البحث عن أدلة التكفير والتفسيق لأبي القاسم البستي


فئة :  قراءات في كتب

البحث عن أدلة التكفير والتفسيق لأبي القاسم البستي

البحث عن أدلة التكفير والتفسيق

لأبي القاسم البستي([1])  


(كتاب البحث عن أدلة التكفير والتفسيق) لأبي القاسم البستي، هو، حتماً، ثمرة جهد مؤلّفه، ولكنّه، أيضاً، ثمرة جهد محققين تجنّدا ليخرجا مخطوطات المعتزلة من الظلمات إلى النور، وفق رؤية علمية لا تعترف بالحدود بين الأديان والثقافات؛ ولذلك، لا غرابة أن تكون ألمانيا حاضنة مشروع لتحقيق مخطوطات المعتزلة عبر الوسيط الزيدي في اليمن، وبحث علمي يشهد على جهود المستشرقين الأوائل والمتأخرين في دراسة التراث العربي الإسلامي، ومع ما شهده هذا الاختصاص من تطوّر آل إلى مراكز أبحاث استراتيجية، فقد استمرّ الاستشراق في ممارسة دوره القديم، على الرغم ممّا تعرض له من انتقادات وتشكيك في النوايا، فقد ظلّ شاهداً أنّ العلم لا يعرف الحدود بحثاً عن إرث إنساني مشترك وفق منطق عقلاني لا يعترف بمقولات الفصل الديني والإثني. ولقد عبرت المشاركة في تحقيق الكتاب عن هذا الرأي، وكأنها تستبطن موقف منتقديها، بقولها: «لا يقف الفكر أمام حواجز الهويات المختلفة، سواء أكانت ملية، أم دينية، أم لغوية، أم سياسية»[2].

ومن رحم هذا المشروع الفكري كان الوليد الاعتزالي (كتاب البحث عن أدلة التكفير والتفسيق) لإسماعيل بن علي بن أحمد أبي القاسم البستي، وقد كان تلميذاً مرموقاً للقاضي عبد الجبار (ت 415هـــ)، وكان معتزلياً زيدياً، توفي نحو سنة (420هـــ/1029م). ومن مؤلفاته (المراتب في فضائل علي بن أبي طالب)، و(كشف أسرار الباطنية)[3]. وكان، في زمانه، ينصر الشيعة على النواصب، وسُئِل، يوماً، عن الفضل بين أبي بكر وعليّ، فكانت إجابته بأن «مثل علي كمثل كوز جديد لم يمسّه شيء، ومثل أبي بكر مثل كوز كان فيه خمر ودم وأنجاس وأقذار، ثمّ غسل غسلاً نظيفاً، وذلك لأنّ علياً -عليه السلام- لم يشرك بالله طرفة عين، وأبو بكر كان مشركاً أربعين سنة. وإن برئ من الكفر، وطهر من الشرك. فغاض النواصب[4] هذا المثل، لوقوف العامة عليه، ولهجهم به. وأفضى ذلك إلى غضب الوالي، وطرده لأبي القاسم من آمل. ووقع بآمل خطب عظيم بين الشيعة والنواصب في قصّة طويلة، والله أعلم»[5].

يقوم منهج الكاتب على قسمين رئيسين؛ يتعلق القسم الأول بمفهوم التكفير، وهو موجّه للردّ على الفرق المارقة، وفق منطق التقسيم السائد في كتاب الفرق، ويتعلق القسم الثاني بمفهوم التفسيق، ويقارب فيه البستي قضية عدالة الصحابة.

وتتصدّر الكتاب مقدّمة، فمدخل من كلام مجمل، قفّاها الكاتب بأبواب تفصيله، وهو إجابة عن سؤال طرحه أحد مريدي البستي[6]، بقوله: «سألت -أيدك الله- عن القول في المجبرة والمشبهة، وعن سائر أهل الأهواء، فقلت أحد من يكفرهم ويفسقهم، وأحد من يقطع بإسلامهم، وينفي الكفر عنهم، وأحد من يتوقف في ذلك فلا يقطع بواحد منهما»[7]. ويميز البستي بين الكفر والفسق لا من جهة الفئة المستهدفة (الفرق الضالة/ الصحابة)، وإنما من خلال ما يترتب على الاتهام بالكفر أو الفسق من أحكام جزائية؛ «نحو قطع الموارثة والمناكحة ووجوب الاستتابة وإباحة القتل»[8] للكافر، و«رد الشهادة وخروجه عن أن يصلح للإمامة والقضاء، وتتعلق البراءة به واللعن»[9] للفاسق.

وبذلك، يقوم منهج الفصل بين مفهومي الكفر والفسق على اختلاف في درجة المعصية وما يناسبها من الأحكام، وحاجة صاحب السلطة إليها للفصل بين أصحاب الأهواء والمارقين عن القانون. وتضمّ قائمة المارقين المجبرة، والمشبهة، والكرامية، والخطابية، والمفوضية، والميمونية، والقرامطة، والباطنية، والملحدة، وأصحاب التناسخ، وكلّ تلك الفرق كافرة. فيتقاطع البستي مع الرأي السائد في كتب الفرق، ولا يخرج عن المنظومة التي روّج لها الأشعري (ت 330هــــ) في (مقالات الإسلاميين واختلاف المصلّين)، والبغدادي (ت 429هــــ) في (الملل والنحل) أو (الفرق بين الفرق)، فقد كان منهج التكفير لا يحيد عن الخط الذي رسمه كتّاب الفرق، ويسعون فيه من موقع السلطة العلمية المتكاملة مع السلطة السياسيّة إلى تمييز الفرقة الناجية عن الفرق الهالكة. وترجمةُ هذا التقسيم على أرض الواقع منحُ حقِّ الحكم للفرقة الناجية، وإكساب أصحابها شرعية، وقتالُ أتباع الفرق الهالكة، واستباحة دمهم. وما التمييز بين الكفر والفسق سوى تصنيف لمراتب الإيمان والكفر والفسق وفق رؤية زيدية، ولكنّها، في المقابل، آخذة من علم الكلام جدل الفرق الأخرى رداً على الدهريين، والثنوية، وأصحاب عقائد التثليث والمشبهة. فيقوم منهج التعريف على تحديد مفهوم الكفر والفسق والإيمان جدلاً بين موقف الكاتب ومواقف الفرق الأخرى، وتلك المقاصد توجّه الكتاب نحو غايات ظاهرها دينيّ، ولكن باطنها سياسيّ؛ إذ هي تشريع لقتال الفئات الباغية، وآلية للفرز السياسي بين الأنصار والمعارضين همّها العقاب الجماعي للمارقين، ما يؤكّد أنّ الحرب الكلامية، التي يخوضها أصحاب علم الكلام ضدّ خصومهم، إن هي إلا مرآة حرب أخرى حقيقية بين الحكم القائم ومعارضيه، وبين المدافعين عن الإيديولوجيا الرسمية وخصومهم «المارقين».

وفي القسم الأول من الكتاب، يقسم البستي الكفر إلى خمسة أنواع هي:

1- جهل بالله وصفاته: كالاعتقاد بألوهية نجم، أو القول بقدم العالم.

2- قول واعتقاد لما يوجب الخروج عن التوحيد: كالثنوية، أو التثليث، أو عبادة الأصنام.

3- قول واعتقاد لما يوجب التشبيه: وهو الاعتقاد الخاطئ بأنّ بعض البشر قد يصيرون في منزلة الإله، أو تشبيه الإله بصفات بشرية.

4- باب التظليم والتجوير: وصف الله بالظلم والجور، كاعتبار الإنسان مجبراً على أفعاله، أو أنه يحاسب الأطفال، أو يقدر أمراً لعباده، ويحاسبهم عليه.

5- باب التكذيب: كالتكذيب بالرسل، أو التكذيب بما أتوا به.

ولئن بدا الحسم في انتماء البستي إلى الزيدية أمراً مقضياً في كتب الطبقات، إلا أنّ النص وحده يكشف آراء صاحبه؛ ذلك أنّ ما ساد من اعتقاد الرافضة بأنّ القرآن محرف ليس أمراً وارداً في الكتاب، فهو شرط ضروري لبناء الأحكام وفق منطق يحسم في عصمة النص القرآني، ويبطل القول بتحريفه.

وبذلك، غلبت سلطة النص والإجماع على سلطة العقل، بقوله: «اعلم أنّ مقادير العقاب لا سبيل إلى أن نعرفها من جهة العقل، وقد بينّا أنّ الكفر معناه أنّ العقاب يعظم فيما يسمى به. فالأصل فيه الكتاب، أو الاضطرار إلى قصد الرسول، أو ما يعلم أنّه تكلّم به، فيدلّ بظاهره على كون الذنب كفراً، وإجماع الأمة، هذا على أصل شيوخنا بالاتفاق. أمّا من جعل إجماع العترة حجةً، فإنه يجوز أن يعلم به على أصله. ومن قطع على عصمة أمير المؤمنين يمكنه أن يعلم بقوله عظم الذنب إذا كان المعلوم من حاله أنه لو أخطأ فيه لكان الخطأ كبيراً[10]، «وهو موقف يسعى إلى استرضاء أهل السنة بإقرار شرعية الإجماع سعيه إلى استرضاء الشيعة، من خلال تأكيده أهمية إجماع العترة، وعصمة أمير المؤمنين. وهو ما يؤكد أنّ الموقف الاعتزالي المتأخر سار إلى المهادنة مع الموقف السني، بعد أن تحول الإجماع إلى أمر واقع[11]، فالكتاب محاولة للدخول إلى دائرة الشرعية من خلال التخلّي عن الموقف المتشدّد، الذي تبنّته بعض الفرق الشيعية تجاه من اعتبروهم مغتصبين لحقّ الإمام علي بن أبي طالب في الحكم، وهي نواة الخلاف السني الشيعي، وتبنٍّ للموقف الزيدي، الذي يقول بإمامة المفضول مع وجود الفاضل، وعلى ذلك بنوا صحة إمامة أبي بكر، وعمر، وعثمان رضي الله عنهم، مع ما يعتقدونه بأنّ علياً -رضي الله عنه-أفضل من الثلاثة. وهو يوافق المعتزلة في أبواب الأسماء والصفات، والقدر، والمنزلة بين المنزلتين.

ويظل الكاتب متصلاً بالفكر الاعتزالي من خلال إثبات أصولها، كالتوحيد، والعدل الإلهي، والمنزلة بين المنزلتين. ويقر البستي برفضه موقف الخوارج في تكفيرهم علي بن أبي طالب، وبطعنهم على عثمان، وقولهم بتكفيره، وعدّ أنّ الأمة أجمعت على تفسيق من كفّر مؤمناً، فيبدي موقفاً متسامحاً يتجاوز فيه بعض الآراء، التي تكفّر من كفّر الصحابة، وقد أدّاه هذا الاعتدال إلى نقد بعض المذاهب الشيعية، التي عرفت بغلوّها؛ كالخطابية، والمفوضية، والميمونية، فيعدّهم كفاراً، ويعزلهم عن الإمامية، ويحقّ القول على القرامطة، والملحدة، والباطنية، وأصحاب التناسخ[12]. وهو ينفي مبدأ الرجعة، وينكر كلّ تكذيب للنبي، ولا يكفر من ادّعى الإمامة.

وفي القسم الثاني من الكتاب، قارب مفهوم التفسيق، فتناول قضية إمامة علي، وأهل البيت، مقابل ما شاع من مطاعن في عدالة الصحابة.

ويرى البستي أنّ حكم من خالف الإمام المفترض الطاعة بعلم كان فاسقاً، وأن من خالفه جهلاً فلا يُعدُّ فاسقاً. ويفصل بذلك بين معصية الله ومعصية الإمام تنزيهاً للذات الإلهية عن أن تكون في منزلة الإمام نفسه، ويقوّي شرعيّة الحكم الذي ذهب إليه، فخالف به الغلاة، والشيعة الإمامية، بأنّ «الأمة أجمعت على أنّ البغي على الإمام فسق»[13].

وتتأكد نزعة الوسطية من خلال محاولة التوفيق بين الآراء السنية والعقائد الشيعية، فعدالة الصحابة، وقد تنازعوا في الفتنة، أصابت الضمير الإسلامي بحرج، وأرهقت العلماء بحثاً عن تبريرات لأعمالهم، ولعلّ الأمثلة تتعدّد وتتنوّع في الكتاب، كقضية حرمان فاطمة، بنت الرسول، من إرث والدها، وهو إجراء قام به أبو بكر، فكان البستي يبحث للطرفين عن تبرير، فإن قضى بعدالة أبي بكر أثار سخط الشيعة؛ لأن حقّ فاطمة يصير باطلاً، وإن قضى بحق فاطمة صار سلوك أبي بكر أقرب إلى اغتصاب حقّ شرعي ضمنته آيات الإرث في حق الأنثى نصف حظ الذكر، على الرغم من محاولة إظهار الحديث القائل: إنّ الأنبياء لا يورثون حجة دامغة.

وبعد عرض الاختلاف في المواقف سعى إلى التوفيق بين الرأيين بقوله: «فلقائل أن يقول: إن ذلك إنما لم ينبغ؛ لأن ظاهر اليد أمارة، فترك ما في أيديهم لهم، ولم تكن فدك في يدها، فلهذا حكم بذلك للفقراء. وإذا احتمل ذلك لم يجب لأجله القول بتفسيقه؛ لأنه محتمل مشتبه على ما يرى»[14].

أمّا قضية جيش أسامة، فالحسم بين الآراء المتباينة يكون بإقرار حقّ الاختلاف في تقدير الأمور الدنيوية، «فإن الآراء في الحروب، والاجتهاد فيها، يجوز أن يقع الاختلاف فيه»[15]. وفي قضية طلب النبي صحيفة ليكتب فيها كتاباً لا يضلّون بعده، ورفض عمر إعطاءه كتفاً ودواة، فقد تملص من الطعن في عدالة عمر برفض التصديق بخبر الآحاد، فعاد إلى موقف النظام (ت 231 هـــ)، الذي طعن في حجية خبر الآحاد، ولكنّه طعنٌ «مصلحي» مؤقت يرتبط بمواضع إشكالية يبدو الحكم فيها مدنِّساً لقداسة الصحابة، ونصرة لفريق من المتنازعين من أهل السنة أو الشيعة على الآخر. وحتى خبر أمر أبي بكر خالد بن الوليد قتل علي يصير أمراً غير عظيم؛ لأن علياً تلافاه «وبتلافيه كأنه لم يوجد»[16].

وأما ما فعله عمر مع فاطمة، حين همّ بحرق بيتها، وإكراه علي على البيعة، فيستغل البستي فيه تضارب الروايات، كي يعدّه خبر آحاد غير دال على حجة قطعية الدلالة لتكفير الصحابة؛ «فالتفسيق بخبر الواحد لا يثبت»[17]. فقد كان البستي يتخذ منهجاً تبريرياً يؤول في نهاية كلّ حكاية تسرد قصة خطأ صحابيّ بحجة، فإن لم يجد إلى ذلك سبيلاً شكّ في صحة الخبر، وعدَّه خبر آحاد، أو أبطله بحكم تضاربه مع أخبار أخرى تناقضه، أو شكّ في عدالة ناقله. ولعلّ هذا المنطق هو الذي أوقع البستي في تناقض داخلي؛ ذلك أنّ رفض أخبار الآحاد يبطل كثيراً من الأحكام، فيبطل بذلك حجية الإجماع.

ولذلك، رفض أخبار الآحاد إن بدا ظاهراً يقرّب موقف البستي من آراء المعتزلة الأوائل، وتحديداً النظّام، فإنّه، في الحقيقة، لا يرفض إلا الأخبار التي تطعن في عدالة الصحابة، سعياً إلى استرضاء الموقف السني، مع الحرص على حفظ منزلة آل البيت سعياً إلى استرضاء الشيعة، فالموقف يبدو إلى السياسة أقرب منه إلى أمر آخر؛ ذلك أنّه يحاول تسكين بؤر التوتر بين الأطراف المتنازعة بتفكيكها، ومحاولة إيجاد حلول وسطية يسترضي بها الطرفين، نفياً للتعصب، وسعياً إلى تجاوز خلافات أثقلت الفكر الإسلامي جدلاً، وسفكت الدماء من أجلها فتنة. وقد كان البستي واعياً بهذه المقاصد منذ المقدمة بقوله: «وأسأل الناظر في كتابنا هذا الانحراف عن التعصب، والميل، والهوى، وأن ينظر لدينه، ويبتغي الاحتياط لنفسه»[18].

ولذلك، الكتاب أرضية لدراسة مفهوم التسامح في التراث العربي الإسلامي المؤسس على رؤية عقلية تحاول نزع فتيل الأزمة، وفك الاشتباك في البؤر التاريخية، التي ولّدت الصراعات المذهبية وفتنة المسلمين. أمّا من الناحية المعرفية، فالكتاب يحدّد المفاهيم ليفرق بين الإيمان والكفر والفسق ليوجه سهامها نحو الفرق المارقة، ويحاول، في المقابل، إيجاد جبهة داخلية قوية تتجاوز خلافات الماضي، من خلال احترام قداسة خلفاء السنة الراشدين، واسترضاء الشيعة بالرفع من قيمة العترة الصالحة من آل البيت. فقدر البستي في الكتاب أنّه وسيط بين الفرق يرتقُ فتقَ الخلافات بين الصحابة، ويقرب الهوة بين السنة والشيعة في خطابٍ غلب عليه التبرير، وربّما كانت التقية دافعاً للوقوف موقف الحياد من أخطاء الصحابة، ولكن تظلّ حدود التسامح عند الخلفاء الراشدين، فكلّ من خرج على «إمام الحق» علي بن أبي طالب يُعَدّ فاسقاً، «ولا خلاف بين أهل البيت في ذلك أيضاً، وإجماعهم حجة عندنا»[19]. «إلا أن التوبة في آخرها كأنّها مصباح أبيل رفع لسالك السبيل»[20]. وهو يجعل الشكّ سبيلاً للموالاة بدل التبرّؤ والمعاداة، فإن ثبت أنّ الفاسق لم يتب، فإنّ ذلك يصير ملزماً للحكم بالتفسيق. ويؤدي هذا المنهج إلى تفسيق من خرج على علي، ولكن الحكم يظلّ معلقاً بشرط التوبة، فإن ثبتت يقيناً فقد خرج الصحابي من دائرة الفسق، وإن كان في الأمر شكّ فموالاة وقول بالعدالة، وإن ثبت أنّ المعنيَّ بالحكم لم يتبْ، يلزمه حكم التفسيق كمعاوية مثلاً.

خلاصة القول إنّ (كتاب البحث في أدلة التكفير والتفسيق) إن هو إلا أنموذج لعلم الكلام ومجالاته المعرفية، حتى يميّز الهالكين من الناجين، ويدافع عن التوحيد ضدّ الدهريين، والثنوية، والمسيحيين المؤمنين بالتثليث، ويثبت حجية القرآن والحديث ما لم يكن آحاداً يطعن في عدالة الصحابة، وإقراراً بالإجماع، ودفاعاً عن الشخصيات المقدسة في الذاكرة الإسلامية ضدّ هوى التكفير وتعصب الملل والنحل.

والكتاب لا يرسم مجرّد فصل اصطلاحي بين الكفر والفسق، وإنّما يرسم، أيضاً، فصلاً دينياً بين المارقين والصحابة المقدّسين؛ ذلك أنّ مقام الكفر يكون خارج الدائرة الإسلامية، ومقام الفسق داخل الدائرة الإسلامية، وفق منطق المركزية، فتصير الطبقية العقائدية سبيلاً لتضخيم كفر المنتمين إلى ملل الهالكين، وإن كانت مجرّد آراء وتصوّرات فكرية، بينما تصير أخطاء الصحابة اجتهاداً، وإن كانت أخطاء حقيقية أسهمت في خلق الفتن، واغتصاب بعض الحقوق المدنية والسياسية. ومن شأن هذه الرؤية أن ترسخ وهماً بأنّ الذات الجماعية المتحصنة حول الفرقة الناجية تظلّ دوماً على صواب، وأنّ النقد كالسلاح لا يوجّه إلا إلى الخارج لتتأسس عقلية التآمر. أما الأخطاء الداخلية، فتصير اجتهاداً يسيّج بالقداسة والعصمة، فلا يجوز فيها الخروج عن الأحكام المعتدلة والمتسامحة، ومن شأن هذا التصوّر أن يؤبّد نرجسية إسلامية لا تنقد ذاتها، ولا تعترف بأنّ البشر يخطئون، وإن كانوا صحابة مقربين، وما الوعد بالجنة سوى وعدٍ آنيٍّ لا يفترض فيه أن يكون النبي عالماً بالغيب، ليعلم أخطاء صحابته، بعد أن يفارق الحياة، فقد ظلّ كلّ حزب بما لديهم فرحون، قداسة الصحابة عند السنة، وقداسة الإمام علي عند الشيعة، حتى صارت تلك القداسة أقرب إلى منطق التأليه، وتصور البشر معصومين عن الخطأ، وذاك ما لا يقبله العقل، ولا تقرّه الشرائع. ولئن كان عذر البستي أنّه منساق وراء تيار فكري سائد لا يستطيع مواجهته وحدود «المفكر فيه» في عصره، فقد علّمته التجربة أنّ كلّ كلمة قد تمسّ بعدالة الصحابة قد تؤدي إلى اللعن، والطرد، وتأليب العامة والسلطة ضده، ففهم الدرس، وعرف كيف يسلك سبيله في التكفير والتفسيق آمناً دون إثارة ضغينة السنة والشيعة. وهو يرسم، بذلك، مسلكاً تاريخياً للتسامح بين الفرق والمذاهب المتناحرة، ممّن لا تزال نار الحرب تستعر بينهم إلى يومنا هذا. قد يعطي المعارك التي دارت في الماضي، فأثخنت الفكر الديني بجراح التكفير، فرصة للهدنة والتفكير، وفتح باب التسامح بديلاً لويلات العنف وصولات المتعصبين. ويظلّ الفكر النقدي وحده القادر على استبدال التفكير بالتكفير.

 

قائمة المصادر والمراجع

المصادر:

- البستي، أبو القاسم، كتاب البحث عن أدلة التكفير والتفسيق، تحقيق ومقدمة ويلفرد مادلونك، زابينه اشميتكه، كولونيا (ألمانيا)، منشورات الجمل، بغداد، ط1، 2009م.

المراجع:

- اشميتكه، زابينه، فكر الاعتزال والزيدية ورحلة الفكر العقلاني، صحيفة النهار الإلكترونية، 23/09/2013م.

- البستي، أبو القاسم، المراتب في فضائل علي بن أبي طالب، تحقيق محمد رضا أنصاري قمي:

http://gadir.free.fr/Ar/imamali/pdf/almeratib.rar

- ذويب، حمادي، جدل الأصول والواقع، دار المدار الإسلامي، لبنان، ط1، 2009م.

- سيزكين، فؤاد، تاريخ التراث العربي، طبعة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، السعودية، ط1، 1991م.

- المعري، أبو العلاء، رسالة الغفران، دار صادر، بيروت، ط1، 2004م.

-S.M.Starn, AbU'l-Qasim al-Busti, and his refutation of isma'ilism, JRAS1961/14-15.


[1]- نشر ضمن مشروع "الفكر النقدي في الإسلام المعتزلة أنموذجاً (2) قضايا كلامية وسياسية في الفكر الاعتزالي"، إشراف الدكتور حمادي الذويب، مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث.

[2]- اشميتكه، زابينه، فكر الاعتزال والزيدية ورحلة الفكر العقلاني، صحيفة النهار الإلكترونية، 23/09/2013م.

فكر-الاعتزال-والزيدية-ورحلة-الفكر-العقلاني http://newspaper.annahar.com/article/68942-

[3]- لا يزال هذا الكتاب مخطوطاً في ميلانو، انظر (ZDMG96/81) وقد نشر شتيرن (Stern) قسماً من هذا الكتاب في:

S. M. Starn, Abu'l-Qasim Al-Bust? and His Refutation of Ism?'?lism, JRAS1961/14-15.

انظر: فؤاد سيزكين، تاريخ التراث العربي، ط1، السعودية، طبعة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، 1991م، المجلد الأول، الجزء الرابع، ص85.

[4]- هم من يعادون علي بن أبي طالب وآل بيته، ويقرون بعدالة أبي بكر وعمر وعثمان ومعاوية.

[5]- أبو القاسم البستي، المراتب في فضائل علي بن أبي طالب، تحقيق محمد رضا أنصاري قمي،

http://gadir.free.fr/Ar/imamali/pdf/almeratib.rar

[6]- انظر: أبو القاسم البستي، البحث في أدلة التكفير والتفسيق، ط1، مصر، دار الآفاق العربية، 2001م. من مقدمة المحقق إمام حنفي سيد عبد الله، ص10.

[7]- أبو القاسم البستي، البحث في أدلة التكفير والتفسيق، ص5.

[8]- المصدر نفسه، ص6.

[9]- المصدر نفسه، ص7.

[10]- المصدر نفسه، ص22.

[11]- انظر: ذويب، حمادي، جدل الأصول والواقع، دار المدار الإسلامي، لبنان، ط1، 2009م، ص620.

[12]- البستي، أبو القاسم، البحث عن أدلة التكفير والتفسيق، ص112.

[13]- المصدر نفسه، ص124.

[14]- المصدر نفسه، ص136-137.

[15]- المصدر نفسه، ص137.

[16]- المصدر نفسه، ص142.

[17]- المصدر نفسه، ص148.

[18]- المصدر نفسه، ص5.

[19]- المصدر نفسه، ص168.

[20]- المعري، أبو العلاء، رسالة الغفران، دار صادر، بيروت، ط1، 2004م، ص106.

و«الأبيل»: الراهب.