"الرّبيع العربي" في خطاب العلوم الاجتماعية بالمغرب


فئة :  مقالات

"الرّبيع العربي" في خطاب العلوم الاجتماعية بالمغرب

"الرّبيع العربي" في خطاب العلوم الاجتماعية بالمغرب([1])


مقدمة:

كيف تلقّى علماء الاجتماع والتاريخ والسياسة المغاربة ما حدث في بلدان عربية عديدة منذ شهر دجنبر 2010؟

رحل رئيس الجمهورية التونسية تحت ضغط ثوار البلد، وبعده اعتقل حسني مبارك، وتلاه قتل معمر القذافي، وانخرط اليمن وسوريا في نفس مطمح الإطاحة بحاكميها، وتململت جماهير باقي البلدان المغاربية والعربية في المغرب والأردن والجزائر لإعلان انخراطها في مطمح وضع الحد للاستبداد السياسي.

على الرغم من قوّتها وتاريخها اليساري، لم تنخرط العلوم الاجتماعية بالمغرب بقوة في تناول موضوعة "الربيع العربي"

أحداث متتالية تابعها علماء الاجتماع والتاريخ والسياسة المغاربة، ومنهم من انخرط فيها داعماً بحضوره وحواراته مسارها، ومنهم من شغل "حكمة الرّصانة والتريث" لرؤية مآلاتها، وفضل البعض من صناع المعرفة السريعة مواجهتها بفكرة "الاستثناء المغربي"، معتبرينها أطروحة علمية يثبتها التاريخ، وسرعة الملكية المغربية في الاستجابة لمطالب حركة 20 فبراير (شباط)، عبر خطب ملكية، وبعدها إدخال تعديلات على الدستور القديم وتقديم دستور 2011 بوصفه البديل الملائم للحظة. لم ينتج مؤلفو فكرة الاستثناء المغربي، وإلى جانبهم مروجو فكرة المؤامرات الخارجية، ما يذكر بخصوص ما حدث، وكانت مهماتهم تستهدف الخرجات الإعلامية المؤثثة للمشهد الصحفي والإعلامي البصري الداعمة بشكل لا مشروط لبقاء الحال على ما هو عليه، تارة باسم كونهم الخبراء ومستشاري القنوات التلفزيونية، وأخرى باسم كونهم رؤساء مراكز البحث الاستراتيجي. لذلك، لن يجدوا موقعا لهم ضمن من سنعتمد كتاباتهم لاستقصاء كيفيات تلقي علماء الاجتماع والتاريخ والسياسة المغاربة وتفاعلهم العلمي من مواقع تخصصهم مع مسارات انطلاق "الربيع العربي".

على الرغم من قوتها وتاريخها اليساري، لم تنخرط العلوم الاجتماعية في المغرب بقوة في تناول موضوعة "الربيع العربي"؛ فالكتابات المجتهدة، والتي كانت لها جرأة خوض مغامرة المقاربة من زوايا تخصصية، وإنجاز إصدارات بهذا الشأن تعد على أصابع الأيدي. لقد انخرطنا والكثيرين في إجراء الحوارات، والمشاركة في لقاءات علمية وعمومية، لكن تجاوز هذه العتبة والعبور لإنتاج آثار مكتوبة، ظلّ من حظّ أكاديميين قلائل. فقد أصدر عالم السياسة عبد الحي مودن والمؤرخ عبد الأحد السبتي وعبد الحي مودن والصحفي إدريس كسيكس، مؤلفا تحت عنوان: "أسئلة حول انطلاق الربيع العربي"[2]، وأصدر عالم الاجتماع مصطفى محسن منشورات عديدة، دشّنها بمؤلف "بيان في الثورة: هوامش سوسيولوجية على متن الربيع العربي سنة 2012"[3]، وختمها بكتاب "في البدء كان الانتفاض. الحراك الثوري العربي بين خيارات الشعوب وحسابات النخب ومتاهات التحول الديمقراطي"[4]، وهو عبارة عن حوار مطول صدر سنة 2016، مثلما أصدر عالم الاجتماع أحمد شراك مؤلفا سنة 2017 تحت عنوان: "سوسيولوجيا الربيع العربي"[5].

أولا: سياق التلقي وضغوطاته المعرفية

لم يكن من اليسير انفلات جميع الباحثين المغاربة الجادّين من ضغوطات السياق الذي أطر استقبالهم لحدث من حجم ما عاشته مجتمعات المغرب والمشرق العربيين، ضغوطات نعتبرها تفقد التفكير حريته، وتقيد تحرره من فرط ثقلها الضاغط، ومن ثم تضعه في منزلة بين منزلة رد الفعل العاطفي المتعاطف ومنزلة الحائر المحتمي بحذره المنهجي.

أولى هذه الضغوط تمثل في كون الحدث كان مفاجئا ومباغتا للجميع، والتفكير تحت ضغط المفاجأة، ليس شرطا علميا آمنا لإنتاج معرفة مطابقة، لأنه يهدد بقوة بانجرار العقل إلى قوته الانفعالية، والتي تضع الباحث في نفس شرط الفاعل، والذي هو شرط غليان اجتماعي جماعي. ضمن سياقات الغليان الاجتماعي ينحو التفكير نحو منطق الإيمان والاعتقاد، سواء بمضامينه الإنسانية أو الدينية أو اليسارية، في موضوعاته.

ثاني هذه الضغوط، يتمثل في كون العلوم الاجتماعية بالمغرب لم تراكم تجربة تذكر في تفكير حدث الثورة وأشكال الغليان الاجتماعي الجماعي. فمنذ ستينيات القرن الماضي وإلى حدود 2010، ظلت العلوم الاجتماعية بكل مكوناتها تنقب وتبحث ضمن أطروحة كبرى هي أطروحة الاستمرارية، وقدرة المخزن المغربي وإمارة المؤمنين على إنتاج آلياتها السلطوية والتسلطية وإعادة إنتاجها على امتداد عقود وقرون إلى الدرجة التي أصبح معها تناول موضوعات إمكانيات إرساء الديمقراطية نظاماً سياسياً واجتماعياً ومعها حقوق الإنسان مطلباً رهينا ومرهوناً بضغوطات دول القوة الخارجية. في مثل هكذا وضع علمي ليس للباحث أية حماية علمية تأتيه من تخصصه: لا عدة منهجية، ولا مفاهيم ولا تجارب تحليلية أو نتائج يمكن فحصها والتحاور معها. التفكير تحت ضغط حالة اليتم المعرفي والعلمي هذه، لا يبقى أمام الباحث سوى منفذ المغامرة، بكل ما لها من جرأة تحسب لها، وضعف يعود عليها بإنتاج الأحكام ولوك الشعارات.

ثالث هذه الضغوط أقلّ موضوعية من سابقيْه، لذلك هو يورطنا نحن الباحثين أكثر مما ينتسب لشروط موضوعية تفوق الإرادة الفردية للباحث. يتمثل هذا الضغط في كون جميع الباحثين والخبراء بالمغرب، سيؤلفون إجماعهم، قبل الثورة التونسية بسنوات ليست بالكثيرة، حول تونس بوصفها أنموذجا تنمويا يمكن استنبات تجربته في مجال التعليم والصحة والاقتصاد وحرية المرأة ومحاربة الفقر والبطالة... في المجتمع المغربي. كيف يمكن لهذا الأنموذج التنموي الناجح أن يكون هو البلد الأول الذي تحدث فيه ثورة شباب يدينون فيه عبر شعاراتهم كل ما اعتبر أنموذجا يحتذي به المغرب في مشاريعه الإصلاحية؟ لقد ظلّ ضغط هذا السؤال مكتوما، مثلما ظل الإعجاب بتونس قبل ثورتها وبعدها واحداً؛ مفارقة لم تثر حفيظة الباحثين المغاربة في هذا المجال.

رابع هذه الضغوطات لا يقل صعوبة عن سابقه، ويتمثل في كون الصورة والتمثل اللذين سادا داخل العلوم الاجتماعية في المغرب عن الشباب، وهم زعماء الحدث سواء مع حركة 20 فبراير (شباط) المغربية أو مع قيادات الثورة التونسية والمصرية وغيرها ظلت سلبية تماما. اللامبالاة والعنف والعزوف عن السياسة والارتماء في الزمن الافتراضي وغيرها، ظلت السمات والمداخل لكل اللقاءات الفكرية حول موضوعة الشباب. كيف يمكن لشباب بهذه السمات أن يحدث الحدث الأكبر في التاريخ السياسي للمجتمعات العربية المعاصرة؟ سؤال ظلّ ضغطه أيضا مكبوتاً، وآثاره في تفكير "الربيع العربي" ستبرز بشكل ضديّ ومعكوس في مديح مقدس لشباب الثورة.

خامس هذه الضغوط، كون المغرب لم ينجز ثورته، لا بشكل سلمي ولا بشكل عنيف، وهو ما يفرض على الباحث موضعة حركة 20 فبراير (شباط) المغربية وتوصيفه ضمن هذا المد العام، وموضعة النظام السياسي المغربي وتصنيفه ضمن أنظمة الاستبداد أو خارجها.

في ظل هذه الضغوط، كيف سيتناول عالم السياسة والمؤرخ والسوسيولوجي المغربي حدث "الرّبيع العربي"؟

ثانياً: قراءات

1- عالم السياسة والرجّة الثورية العربية:

يفضل الباحث المغربي في العلوم السياسية، عبد الحي مودن، نعت ما عاشته المجتمعات العربية منذ ديسمبر (كانون الأول) 2010 بـ "الحالة الاستثنائية" في التاريخ السياسي العربي، مثلما يقترح توصيفه بـ "الرجة الثورية". رجة، سماتها الكبرى كونها لم تحدث ضدّا على عدو خارجي، ولم تختزل مطالبها في الحاجيات المادية للمواطنين، بل تعدت ذلك إلى طرح قضايا ومطالب غير مادية من مثل مطلب الحرية والكرامة ومحاربة الفساد، كما أن فاعلها المحرك لم يكن هو الجيش أو الأحزاب المنظمة، بل الشارع. كيف يمكن أن نفهم ما يجري من أحداث تتعاقب بسرعة محيرة، وقابلة للاستمرار مستقبلا في اتجاهات عديدة ممكنة؟ ذاك هو السؤال الذي سيعمل الباحث عبد الحي مودن على الإجابة عنه، عبر إرساء تحذير منهجي وموضعة "الرجة الثورية" ضمن سياق ما راكمته العلوم الاجتماعية في هذا الباب.

منهجيا، يرى الباحث أن "الرجة الثورية" العربية القائمة لم تستقر بعد، ولذلك، فإن المقاربات الأكاديمية تجد نفسها اليوم مطالبة، ليس بتفسير ما يجري فحسب، بل هي مجبرة على قراءة مآلات الراهن؛ أي التنبؤ بالمستقبل.

تحليلياً، يرتكز الباحث على العلوم الاجتماعية، وعلى علم الاجتماع السياسي منها على الخصوص، لما راكمه من معرفة غنية في معالجته للسؤال الذي نطرح اليوم: لماذا يثور الناس ويحتجون، وكيف يفعلون ذلك؟ ما هي مآلات الثورات العربية؟ وبعد عرض مفهوم الثورات في المدارس البنيوية، سواء في صيغها الماركسية أو التنموية وكشف محدوديتها، سيخضع مودن الثورات العربية، والتونسية منها خصوصا، إلى القراءة من زاوية ما يعرف اليوم بالحركات الاجتماعية الجديدة، بمفاهيمها ومقارباتها: تعبئة الموارد، الفرص السياسية، التأطير وإضفاء الفاعلين لمعانيهم على الوقائع، ومن ثم تشكيل إطارات المعنى المحفزة للفعل الاحتجاجي والثوري.

خلاصة ذلك، كون العلوم الاجتماعية الغربية، والأنجلوساكسونية خاصة، تبقى الملجأ العلمي لقراءة ما يحدث، بحكم كون العلوم الاجتماعية في المجتمعات العربية تدخل متأخرة لمجال المعالجة العلمية للاحتجاجات والثورات، الأمر الذي يجعل الباحث ينبه إلى تجنب السعي إلى "اختراع العجلة" في معالجة هذه الرجة الثورية العربية.

2- المؤرخ وعودة الحدث

يُشغّل المؤرخ المغربي عبد الأحد السبتي مفهوم الحدث، لتوصيف ثورات "الربيع العربي"، ويحدد منذ البداية، كون الحدث الحالي يحمل مفارقة كبرى تتمثل في جدلية العالمي والمحلي. فقد أصبحت مجتمعاتنا تعيش تقاطعات كبيرة بين التحول التكنولوجي العالمي وتحولاتها الاجتماعية والثقافية، لدرجة أصبح معها الفضاء الافتراضي، فضاء عموميا موازياً، ومتجاوزاً لكل القيود المفروضة داخل الفضاء الاجتماعي الواقعي، من قبيل الرقابة والطابوهات. لقد مكن هذا التقاطع الثورات العربية، بوصفها حدثاً، من أن تصبح ثورات منظورة من طرف العالم ككل، حيث أصبحت قدرات الإعلام جزءا من الحدث ذاته، لدرجة أن إيقاعات الإعلام أصبحت فاعلة في إيقاعات الحدث، بل رفعته إلى مصاف التحولات الديمقراطية الحاصلة في العالم المعاصر. لقد نعته المحللون، وإلى جانب "الربيع العربي"، بـ"الموجة الديمقراطية الجديدة" التي ستخلف الموجات الديمقراطية السابقة. وهذه كلها أمور تثبت كون هذا الحدث قد اكتسب قيمة إنسانية كبرى وصدى تجاوز الإطار المحلي.

يركّب الحدث، حسب عبد الأحد السبتي، بين ثلاث دوائر؛ أولاها انتماء شباب الفايسبوك إلى قيم معولمة، وثانيها انتقال عدواه من البلدان التي انطلق منها إلى دول عربية أخرى، وثالثها تعبير الفاعلين العلني عن اعتزازهم بانتمائهم لمجالهم الوطني. وهذه تركيبة تستدعي وتستوجب إعادة كتابة تاريخ المنطقة ككل. إن التحولات التي تعيشها المنطقة ينتمي إيقاعها إلى المدد الطويلة، لذلك فالباحث الآن، لا يتمثل سوى الحدث الذي يعج بالممكنات والاحتمالات. أما المواطن، فإنه يعيش تحت ضغط زمن متابعة الحدث في الإعلام، ويتطلّع في الحين ذاته إلى زمن استيعاب الحدث.

3- السوسيولوجي والانتفاض:

لم يستقر عالم الاجتماع المغربي مصطفى محسن على توصيف معين واحد لما حصل في المجتمعات العربية والمغاربية منذ ديسمبر (كانون الأول) 2010، مثلما لم يكتف بالمعالجة التحليلية، بل زاوج بين بلاغة الاستنهاض، وبلاغة متابعة ما نعته بـ "الانتفاض العربي". في مكتوبه الذي حمل عنوان "بيان في الثّورة: هوامش سوسيولوجية على متن الرّبيع العربي"، والذي صدر سنة 2011 في منابر متعددة وبصيغ مختلفة من مثل "ثورات الربيع العربي وأسئلة الفكر السوسيولوجي: بيان للتأمل والفهم والاستشراف"، يسعى الباحث من ورائه، استنهاض همم العلماء والباحثين العرب في العلوم الاجتماعية لمساءلة فكرية ونقدية لما يجري، دافعه في ذلك ضرورة ربط العلوم الاجتماعية بالمساءلة النقدية لـ "الثورة" في أبعادها ودلالاتها المختلفة، وكذا رصد وفهم مختلف العوامل والأسباب التي ساهمت في اندلاع انتفاضات "الربيع العربي". كل ذلك لأجل استخلاص الدروس والعبر المستفادة فكريا وسياسيا وحضاريا من آثار هذا "الربيع العربي" وتفاعلاته وامتداداته، ولأجل استعادة علماء الاجتماع والمثقفين العرب بعضا من مبادراتهم ومواقعهم وأدوارهم الغائبة أو المغيبة في الغالب، وحتى يساهموا بذلك في إنتاج معرفة مطابقة.

تحضر داخل هذا البيان والكتابات التي ستليه رزمة من التوصيفات المتتالية والمتجاورة من مثل: "الحراك الثوري"، و"ثورات الربيع العربي"، و"الربيع الديمقراطي"، و"الربيع الثوري"، و"النهوض العربي"، و"الحراك العربي"، و"الانتفاض العربي"، وهو ما يؤشر على كون الباحث لا يهمه أمر ضبط التسمية والتوصيف، على الرغم من أنه سينتصر لتسمية "الانتفاض"، والتي سيختارها عنوانا لمؤلفه التركيبي الذي جاء في صيغة حوار مطول أجراه معه الباحثان المغربيان في علم الاجتماع رشيد جرموني ومحمد مصباح وعنوانه: "في البدء كان الانتفاض؛ الحراك الثوري العربي بين خيارات الشعوب وحسابات النخب ومتاهات التحول الديمقراطي". في هذا المؤلف الحواري، سيركب مصطفى محسن كلّ رؤاه السابقة في الموضوع، وسيستعيدها في صيغتها التحليلية ضمن نفس زاوية النظر والمقاربة التي ظل ثابتا عليها، وداعيا إليها منذ عقود، والتي ينعتها بـ "المنظور النقدي متعدد الأبعاد"، تارة، وأخرى، بـ "المنظور النقدي التكاملي المفتوح".

ضمن هذا المنظور الشامل والشمولي، لا يخفي الباحث اختياراته الأيديولوجية القومية العربية، وهو يعالج قضايا "الربيع العربي"، سواء من حيث ما ينبغي أن تحققه، أو من حيث ماهيتها ومكتسباتها وأعطابها. فقراءة "الربيع العربي" تتم ضمن اختيار عام، يعلن ضمنه مصطفى محسن اعتقاده وإيمانه بـ "المشروع النهضوي والقومي المشترك"، مشروعا تجب الآن مراجعة مفاهيمه عن الوحدة والقومية والعروبة، معتبراً أن كل ما يحدث من حراك وانتفاض وثورات...عليه أن يصبّ في مشروع النّهوض القومي ويعزّزه ويحفزه ويغذي روافده. لقد حققت "ثورات الربيع العربي" (المؤلف هو من يضعها بين مزدوجتين) مكتسبات وإيجابيات، يركبها الباحث في كونها بفضل ما حملت معها من هبّات، رياح وعي جديد بالتحرر، ومتغيرات ومستجدات سوسيو- سياسية وفكرية وقيمية وحضارية فريدة، قد وفّرت لمجتمعاتنا، أفرادا وجماعات ونخبا وأنظمة حكم ومؤسسات ومنظومات ثقافية... ما لا يستهان به من فرص وإمكانات فهم عميق للذات وللغير وللعالم من حولنا، ومن فرص وشروط المراجعة النقدية لواقعنا الموضوعي، لمقوّماته وأعطابه ولعناصر القوة والضعف في مكوناته وبناه. إنها المحكّات الأساسية لاختبار مستوى توفقنا في إنضاج "النواة الصلبة والدعامة المفصلية" لأيّ مشروع مجتمعي ديموقراطي حداثي.

ولكن وبالموازاة مع ما حملته ثورات "الربيع العربي"، فإنها، حسب مصطفى محسن، لم تنتقل بعد إلى مرحلة ما بعد الثورة إلا على مستوى جزئي مجازي محدود، مثلما أن هذا الرّبيع لم يزهر بعد، ولم ينقلنا إلى صيف مزدهر غامر بالعطاء. قد تفجر خيراته عطاء عميقا من أفياء الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية، كما صدحت بذلك شعارات ثوراته المتحدية الهادرة.

وبناء على كل ذلك، يخلص الباحث إلى كون ثورات الربيع العربي ليست سوى تلك الشرارات الأولى، التي انقدحت في هشيم تردي أوضاعنا العربية الراهنة، لتشكل إحدى أهم وأكبر السرديات الثورية في العالم، وحدثا اجتماعيا وسياسيا وحضاريا مفصليا في تاريخنا الحديث المعاصر.

4- سوسيولوجيا الثورات التأسيساتية:

يقدم عالم الاجتماع المغربي أحمد شراك مؤلفه "سوسيولوجيا الربيع العربي أو الثورات التأسيساتية" بشكل منظم في هندسته العامة وواضح في اختياراته لفعل التوصيف ولأطروحة القراءة الفهم، رغماً عن مباغتة الحدث للجميع، وقلة إمكانات بنيات البحث العلمي مقابل متطلبات البحث والمتابعة الميدانيتين لما جرى في امتداداته الزمنية والجغرافية. يقدم الباحث بحثه المتضمن لمقدمة وخمسة أقسام كبرى محتوية لفصول فرعية، وخلاصات، بصيغة مركزة يفتتحها بعرض الأطروحة الناظمة لمجموع هده المكونات والمتمثلة في مصطلح "التأسيساتية" الذي سيغطي بحضوره مسألة التوصيف في القسم الأول، ومسألة الخطابات في القسم الثاني، ومسألة المثقف في القسم الثالث، ومسألة الانتقال الديمقراطي وسحنات الدول الجديدة التي ستتشكل في بلدان الثورات في القسم الرابع، وأخيرا رصد صدى هذه "التأسيساتية" داخل البيبليوغرافيا التي رافقت حدث الثورات.

ينتصر الباحث أحمد شراك في توصيفه لما عاشته المجتمعات العربية منذ ديسمبر (كانون الأول) 2010 لتوصيفها بكونها "ثورات" بالجمع، واضعا بذلك مجموع التوصيفات الأخرى، من "رجة" و"انتفاض" و"نهوض" و"حراك"...جانبا بعد فعل عرضها وفحصها وبيان قصورها. يتعلق الأمر بثورة في صيغة الجمع أولا بحكم كونها تختلف وتتمايز في تفاصيلها التي هي بيت القصيد، وبثورة في صيغة الجمع ذات طابع تأسيساتي ثانيا. يشكل الطابع التأسيساتي لثورات "الربيع العربي" الأطروحة الكبرى الناظمة للمؤلف ككل. إنها تأسيساتية، حسب الباحث، لأنها أولا تقوم على التأسيس، بما هو أس وأساس وتأسيس وتأسيسات، وما إضافة النسبة التي ستحولها إلى تأسيساتية سوى لأجل غرض بيان تأسيسياتها تلك؛ وثانيا لأنها ستشكل مبتدأ الديمقراطية في العالم العربي بما هي نظام سياسي ومكون ثقافي. مبتدأ سيعرضه الباحث في شكل قطيعة منهجية مع تاريخ شعوب شمال إفريقيا والشرق الأوسط، وبداية تطور جديد، سيتخذ صيغة بروز مرحلة سياسية وتاريخية جديدة؛ وثالثا لأن ما عبرت عنه هذه الثورات ومارسته يرنو مبدئيا إلى نظام سياسي جديد من أجل عصر جديد يقطع مع مرحلة الاستبداد السابقة.

"ثورات تأسيساتية" سيتشكل فيها ومعها خطاب ثقافي جديد ومثقف من صنف جديد سينعته الباحث بـ "المثقف التأسيساتي" لكونه سيحمل، ولأول مرة مواصفات وسحنات مغايرة لأصناف وملامح المثقفين الذين تعودت عليهم الساحة الثقافة العربية قبل قيام الثورات؛ فهو شاب ذو ثقافة وخبرة رقميتين، مدون ونزيه ويملك كفاءة الخروج من العالم الافتراضي لممارسة الاحتجاج العمومي، وهو ابن الهوامش الذي يشغّل الشفوي في التواصل والنقد في التفاعل... هذا المثقف الشاب والذي، حسب الباحث، عادة ما كان يوضع في خانات اللامبالاة والهروب من السياسة والارتماء في الملذات والشهوات ... هو الذي شكل عماد الثورات "المثقف التأسيساتي" مقارنة بالمثقف العضوي والملتزم والدعوي والرسولي.

"ثورات تأسيساتية" وخطاب ثقافي تأسيساتي ومثقف جديد تأسيساتي وبيبليوغرافيا تأسيساتية، ومع ذلك فإن هذه المرحلة، حسب الباحث، قد تشهد مدًّا وجزرا، انكماشات وكبوات ... لكن، يؤكد الباحث، أن منطق التطور سينتصر لمنطق الثورة، ولو إلى حين ... هذا الحين المنتظر سيمتص لدى السوسيولوجي أحمد شراك يقين الفرح وفرح اليقين، حينما سيضع أمامه التفاصيل التي جعلها مرتكز تفضيله الحديث بلغة الجمع عوض لغة المفرد عن ثورات "الربيع العربي"، من ناحية، وحينما سيتفكر سؤال ما بعد "الثورات التأسيساتية"، من ناحية ثانية. ليست "الثورات التأسيساتية" متماثلة ومتشابهة، وإن كان أسّها المحفز واحدا ومشتركا. "الثورة التونسية"، حسب الباحث، هي "ثورة الأساتذة" التي يمتلك فصلها، نخبة سياسية تضع مصلحة الثورة فوق كل اعتبار، نخبة قوية ذاتيا على صعيد التكوين والرؤية والرؤيا في العمل السياسي الحداثي والديمقراطي، بما في ذلك نخبتها الإسلامية بقيادة الغنوشي وحزب النهضة الإسلامي. "الثورة المصرية" ستعمل، حسب الباحث دائما، على تحفيز "مكبوتاتها الدينية" مع الإخوان المسلمين، على العودة من جديد محملة بالخلافة الراشدة ومجموع متخيلها، ومكبوت مؤسستها العسكرية مع الجيش على العودة من جديد محملا بالصور الكاريزماتية والبطولية. "الثورة اليمنية" ظلت في منزلة بين المنزلتين؛ صيغة برزخية بين حد الجمود والاستبداد، و"الثورة الليبية" ستعيش بين الصراع الممتد بين الثروة والثورة، و"الثورة السورية" ستغوص بمجتمعها في صلب الدولة العميقة وغنائم الحرب.

يرى شراك أن "الثورات التأسيساتية" لها أوجه نجاح عديدة وعميقة، بغض النظر عن المآخذ والهفوات، وعلى رأس هذه الأوجه، أن الشعوب المعنية قد طلقت خوفها بالثلاث

أمام هكذا وضع وتشخيص، سيختار الباحث أحمد شراك أطروحته الثانية، والتي سيسميها "أطروحة الحيرة والنقد" بديلا عن أطروحتيْ "التآمر والخيبة والانكسار". أطروحة وضعها عنوانا للقسم الأول دون تركها تتدخل في مسار حسم أمر التوصيفات أو التقليل من حجم نقد التوصيفات الأخرى، لكنه احتفظ بها ليقدّمها بشكل مباشر في الختام. إنها أطروحة تتأسس، حسب الباحث، على طبيعة المعرفة الإنسانية اللايقينية في بعدها النقدي وليس الرّيبي. لا يتعلق الأمر بنزعة شكية، ولكن بممكنات نقد ما يحصل على المستوى السياسي من تهافت وتدافع على السلطة، وعلى المستوى القانوني من ضعف في استقلالية القضاء ومؤسسات الحق والقانون، وقس على ذلك باقي المستويات: الثقافي والاقتصادي والاجتماعي والسياسات الخارجية.

ختاما وبعد الحيرة والنقد، يرى الباحث أن "الثورات التأسيساتية" لها أوجه نجاح عديدة وعميقة، بغض النظر عن المآخذ والهفوات، وعلى رأس هذه الأوجه، أن الشعوب المعنية قد طلقت خوفها بالثلاث.

ثالثا: ملكيون هنا... وثوريون هناك

لن يتسع المقام هنا لفحص كل ما عرضناه من خطابات، سواء على مستوى تدبيرها للضغوطات التي سجلناها أعلاه، أو على مستوى كيفيات بنائها لتوصيفاتها وتحليلاتها ونتائجها. لذا سنكتفي بمساءلة ترحيبها الحذر تارة، وغير المشروط تارة أخرى، بثورات "الربيع العربي" على ضوء قراءتها لحالة بلدنا التي انخرطت بفضل حركة شباب 20 فبراير (شباط) في هذا المد الاحتجاجي والثوري العام.

لقد مارس عالِم السياسة هروبه من مواجهة هكذا سؤال، أولا عبر توصيف "الرجة" الذي ساوى بين كل أشكال الاحتجاج على امتداد الجغرافيا المغاربية والمشرقية، وثانيا عبر تنبيهه إلى ضرورة عدم التسرع في اختراع العجلة. وغيّب عالِم الاجتماع مصطفى محسن حالة البلد تماما، وكأن حركة 20 فبراير(شباط) لا ترقى أن تشغل موقعا ضمن فعل الانتفاض والاستنهاض. أمّا السوسيولوجي أحمد شراك الذي انتصر للثورات جميعها، فقد كان تطرقه لحالة المغرب الأقصى، ولحركة 20 فبراير(شباط)، حاملا لمفارقة الترحيب المعلن، والاختيار الواضح للثورات، لكن طالما كانت بعيدة عن بلدنا. ملكيون هنا، وثوريون هناك، ذاك ما يعلنه بتعبيره الخاص حرفيا في الصفحة 351 من مؤلفه الذي ذكرنا: "إن المصادقة على الدستور يوم الجمعة 1 يوليو (تموز) 2011، بواسطة استفتاء شعبي قد أعطى للمغرب موقعا خاصا في الخريطة السياسية العربية"... "المغرب يؤكد اليوم (الجمعة فاتح يوليو/ تموز 2011) تفرده. في هذه المملكة لم تكن هناك ثورات شعبية كما الحال في مصر أو تونس ولا قمع للجماهير كما في اليمن أو سوريا. المغرب لم يشهد ثورة، لكنه في المقابل البلد الوحيد في العالم العربي الذي استخلص بواسطة هذا الاستفتاء الدستوري ...نتائج عدم الاستجابة للتطلعات إلى الحرية التي تزعزع الوطن العربي مغربا ومشرقا".

إضمار أطروحة "الاستثناء المغربي" من طرف عالِم الاجتماع أحمد شراك، سيضعها المؤرخ عبد الأحد السبتي على رأس أولويات حذره المنهجي عبر استبعاد لغة القاعدة والاستثناء، لتظل مقاربته لشأن البلد أكثر تبصرا من عالم الاجتماع والسياسة. لقد راكم المغرب رصيدا من الإصلاحات منذ عقود، لكنها حسب المؤرخ صبت في حلقة مفرغة. مؤشرات ذلك، كون توصيات هيئة الإنصاف والمصالحة بخصوص عدم تكرار الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، لم تعرف التنزيل الكامل، وممارسة الفساد ظلت رهينة بثقافة التعليمات والخطوط الحمراء، ووصول الأحزاب السياسية إلى السلطة لا يقابله وصولها إلى سلطة القرار. حلقة مفرغة سيعتبر عبد الأحد السبتي أن حركة 20 فبراير (شباط) بطبيعتها السلمية والهادئة، وقدراتها غير المسبوقة على التعبئة والابتكار، وشعاراتها الواضحة حول الكرامة والحرية والمخزن والرعية...، ورفعها للاحتجاج من مستواه القطاعي إلى مستواه السياسي، سعت إلى إخراج الحقل السياسي منها، وبفضل ذلك ستشكل عنوانا لدخول البلد في حالة المنعطف الجديد.

[1] نشر هذا المقال في مجلة ذوات الصادرة عن مؤسسة مؤمنون بلا حدود، عدد 50

[2] عبد الحي مودن عبد الأحد السبتي إدريس كسيكس، أسئلة حول انطلاق الربيع العربي، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، الرباط ،2012، 62 ص.

[3] مصطفى محسن، بيان في الثورة: هوامش سوسيولوجية على متن الربيع العربي، ضفاف، بيروت، ودار الأمان، الرباط، ومنشورات الاختلاف، الجزائر، الطبعة الأولى، 2012، 208 ص.

[4] مصطفى محسن، في البدء كان الانتفاض!: الحراك الثوري العربي بين خيارات الشعوب وحسابات النخب ومتاهات التحول الديمقراطي: حوار نقدي مفتوح، منشورات ضفاف، بيروت، 2016، 214 ص.

[5] أحمد شراك، سوسيولوجيا الربيع العربي، مقاربات للنشر والتوزيع والصناعة الثقافية، فاس، 2017، 500 ص.