حوار مع المفكر المصري محمد عثمان الخشت نحن بحاجة إلى إعادة بناء الوجدان العربي لمواجهة العقول المغلقة


فئة :  حوارات

حوار مع المفكر المصري محمد عثمان الخشت  نحن بحاجة إلى إعادة بناء الوجدان العربي لمواجهة العقول المغلقة

حوار مع المفكر المصري محمد عثمان الخشت[1]

نحن بحاجة إلى إعادة بناء الوجدان العربي لمواجهة العقول المغلقة

حاوره: د. محمود كيشانه

قال المفكر المصري محمد عثمان الخشت، إننا بحاجة اليوم إلى إعادة بناء الوجدان العربي، لأن الوجدان المريض ليس قرينا فقط للروح المضطربة، بل قرينا للعقل المغلق، وكلها ثلاثة أضلاع لمثلث واحد يضم بين جنباته طاقة غضب وضغينة وانتقام، تمثل الوقود لكل معارك الكراهية التي يخوضها المتطرفون من كل فصيل في الدين أو في الفن أو في السياسة.

وأضاف الخشت أن الفن يلتقي مع الدين، لأن كليهما يتعامل مع الوجدان، ومع الروح، ومثلما هناك معتقدات دينية خاطئة يحملها العقل الديني الضال، فإن هناك فنّا عشوائيا يحمله الوجدان الاجتماعي المريض.

لهذا، فنحن في حاجة ماسة إلى الانتقال من معارك الكراهية إلى معارك العيش المشترك والتنمية الشاملة، ولن يكون هذا ممكنا فقط بتحرير الوجدان من طاقة الغضب والضغينة والانتقام وسائر مشاعر الهدم، بل عبر إعادة بناء الوجدان لتغليب مشاعر البناء والحضارة والشعور بالجمال، على مشاعر التدمير والاضمحلال الحضاري والقبح.

ودعا المفكر المصري إلى ضرورة تطوير العقل، لكي يتخلص من طرائق التفكير القديمة، لينتهج طرائق تفكير جديدة تساعد على تنمية القدرة على الوعي بالمشاعر والانفعالات، والتحكم فيها وقيادتها من دوائر الكراهية والقبح الفني إلى دوائر التنمية والجمال الفني.

وعن علاقة المثقف بالسلطة، أوضح الخشت، أن المثقف في الأوضاع الطبيعية يجب أن يكون على حافة السلطة؛ حتى يكون بمثابة المنارة التي ترشد السفن إلى حافة الشاطئ، وعندما يكون الوطن في حالة خطر، يجب على الجميع أن يكونوا في خندق واحد، من أجل الحفاظ على الوطن، ومواجهة العدو، معتبرا أن الأيديولوجيا تحدث نوعًا من العمى الثقافي؛ لأنها تلوّن كلّ شيء بلونها، وتعيق المثقف عن رؤية الواقع، قائلا إن "الحالة تزداد سوءًا في حالة وجود أيديولوجيا تقوم على التعصب ضد الآخر المختلف في الفكر والثقافة، حيث يقع الجميع في نفي الآخر والتكفير".

والدكتور محمد عثمان الخشت مفكر وكاتب مصري، وأستاذ فلسفة الأديان والمذاهب الحديثة والمعاصرة، رئيس جامعة القاهرة حاليا. يجمع الخشت بين التعمق في التراث الإسلامي والفكر الغربي، وتقدم أعماله رؤية جديدة لتاريخ الفلسفة الغربية تتجاوز الصراع التقليدي منذ بداية العصور الحديثة، وتتميز مؤلفاته بالجمع بين المنهج العقلي والخلفية الإيمانية، حيث نسج منهجًا جديدًا في فنون التأويل، يجمع بين التعمق في العلوم الإنسانية والعلوم الشرعية وتاريخ الأديان والفلسفة.

ويعد الخشت رائدا في علم فلسفة الدين في العالم العربي، نظرا للثقل الفكري والأكاديمي الذي يظهر في كتاباته التي أسست لهذا التخصص منذ بداية تسعينيات القرن الماضي، حيث مهد كتابه "مدخل إلى فلسفة الدين" (1994) لذلك. استطاع التمييز بين العناصر العقلانية وغير العقلانية في الأديان، مستندا إلى المنهج العقلاني النقدي في كتبه، ومن بينها: "المعقول واللامعقول في الأديان بين العقلانية النقدية والعقلانية المنحازة" 2006، "العقلانية والتعصب" 2007، "الفلسفة الحديثة: قراءات نقدية" 2009، "تطور الأديان" 2010، "المشترك بين الأديان والفلسفة" 2011، "معجم الأديان العالمية" 2013، "نحو تأسيس عصر ديني جديد" 2017، و"صراع الروح والمادة في عصر العقل" 2017.

محمود كيشانه: يتحدث الكثيرون عن الثقافة كوعاء للفكر، فما علاقة الثقافة بالفكر؟ وهل هي نتاجه أم هو نتاجها من وجهة نظركم؟

محمد عثمان الخشت: العلاقة بين الثقافة والفكر علاقة ديالكتيكية؛ فكل منهما يؤثر في الآخر، لكن الذي يصنعهما معًا هو طريقة التفكير، ولهذا فالثقافة والفكر معًا لا يمكن تغييرهما من دون تغيير طريقة التفكير؛ ولأن المنهج الذي يحكم كل هذا في النهاية كامن في العقل البشري وآلية عمله.

ولكي أوضح فكرتي أكثر، فعندما أقول بتطوير الفكر أو تطوير الثقافة، فإنني أعني بالأساس طرائق التفكير، وهي بالطبع شيء مغاير تمامًا للفكر والثقافة، فطريقة التفكير مثل الطريق أو المنهج عبارة عن الإجراءات، وهي الخطوة التي تسلمك للخطوة التالية، فمن الممكن أن تعرض الفكرة الإيجابية نفسها على نائبة اتحاد طلاب جامعة القاهرة، وتعرض في الوقت نفسه على فتاة من داعش، هنا الأفكار الإيجابية لدى الطالبة الجامعية صاحبة طريقة التفكير السليمة ستصل إلى نتائج، وأفكار تنمية، وتطور، ومشاركة اجتماعية، وروح الفريق الواحد، بينما عند الفتاة الأخرى الداعشية ستصل إلى نتائج مختلفة، وستخرج بأفكار دموية، وحرق، وقتل؛ أي إنه من الممكن أن تكون محطة البث واحدة وقوية، وإيجابية، ويبقى الخطر كامنًا في طريقة تفكير من يستقبل هذه الأفكار، وطريقة تفكيره إزاءها.

فمن الممكن أن تكون لديك المياه والبذور، ولكن الأرض جدباء، فتظل التربة غير صالحة للزراعة، وبالتالي لن تنتج لك شيئًا، ولكن إذا استخدمت تلك المياه والبذور في أرض أخرى خصبة، فإنها ستنمو وتثمر، فالحل الأول هو أن نصلح التربة، ونحول الأرض الجدباء لأرض خصبة صالحة للزراعة، ولذلك نحتاج لتغيير طرائق التفكير، وسوف تنعكس طرائق التفكير تلقائيًا على الاقتصاد بشكل مباشر.

إذن نحن بحاجة إلى تغيير ماكينة التفكير، ولكي أزيد فكرتي جلاءً اسمحوا لي أن أوضح هذه النقطة، فمثلاً عندما نستعرض تطور تاريخ فلسفة العلم، فإننا نستحضر تجارب كل من ديكارت وفرانسيس بيكون وتوماس هوبز، وقبلهم جاليليو وكوبرنيقوس، ويضيق المقام عن شرح كيف كان تغيير طريقة التفكير هو الهادي الأول لكوبرنيقوس، ليكتشف أن الشمس هي مركز المجموعة الشمسية وليس الأرض، كما كان الاعتقاد السائد، وكيف أن نتيجته هذه الطريقة الجديدة في التفكير كانت تحويلاً حقيقيًا لمسار العلم، ومن ثم حولت بدورها طريقة التفكير في مختلف المجالات العلمية والفكرية.

وطبيعي أن تواجه محاولات تغيير طرائق التفكير – وما تفضي إليه من نتائج غير مألوفة – بالهجوم من قبل أولئك الذين اعتادوا الاستنامة إلى طرائق التفكير التقليدية بنتائجها القارة منذ آلاف السنين، وخير مثال على ذلك تجربة جاليليو، فقد كان التصور المستقر منذ أرسطو أننا لو قذفنا حجرًا وريشة، فإن الحجر سيصل أسرع على أساس أنه أثقل، وهذا التصور خطأ، لكن جاليليو أثبت أن نسبة التسارع واحدة، إذا فرغنا الجو من كل العوامل المؤثرة، وقام بتجربة برج بيزا الشهير، وبالتالي حدث تغيير في طريقة التفكير بناءً على ما انتهى إليه، وأيضًا فرنسيس بيكون غير طريقة التفكير في كتابه الأورجانون الجديد؛ أي الأداة الجديدة، وهو عنوان ينبهنا إلى أهمية أداة التفكير؛ أي آليته وطريقته، ولا ننسى سقراط الذي نقل الفلسفة من السماء إلى الأرض، وجعل تفكير الناس يتركز حول مشاكل الإنسان نفسه. ولا أريد أن أسهب أكثر من هذا في التدليل على أهمية تغيير طرائق التفكير كشرط أول لتغيير الفكر، ومن ثم تغيير الثقافة.

محمود كيشانه: هل تمثل السلطة الاجتماعية قيدًا على الثقافة؟ وهل تعيق المثقف عن القيام بدوره؟

محمد عثمان الخشت: تختلف حسب طبيعة المثقف، فالسلطة الاجتماعية تشكل توجهات المثقفين التقليديين وتحركاتهم، ومن ناحية أخرى تشكل قيدًا على المثقف العضوي وتعيقه عن أداء رسالته، ويظل الأمر في شد وجذب، حتى يستطيع المثقف العضوي الانتصار على القديم، عندما تحدث تراكمات تؤدي إلى الانتقال إلى عصر جديد.

محمود كيشانه: العلاقة بين المثقف والسلطة لم تعد عدائية كما كانت بين فلاسفة التنوير والسلطات السياسية والدينية في الغرب؛ فالمثقف الآن ينتقد السلطة، والسلطة تستفيد، فكيف يكون المثقف والسلطة في خندق واحد هدفه خدمة الوطن؟

محمد عثمان الخشت: يجب في الأوضاع الطبيعية، أن يكون المثقف على حافة السلطة؛ حتى يكون بمثابة المنارة التي ترشد السفن على حافة الشاطئ. وعندما يكون الوطن في حالة خطر، يجب على الجميع أن يكونوا في خندق واحد، من أجل الحفاظ على الوطن، ومواجهة العدو.

محمود كيشانه: وماذا عن الأيديولوجيا، فهل تستقيم ثقافة بناءة في وجود أيديولوجيا تقوم على التعصب ضد الآخر المختلف في الفكر والثقافة؟

محمد عثمان الخشت: الأيديولوجيا تحدث نوعًا من العمى الثقافي؛ لأنها تلوّن كل شيء بلونها، وتعيق المثقف عن رؤية الواقع، وتزداد الحالة سوءًا في حالة وجود أيديولوجيا تقوم على التعصب ضد الآخر المختلف في الفكر والثقافة، حيث يقع الجميع في نفي الآخر والتكفير.

محمود كيشانه: بمناسبة الحديث عن التكفير ونفي الآخر، تحمل كتاباتكم نقدًا واضحا للعقل الديني المغلق الذي لا يفهم من النصوص إلا ظاهرها، هل تمثل سلطة العقل الديني الزائف قيدًا على الثقافة / الفكر؟

محمد عثمان الخشت: نعم، وبكل تأكيد؛ فالعقل المغلق مثل الحجرة المظلمة التي لا نوافذ لها ... إنها لا ترى النور، ولا يمكن لمن بداخلها أن يرى شيئا، سواء في الداخل أو الخارج.. ولا يتنفس إلا هواء قديما. أما أوكسجين الحياة، فلا يمكن أن يصل إليه!

إن صاحب العقل المغلق أشبه بالطفل في رحم الأم، كل عالمه هو هذا الرحم، وهو غير متصل مع العالم الخارجي، ولا يمكن لأحد أن يحاوره، ولا يمكن أن يخرج من هذا العالم المغلق بإرادته. إنه يظن أن الخروج من هذا العالم مهلكة، وهو يصرخ بأعلى صوته ويتلوى ويرفس عند إخراجه قسرا!

ولذا، لا يستطيع صاحب العقل المغلق أن يتجاوز ذاته أو عالمه الخاص، ومن المستحيل أن يرى أيّ شيء خارج عقله، ولا يستطيع أن يتجاوز أفكاره المظلمة، ولا يمكنه أن يرى غير أفكاره هو، ويعتبرها يقينية قطعية لا تقبل المناقشة، بل يصل به الحد إلى اعتبارها ذات طابع إلهي.. وأن الله تعالى معه! بل إنه ممثل الله على الأرض، والله ليس رب العالمين، بل ربّه هو فقط.

وعندما يدخل في صراع مع أحد؛ فالبديل الوحيد عنده هو إعلان الحرب المقدسة؛ فهو وحده على طريق الحق والخير، وغيره كافر، أو عَلماني، أو ضال، أو شرير أو فاسد. وهكذا يتحول معه العالم إلى: أبيض وأسود، ملائكة وشياطين، دار السلام ودار الحرب. وهذه الحالة من الانغلاق العقلي التي يعيشها تجعله منفصلا تماما عن الواقع؛ أسير أوهام يعتبرها مقدسة ومنزهة! وليس بوسع أحد أن يفرض على العقل المغلق الذي ينطلق من موقف عقائدي مغلق- قواعد وقوانين من خارج مفاهيمه وحقائقه هو، لأنه هو الذي يحددها ويختارها، ويلتزم بها بمقدار ما تخدم قضيته، وبما تتناسب مع الظروف التى يكافح فيها.

لاحظ معي أن العقل المغلق ينتقل من الموقف لنقيضه تبعا لأوهامه التي تتخذ نقطة ارتكاز مخادعة، ونقطة الارتكاز ليست هي الدين أو الوطن أو المصالح العامة، إنها فقط أهواؤه ومصالحه الشخصية المؤقتة، وهي نقطة مخادعة، لأنه يوهم نفسه ويوهم الآخرين في كل مرة أنها نقطة ارتكاز الدين أو الوطن، بينما هي في الحقيقة نقطة ارتكاز مصالحه الشخصية!

وحتى لا أطيل على القارئ، ألخص له مجموعة من السمات التي يتسم بها صاحب العقل المغلق، وهي:

1. الاستئثار بالحقيقة؛ أي يزعم أنه وحده الذي يعرف الحقيقة!

2. عدم الرغبة فى فتح قنوات للحوار مع الآخر.

3. إذا اضطر لفتح الحوار لا يقدم أية تنازلات.

4. لا يدخل في عهد، إلا إذا كان ضعيفا ومضطرا، وعندما يقوى، يقوم بنقضه على الفور.

5. التقية هي سلاحه الذهبي في خداع الآخرين.

6. إذا حدث كذب، وإذا اؤتمن خان، وإذا خاصم فجر.

7. لا يبحث عن الأرضية المشتركة مع التيارات الأخرى.

8. ينغلق على نظام قيم معين بصورة جامدة.

9. ثقافة التسلط، حيث الرغبة في التحكم التام في الآخرين وفرض أفكاره ورغباته وطريقة حياته عليهم.

10. نفى الآخر؛ أي يعتبر المخالفين له على الباطل المطلق أو كفرة!

ومن غير الخفي، أن العقل المغلق ليس فقط طابعا يميز بعض التيارات الدينية الأصولية، بل هو طابع بعض الحركات الشيوعية والعلمانية أيضا التي تعتقد أنها تملك الحقيقة المطلقة!

محمود كيشانه: هل الفن رافد ثقافي؟ وماذا يعني الفن في ثقافة الدولة الوطنية؟

محمد عثمان الخشت: إن الفنون من أهم الملفات التي يجب أن تقوم عليها الدولة الوطنية، والمسألة ليست مجرد متعة وترفيه وإرضاء جمهور يترك أسوأ ما فيه من نوازعٍ همجية تقوده، بل جزءًا لا يتجزّأ من عملية بناء المواطن الفعال. وللسير في هذا الاتجاه، أتصور أن لتنمية "الحس الجمالي الفني" دورا كبيرا؛ فالفن الراقي والمتسامي بالغرائز يحرر الوجدان، وينمي الشعور بالإبداع. والفن الهابط يعكس قوى التوحش والعشوائية، وينزل إلى أحط ما فينا.

ومن ناحية أخرى، يجب بالتوازي إعادة بناء المعتقدات الدينية لكي تنمي مشاعر الحب، والرضا، والغبطة (الحسد البناء)، والبهجة، والفرح، والاطمئنان، والجسارة، والتصالح مع النفس، والإباء، والتواضع، وعزة النفس، والكرامة، والشعور بالجمال... إلخ، وهي - كما ذكرنا من قبل -مشاعر الانفتاح على الحياة والنور وقوى الحب والخير، وتتحرك في دوائر الحضارة والإبداع وتحقيق الذات والسمو.

وفي المقابل، يجب توظيف الفن الإبداعي لا العشوائي، في تفكيك التيارات والأفكار المتطرفة التي ترسخ الأفكار المشاعر والانفعالات العدمية، وتشجع على الكراهية، والغضب، والضغينة، والانتقام، والسخط، والحقد، والكِبر، والميل إلى القبح... إلخ، وهي - كما ذكرنا من قبل أيضا - مشاعر العدمية والظلامية المعادية للإبداع، والتي تتحرك في دوائر قوى الموت والعنف والتدمير والإرهاب والقبح. وهنا يجب عدم مرور هذه الفقرة دون الإحالة على وحيد حامد الروائي والسيناريست، النموذج الذي يجب استنساخه في هذه المعركة.

هكذا وجدنا أنفسنا، ونحن نتحدث عن الفن والوجدان والشعور بالجمال، نعود إلى معارك الأيديولوجيات الإرهابية، كما وجدنا أنفسنا في قلب إشكالية تطوير العقل الديني؛ فالعقل الديني التقليدي حوّل الدين النقي الأصلي إلى دين حرب في معارك الكراهية. ووظيفة العقل الديني الجديد أن ينتصر في معركة التأويل، حتى يعود الدين إلى نقائه الأول كدين سلام مع النفس ومع المجتمع ومع العالم، لكنه ليس دينا للخنوع، بل دينا حضاريا للبناء لا يقبل بالمهانة ولا الانكسار، دينا للحياة لا للتوحش، دينا للإنسانية لا للعنف المقدس، دين الرحمن الرحيم المبدع رب العالمين، لا دين التكفير والإرهاب والقبح والإقصاء.

محمود كيشانه: باعتبار الثقافة وعاء للفكر، هل يمثل انحدار الفن تعبيرًا عن انحدار ثقافة جمعية؟ وما الدور الذي يمكن أن يقوم به الفن في هذا الصدد؟

محمد عثمان الخشت: انحدار الفنون ليس نتيجة الوجدان المريض فقط، بل أيضا نتيجة غياب العقلانية؛ لأن الفن ليس نتاج الوجدان وحده، حيث يتدخل التفكير في عملية الإبداع، فالتفكير يقوم بدور في نقل الطاقة الفنية من الوجدان إلى التحقق الخارجي. وعندما يقوم التفكير العقلاني بدوره في صناعة العمل الفني، نجد الإبداع الفني متحققا في الخارج طبقا لقيم التناسب الهارموني والرياضي. وعندما يغيب التفكير العقلاني نجد الفنون محكومة بالعشوائية وغياب التناسق والانسجام والإيقاع. ويتوزّع الجمهور بين طائفتين من المتذوقين: طائفة محبة للتناسق والانسجام والإيقاع، وطائفة تستمتع بالعشوائية والنشاز وغياب الإيقاع. لكن المفارقة في بعض قطاعات المصريين والعرب أنهم يستمتعون بمنتجات شعبان عبد الرحيم ورفاقه في الوقت نفسه الذي يستمتعون بفن عمر خيرت!

ويلعب الفن دورا جوهريا في تنمية المشاعر من أيّ نوع، وبناء على نوعية المحتوى والشكل يمكن للفن أن يرتقي أو يهبط بالنوع الإيجابي، وأيضا يمكنه أن يدعم وينمي النوع السلبي. فالفن يمكن أن ينمي المشاعر المحبة للحياة، والجسارة، والتصالح مع النفس، والإباء، والتواضع، وعزة النفس، والكرامة، والشعور بالجمال، وتحقيق الذات والسمو. والفن قد ينمي مشاعر العدم، وانفعالات الكراهية، والسخط، والجبروت، والحقد، والغضب، والضغينة، والانتقام، والميل إلى القبح... إلخ. ومن ثمَّ يكون وقودا لمعارك الكراهية التي تقودها القوى العدمية الظلامية المعادية للحياة التي ترفع لواء العنف والتدمير والإرهاب والحرب في معارك الأيديولوجيات.

محمود كيشانه: ثقافة الفن وثقافة الإرهاب لا تجتمعان، فما الذي يجعل المتشبع بالإرهاب يعادي الثقافة والفن؟

محمد عثمان الخشت: إن الفن يلتقي مع الدين، لأن كليهما يتعامل مع الوجدان، ومع الروح، ومثلما هناك معتقدات دينية خاطئة يحملها العقل الديني الضال، فإن هناك فنّا عشوائيا يحمله الوجدان الاجتماعي المريض.

ولن تجد وجدانا مريضا تحمله روحٌ مطمئنة، ولن تجد إرهابيا يحب الجمال الفني، ولن تجد متطرفا يتمتع بصفاء الوجدان، وإنما سوف تجد عداءً للجمال الفني ومعركة زائفة ضد الأعمال الفنية، وكأن أعداء الإنسانية هم في الوقت نفسه أعداء للإبداع الفني!

كما سوف تجد عند النظر في مسرح العالم الإنساني، أن الوجدان المريض ليس قرينا فقط للروح المضطربة، بل قريناً لعقل مغلق أيضا. والوجدان المريض والروح المضطربة والعقل المغلق، كلها ثلاثة أضلاع لمثلث واحد يضم بين جنباته طاقة غضب وضغينة وانتقام، تمثل الوقود لكل معارك الكراهية التي يخوضها المتطرفون من كل فصيل في الدين أو في الفن أو في السياسة.

نحن بحاجة ماسة إلى الانتقال من معارك الكراهية إلى معارك العيش المشترك والتنمية الشاملة، ولن يكون هذا ممكنا فقط بتحرير الوجدان من طاقة الغضب والضغينة والانتقام وسائر مشاعر الهدم، بل عبر إعادة بناء الوجدان لتغليب مشاعر البناء والحضارة والشعور بالجمال، على مشاعر التدمير والاضمحلال الحضاري والقبح. ولا يجب الاستهانة بدور الحسّ الجمالي إبداعا وتذوقا في هذا السياق. وفي الوقت نفسه، تحرير الروح بتأسيس خطاب ديني جديد لاستنقاذها من الظلمات التي تسبح فيها عبر محيط اجتماعي لجِّيٍّ مضطرب. وبالتوازي تطوير العقل لكي يتخلص من طرائق التفكير القديمة، وينتهج طرائق تفكير جديدة تساعد فيما تساعد على تنمية القدرة على الوعي بالمشاعر والانفعالات، والتحكم فيها وقيادتها من دوائر الكراهية والقبح الفني إلى دوائر التنمية والجمال الفني.

محمود كيشانه: هذا يعني أن تطهير الوجدان عن طريق الفن يقود إلى ثقافة تطهير الواقع، أليس كذلك؟

محمد عثمان الخشت: الفن المعبر كلية عن الواقع ليس فنّا حقيقيا، بل عملا تسجيليا. إن الفن الإبداعي يصنع واقعا ممكنا بديلا، وقد ينتصر هذا الواقع الممكن للشر ويتعاطف مع قيم الانحطاط، وقد ينتصر للخير في معركة الشر، وللجمال في معركة القبح. وهنا دورنا في صناعة واقع ممكن جميل، عسى أن يتحول يوما ما إلى واقع فعلي معيش. إن الفن المصري في العقود الأخيرة صنع واقعا ممكنا بالغ القبح، وللأسف تحول هذا الواقع الممكن إلى الواقع المعيش؛ فالفن يؤثر تأثيرا بالغا على حياة الناس؛ لأن التجربة الفنية التذوقية تقوم على التعاطف الرمزي، وفي أحيان أخرى على التقمص أو المحاكاة الباطنية.

إن الفنّ يجب أن يقود عملية تحرير الوجدان من المشاعر والانفعالات العدمية، ودعم المشاعر المحبة للحياة؛ حتى نقضي على أحد أهم منابع وقود معارك الكراهية في صراع الأيديولوجيات. ولا تقتصر عملية التحرير على "التطهير" بالمعنى الذي قصد إليه أرسطو في كتابه "فن الشعر" عندما عرف الفن بأنه عملية تطهير؛ فالتحرير الذي نقصده ليس فقط تخلّصا من انفعالات الشفقة والخوف أو حتى غيرها، بل هو دعم أيضا للمشاعر الإيجابية، أو هو بتعبير أدق "إعادة بناء للوجدان". ومن ثم، فهو ليس علاجا فقط، بل تنمية لمشاعر الإبداع من الخارج إلى الداخل، من العمل الفني إلى الوجدان، ثم تنمية لمشاعر الإبداع من الداخل إلى الخارج، من الوجدان إلى تغيير الواقع المعيش.

وهنا تبرز أمامنا أحد أهم الوظائف التي يجب أن يقوم بها الفن، وهي "تطهير الواقع". وبهذا المعنى، يلتقي الفن الإبداعي مع الروحانية الصوفية في مسارها الإيجابي لا مسارها السلبي المتقوقع والمنعزل. كما يلتقي الفن الإبداعي مع النزعة الدينية في مسارها العقلاني المنفتح على الحياة، وليس مسارها المتعصب المنغلق الداعم لقوى الموت، وليس كذلك مسارها الآخر القائم على تخدير الوجدان وتغييب العقل.

محمود كيشانه: هل تقصدون بثقافة تطهير الواقع، وجود إنسان مثالي بدرجة كاملة؟

محمد عثمان الخشت: لا يجب أن نستهدف إنسانا مثاليا كاملا، فقوى الحب والكراهية، وقوى الإبداع والهدم، والخير والشر، والحضارة والانحطاط، يبدو أنها ثنائية كونية وإنسانية، لكن إلى أيّ جانب ننحاز في هذه الثنائية التي لا تنفك؟ وإلى أيّ صفّ نقف من أجل تغليب إحداهما على الأخرى ونموها وانتشارها؟ إنه ديالكتيك قدري يعيش فيه الإنسان، لكنه بعقله وإرادته قادر على تغليب طرف على الآخر. وبمقدار غلبة الطرف الأول، يكون التحرك على المسارات المتدرجة للحضارة والتقدم والتمدن، وبمقدار غلبة الطرف الثاني يكون التحرك على المسارات المتدرجة للاضمحلال الحضاري والتخلف والتوحش.

وقد أوضح سبينوزا في كتابه "الأخلاق" أنّ الانفعالات السلبية لا يمكن القضاء عليها وقمعها، لكن يمكن إخضاعها والتقليل منها بانفعالات إيجابية أقوى منها. ومن هنا، فإني أرى أنه يجب علينا أن نعمل على تقوية الوجدان المعاكس، مثلا إذا كان الشعور بالكراهية يسيطر عليك، فركز على الشعور بالتسامح. أما الخوف، فنتغلب عليه بتنمية مشاعر الشجاعة، فإذا كنت خائفا فلا تركز على الشعور بالخوف، بل ركز على الشعور بالشجاعة. والحزن نتغلب عليه بتنمية مشاعر السعادة أو الفرح...إلخ.

ونحن هنا أمام حلّين إزاء التأثير السيء للعمل الفني السيء، إما أن نسد المنافذ أمام الفن السيء، ونصنع فنا جميلا بديلا ونستغل عملية التقمص والمحاكاة الباطنية والتعاطف الرمزي في تصدير قيم الجمال إلى الوجدان الجمعي، وتحويل الواقع الممكن البديل إلى واقع معيش، وإما أن نرفع درجة الوعي الذاتي في العقل الجمعي لتنمية حركة (الوعي المتعالي) تجاه العمل الفني، حتى يكون لهذا العقل نفوذ في إدارة الأفكار والمشاعر والانفعالات. ولا شك أن تدريب العقل الجمعي على ذلك ليس أمرا سهلا، لكن يمكن الوصول إليه بمزيد من التربية الجمالية والإصرار والمثابرة والمحاولة والخطأ ثم إعادة المحاولة. وبطبيعة الحال، يمكن أن نأخذ بالحلّين معا.

إن الفن هو البعد الغائب في عملية الإصلاح، ويجب أن نتوقف عند ملفه وقفة استراتيجية كبرى؛ فدور الفن أكبر من أن يكون للمتعة والترفيه، وأكبر من أن يكون تطهيرا للوجدان. إن الفن الجميل له تأثير مفصلي في تطهير الواقع، وتحويل الواقع الممكن إلى واقع معيش.

محمود كيشانه: هذا عن دور الفن، فما دور التعليم؟ وهل التعليم نتاج وضع ثقافي غير جيد أم إن هذا الوضع هو أحد روافد هذا التعليم؟

محمد عثمان الخشت: إن أكبر مشكلة يواجهها الآن العالم الإسلامي هي مشكلة العقول المغلقة التي تكونت في ظل أنظمة تعليمية متخلفة تعتمد على استرجاع المعلومات، وكأنها أجهزة تسجيل أو "هاردات"، وليست عقولا تبحث وتفكر وتوازن وتختار وتبتكر.

ويزداد التحدي أمام أعيننا في مصر؛ خاصة مع الوضع الخطر الذي يشير إلى ارتفاع نسبة الأمية في بلادنا، رغم مرور أكثر من قرنين على بدء عملية التحديث التي بدأتها مصر مع مطلع القرن التاسع عشر، ورغم مرور قرن ونصف تقريبا على مشروع علي مبارك ولائحة إصلاح التعليم عام 1868، وستة وسبعين عاما على كتاب "مستقبل الثقافة في مصر" لطه حسين عام 1938. وتزداد المشكلة تأزما مع خروج معظم جامعاتنا من التصنيفات الدولية.

ولا يمكن تجاوز هذه الحالة من العقم التعليمي دون التحول السريع والجذري إلى مناهج جديدة عصرية تستفيد من مناهج الدول المتقدمة، وتطبق طرائق التعلم الحديثة التي تستهدف تكوين عقول منهجية مفتوحة، وبناء شخصية إنسانية متوازنة الأركان: روحا وجسدا ووجدانا ونفسا تحت قيادة عقل واع يقود ويوجه؛ فصنع الشخصية القادرة على العمل السياسي والفكري والإداري هي مهمة العملية التعليمية؛ لأن التعليم هو العامل الأكثر تأثيرا في معادلة الشخصية. وهنا يأتي دورنا في تكوين شخصية تتحكم في مستقبلها، تنظر له ولا تخشى خوض تجاربه على أساس من الإرادة الحرة واستقلال الذات. وبهذا، يتكون لدينا رأسمال بشري Human Capital حقيقي يتمثل ليس فقط في "كم" الأفراد ذوي المهارات والقدرة على الإنتاج والمتعلمين والمثقفين، بل يتمثل كذلك في "نوعيتهم وكفاءتهم".

ولعل هذا التصور قريب من المعنى الذي كان يقصده طه حسين، عندما ذهب في كتابه "مستقبل الثقافة في مصر" إلى أن "معاهد العلم ليست مدارس فحسب، ولكنها قبل كل شيء، وبعد كل شيء، بيئات للثقافة بأوسع معانيها؛ ولذلك فإن الجامعة بيئة لا يتكون فيها العالم وحده، وإنما يتكون فيها الرجل المثقف المتحضر الذي لا يكفيه أن يكون مثقفا، بل يعنيه أن يكون مصدَرا للثقافة، ولا يكفيه أن يكون متحضرا، بل يعنيه أن يكون منمّيا للحضارة، فإذا قصّرت الجامعة في تحقيق خصلة من هاتين الخصلتين، فليست خليقة أن تكون جامعة، وإنما هي مدرسة متواضعة من المدارس المتواضعة وما أكثرها".

ولذا لكي تتحقق تلك الغايات، لا مفر من وضع خطة استراتيجية تعليمية وبحثية موحدة وواسعة النطاق لمدة خمس سنوات، وفي الوقت نفسه تسمح بوجود خطط استراتيجية نوعية للجامعات ومراكز الأبحاث تصب في الخطة العامة وغاياتها. وهنا أؤكد على ضرورة استخدام المنهج التحليلي لتحرير طرق تحقيق هذه الغايات من خلال: تحليل الفجوة وتحليل الاحتياجات، فضلا عن تحليل البيئة الداخلية والخارجية، وأساليب تحقيق الغايات الاستراتيجية، والمخاطر والتحديات، والجدول الزمني لتنفيذ الأهداف الاستراتيجية، على مستوى التعليم ومستوى البحث العلمي معا.

ويجب التأكيد على التطوير الاستراتيجي المرجو في التعليم مرتبط بالتطوير على مستوى البحث العلمي؛ فهذان المستويان ليسا منعزلين عن بعضهما البعض؛ والتعامل مع التعليم على أنه جزيرة منعزلة عن البحث العلمي كان خطيئة كبرى كرستها الطرائق القديمة التي تتعامل مع العملية التعليمية، باعتبارها عملية تقوم على الحفظ والتلقين. والآن علينا الربط المنهجي بين التعليم والبحث العلمي؛ لتعلم فنون البحث والاكتشاف والابتكار؛ حتى يكون التعليم هو البوابة الذهبية لبناء مصر المستقبل.


[1] نشر هذا الحوار في مجلة ذوات الصارة عن مؤسسة مؤمنون بلا حدود، عدد 59