البنيات البلاغية للخطاب الصوفي: قراءة في كتاب إبراهيم ياسين


فئة :  قراءات في كتب

البنيات البلاغية للخطاب الصوفي: قراءة في كتاب إبراهيم ياسين

أهداني مشكوراً أخي وزميلي د. إبراهيم ياسين، الباحث المغربي المتخصص في قضايا اللغة العربية والبلاغة والتصوف الإسلامي، كتابه الموسوم بـ: "البنيات البلاغية للخطاب الصوفي، أبو حيان التوحيدي نموذجاً (ت 414 هـ / 1023 م)" الذي صدر عن دار "عالم الكتب الحديث للنشر والتوزيع"، إربد ـ الأردن، في طبعته الأولى، 2016.

ونظراً لأهمية هذا الكتاب النظرية والتطبيقية والمنهجية، فقد فكرت أن أقدّم قراءة فيه، وأستعرض خطوطه العامة لفتح شهية القارئ العربي المهتم، ودفعه إلى معرفة مضامينه، وما يطرحه من قضايا وإشكاليات.

قسّم الباحث كتابه، الذي يقع في حوالي 386 صفحة، من الحجم المتوسط، قياس 17×24، إلى مقدمة وفصلين (الأول نظري والثاني تطبيقي)، وخاتمة.

المقدمة: نحو تبنّي النظرة التكاملية والمنهج الآلي في التعامل مع التراث العربي الإسلامي.

أراد د. إبراهيم ياسين أن تكون مقدمة كتابه تلخيصاً يقدّم فيه نظرة عامة لما جاء في فصلي كتابه ومباحثهما وكذلك خاتمته. لكن قبل ذلك، ارتأى أن يضع توطئة مقتضبة تضمّنت قضايا وافتراضات مفادها أنّ التصوف الإسلامي يمثل نموذجاً حيّاً للتكامل في تراثنا العربي الإسلامي، لارتباطه بمجالات متعددة كالدين والسياسة والاقتصاد والثقافة والاجتماع والأدب، حيث شكّل (الأدب)، في نظره، أغنى تلك المجالات، بصورة جعلت من النص الصوفي نصاً بليغاً اكتسب خصائص رمزية إشارية لاقترانه بالشعر وبالرؤيا.

وقد انصبّ جهد هذا الكتاب حول استجلاء بلاغة النص الصوفي استجلاء أريد له أن يكون تطبيقياً، وذلك عبر إبراز خصائصه الأسلوبية والبلاغية. وهذه مهمة اعتبرها صاحب الكتاب رائدة في هذا المجال لتبنّيها نظرة تكاملية أدمجت في بوتقة واحدة الرؤية والتحليل من جهة، والمنهج كطريقة ملائمة للتعامل مع التراث العربي الإسلامي من جهة أخرى.

ولتحقيق المراد، سعى صاحب الكتاب إلى الكشف عن آليات الخطاب الصوفي وتحليلها تحليلاً بلاغياً، وذلك عبر تحليل فكر أبي حيان التوحيدي. وهذا الأخير استوفى في رأيه شرط مجال التداولية والتكاملية، فاستحق أن يعتمد في هذه الدراسة كنموذج لذلك الأديب الموسوعي الذي "تكاملت فيه المعارف العربية الإسلامية على مستوى الوعي والامتلاك" (ص 1) من تصوف وفلسفة وكلام وفقه وعلم أصول ونحو وبلاغة وأدب.

الفصل الأول: التكامل المعرفي عند أبي حيان التوحيدي

تضمّن هذا الفصل أربعة مباحث وهي:

المبحث الأول: مدخل نظري عام

وقد صاغه د. إبراهيم ياسين في شكل تأطير نظري لخصائص التراث العربي الإسلامي في أبعادها الأخلاقية والمنطقية والعقلية، أتاح له الفرصة لمناقشة الإشكاليات المركزية التالية:

- إشكالية تكاملية التراث العربي الإسلامي، المندرجة ضمن مجاله التداولي الذي يبرز على مستوى تكامل علومه الدينية والعلمية والأخلاقية مع بعضها بعضاً شكلاً ومضموناً، تبعاً لخصوصيات الواقع العربي الإسلامي الوسيطي السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية.

- إشكالية الآلية، سواء على مستوى التحديد الدقيق لمفهوم الآلية أو على مستوى التحليل الذي انبنت عليه أو على مستوى خصائصها وأنواعها: فالتفاعل بين ما هو فكري وما هو لغوي، والذي أنتج معارف التراث العربي الإسلامي، يستلزم تبنّي آليات لغوية وبلاغية ومنطقية جدّ خاصة.

- إشكالية المنهج الداعية إلى الربط بين الرؤية التكاملية والمنهج الآلي عند معالجة قضايا التراث العربي الإسلامي. وفي هذا الصدد، قدّم الكاتب قراءة متأنية لنماذج دراسات وأبحاث وتحقيقات للفكر الصوفي لدى أبي حيان التوحيدي، نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر حسن السندوبي في تحقيقه لكتاب أبي حيان التوحيدي "المقابسات" (ص 19)، وعبد الرزاق محيي الدين في تناوله لسيرة وآثار أبي حيان التوحيدي (ص 21)، وزكريا إبراهيم في قراءته الفلسفية لأدب أبي حيان التوحيدي (ص 26).

وقد تناولت قراءة صاحب الكتاب منهجيات هؤلاء الباحثين، كما وقفت عند بعض إضافاتهم وسجلت بعض ثغراتهم، لتخلص في النهاية إلى أنّ أيّ محاولة للفصل بين الرؤية التكاملية والمنهج الآلي سيفضي لا محالة إلى الاختزالية وإلى سيادة النظرة التجزيئية لتراثنا العربي الإسلامي المنافية للمناحي التي تقود إلى مبدأ العلمية.

المبحث الثاني: "التكامل المعرفي بين التصوف والأدب"

عالج الكاتب د. إبراهيم ياسين، في هذا المبحث إشكالية العلاقة بين التصوف والأدب، خاصة الشق المرتبط بالشعر، وذلك على مستويين اثنين:

- مستوى الرؤية: حيث وقف عند جملة مفاهيم كمفهوم "الإشارة" الذي يعتبر آليّة صوفية من حيث خصائصها ووظائفها النفسية واللغوية والأخلاقية والاجتماعية والسياسية، ومفهوم "بلاغة الكلام" ومفهوم "بلاغة السكوت"، ناهيك عن تحليل مستويات الكلام بين الإبداعي والإيديولوجي.

- مستوى توظيف اللغة والخيال والبلاغة: كسلاح إيديولوجي لبناء وإثبات الذات والشخصية الفردية. وفي هذا الصدد حاول صاحب الكاتب إثارة إشكالية كبرى، ألا وهي إشكالية العلاقة بين اللغة والبلاغة وبين الأخلاق عند أبي حيان التوحيدي، في إطار تصور هذا الأخير التكاملي لقضاياهما كالسجع والتكلف واللفظ والمعنى والطبع والصنعة (ص 70).

المبحث الثالث: "التكامل المعرفي بين التصوف والكلام"

قبل الشروع في تبيان التكامل بين التصوف وعلم الكلام حاول الكاتب أن يوضح أنّ البعد الأخلاقي في الإسلام هو عامل من عوامل هذا التكامل في تراثنا العربي الإسلامي، وذلك انطلاقاً من تحليله لتأثيرات هذا البعد على هويّة التصوف كما هي واضحة في أحكام ونظرات أبي حيان التوحيدي، وفي التلمذة التي خضع لها على يد متصوفة كالخلدي والحصري، وفي تمرّسه بالمصطلح الصوفي على مستوى الفهم والتوظيف، وفي موقفه الواضح من التوحيد الصوفي ومن الاستدلال العقلي وإبراز منحاه الرابط كممارسة تكاملية ما بين العلم والعمل. إلى جانب التطرّق إلى التكامل الحاصل في ما بين علوم ذلك العصر كالتصوف والفقه وعلم الأصول. ولا أدلّ على ذلك من موقفه الرافض لإسقاط التكاليف الشرعية، وتركيزه على مفهوم "الغربة" ومختلف تجلياتها الصوفية المتماهية مع مفاهيم أخرى كالذات والآخر واللغة والدنيا والدين (ص 120).

وبعد هذا التمهيد يعود الكاتب ليبحث في موقف أبي حيان التوحيدي من علم الكلام ومن المتكلمين على مستوى أخلاقياتهم ومنهجهم الاعتزالي ومفاهيمهم التي وظفوها ليخلص في نهاية التحليل إلى أنّ أبا حيان التوحيدي ليس معتزلي المذهب، على الرغم من استعمالاته لمفاهيمهم ومناهجهم وتجاوزه الملحوظ لعتبة الاستيعاب والتأثر بمذهبهم والارتقاء بفكره إلى مستوى مناقشة قضاياهم الكلامية (ص 145).

المبحث الرابع: "التكامل المعرفي بين التصوف والفلسفة"

تناول الكاتب في هذا المبحث الأخير من الفصل الأول معيارية أبي حيان التوحيدي الأخلاقية في الحكم على الفلسفة والفلاسفة وفي مفهوم التصوّف لديه ومختلف ارتباطاته بالفلسفة التي أجملها الكاتب في أربعة: العلم، والعمل، والأخلاق، والتوحيد. وقد قادته دراسة المنحى الفلسفي لدى أبي حيان التوحيدي إلى الإقرار لهذا الأخير بتمكنه من الفعل الفلسفي نظراً لتتلمذه على كبار فلاسفة عصره، فأصبح أحسن أديب متفلسف لا يطمح إلى أن يشيد لنفسه نسقاً فلسفياً. لقد كان همّه أن يكون أديباً متصوّفاً يجيد ببراعة إيصال المصطلح الفلسفي إلى متلقيه مع الدفع بالتجربة الروحية الصوفية إلى الأمام، دون إغفال الفلسفة النقدية للعقل وللغة ومناقشة قضايا فلسفية كالتسليم والتنقير والإذن واللاإذن، وموقفه من الفلسفة التلفيقية المتمثلة في فكر إخوان الصفا (ص 178).

الفصل الثاني: بلاغة الخطاب الصوفي عند أبي حيان التوحيدي

يُعتبر هذا الفصل تطبيقياً، استطاع الكاتب د. إبراهيم ياسين عبر مباحثه الأربعة وعبر تحليل وصفي مدعم بجداول وبيانات وإحصاءات لكتاب "الإشارات الإلهية" لأبي حيان التوحيدي أن يوضح كيف قدّم هذا الأخير، وباقتدار، عروضه الفكرية ذات المنحى التكاملي عبر بلاغة كلٍّ من البيان والمعاني والبديع والتفنن الأسلوبي، وما ارتبط بها من توظيفات لآليات متعددة كالمقابلة والتولد والتفسير والإضافة والتنويع والتكرار والمماثلة وغيرها من الآليات والأساليب اللغوية التي وسمت الكتابة عنده وطبعتها بطابع خاص، جعلت اللفظ المنتقى بعناية وتركيز وتفنن يكون في خدمة المعنى وليس العكس، وجعلت أيضاً آليتي التكرار والتنويع تندمجان في بوتقة أسلوبية واحدة تساعدان القارئ على المتابعة وطرد الرتابة والملل، وتقحمانه في أجواء نفسية محفزة على الدخول في أجواء النص المتنوعة والاستسلام بشكل طوعي وإرادي لإغراءاته (ص 207).

المبحث الأول: بلاغة المعاني:

بعد أن قدّم تعريفاً موجزاً لعلم المعاني على أنّه "علم يعرف به أحوال اللفظ العربي التي بها يطابق مقتضى الحال" (ص 209) تناول د. إبراهيم ياسين بالدراسة والبحث المدعومين بإحصاءات وأرقام وجداول الأساليب التالية: الكلام الإنشائي (التمني والاستفهام والأمر والنهي والنداء) والكلام الخبري (الابتدائي والطلبي والإنكاري) ومؤكداته، وآليات التعريف والتنكير والتقديم والتأخير والتقيد والقصر والوصل والفصل والذكر والحذف وصيغها الأصلية والفرعية، إذ فرّغها في جداول إحصائية شملت عددها ونسبها المئوية، موضحاً في جدول ضامٍ للمجموع النهائي الآليات أو الأساليب اللغوية الطاغية وطابعها الغالب عليها دون نسيان تحليل النتائج المتولدة عنها (ص 269).

المبحث الثاني: بلاغة البيان:

بعد أن ساق الكاتب تعريفين لعلم البيان الأول للسكاكي والثاني للقزويني (ص 271) يفيدان أنّ هذا العلم يعني إيراد المعنى الواحد بطرق مختلفة إمّا بالزيادة في وضوح الدلالة عليه أو بالنقصان للاحتراز والوقوف على ذلك عن الخطأ، تناول بالدراسة والوصف والتحليل المدعوم بالجداول الإحصائية، محاوره الأربعة التالية: التشبيه والمجاز والاستعارة والكناية، مستخلصاً في النهاية نتائج وملاحظات ومقارنات (ص 275).

المبحث الثالث: بلاغة البديع

والبديع، حسب الخطيب القزويني، "علم يُعرف به وجوه تحسين الكلام، بعد رعاية تطبيقه على مقتضى الحال ووضوح الدلالة" (ص 277)، وهذه الوجوه ترجع إمّا إلى المعنى باعتباره محسنات معنوية كالمطابقة والمقابلة وآلية العكس والرجوع والجمع والتقسيم أو الجمع مع التقسيم والمذهب الكلامي والتفريق، أو إلى اللفظ باعتباره محسنات لفظية كالجناس والسجع والموازنة.

وقد حاول الكاتب د. إبراهيم ياسين تحليل بلاغة البديع من خلال قراءة الأرقام الدالة على هذين التحسينين المعنوي واللفظي، حيث خلص على مستوى التحسين المعنوي إلى أنّ الطباق مثل نسبة مهمة جدّاً، في حين احتلت آلية المذهب الكلامي نسبة هزيلة لاعتماد النص الصوفي على الذوق وعلى الوجدان الإيماني، وليس على العقل والإقناع (ص 284).

ومقارنة مع هذين التحسينين فقد احتل، في نظر الكاتب، التحسين اللفظي الصدارة لميل الأدباء العرب، خاصة في العصر العباسي، "إلى التنغيم في درجاته المختلفة إيقاعاً ووزناً وسجعاً، باعتبارها من وسائل حفظ الكلام من التلاشي، من جهة، والتأثير في المتلقي من جهة أخرى" (ص 296).

المبحث الرابع: بلاغة التفنن الأسلوبي

في هذا المبحث سعى الكاتب إلى دراسة وتحليل آليات لفظية، اعتبرها الكاتب مفاتيح الكتابة لدى أبي حيان التوحيدي، خاصّة في نصّيه "الإشارات الإلهية" و"المناجيات" كآلية الدمج والتكرار والتنويع والازدواج والاعتراض والتفسير والتوالد والإضافة والاقتباس والتضمين والاستشهاد والعطف والزيادة والالتفات والتصغير والتعجب وآلية المخاطبات والاحتفاظ والاستبدال والتحذير والإغراء والتفريغ والتبرير والتوسّل، بالإضافة إلى بعض الملامح الأسلوبية، التي كان يستعملها أبو حيان التوحيدي كصيغ أسلوبية لإثارة انتباه القارئ، وبعض المصطلحات الصوفية المستعملة من أجل التخاطب مع الأنداد من المتصوفة (ص 375).

وقد اعتمد الكاتب الطرق الإحصائية وتفريغ المعطيات الرقمية ضمن جداول أفضت به إلى استخلاص أنّ نصّ أبي حيان التوحيدي الصوفي هو نصٌّ تغلب عليه الحوارية والخطابية لاستعماله الكثيف لآليات الدمج والتكرار والتنويع والازدواج، ولاعتماده أسلوباً يطغى عليه التفسير والتولد والاعتراض (ص 362).

الخاتمة: ملاحظات واستنتاجات

بعد أن أثار د. إبراهيم ياسين بعض الملاحظات المنهجية مثل صعوبة التعامل مع نصوص أبي حيان التوحيدي لبلاغتها الشديدة، واضطراره إلى الاستشهاد بها في سياقات مختلفة نظراً لمناقشة أبي حيان التوحيدي لأكثر من قضية في سياق واحد، أوجز في هذه الخاتمة مجمل ما انتهى إليه بحثه من خلاصات، يمكن صياغة مضمونها على الشكل الآتي:

- خضوع التراث العربي الإسلامي لمعايير مقتضيات المجال التداولي العربي الإسلامي في أبعادها العقدية والأخلاقية والحوارية والتكاملية، واعتبرت النظرة التكاملية والمنهج الآلي أنسب طريقة في التعامل معه.

- استيفاء أبي حيان التوحيدي لشروط هذا المجال التداولي المتجلية في الحوارية على مستوى الفكر والموسوعية على مستوى المعارف العلمية والأخلاقية الدينية على مستوى المواقف.

- امتلاك الخطاب الصوفي لدى أبي حيان التوحيدي لخصائص بلاغية وآليات أسلوبية مع توظيف مكثف للمصطلح الصوفي (ص 364).

وبعد استيفاء أغراض هذه القراءة في كتاب د. إبراهيم ياسين، لا يفوتني أن أنوّه بهذا الجهد المعرفي والنظري والتطبيقي لما قام به هذا الباحث المغربي الشاب في سبيل إثراء المكتبات العربية بهذا البحث القيّم في البنيات البلاغية للخطاب الصوفي. وأملي كبير في أن يحذو حذوه جيل واسع من الباحثين الشباب في استجلاء ما غمض من تراثنا العربي الإسلامي.