذا المفهوم الخاص للجنسانية، والذي مكّننا من مواجهته، يعني أنه لا تزال هناك مخاطر عديدة. لا يزال هناك جانب بيولوجي للجنسانية يجعله في متناول الأطباء وعلماء النفس، وبنية كاملة من التسوية. لا تزال هناك تراتبية كاملة من الأطباء والمعلمين والمشرعين والبالغين والآباء الذين يتحدثون عن الجنسانية! لكن الصراع انفتح وازداد قوة في الوقت نفسه. لا يكفي تحرير الجنسانية، بل يجب تحرير أنفسنا من الدكتور ميرغيت؛ أي من مفهوم الجنسانية برمته (4). إذا خُوضت المعركة دائمًا بنفس الشروط، فإنها تُصبح عقيمة، وتعلق، وفي النهاية تُحاصر. فلماذا لا نُدخل قيمًا أخرى إلى جانب النهج "الطبي-البيولوجي-الطبيعي" للجنسانية، ونتخلص من مجرد خطاب آخر؟ ما نحتاجه هو قطيعة راديكالية، تغيير في التوجهات والأهداف والمفردات.
لماذا تُفضل الحديث عن "المتعة" بدلًا من "الرغبة"؟
ميشيل فوكو: أُفضل "المتعة" لتجنب الدلالات الطبية و"الطبيعية" المرتبطة بـ "الرغبة". لقد استُخدمت "الرغبة"، ويمكن استخدامها، استراتيجيًا، كأداة، كعلامة واضحة، كمعيار لما هو طبيعي: "قل لي ما ترغب فيه، وسأخبرك من أنت (5)، سواء كنت طبيعيًا [مغايرًا] أم لا، وسأتمكن حينها من تقييم رغبتك أو رفضها". يمكننا بسهولة رصد هذا التكتيك، الذي ينطلق من المفهوم المسيحي للشهوة إلى المفهوم الفرويدي للرغبة، مرورًا بمفهوم الغريزة الجنسية الذي صيغ في أربعينيات القرن التاسع عشر. الرغبة ليست حدثًا، بل جانب دائم من الذات، يُبنى حوله إطار نفسي طبي متكامل. ومن ناحية أخرى، مصطلح "المتعة" جديد تمامًا، ويكاد يكون خاليًا من المعنى. حيث لا يوجد "علم أمراض" للمتعة، ولا متعة "غير طبيعية". إنه حدث خارج الذات، أو على حدودها، في شيء ليس جسديًا ولا روحيًا، لا خارجيًا ولا داخليًا، في نهاية المطاف، غير مُحدد و...مفهومٌ غير قابلٍ للتخصيص.
كيف تغيّر علم الجنسانية برأيك؟
ميشيل فوكو: أعتقد أن علم الجنسانية قد تغيّر، في علاقة الذات بالذات، واستمر في النمو، عند نقطة التحوّل بين الاعتراف المسيحي والطب. حتى القرنين الخامس عشر والسابع عشر، كان الناس يُجبرون على الاعتراف برغباتهم، دائمًا في إطار علاقة ما؛ أي جنسية شرعية/قانونية بمعنى ما.
كانت الأسئلة المطروحة تتخذ شكل: "هل تُؤدّي واجباتك الزوجية تجاه زوجتك؟ هل تُمارس الجنس معها بالطريقة الصحيحة، وفقًا للطبيعة؟ هل تخونها؟ هل تتضمن عاداتك الجنسية معاشرة الحيوانات (bestiality)؟". ولطالما تضمنت هذه العلاقة الجنسية الشرعية ممارساتٍ ونوايا ورغبات.
ابتداءً من القرن السادس عشر، مع ما يُمكن أن نُسمّيه "استعمار الطفولة" وبدايات إصلاحاتٍ تربويةٍ جادة، مع تأريخ فئةٍ مُحدّدةٍ تُسمّى "الطفولة"، أصبح السؤال الذي ظهر فجأةً في كُتيّبات الاعتراف والمرشدين الروحيين: "هل لمستَ نفسك جنسيًا؟" مُحرَّم الاستمناء. ليس فقط بسبب تقييد الجنسانية، بل لأنه في هذه المرحلة وُلدت معرفة خاصة بالجنسانية، بكل ما رافقها من تردد وانطباعات أولية.
نجد هذه الإشكالية الأولى للجنسانية في القرنين السادس عشر والسابع عشر في البروتستانتية والكاثوليكية على حد سواء. وينتهي الأمر بالأسطورة الشهيرة في نهاية القرن الثامن عشر، والتي افترضت أن الجنس البشري نفسه مُعرَّض لخطر الانقراض إذا لم يُقضَ على الاستمناء، حيث أصبحت جميع الممارسات البيداغوجية ونظام العلاقات بين الآباء والأبناء مُوجَّهًا الآن نحو المراقبة وخطر استمناء الأطفال. وهكذا أصبح جسد الطفل فضاءً يسكنه آباءٌ يقظون، دائمًا في حذر من أي نوع من اللذة الانفرادية أو اللذة التي تمنحها الذات لنفسها.
كيف ترى حدود التسامح العام مع المثلية الجنسية؟
ميشيل فوكو: أولاً، على الرغم من صرامة الحضارة المسيحية منذ القرن السادس عشر، لا يمكن لهذه الحضارة أن تنجح إلا بالتسامح مع هامش معين من المخالفات اللاقانونية. فاللاقانونية جزء من آلية الشرعية. لذا، قد نميل إلى الحديث عن السدومية (اللواط) (sodomy)(6)، لكن اللواط بالطبع ممارسة جنسية مغايرة جنسيًّا (heterosexual) أيضاً.
فماذا يقول الناس هذه الأيام عن ملذات المثليين فيما بينهم؟
ميشيل فوكو: شهدنا في السنوات القليلة الماضية اتساعًا في نطاق المتعة. فالمتعة على وشك أن تُعدّ أمراً لا غنى عنه، لكنها في النهاية ليست بتلك الأهمية. لذلك، يتم التسامح معها. وهكذا يقول الناس: "المتعة تزول كالشباب. لم لا نتركهم يستمتعون بها؟ فسرعان ما سيدركون أنها لن تُفيدهم كثيرًا. وسيدفعون ثمنها غاليًا في النهاية، من معاناة وحزن، ووحدة وانفصال، وشجارات، وكراهية وغيرة...". في النهاية، لها ثمنها كأي شيء آخر، لذا ينتهي بها الأمر إلى عدم إزعاج الناس.
ولكن السعادة بحد ذاتها؟ لا يُمكن شراؤها بمجرّد تجربة بعض التعاسة الضرورية، حيث لا وجود لتدبير تبادل المتعة، وعندها تُصبح الأمور لا تُطاق بالنسبة إلى بعض الناس؛ لأنه إذا كانت لدينا مجموعة من الناس لا تكتفي بتجربة نوع من المتعة يُحرم منها آخرون، بل تُظهر سعادتها علنًا بهذه التجربة، فإنها تُصبح لا تُطاق بالنسبة للمجموعة المُستبعدة الأخرى؛ لأنه لا سبيل لجعل السعداء يدفعون ثمنها.
بينما قد يتسامح بعض الناس مع رؤية مثليين يحتضنان بعضهما البعض، إلا أن قلة قليلة من الناس قد يسامحون هذين الشخصين، إذا كانا لا يزالان يبتسمان ويتشابكان الأيدي ويتبادلان القبلات في اليوم التالي.
البحث عن المتعة ليس أمرًا لا يُغتفر، ولكن إيجادها أمرٌ لا يُغتفر. لم تعد قدراتنا التفسيرية فاعلة، حيث يمكنها وصف المتعة، أو ممارسة معينة، لكنها لا تصف السعادة. إذا لم يكن هناك ألم أو كابوس وراء السعادة، فلا يُمكن التسامح معها.
تميل العديد من مفاهيم المثلية الجنسية لدى الرجال إلى ربطها بالأنوثة (femininity) أو التخنث (effeminacy)، وخاصةً التشبه/اشتهاء ملبس الجنس الآخر (transvestism) (7). ما رأيك في هذا؟
ميشيل فوكو: أعتقد أن هذا سؤال معقد للغاية، حيث نميل إلى طمس الفرق بين الممارسات المثلية والمظاهر الأنثوية. يعد بلاط هنري الثالث في فرنسا في القرن الثالث عشر خير مثال على ذلك. لكن في الواقع، يُعدّ اشتهاء ملبس الجنس الآخر في الواقع تجسيدًا للميل الجنسي المغاير. كان الجيش من أهم بيئات اشتهاء ملبس الجنس الآخر في القرنين السابع عشر والثامن عشر، حيث عاش عدد كبير من "النساء" حياةً كاملةً كـ"هوسيات" (hussies) (gourgandines)، أو "نساء" أو "عاهرات" نهمات، حيث تجذب المجتمعات ذات البنية الأحادية الجنس (monosexual) (8) الصارمة، كالجيش أو الأديرة، مشتهين ملبس الجنس الآخر، حيث (Cherubino) هو متشهٍ ملبس الجنس الآخر، ولكنه مغاير الجنس. عندما وُضع مفهوم المثلية الجنسية، بدأت الدراسة العلمية فورًا بمفهوم الخنوثة، (hermaphrodism) [ثنائية الجنس Intersex]. ودخل "المثلي" في السجلات الطبية كشخص يُفترض أن غرائزه الجنسية "انقسمت إلى نصفين، جاعلةً إياه رجلًا وامرأة في آنٍ واحد".
كان الرد على هذه النظرية ونظرية التحول الهرموني هو قلب السؤال: "إذن نحن خنثى؟ هل نريد أن نكون نساء؟" بالتأكيد، بل وأكثر من ذلك!" وهكذا وُلدت شخصية الكوين [la folle]. يمكننا بسهولة الربط بين هذا النوع من التحليل للمثلية الجنسية كنوع من الأنوثة السرية والكوين التي تدّعي أنها امرأة.
وبالطبع، يمكننا أن نبدأ برؤية مدى تعقيد هذا النوع من اللعبة. فمن جهة، يقول الأطباء: "نحن نتعامل مع خنثى، وبالتالي منحطون"، ويقول بعض المثليين: "لا، لسنا كذلك، ولكن إذا أردنا تناول الهرمونات، فذلك من أجل تحويل أنفسنا إلى نساء".
يمكن إيجاد الرد التاريخي في تحدي تحليل مماثل وادعاء سياسي: إذا كانت المثلية الجنسية تمثل اتحادًا بين الجنسين، فإن للمثليين جنسانية محددة. لذلك، لا يخطئ المثليون في إصرارهم على فكرة جنسانية محددة كأساس للنضال من أجل حقوقهم. هذا الموقف يتطلب تدقيقًا ودراسة متأنية.
في الواقع، لطالما وُصف المثليون جنسيًّا بأنهم أنثويون. إنه غموضٌ يكمن في جوهر المثلية الجنسية نفسها. ولكن في الواقع، لا توجد صلة جوهرية بين المثلية الجنسية والأنوثة. ومع ذلك، فقد فتح هذا الغموض المجال أمام هجوم طبي أظهر الطبيعة الذكورية لثقافتنا. وهنا تُفتح صلة استراتيجية مع الحركات النسوية، مما سمح للمثليين بإثبات أن تفضيلهم للرجال ليس مجرد شكل آخر من أشكال مركزية القضيب (الفالوقراطية) (phallocratism) (9) أو "الشوفينية الذكورية" (male chauvinism). فاليوم، يمكن للمثلية الجنسية أن تُفسر نفسها من خلال تقديم نفسها ببساطة كعلاقة محددة بين الأجساد والملذات.
هل تعتقد أن الصور الأمريكية للمثلية الجنسية تُزعزع هذه الصلة بالأنوثة، وتشير إلى دافعٍ فالوقراطي؟
ميشيل فوكو: الرجل المثير من الناحية الشكلية سيكون في الواقع رجلاً مثليًا ذا شارب، يبلغ من العمر خمسة وثلاثين عامًا على الأقل، وبنيته مثل لاعب البيسبول، بشعرٍ كثيفٍ على جسده، وجلدٍ وسلاسل. وهذا يُعطي انطباعًا خاطئًا بأن الرجال يتراجعون إلى ذكوريةٍ أحادية الجنس، مُظهرين جميع علامات الرجولة، ويبقون بشكل صارم بين الرجال الآخرين، ويقيمون ستارًا حديديًّا جديدًا بين الرجال والنساء.
لكن علينا أن نُمعن النظر في الأمر لنُدرك أن هذا الاستعراض للرجولة لا علاقة له بإعادة تقييم الذكر كذكر، بل على العكس، في الحياة اليومية، تتسم العلاقات بين الرجال المثليين بالحنان، مع بعض الممارسات المجتمعية المفعمة بالحياة والجنسانية. وسرعان ما تكشف العلاقات الجنسية تحت مظلة هذا الإظهار للرجولة وداخله عن تفضيل للمازوخية. ويمكن اعتبار ممارسات مثل الجماع بقبضة اليد "مُجرّدة من الحيوية" أو حتى مُجرّدة من طابعها الجنسي. وإنها في الواقع مُتع زائفة فضيعة لا تُحقّق إلا بمساعدة أدوات أو علامات أو رموز أو مُخدّرات مُحدّدة مثل المنشطات الجنسية (poppers) ومُخدّرات (MDA).
إذا وُجدت مثل هذه العلامات على الرجولة، فهي لا تهدف إلى العودة إلى نوع من الفحولة أو الفالوقراطية المفرطة، بل إلى تمكين الفرد من ابتكار ذاته، وتحويل جسده إلى حقل إنتاج لمتعة مُتعدّدة الأشكال بشكل استثنائي، وفي الوقت نفسه، بعيدًا عن امتياز أو تفضيل الأعضاء التناسلية، وخاصةً الأعضاء التناسلية الذكرية. إنها مسألة تجنّب هذا الشكل الرجولي من المتعة الإرادية المعروفة باسم "التلذذ"، والتي تُفهم عادةً بمعناها الذكوري المُتمثّل في القذف.
لقد انتقد المثليون أنفسهم بعض أنماط الحياة المثلية. ما رأيك في ذلك؟
ميشيل فوكو: هل تقصد ذلك النوع من الانتقادات التي تقول أشياء مثل: العيش مع الالقاب والتسميات الرجولية يُصنّفك كشخص برجوازيّ، وممارسة الجنس في دورات المياه العامة تعني قبولك للعزلة، وممارسة الجنس في الحمامات تجعلك مجرد مستهلك عادي، إلخ.
هذه حججٌ تظنّ أنها سياسية، في حين أنها في الحقيقة ساذجة. أعتقد ببساطة أنه من الضروري جدًّا العيش بأقصى قدر ممكن من الصراحة مع الشخص الذي تحبه، سواءً كان مع فتى أو شاب أو رجل عجوز. إذا أردتِ تقبيل شاب في مكان عام أو ممارسة الجنس معه بين الأشجار، فافعل ذلك.
ما أراه أكثر استنكارًا سياسيًّا هو الاحتيال الاقتصادي الذي انتشر في جميع جوانب الحياة المثلية تقريبًا، احتيال الشرطة واحتيال الجريمة المنظمة. اليوم، على سبيل المثال، من المستحيل فتح حانة للمثليين في باريس دون أن تُجبرك الشرطة على اللجوء إلى المافيا. لن تسمح لك الشرطة بالوجود دون أن تكون لك صلة بالجريمة المنظمة. هذا أمرٌ أعتقد أنه خطير للغاية. وهذا ينطبق أيضًا على الحمامات.
هل يبدو لك "العرض" الذي يقدمه العديد من المثليين جنسيًّا غريبا بعض الشيء؟
ميشيل فوكو: صحيح أن هناك سلسلة كاملة من السلوكيات التي تُشكل ما يُمكن أن نُسميه "المسرح المثلي". ففي بعض الحانات، على سبيل المثال، يأتي بعض الرجال فقط لإظهار جمالهم أو جمال حبيبهم، بدافع الإغاظة، كقول: "انظر ولا تلمس"، أو: "كيف تجرؤ على التحديق بي وأنا لم أُلقِ عليك نظرة؟" هذا هو الحال في بعض الأماكن، ولكن خذ اليابان على سبيل المثال. هناك آلاف الحانات، خاصةً في طوكيو أو كيوتو. لكنها صغيرة، لا تتسع إلا لخمسة، أو ربما ستة رجال إجمالاً. يجلس الرجال على كراسيهم، يتحدثون ويسكرون. فرصة لقاء أشخاص جدد نادرة جدًّا، وفي الواقع، يُعدّ ظهور وجه جديد حدثًا مميزًا. إنه نوع من الحياة الجماعية المنظمة على غرار الحتمية الثقافية التي تُلزم الرجل بالزواج عند بلوغه. لكن بعد حلول الظلام، تدخل إلى حانتك المحلية، غير بعيدة عن المبنى الذي تسكن فيه، وتلتقي بمجتمع مخلص ومتحرك بعض الشيء. بالطبع، على نطاق أوسع كما هو الحال هنا [في باريس]، يمكنك أن تجد نفس النوع من العلاقات.
فلماذا تُعدّ إخفاء الهوية أمرًا مهمًّا بالنسبة إليك؟
ميشيل فوكو: لأنه مصدر شدة المتعة. ما يهم ليس تأكيد الهوية، بل تأكيد اللاهوية. ليس فقط لأنك تتحقق من بطاقة عضويتك، وبالتالي هويتك، عند باب الحمام العام، ولكن أيضًا بسبب تعدد التشكيلات وإعادة التشكيلات الممكنة التي يمكنك العثور عليها هناك. إنها تجربة بالغة الأهمية، أن نبتكر معًا ملذات مشتركة كما يحلو لنا. أحيانًا تكون النتيجة نوعًا من نزع الطابع الجنسي، أشبه بغوص عميق، كامل لدرجة أنه يتركك بلا شهية على الإطلاق، دون أي نوع من الرغبة المتبقية التي تشعر بها أحيانًا حتى بعد تجارب جنسية مُرضية للغاية.
ما رأيك في النشاط الجنسي الذي تجده في الحمامات؟
ميشيل فوكو: سياسيًّا، أعتقد أنه من المهم أن يُسمح للجنسانية بأن تعمل كما تعمل في الحمامات. تجد هناك أشخاصًا يشبهونك تمامًا، كما أنت تشبههم تمامًا: لا شيء سوى أجساد أخرى تُمكّن من الجمع بين المتعة وخلقها. تتوقف عن أن تكون سجينًا لوجهك، وماضيك، وهويتك.
من المؤسف أن مثل هذه الأماكن غير متاحة للمغايرين جنسيًّا. ألا يكون من الرائع لهم أن يتمكنوا من زيارة مثل هذا المكان في أي وقت من النهار أو الليل، وأن يروا ويختبروا كل وسائل الراحة والإمكانيات التي يمكن تخيلها، وأن يلتقوا بأجساد أخرى حاضرة وغائبة في الوقت نفسه؟ هناك إمكانية رائعة لنزع الذات في مثل هذه الأماكن، لنزع خضوع الذات إلى حد معين، ربما ليس جذريًا، ولكن بالتأكيد بشكل كبير.
ما رأيك في العلاقة بين المثلية الجنسية والسلطة السياسية؟
ميشيل فوكو: أول ما هو مطلوب هو إصلاح قانون العقوبات. الحل الأسهل هو القول: لا تشريعات تتعلق بالجنسانية. لكن الأمور ليست بهذه البساطة، فهناك مشكلة الاغتصاب ومسألة سن الرشد. فيما يتعلق بالمسألة الأخيرة، أميل إلى تفضيل سن ما بين 13 و15 عامًا كسن مناسب، مع أن هذا الرقم يبدو غريبًا بعض الشيء بالنظر إلى المناخ الجنسي العام، وبالنظر إلى ما هو متاح لأي طفل في سن القراءة هذه الأيام، سواء كان ذلك في الكتب أو المجلات أو على الجدران في طريقه إلى المدرسة. لا يزال تشريع هذا النوع من الأمور مسألة حساسة للغاية.
ومع ذلك، تكتشف السلطات القائمة حاليًا التكلفة الباهظة المرتبطة بالقمع (10). نحن على دراية بعمل اللجنة الثلاثية بشأن تكلفة الديمقراطية، لكن العكس أيضًا يستحق النظر: القمع له تكلفة باهظة، ليس فقط من الناحية الاقتصادية، بل من الناحية المؤسسية أيضًا. لماذا قد ترغب أي مؤسسة في القضاء على المثليين جنسيًّا؟ ما هي الفائدة الاجتماعية لمعاقبتهم؟ هل هي زيادة معدل المواليد؟ في عصر حبوب منع الحمل؟ انخفاض في معدلات الأمراض المنقولة جنسيًّا؟ لكن التكنوقراط والأمراء الحاكمين يدركون تمامًا أن هذا النوع من الأمور لا يأتي نتيجة قمع فئة معينة من السكان، بل من خلال حملات قمعية.
إن تبرير استخدام السلطة لا يعني بالضرورة زيادة القمع. سيكون من الأفضل بكثير لأصحاب السلطة أن يحاولوا إقناع عامة الناس بتحمل معدل البطالة الحالي بدلاً من إزعاجهم بحملات مناهضة للمثليين أو مداهمات لحانات المثليين. أمر واحد واضح الآن: للسلطة تكلفتها الخاصة، ولا تبدو وكأنها منفعة صافية. عندما يرتكب شخص ما فعلًا قمعيًا، فإنه يحمل معه ليس فقط تكلفة اقتصادية، بل تكلفة سياسية أيضًا.
هوامش المترجم:
1. المصدر الأصلي للترجمة:
MARK BLASIUS and SHANEPHELAN) Eds). WE ARE EVRYWHERE: A Historical Sourcebook of Gay and Lesbian Politics. (1997).Routledge New York London. PP 559- 454
2. كان ميشيل فوكو أحد أبرز مفكري القرن العشرين. شغل كرسيًّا في الكوليج دو فرانس، وألف العديد من الكتب الرائدة حول الأشكال الحديثة للسلطة في الطب، وعلم الجريمة، والطب النفسي، والجنسانية. كان فوكو أيضًا رجلًا مثليًّا. وفي الواقع، يمكننا أن نرى أن أجندته الفكرية قد تشكلت من خلال تجربة التجريم والطب التي تُعدّ نموذجية للمثليات والمثليين. وقد أصبح كتابه "تاريخ الجنسانية" بيانًا منهجيًّا لدراسات المثليين والمثليات.
في هذا الحوار، الذي أُجري في باريس في يوليو 1978 مع جان لو بيتو وماتياس دويفز، يشرح فوكو بإيجاز آراءه حول الجنسانية والمتعة. يُحلل الممارسات الجنسية التي يُطلق عليها "ملذات زائفة وحشية"، مُشيرًا بذلك إلى الطابع المُصطنع والمتجاوز والمُحوّل لهذه الممارسات. ومن خلال القيام بذلك، فإنه يجسد موقفًا يتمتع بشعبية متزايدة بين الأكاديميين الكويريين، وهو الحاجة إلى تحدي ليس فقط هيمنة المغايرة الجنسية، ولكن الأطر المسيحية الأوسع في الغرب التي تخبرنا ما هي الممارسات "الطبيعية" و"العادية" وما هو "الرجس" أو "الانحرافات".
3. حسام جاسم/ كاتب مستقل من العراق.
4. تعديل ميرغيت صدر في 18 يوليو 1960 كتعديل للمادة 38 من الدستور الفرنسي لعام 1958 (4 أكتوبر 1958). وأعلنت ضرورة مكافحة جميع التهديدات التي تتعرض لها الصحة العامة، وعلى وجه التحديد السل والسرطان وإدمان الكحول والبغاء والمثلية الجنسية كأهداف للمكافحة، حيث يهدف إلى اتخاذ جميع التدابير المناسبة لمكافحة المثلية الجنسية، والمصنفة على أنها آفة اجتماعية وقد ضاعف هذا التعديل الحد الأدنى لعقوبة الفحش العام عندما يتعلق الأمر بالعلاقات الجنسية المثلية. وقد أزيل في عام 1980 بناء على اقتراح حكومة ريمون باغ.
5. النص الفرنسي يقول "Dis-mai quel est ton désir et je te dirai qui tu esa"، وهو إعادة صياغة لقول الذواق بريلات سافارين المقتبس كثيرًا: "Dites mai ce que vous mangez et je vous dirai qui vous êtes". "قل لي ماذا تأكل، وسأخبرك من أنت".
6. مصطلح اللواط الأكثر استعمالا في اللغة العربية نسبة إلى قوم لوط بدلا من (السدومية) (sodomy) المشتق من اسماء المدن سدوم وعمورة الواردة في سفر التكوين.
يدل المصطلح عمومًا على كل ممارسة جنسية تتم بطريقة (شرجية، فموية، أو مع الحيوانات (البهيمية)) بغض النظر عن جندر الشخص. حيث يدل على اي ممارسة جنسية تتم بغير غرض التكاثر في غير الأعضاء المخصصة للتكاثر.
• كلمة اللواط في اللغة العربية مشتقة من الفعل لاطَ يَلوط، لُطْ، لِواطًا ولِواطةً، فهو لائط.
• لاَطَ الشَّابُّ لِوَاطاً: مَارَسَ الجنس الشرجي، أَيْ عَمِلَ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ.
• لاطَ / لاطَ بـ يلوط، لُطْ، لَوْطًا، فهو لائط، والمفعول مَلوط.
• لاطَ الشَّخْصُ الحوضَ أو الحائطَ: طلاه بالطِّين والجصّ.
• لاطَ الشَّيءَ بالشّيء: ألصقه به.
• لاطَ المنظرُ الطَّبيعيُّ بقلبه: لصِق به وأحبَّه.
• لاطَ فلانٌ/ فعل ما كان يفعل قومُ لوطٍ من مباشرة الذُّكور.
لكنه يستخدم مجتمعيًا للدلالة على شجب هذه الأفعال ومقتها وللتقليل من شأن المثليين حيث يطلق عليهم بدلاً من مصطلح (المثلية الجنسية). ومصطلح (اللوطي) يستخدم بشكل تعبير ذو دلاله دينية فقط.
7. اشتهاء ملبس الجنس الآخر (transvestism)/ هو ممارسة ارتداء الملابس والتصرف بطريقة تقليدية أو نمطية مرتبطة بجنس مختلف. ظهر المصطلح بعد نشر كتاب (Die Transvestiten) عام 1910، وهو عمل للطبيب الألماني ماغنوس هيرشفيلد. في الأصل، كان المصطلح يُطلق على ارتداء ملابس الجنس الآخر المرتبط بالسلوك غير المغاير جنسياً. كما استُخدم أيضاً لوصف ارتداء ملابس الجنس الآخر بقصد الحصول على المتعة الجنسية. في وقت لاحق من القرن العشرين، تم التمييز بين اشتهاء ملبس الجنس الآخر (transvestism) واللبس المغاير (Cross-dressing) بغرض الإثارة الجنسية، والذي عُرف لاحقاً باسم اضطراب تحول الزي الفيتشي (Transvestic fetishism)، وهو حالة نفسية مُعترف بها. بالإضافة إلى ذلك، غالباً ما ارتبط اشتهاء ملبس الجنس الآخر خطأً بالمثلية الجنسية. يمكن للأفراد اللاجنسيين، أو ثنائيي الجنس، أو المغايرين جنسياً، أو المثليين جنسياً الانخراط في ارتداء اللبس المغاير. ويختلف اشتهاء ملبس الجنس الآخر عن العبور الجنسي (transsexualism)، حيث يشعر الفرد بأنه ينبغي أن يكون من الجنس الآخر. وفي الواقع، معظم المشتهين ملبس الجنس الآخر هم رجال يؤدون أدواراً ذكورية في المجتمع بارتياح، وهم راضون عن جنسهم البيولوجي. على النقيض من ذلك، يشعر العابرون جنسياً، ذكوراً وإناثاً، بعدم الارتياح تجاه جنسهم، وعادةً ما يرتدون ملابس الجنس الآخر لفترة طويلة قبل الخضوع للجراحة.
8. أحادي الجنس (monosexual)/ هو انجذاب رومانسي أو جنسي لأفراد نفس الجنس أو الجندر فقط. في مناقشات التوجه الجنسي، يستخدم هذا المصطلح أساسا في مقابل ازدواجية الميول الجنسية أو الهويات الجامعة الجنسية والتعددية الجنسية.
9. مركزية القضيب (الفالوقراطية) (phallocratism)/ هي أيديولوجية مفادها أن القضيب، أو العضو الجنسي الذكري، هو العنصر المركزي في تنظيم العالم الاجتماعي. تم تحليل مركزية القضيب في النقد الأدبي، والتحليل النفسي وعلم النفس، واللغويات، والطب والرعاية الصحية، والفلسفة. صاغ إرنست جونز هذا المصطلح عام 1927، كجزء من مناظرته مع فرويد حول دور المرحلة القضيبية في نمو الطفولة، عندما جادل بأن "محللي الرجال قد دُفعوا إلى تبني وجهة نظر مركزية القضيب بشكل مفرط". واستنادًا إلى حجج كارين هورني السابقة، حافظ جونز، في سلسلة من المقالات، على موقفها بأن النساء لسن مخلوقات خائبة الأمل مدفوعة بحسد القضيب. بل كان هذا الاعتقاد في حد ذاته دفاعًا نظريًا ضد قلق الإخصاء. ومع ذلك، ظل فرويد ثابتًا في معارضته لأطروحة هورني/جونز، وكان موقفه هو الموقف التحليلي النفسي السائد بعد ذلك، على الرغم من أن البعض مثل جانيت مالكولم عدّل موقفه إلى أن "مفهوم فرويد، بالطبع، هو... وصف لمركزية القضيب، وليس توصية به".
10. يشير فوكو إلى حكومة فاليري جيسكار ديستان المحافظة المعتدلة. في وقت المقابلة (يوليو 1978)، كان ريمون باغ رئيسًا للوزراء، وكان قد أغلق جميع أماكن إقامة المثليين قبل ثلاثة أشهر.