الآلهةُ داخل الإله: الواحد المُتعدِّد


فئة :  مقالات

الآلهةُ داخل الإله: الواحد المُتعدِّد

ثمة إزاحة بسيطة في موقع الإله، بالنسبة لإنسان العصور الحديثة. قديمًا كان الإله مُفتَّتًا على أرض الواقع، فلِكُلٍّ إلههُ الخاص به على هيئة تمثال أو صنم أو طوطم، أو أكثر من طوطم أو صنم، وكلّها عُبِدَت وتُقرِّبَ إليها زُلفى، لغاية التحقّق في نسق لاهوتي يتجاوز المحنة الزمكانية التي يتموضع بها الإنسان، وتضغط على طموحاته اللانهائية.

اليوم انتقل الإله من مرحلة الواقع إلى مرحلة الذهن، وهناك تمَّ تفتِيته وهدم محتواه الأيقوني إلى واحد مُتعدّد! فالإله الواحد صارَ مُتعدّدًا من بنيته الذاتية، وليس من خارجها؛ فالله حالَ بالتقادم إلى إله مُتعدّد، وإنْ أُقِرَّ له - بموجب ميثاق لاهوتي عميق - بالوحدانية والفردانية.

مع الديانات الوحدانية الكبرى، تمَّ البتّ في المصير الإلهي، لا سيما فيما يتعلق بالإله، بصفته إلهًا واحدًا لا شريك له، وذلك بالإعلان عن الانتهاء - مرة واحدة وإلى الأبد - من تعدّد الآلهة؛ فـَ (يهوه) هو الإله الأوحد، و(الربّ) هو كذلك وإنْ تجلَّى في ثلاثة، و(الله) هو الفرد الصمد!

السؤال؛ إلى أيّ حدّ صَمَدَت هذه التحقّقات اللاهوتية، وحافظت على بكارتها الطهرانية؟ وإلى أيّ مدى بقي الإله الأوحد مُتفردًا في موقعه الوجودي، بعيدًا عن أية لبوسات والتباسات تعدّدية؟

لغاية التأطير، سأقسِّم هذه الورقة إلى قسمين؛ أولهما متعلق بالعلاقة الاتصالية/ الانفصالية، بين (يهوه) اليهودي و(الرب) المسيحي و(الله) الإسلامي، وثانيهما متعلق بـ (الله) وتجلياته في المخيال الفردي والجمعي الإسلامي.

بدءًا، كلنا يعرف أن الامتداد الأفقي للديانات التوحيدية الثلاث: اليهودية، المسيحية والإسلامية، قد ابتدأ باليهودية وانتهى بالإسلامية، مرورًا بالمسيحية؛ فالتراكم اللاهوتي للديانات الثلاث كان قد بلغ أوجه في الديانة الإسلامية، وقد خيضت تجربة كسر العظام بين الديانات الثلاث عبر تاريخ طويل، لإثبات أنَّ الحق - المدعوم من قبل الإله - هو نصير لهذه الديانة على حساب الديانتين الأُخريين. فقد اعتبرت الرؤية الأُحادية - لكُلِّ ديانة على حدة - هي الرؤية الأصح، وبالتالي، فالإله الذي تتبع له هذه الديانة هو الإله الحقيقي، وليس غيره.

وعليه، فقد اعتبرت اليهودية بشارة المسيح بشارة غير طاهرة عقديًا، ومنذ البدايات الأولى للمسيحية كان ثمة اصطدام دامٍ ومباشر مع اليهودية. وحدث ذات الشيء مع الإسلام، لا سيما أثناء إقامة النبي محمد صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة. وحدث ذات الشيء بين الديانتين الإسلامية والمسيحية، ولكن في فترة مُتأخرة نوعًا ما.

أما عن الامتداد العمودي؛ فقد أتت إحداثيات الامتداد الأفقي كتجلٍّ له، على اعتبار أنَّ اللحظة (اليهودية/ المسيحية/ الإسلامية) هي لحظة إطلاقية، مُتعالية، وإنْ تموضعت في الزمن! وعليه؛ فالخِصَام بين اللحظات الثلاث هو خِصام وجودي بالدرجة الأولى؛ فالمسيحية، بطريقةٍ أو بأخرى، تهديد للحظة اليهودية الإطلاقية، وصراع خفي بين إلهٍ يهودي وآخر مسيحي. كذلك الأمر بالنسبة للحظة الإسلامية؛ فهي تهديد للحظة اليهودية والمسيحية المُتعالية، والمكاسب المُتحققة على الأرض ليست إلا إضرار وضرر بالإلهيين اليهودي والمسيحي، لذا تحقّق الخِصَام واقعًا.

إنّ الصدام الأساسي بين الديانات التوحيدية الثلاث، كان عليه أن يصل –وإن بطريقةٍ غير واعية- إلى النبع الأصلي الذي فاضت منه هذه الينابيع؛ فـَ (يهوه) هو اللحظة اليهودية المُتعالية (= الامتداد العمودي)، وكلّ ما عداه يتأتَّى في المرتبة الوجودية تحت (= مرتبة أدنى) تلك اللحظة، وإنْ نادى بإلهٍ واحدٍ لا شريك له. كذا الأمر مع (الربّ) المسيحي و(الله) الإسلامي؛ فاللحظة الخاصة بهما (= الامتداد العمودي) هي لحظة مُتعالية، مفارقة للزمن، وما عداها في مرتبة أدنى.

عمليًا، أفضى هذا التأزّم الاستحقاقي بين أتباع الديانات الثلاث الكبرى إلى إراقة الدماء، والتذابح على مآلات الحقّ المُطْلَق والحقيقة المُجتزأة.

ونظريًا، ساهمت الديانات التوحيدية –وإن قامت أساسًا على فكرة الإله الواحد الأوحد- في بلورة سياق تعدّدي للواحد الأحد؛ فيقينًا أن (يهوه) لا يمتّ بصلة لـ (الربّ) أو (الله)، والعكس بالعكس أيضًا.

وعليه، فقد شكلّت اللحظة الإطلاقية، المُتعالية حدًّا فاصلاً بين مرحلتين فاصلتين: مرحلة الإله الواحد، إذ تموضعت أقنوميته في دينٍ بعينه من دون الأديان الأخرى، ومرحلة الإله المُتعدّد، إذ تموضع الآن في ثلاث لحظات ادَّعَت كل واحدة منها أنها الأحقّ به من دون غيرها؛ فالجذر الأصلي لم يعد جذرًا مُفردًا، بل غدا جذرًا ذي ثلاث شعب!

هذا من جانب - وإنْ كُنتُ قد أتيتُ عليه اقتضابًا اقتضاءً لواقع الحال -، من جانب آخر، ثمة مستويان يتموضع بهما الله في المخيال الإسلامي؛ أولهما المخيال الفردي، وثانيهما المخيال الجمعي؛ ففيما يتعلق بالمخيال الفردي، ثمة توازنات جمعية يحتكم إليها الفرد الواحد في تمثّلاته للإله؛ فالمجموع ينظر إلى الله كواحدٍ أحد لا شريك له. والفرد –والحال هكذا- جزء من هذا الاستحقاق الجمعي. لكن السؤال المُلحّ هَهُنا: ما هي الصورة الذهنية التي يحتفظ بها الفرد المُسْلِم عن الله؟ أو إن أمكنني، صياغة السؤال على النحو التالي: كيف يتمثَّل الفرد المُسلم إلهه، لناحية أنه إله أوحد لا شريك له؟

هل يعمل الفرد المُسْلِم على إجراء مسح طوبوغرافي لكلِّ الصور الذهنية في عقله ساعة يُفكِّر بالله، وبناء على هذا المسح الشامل والسريع، يقوم بإقصاء كل ما من شأنه أن يُؤثِّر على أُحادية الله ووحدانيته وفردانيته، أم إن ثمة شائبات لا تفتأ تُشوِّش على صورة الله الخالصة في ذهن الفرد المسلم؟

أيضًا، هل الصورة التي يحتفظ بها الفرد الواحد، هي ذاتها لدى كل الذوات الأخرى؟ هل يُساهم الاستحقاق الجمعي (المذكور آنفًا) في تأطير الصور الذهنية الفردية، كُلٌّ على حدة، أم إن الأمر خاضع للذات الواحدة من حيث هي كذلك؟

أيضًا، هل صورة الله التي يحتفظ بها الفرد المسلم وهو طفل صغير، هي ذاتها وهو في ميعة الصبا، أو وهو في شيخ طاعن في السن، أم إن الأمر يخضع لاعتبارات شتّى، من شأنها أن تفتّ في عضد الصورة الواحدة، الثابتة، المؤطّرة؟

لا أظن أنّ صورة الله، بصفته واحدًا أحدًا لا شريك له، قارّة كصورة ذهنية في عقل الفرد الواحد، بل هي أقرب ما تكون إلى المُتتالية المُتنامية تِباعًا إلى ما لا نهاية؛ فهي –ضرورةً- صورة تعدّدية لا أُحادية، وإنْ كان ثمة توقير لاهوتي عظيم لهذه الصورة، فعلى الأكيد أنَّ التنامي الإلهي داخل العقل الفردي هو تنامٍ غير محسوس، وإلا لأصبح المُسْلِم في عِداد الكفرة والمُشركين!

ثمة لبس يعتور طبيعة العلاقة بين الفرد المُسلم وإلهه، بناءً على الصورة الذهنية التي يحتفظ بها هذا الفرد للواحد الأحد في عقله؛ فمن ناحية قَرَّ الاعتراف بالله كواحدٍ أحد، واعتبار هذا الثبات بمثابة مُسلَّمة يقينية، تستلزم تكفيرًا في حالِ تمَّ خرقها والاعتداء عليها إشراكًا، ومن ناحية ثانية لا تفتأ صورة الواحد الأحد تتنامى تباعًا في العقل الفردي للمسلم؛ فالله في الليل هو غيره في النهار، والله في الشتاء هو غيره في الصيف، والله أثناء مرحلة الطفولة هو غيره الله في مرحلة الشباب أو في مرحلة الكهولة؛ وهكذا دواليك.

وعليه، فالواحد الأحد مُتعدِّد إلى ما لا نهاية؛ فبقدر تعدّديته لدى ذات واحدة، فهو متعدّد أيضًا إلى ما لا نهاية لدى ذواتٍ أخرى.

أما المستوى الثاني، فهو المخيال الجمعي، وهنا أمكن الحديث عن تقسيمين للمخيال الجمعي؛ أحدهما مُتعلق بالمخيال الجمعي للأمة الإسلامية كاملة، وثانيهما مُتعلق بتشظيات المخيال الأول، واستحقاقاته على أرض الواقع (حركات دينية/ أحزاب/ جماعات/ تجمعات...إلخ). فيما يتعلق بالمستوى الأول، أعتقد أنَّهُ مخيال مُتنام هو الآخر؛ فالصورة التي قَرَّ عليها الواحد الأحد قبل ألف عام، ليست ذاتها التي قَرَّ عليها قبل مئة عام في المخيال الجمعي، وبالتأكيد ليست هي ما عليها الآن، وهلم جرًّا. أما فيما يتعلق بتشظيات هذا المخيال، إذ حلَّ في جماعات إثنية أو حزبية أو حركية؛ فالمسألة جلية إلى حدّ كبير، ولكن لا ضير من التذكير باستحقاقاتها، لما لذلك من أهمية.

أمكنني الآن أن أسأل: مَنْ هو الإله الحقيقي وسط التصوّرات الكثيرة عن الله في العالم الإسلامي؛ هل هو إله أهل السُنّة والجماعة أم إله الشيعة الاثني عشر أم إله الإسماعيليين أم إله المتصوفة أم إله الإخوان المسلمين أم إله السلفيين أم إله حزب التحرير أم إله حركة طالبان أم إله دائرة الإفتاء العام أم إله الأزهر أم إله قُم أم إله مكة...إلخ؟

إذا لاحظتم، فالتشظيات - فيما يتعلق باستحقاقات المخيال الجمعي - كثيرة ومُتعدّدة، وثمة صِدام بينها على إثبات أن الرؤية التي تتبناها هي الرؤية الأقرب إلى النموذج الإلهي المُرتَجى.

إنَّ رؤى الحقّ - بصفتها استنطاقًا إنسانيًا للسِرِّ الإلهي - لهي تجلّ غير واعٍ - درءًا لخطر الإشراك بالله والوصم بالكفر والإلحاد - للإله الواحد، إذ تعدَّدَ في أذهان شتّى، كانت قد اتفقت جميعها - بموجب ميثاق لاهوتي متين - على أنَّ الله واحد أحد لا شريك له! لكن ها هي تنقض هذا الميثاق العتيد، وتُطيح بلبناته لبنة لبنة؛ فالله الشيعي غير الله السُنِّي، والله قُم هو غير الله مكة، والله الخاص بالسلفيين هو غير الله الخاص بحركة طالبان. وعليه، فقد تفتَّتت منظومة الواحد إلى عديد أرقام، مع الحفاظ على الصيغة الجمعية والجماعية التي أقرّت - مرة واحدة وإلى الأبد - أن (لا إله إلا الله)؛ فالصِدام بين الجماعات الإثنية داخل الحظيرة الإسلامية، لا تصل إلى مرحلة الإلحاد بالله أو على الأقل التشكيك بوحدانيته المُطلقة، رغم الإدِّعاء – من قبل كل جماعة- بأنها الأقرب إلى الواحد الأحد، والأكثر تجسيدًا لرؤاه هنا والآن.

عمليًا، بقي الله - في المخيال الجمعي الإسلامي - مُنزّهًا عن الإشراك والتعدّد، إذ اعتبر الميثاق اللاهوتي الذي تنوّرت به اللحظة الإسلامية منذ لحظتها الأولى، والذي أقرَّ أنْ (لا إله إلا الله)، ميثاق وجود بالدرجة الأولى، لأنَّ أي خطأ في تمثّله واقعًا سيفضي إلى عصيان عظيم، يستوجب عقابًا هائلًا. وبالفعل، فقد اعتبرت اللحظة الإسلامية التي أُقِرَّ بموجبها هذا الميثاق الوجودي، لحظة مُقدسة؛ فـــ (لا إله إلا الله)، جَبٌّ للتعدّد والحظوة الموازية لأيٍّ كان على نحو مطلق.

نظريًا، لقد تعدَّد الله من الداخل؛ فمرحلة التعدّد الخارجي انتهت مرة واحدة وإلى الأبد، ولكن آن أوان تمدّد الله وتعدّديته من الداخل، عبر تشظّيه في أذهان تابعيه من المسلمين، سواء أجاء هذا التشظّي على المستوى الفردي أو على المستوى الجمعي، وقد رأينا ذلك أعلاه.

نعم، إن الله الواحد الأحد الفرد الصمد، قد تمدَّدَ تمدّدًا أفقيًا وعموديًا في المخيال الفردي والجمعي الإسلامي؛ فالتمثّل الأخير للإله غدا تعدّديًا من الداخل دلالةً على الثراء والأفق اللانهائي، بعيدًا عن أية آفاق إشراكية أو إلحادية أو شكوكية من الخارج.

إنَّ واحدية الله - والحال هكذا - واحدية تعدّدية من الداخل، وإن قرَّ كواحدٍ أحد في الخارج.