ارتقاء المعاني ومحنة الخلاص الإنساني


فئة :  مقالات

ارتقاء المعاني ومحنة الخلاص الإنساني

بما أنَّ الإنسان ليس كتلة صمَّاء أو صامتة، فإنَّهُ لا يفتأ يحثُّ الخطى – كما دأبه منذ القدم – ناحية الحفر عميقًا في الوجود ومعانيه، بما يتطامن والدفقة الإنسانية العظيمة على المستوى الوجودي؛ فمنذ وجد الإنسان على هذه الأرض، وهو يسعى – السعي هَهُنا سعي إطلاقي بالنسبة للماضي والحاضر والمستقبل – للوصول إلى الأساسات أو الذُرى، لغاية إضفاء قيمة عليا على الوجود الإنساني.

ضمن هذه الأُطُر، تمَّت مناقشة كتاب (الإنسان يبحث عن معنى)[1] لـ"فكتور فرانكل"، في مقر نادي نقش الثقافي في مدينة إربد الأردنية.

أساسًا، كان "فكتور فرانكل" قد سَرَد أطروحته حول (العلاج بالمعنى) عقب الإفراج عنه من المعتقلات النازية، إبَّان الحرب الكبرى، والذي عمل على تأريخ تلك الحقبة من حياته في الجزء الأول من كتابه المذكور أعلاه. وبناء على تلك الحادثة الأليمة، أخذ يُفكِّر من منظور نفسي – بصفته قادم من نفس الحقل التخصّصي – بعلاجٍ يتسامى بالإنسان، حتى وإن اضطرّ إلى معاينة ومعاقرة أعنف الظروف وأحطّها قدرًا. وبالفعل، فقد عمل المؤلف على تخصيص الجزء الثاني من كتابه لما أسماه (العلاج بالمعنى)، وفيه حاول تقديم إطار موضوعي لمعضلة التيه الوجودي، بكافة تجلياته الذي يمكن للإنسان أن يضلّ في طريقه.

إذًن، العلاج بالمعنى – كما يُفضي – "فكتور فرانكل"، "يركز على معنى الوجود الإنساني، وكذلك على سعي الإنسان إلى البحث عن ذلك المعنى".[2]

وهكذا، فُتح باب النقاش على معنى الوجود الإنساني، والغاية التي تنتظر الإنسان في نهاية الطريق. ومن ثمَّ، تم التركيز على الأسباب التي قد تقود الإنسان، وتدفعه للسؤال عن معناه أو معانيه في هذا الوجود، لا سيما تلك الأسباب الناتجة عن حوادث الألم الشديد والتعذيب المُروّع.

في المرحلة الأولى، تم التركيز من قبل المداخلين على موضوعات ذات حساسية كبرى في التاريخ، كانت قد أتت كنقطةٍ حاسمة لناحية تطهير الذات، وانتقالها نقلة نوعية عقب تعرّضها لألم شديد، مثل (المسيح) أو (الحلاج)...إلخ. وعلى موضوعات أدبية ذات حساسية هي الأخرى، وانتقال أصحابها نقلة نوعية على مستوى الطهرانية الذاتية، عقب مُعاقرة الألم بتركيز عالٍ ومكثّف، مثل (الفراشة) لـ"هنري شاريير"، و(سجينة طهران) لـ"ماريا نعمت"، و(الذرة الرفيعة الحمراء) لـ "مو يان"...إلخ؛ فقد ساهم الألم في تحرير الذات من ضغوطاتها النفسية، القائمة على الانتقام والحقد والكراهية، عبر مسامحة الجلادين، والتصالح من جديد مع الحياة، لأن ثمة معنى أعمق ينتظر الإنسان في هذا العالَم. وبطبيعة الحال، تم التأشير بشكلٍ مكثّف على تجربة "فكتور فرانكل" في المعتقلات النازية، وتسليط الضوء عليها بصفتها تجربة فريدة، دفعت "فرانكل" إلى تأليف كتابه، والخروج بنظرية جديرة بالتقدير والاحترام؛ فالألم الذي مورس بحق "فرانكل" لم يذهب سدى، بل أصبح ذا معنى، وذلك بتحويل المعاناة الفردية إلى مادة مفيدة للآخرين.

وهكذا، تمَّ التقدّم خطوة ناحية الأمام، والتحدّث – في المرحلة الثانية – عن أطروحة "فكتور فرانكل" حول العلاج بالمعنى. وهنا، كانت قد طُرحت جملة من الأسئلة، ليس فقط لغاية استجلاء الأطروحة، إنما للتعقيب عليها، وتفكيك منظومتها، وفهم محتوياتها. ومن هذه الأسئلة:

هل المعنى المقصود في أطروحة "فكتور فرانكل" معنى وجوديًا أم معنى سيكولوجيًا؟ وهل هو معنى فردي أم معنى جماعي؟ وهل يتجاوز هذا المعنى الأُطر الدنيوية، ويصل إلى العالم الماورائي، وبالتالي وصم هذا المعنى بوسم إيماني لاهوتي، أم الإبقاء عليه ضمن شرطي الزمن والمكان ليس إلا؟

إن أسئلة بعينها قد تكون دالَّة على مرجعية ينهل منها السائل، لناحية مبانيها والمعاني التي تقود إليها بالضرورة. وهذا ما جعل بعض الأسئلة تقف على حدٍّ فاصل بين عالمين؛ أحدهما مرئي، مُعاش، واقعي، وثانيهما غير مرئي، افتراضي، خيالي، إذ تمَّ اعتبار المعنى الأسمى للوجود الإنساني في تجاوز هذا العالَم وصولاً إلى الله؛ فالإيمان –الإيمان الديني على نحو مخصوص- والحال هكذا، هو الغاية الأسمى للإنسان، إذ تتأطَّر تطلعاته بما يتجاوز عالمنا، وتنطلق بالتالي إلى أفق إيماني رحب، حيث يغدو سعي الإنسان سعيًا دؤوبًا وذا معنى، رغم ضغوطات الحياة الكثيرة.

أما البعض الآخر من الأسئلة، فقد جاء ضمن سياق دنيوي بحت، إذ اعتبرت أطروحة "فكتور فرانكل" أطروحة متعلقة بحياة الإنسان هُنا والآن، ولا علاقة لها – من قريب أو من بعيد – بالعالَم الآخر، وبأية أفق إيمانية؛ فالمنظور الذي تطلّع إليه "فكتور فرانكل"، كان خاصاً بظروف الحياة الآنية، ومحاولة خلق نوع من المسرات بإزاءِ آلام جسام، وذلك من خلال ربط الذات الإنسانية بمعانٍ أسمى، والتطلّع إلى تحقيقها، أو على الأقل – وهنا يكمن العلاج بالمعنى – اعتبارها معانٍ سامية يُتطلع إلى تحقيقها طالما هو على قيد الحياة، وعدم الركون إلى اليأس والقنوط؛ فذاك مما يُدمّر الإنسان، ويُهدِّم معناه الوجودي على المستويين الداخلي والخارجي.

وما بين ذاك وهذا، أُشْرعَت الأبواب لكثير من التعليقات والتعقيبات على الوجود الإنساني، وتلك المعاني التي تجعل الإنسان يحسّ بقيمته الوجودية، ولا يشعر أنه محض تفاهة لا قيمة لها. وفي هذا المجال، تمَّ التعقيب على أطروحة "فكتور فرانكل"؛ (أطروحة العلاج بالمعنى)، لناحية اعتبارها من الأساس أطروحة روحانية أكثر منها أطروحة علمية، لناحية صلاحيتها كشيء روحاني، يُؤمن به الإنسان المُضطرّ أكثر مما يمكن تطبيقه أثناء التطبيب النفسي؛ فالمفاهيم التي عزَّز بها "فكتور فرانكل" مصطلحات أطروحته، بقيت مفاهيم مُعوّمة وغير قارّة، كما هي مفاهيم (مدرسة التحليل النفسي) التي طورها "سيغموند فرويد"، أو مفاهيم (علم النفس التحليلي) كما طورها "كارل غوستاف يونغ". لذا لا يمكن اعتبار (العلاج بالمعنى) علمًا ثابتًا وقارًّا على المستوى المفاهيمي في علم النفس، بل هو أقرب إلى الروحانيات والإيمانيات القائمة على الإيمان – وإن في إطار دنيوي- بأنّ ثمة هدف منشود ومعنى للوجود الإنساني، لا سيما على المستوى الفردي، لذا ينبغي السعي لتحقيقه، واستجلاب هذا المعنى إلى الحيز الفردي، منعًا لفنائه وتلاشيه، لا سيما إذا ما كان هذا الحيز قد تعرَّض لضغط عنيف وصادم، جعله يتساءل عن جدوى وجوده!

ولربما، كان هذا الشيء أقرب إلى أطروحة "فرانكل"؛ فالضغط الكبير – أثناء فترة حبسه في المعتقلات النازية – جعلته يُفكِّر باستخراج معنى فردي من هذه المعاناة، لذا آمن بضرورة تحرير نفسه وإيجاد معنى لها، وسط ركام من حطام النفس المُهشمة والمحجور عليها، فكتب أطروحته الموسومة بـ (العلاج بالمعنى).

لكن يبقى سؤال: هل يمكن للمعاني الذاتية أن تنعكس إيجابًا على ذواتٍ أخرى، لا سيما تلك التي مرَّت بنفس الظروف أو بأخرى مقاربة أو مشابهة لها؟

يقينًا، الإجابة على هكذا سؤال مُناطة أولًا وأخيرًا بالذات الأخرى، ومدى فاعليتها من عدمه، مع استبصارات الذوات الأخرى، ولا يمكن لذاتٍ أنْ تُجيب إجابة قاطعة ونهائية عن ذات أخرى.


[1]- كتاب (الإنسان يبحث عن المعنى: مقدمة في العلاج بالمعنى التسامي بالنفس) من تأليف "فكتور فرانكل"، وترجمة "طلعت منصور"، دار القلم، الكويت، ط1، 1982

[2]- المرجع السابق، ص ص 131/130