العلمانية في الدين، والدين في العلمانية: التناقض، الجدل، الاستيعاب، الحياد


فئة :  مقالات

العلمانية في الدين، والدين في العلمانية: التناقض، الجدل، الاستيعاب، الحياد

صعدت في الآونة الأخيرة قضية (الدين والعلمانية) إلى الاهتمام والجدل العام، وقد كانت على الدوام ومنذ صعود الديانات التوحيدية موضوعًا للصراع والحروب والاضطهاد، كما الجدل والفكر والفلسفة والتشريع وأسلوب الحياة، وإن نجحت بعض الأمم في استيعاب المسألة أو تجاوزها، فإنها في أمم أخرى مصدر للانقسام الاجتماعي والصراع السياسي، وفي أحيان - كما في عالم العرب والمسلمين - تمثل تحديًا رئيسًا في ظل الحروب والصراعات الدينية والأهلية القائمة.

تقدَّم العلمانية اليوم كحلّ للصراعات والانقسامات القائمة في مجتمعات ودول عربية وإسلامية، أو مخرجًا من الصراعات والحروب الأهلية والدينية، وتعتبرها في الوقت نفسه فئات اجتماعية سببًا للأزمات والفشل، وترفض الاحتكام إليها لحل وتسوية الصراعات والانقسامات. وقد ظهر في الجدل الدائر حول العلمانية والدين وجهات نظر ومواقف عدة ومتباينة لدى المتدينين وغير المتدينين أيضًا، كما ظهر اختلاف في فهم وتحرير المسألة العلمانية وعلاقتها بالدين، وفي فهم موقف الدين من العلمانية كما الدور المفترض للدولة وعلاقتها بالدين، وهو اختلاف لا يشخص فقط في انقسام بين العلمانيين والمتدينين، ولكن بين العلمانيين أنفسهم كما المتدينين أيضًا.

يمكن ملاحظة اتجاهات علمانية تنظر إلى الدين بحياد؛ بمعنى أنها ليست معنية بالمحتوى الفكري لدين ما، لكنها معنية بحياد الدولة تجاه الدين، وهناك اتجاهات علمانية تسعى إلى التوفيق بين الدين والعلمانية؛ بمعنى أنها ترى الدين والعلمانية غير متعارضين، أو يمكن ألا يكونا متعارضين، بل على العكس إذ يمكن للعلمانية أن تعزز الحريات الدينية ودورها الروحي والفردي، وهناك اتجاهات علمانية معادية للدين، ترى العلمانية تحرًرا من سلطة الدين، وأن (الدين) يمثل قيدا على الحريات والعقل. وفي المقابل هناك أيضًا اتجاهات دينية معادية للعلمانية تراها مناقضة للدين، واتجاهات دينية تختلف مع العلمانية لكنها يمكن أن تتقبلها وتتعايش معها، واتجاهات دينية تؤمن أيضًا بالعلمانية، وترى العلمانية الاتجاه الأفضل لفهم الدين وتطبيقه، وبالطبع فإن لكل تيار أو اتجاه حججه وأفكاره المنطقية التي تفسر موقفه.

تكمل هذه المقالة سلسلة سابقة من المقالات نشرت للكاتب في "مؤمنون" مثل: عرض كتاب جورج قرم: تعدد الأديان وأنظمة الحكم (22 تموز يوليو 2014)، هل الإسلام دين ودولة (21 حزيران يونيو 2013)، ما معنى دولة إسلامية؟ (15 تموز يوليو 2013)، ما معنى إسلامي؟ (27 تشرين الثاني نوفمبر 2013)، الديمقراطية الإسلامية، هل هي ديمقراطية؟ هل هي إسلامية؟ (28 كانون الأول ديسمبر 2013)، تحرير العلمانية، باعتبارها حياد الدولة تجاه الدين (3 أيار مايو 2014)، ما معنى الإسلام دين الدولة؟ (8 أيار مايو 2014)، تحرير العلمانية بوصفها فهما للدين (21 أيار مايو 2014)، ما معنى المشروعية الإسلامية العليا؟ (6 ايار مايو 2014)، في تنظيم العلاقة بين الدين والدولة والمجتمع (30 حزيران يونيون 2014)، إدارة وتنظيم الشأن الديني: ما هو من عند الله وما ليس من عند الله (8 شباط فبراير 2016).

ما العلمانية؟

"لقد ظل هذا السؤال يؤسس للجدل والاختلاف منشئًا أيضًا سلسلة من تاريخ الأفكار؛ فقد تطور مفهوم العلمانية في الغرب من الفرد الذي لا تميزه حقوق عن الآخرين ولا ترفعه إلى أعلى مرتبة منه، فهو مفهوم يعني الحرية والمساواة، وأن أية قناعة روحية يجب ألا تتمتع بميزات مادية أو رمزية يسبب وجودها تمييزًا واضحًا، والمجتمع العلماني هو المجتمع السياسي الذي يستطيع الجميع فيه أن يعترفوا ببعضهم بعضًا، والذي يبقى الخيار الروحي فيه شأنًا خاصًّا، ويمكن أن يأخذ هذا الشأن الخاص بعدين: فردي شخصي، وجماعي، وفي هذه الحالة فإن الجماعة التي تشكلت بحريتها لا تستطيع الادعاء بأنها تتحدث باسم المجتمع كله، ولا تحتل المحيط العام.

والمثل الأعلى العلماني يتضمن فكرتين أساسيتين؛ أولًا: الفصل بين ما هو مشترك للجميع وبين ما يتعلق بالحرية الفردية والمحيط الخاص، ويستهدف مثل هذا التقاسم الإجراء العادل في حق التشريع، ويستثني من ذلك النشاط الفكري الذي لا تطاله أية رقابة، والقناعات الفردية المكتسبة من حرية المعتقد، وكذلك أخلاقية الحياة المستقلة في حدود الحق العام الذي يضمن تعايش الحريات كلها. وثانيًا: فكرة سيادة الإرادة التي هي أساس قواعد الحياة المشتركة وقواعد الضمير والعقل الذي ينيره على حد سواء".[1]

فالعلمانية تدور حول فكرة أن الإنسان قادر على فهم العالم المشهود وإدراك ما يصلح لحياته وشؤونه، انطلاقًا من الاعتماد على حريته وعقله، ما يعني بطبيعة الحال أن جميع الناس يتساوون في الحرية والحقوق، ولا يوجد ميزة أو أفضلية لأحد من الناس بحق إلهي أو طبقي يميزه أو يعطيه حقًّا مختلفًا عن الناس الآخرين، وأن ينظم الناس وفق هذه المساواة شؤونهم ويديرون الدولة، وبما أن الإنسان لا يعرف الحقيقة المطلقة أو الصواب، أو أن ما يراه صوابًا قد يخضع للتغيير والمراجعة، فإن الأفكار والتطبيقات والتشريعات المنظمة يجب أن تظل خاضعة للمراجعة، كما يجب أن تظل الأفكار المتعددة تملك الحرية في التعبير عن نفسها، وأن تقدم نفسها بحرية حتى تظل اختيارات الناس حرة وأقرب إلى الصواب الممكن، وفي ذلك يجب أن يظل الدين محايدًا في إدارة وتنظيم الدولة والمؤسسات التعليمية؛ لأجل الحفاظ على الحريات والتعددية الدينية، والتعليم الحر والعقلاني والفكر النقدي، ولضمان حياد الدولة تجاه الاتجاهات والمذاهب الدينية، وتقتضي المساواة بين المواطنين عدم التمييز الإيجابي أو السلبي تجاه أحد من المواطنين بسبب معتقده الديني أو موقفه من الدين كأن يكون ملحدًا أو "لاأدريًا".

وبالطبع، فإنه مفهوم يحمل في بنيته النسبية وعدم اليقين، وهو ما يؤكده العلمانيون أيضًا، لكنهم يرون ذلك مصدرًا لأهمية العلمانية وضرورتها، وهي ببساطة (أننا لا نعرف على وجه اليقين)، ما يعني أننا نظل في مراجعة مستمرة للأفكار والتطبيقات، كما يجب أن نمنح الحرية لكل فرد أو شخص، وفي المقابل فإن دعاة تطبيق الدين في الدولة والحياة يرون ذلك أساسًا لضرورة العودة إلى الدين واليقين، وبسبب عجز الإنسان عن الإحاطة بالصواب وعدم قدرة العقل الإنساني على معرفة الخطأ والصواب تتشكل حاجة إلى اليقين والحق الذي نزل من السماء بصفته غير قابل للخطأ، وكونه من عند الله، فإنه يصلح بالتأكيد لحياة البشر وسعادتهم، فالله عز وجل أعلم من الناس.

بدأ الجدل الديني العلماني منذ بدأت الدول تضع القوانين والأنظمة أو تستعين بالدين لأجل معرفة الصواب للدول والمجتمعات، ثم لأجل تعزيز السلطة السياسية والسلطة الدينية عندما تكرستا كمؤسستين تقودان المجتمعات والأفراد، تتحالفان أحيانًا وتتصارعان في أحيان أخرى.

"لقد ظهرت الأحكام القانونية، باعتبارها منبثقة عن الدين، كما في الحضارات المصرية والعراقية، والبابلية، والعبرية. ويقول فوستلد دي كالانج: "كانت الفكرة الدينية لدى القدامى هي المبدأ الملهم والمنظم للمجتمع، في زمن السلم كما في زمن الحرب، كان الدين يوجه الأعمال جميعًا، كان كلي الحضور يطوّق الإنسان من كل جانب، وكان كل شيء؛ الروح والجسد، والحياة الخاصة والعامة، والمآكل والأعياد، والمحافل والمحاكم والمعارك، كل شيء يخضع لسلطان ديانة الحاضرة، كان الدين أهم ناظم لأفعال الإنسان، والمرجع الأول والأخير لكل ما يأتيه في كل لحظة من لحظات حياته ومعيار عاداته وأعرافه، وكان الدين في تحكمه بالكائن الإنساني مطلق السلطان، فما كانت تقوم قائمة لشيء خارج إطاره".

"ولم تنعتق أنظمة الحقوق في الغرب من الدين شكلًا ومضمونًا إلا في القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، ولا يزال القانون الإسباني والبرتغالي والإيطالي موسوماً بطابع طائفي واضح، وقد كان للمسيحية منذ اندماجها بالإمبراطورية الرومانية وحتى قيام الثورة الفرنسية تأثير حاسم على السلطة والقانون. لكن تبلور في العصر الحديث نموذج ثالث هو النموذج القانوني العلماني الذي تقف بموجبه الدولة موقفًا محايدًا تمامًا وغير متحيز على الصعيد الديني، ويكون القانون المدني على أساسه واحداً للجميع وعلى نحو إلزامي".[2]

يعبر الاتجاه الديني التقليدي وينضوي فيه أيضًا الاتجاه المؤسس للإسلام السياسي عن فكرة مفادها: أن الإسلام نظام شامل، وأن هناك أوامر من السماء لا تحتمل اللبس في ضرورة تطبيق الإسلام في الحكم والاقتصاد وسائر مجالات الحياة، ولا يجوز أن تكون هذه المسائل موضوعًا للتصويت أو الجدل في البرلمانات والمؤسسات التشريعية والتنفيذية، ويؤسس هذا الاتجاه فكرته على أساس حقيقة عقلانية، وهي: أن الإنسان عاجز عن معرفة كل شيء، وتظل أحكامه معرضة للنقص والهوى والمصلحة، وتمثل التشريعات والتعاليم الإسلامية بديلًا مؤكدًا لا مجال فيه للخطأ أو المصلحة.

لكن تبلور اتجاه ديني ديمقراطي يرد بأن التشريعات ومصادرها تخضع لولاية الأمة وإرادتها المعبر عنها في مجالس تشريعية منتخبة انتخابًا حرًّا، ويجب القبول بإرادة الأمة أو الأغلبية، وهذا الاتجاه يؤمن بالموقف التقليدي السابق ولكن من خلال موافقة أغلبية برلمانية منتخبة، ويبدي استعدادًا لقبول رأي الأغلبية إن لم توافق على هذا الاتجاه في ظل الحق والحرية بإبداء الرأي ومواصلة الدعوة إلى تطبيق الشريعة الإسلامية بوسائل سلمية ومن خلال المؤسسات التشريعية المنتخبة.

وهناك اتجاه صاعد بين المتدينين والعلمانيين مستمد من موقف استيعابي أو توفيقي، وإن كان متفقا مع مفهوم العلمانية الأساسي وتطبيقاتها، فإنه يقترح الوصول إلى ذلك من خلال فهم وقراءة النصوص الدينية قراءة منسجمة مع العلمانية، ويعتقد أن ذلك ممكن. ويمكن أن يكون الدور الديني للدولة في المؤسسات الدينية والتعليمية والإرشادية أداة لتطوير فهم عقلاني للدين.

يرد العلمانيون المحايدون عمليًّا وتطبيقيًّا (وليس بالضرورة فكريًّا وفلسفيًّا) على مقولات الإسلام الديمقراطي أو العلمانية الإسلامية بأنه: (لا مجال لديمقراطية أساسًا إلا إذا قامت على العقل، ومن ثم فليس هناك نظام إسلامي ديمقراطي حتى لو كان القائمون عليه مقتنعون بالديمقراطية ويريدون تطبيقها بالفعل). وفي ذلك فإن مقولات الإسلام الديمقراطي لا يمكن القبول بها علمانيًّا حتى لو أبدت مرونة واسعة وقبولًا بالديمقراطية والعلمانية، إذ لا أهمية لوجود أو عدم وجود اعتبارات غير عقلية مؤيدة لهذه الأطروحات.[3]

هل يمكن أن يكون نظام سياسي ديمقراطي بقيادة إسلاميين منتخبين؟ يرد العلمانيون المحايدون بالنفي؛ فلا يمكن لنظام سياسي ديمقراطي أن يجد تربة صالحة له في الدولة الدينية اللاعلمانية مسيحية كانت أم إسلامية، لأن الدولة الدينية تميل بطبيعتها، لأن تكون كليانية (توتاليتارية)، وهي تمامًا عكس الديمقراطية، وبما أن الغرض الأساسي للإسلام السياسي هو إقامة دولة إسلامية؛ أي دولة دينية إذن فلا أمل في أن تكون ديمقراطية، وما يهم الإسلام السياسي هو معنى الديمقراطية الكامن في كونها وسيلة لجعل الإرادة الشعبية حرة ونافذة على المستوى السياسي، وليس معناها بوصفها قيمًا تمخضت عنها تجارب الغربيين، أي أن قبولها مشروط بتجريدها من كل ما لا ينسجم مع أحكام الإسلام ومع قيمه ومبادئه ومقاصده.

وبالطبع، فلا يمكن إجمال أو استيعاب جدل فكري وفلسفي وتطبيقي ممتد إلى قرون طويلة في مثل هذه المساحة أو ضمن قدرة الكاتب المعرفية، لكنها محاولات للسؤال والجدل، وقد بقيت أسئلة كثيرة لعل محاولات قادمة تقترب منها، مثل: كيف انتقلت الأفكار إلى عالم العرب والمسلمين؟ هل هي أفكار مستوردة؟ أم أن لها جذور دينية وفلسفية وتطبيقية في تجارب المسلمين، على سبيل المثال يمكن الإشارة إلى المرجئة والمعتزلة في التاريخ الإسلامي، وإلى مواقف كثيرة جدًّا لكبار الصحابة والتابعين، أو لعلماء وفلاسفة مثل الفارابي وابن رشد، وابن طفيل، وعمر المقصوص، وغيلان الدمشقي، والجعد ابن درهم، وابن عربي، والكندي، وابن خلدون، .. وكثيرين غيرهم.

هل هناك بذور وتجارب وتطبيقات للعلمانية في الإسلام؟ ويظل سؤال قائمًا وملحًّا: لماذا لم تجد العلمانية أرضًا حاضنة في عالم المسلمين؟ وهل التطبيقات القائمة اليوم في الدول الحديثة من الدور الديني للدولة والتشريعات المستمدة من الدين هي جزء من الدين، أم أنها ممارسات بشرية وسلطوية شملت ما ليس مقدسًا بالمقدس؟ وهل يمكن أن تقوم ديمقراطية وحريات من غير علمانية؟ وهل يمكن للمتدينين أو العلمانيين أن يكونوا أحرارًا في حياتهم وضمائرهم ضمن فضاء علماني أو ديني؟ وهل العلمانية شرط ضروري للتقدم والتنمية أم أنها مطلوبة لذاتها؟ هل يمكن النظر إلى التطبيقات والتجارب الحديثة للإسلام السياسي في السلطة مثل تركيا وتونس ومصر والمغرب... على أنها خطوة نحو العلمانية أو محاولة للتوفيق بين العلمانية والدين؟ هل تشكل العلمانية مخرجًا من حالة الصراعات والعنف القائمة اليوم في عالم العرب والمسلمين؟ هل تشكل العلمانية مجالًا للوحدة الاجتماعية وتجاوز الاختلافات الطائفية والهوياتية؟ هل تشكل مدخلًا للانقسام والصراع الاجتماعي والهوياتي؟

وفي جميع الأحوال والاختيارات، كيف تعالج إشكالات في التشريعات والتطبيقات والمؤسسات الدينية والتشريعية والسياسية القائمة، مثل: الحقوق والحريات، والزواج، الميراث، والسلوك الاجتماعي، والحريات الشخصية، والشعائر والطقوس والرموز الدينية، والتعليم الديني، وحضانة الأطفال والتبني، والمساواة، والمرأة، وغير المسلمين في العالم العربي والإسلامي وعلى نحو عام أتباع الأديان المختلفة عن دين الأغلبية، والعلاقة بين الرجل والمرأة.


[1] ماهي العلمانية؟ تأليف هنري بينا – رويث، ترجمة ريم منصور الأطرش، دمشق، المؤسسة العربية للتحديث الفكري، 2005

[2] تعدّد الأديان وأنظمة الحكم، جورج قرم، بيروت: دار الفارابي، 2011

[3] أولية العقل - نقد أطروحات الإسلام السياسي، عادل ضاهر، بيروت، 2002