المدن الشبكية: قلعة الحاكم وهيكل العبادة لم يعودا توأمين


فئة :  مقالات

المدن الشبكية: قلعة الحاكم وهيكل العبادة لم يعودا توأمين

اختتمت مقالة مدن المعرفة (موقع مؤمنون بلا حدود، 22 أيلول سبتمبر 2016) بالإشارة إلى المساواة المتقدمة التي جاءت بها الشبكية على نحو يفوق بأضعاف كثيرة ما كانت عليه في المدن الصناعية ومن قبلها الزراعية؛ ففي هذه المساواة الناشئة عن القدرة المتاحة لجميع الناس على الوصول إلى المعرفة وإنتاجها وبثها، تنشأ موارد وأعمال جديدة وتنحسر موارد وأعمال، وفي ذلك تنشأ طبقات جديدة وتنحسر أخرى، وتتكون ثقافات وقيم جديدة وتنحسر أخرى، وتنشأ مفاهيم ومعان وتأويلات للنصوص والمبادئ وتنحسر أخرى، .. وتتخذ المدن والمؤسسات تنظيمات ومخططات جديدة، .. وتلك قصة طويلة!

تشكلت المؤسسة الدينية حول المعرفة وأسرارها، وعندما بدأت المدن بالتشكل في مرحلة الزراعة وما اقتضته من استقرار وتنظيم وحاجة إلى الأمن؛ كان مركزها (المدن) قلعة الحاكم وهيكل العبادة، ولكن يبدو أنهما (القلعة والهيكل) لم يعودا قادرين على المضي في التوأمة، لقد كانا في واقع الحال توأمان "سياميان" لم يكن ممكنا استمرارهما معا إلا في ظل شروط معينة وفي حالة من التشوه والخلل، وبطبيعة الحال لم يكن ممكنا فصلهما إلا في ظل قدرات معرفية وتقنية، .. ولكن العجز عن فصلهما تحول إلى منظومة من المصالح والفرص، بل وأعيد إنتاجه (التوأمة السيامية) وكأنه أمر طبيعي وأصلي وليس حالة شاذة في الطبيعة والاجتماع، واليوم في عصر المعرفة المتدفقة والمتاحة والمشاركة بلا حدود، فقد بدا هذه التوأم السيامي وكأنه إله مشوّه مثل آلهة هندوسية، وإذا كان التشوه في الآلهة الهندوسية لازما لتشويش التصور عن الإله ومحاولة تجريده، فقد بدا تشوه التوأمة بين الحكم والدين ليس سوى سرطان، وقد يكون حان الأوان لعلاجه!

في المرحلة الأولى من إدراك الخلل في التوأمة، تنازعت على الدين كمورد في التأثير والسلطة جماعات وقوى سياسية واجتماعية صاعدة، ونازعت السلطة السياسية متحدية احتكارها للدين، ولكن الجماعات نفسها بدأت تواجه تحديا قويا وغالبا من المجتمعات والأفراد؛ ففي ظل الشعور بعدم الحاجة إلى المؤسسة الدينية والجماعات والوسطاء؛ إذ لم تعد المعرفة الدينية حكرا على فئة أو طبقة تتشكل حالة دينية جديدة، وهي حالة مازالت في بدايتها، كما هي بداية عصر الشبكات، وقد يكون مفيدا محاولة تقديرها أو توقعها، مع الإقرار بأن الحكمة لا تتكون إلا بعد الأحداث والتحولات وليس قبلها أو في أثنائها أو كما يقول هيغل: "بومة منيرفا (رمز الحكمة) لا تحلق إلا في الغسق، أي بعد انقضاء الأحداث!" ولكن تظل المعرفة أو محاولة المعرفة على أقل تقدير عملية واجبة لنتلمس خطانا في ظلمة هذه التحولات وارتباكها وعدم يقينها!

وإذا كانت الطرق جميعها متاهات، ولكن إحداها توصل إلى الهدف، فربما يفيد أن نفكر في طرق/متاهات المعرفة والتخمين التي نسلكها، وأقترح ابتداء استبعاد حالة الدفاع والقتال الضاري الذي تبذله قلاع الحاكم وهياكل الدين للاحتفاظ بهذا المورد أو محاولات الجماعات والمهمشين والمتمردين للاستيلاء على الهيكل، ذلك أنها صراعات على ضراوتها وقسوتها ليست سوى لعب في الوقت الضائع، ولا تصلح (ربما)، رغم وطأتها الثقيلة اليوم لفهم ما يدور، ولعلها الزفة الأخيرة للمحارب الآفل، وأما الواقع المتشكل، فإنه مستمد من حالة جديدة وليست حالة آفلة مهما كانت تبدو حاضرة او مؤثرة، وربما تكون المساواة الناشئة عن الشبكية هي المدخل المرجح لمتاهة المعرفة الجديدة، وعلى أي حال فإننا نفكر ونخمن منقطعين عن تجارب الماضي وامتداداته التي لم تعد تصلح، وهذه صعوبة التفكير المستقبلي اليوم، إنه تفكير مؤسس وليس امتدادا لمعطيات سابقة، يصنع معطياته وأداته الجديدة بلا قدر يكفي من معرفة أو تجارب سابقة!

كيف نفكر لمدن شبكية يتساوى فيها جميع الناس بقدر ما يتساوون في الوصول إلى الشبكة؟ ما قيم الانتماء الجديدة لهذه المدن بما هي الدول والمجتمعات وما ينشأ فيها من أعمال وطبقات؟ وفي ذلك نتساءل بطبيعة الحال عن العلاقة الجديدة او المتوقعة بين المؤسسة الدينية ولسلطة السياسية والأفراد والمجتمعات؟ ما الثقة الممكنة والمتبقية للمؤسسة الدينية عندما لا تعود مصدرا للمعرفة .. فقد ورثتها الشبكة بكفاءة ونزاهة تفوقها على نحو لا يمكن المقارنة بينهما (الهيكل والشبكة) ما معنى العالم الديني أو الفقيه اليوم، وماذا تركت لهم الشبكة؟ الشبكة لم تجرد المؤسسة الدينية من المعرفة ولكن من المعجزات والكرامات والبركات أيضا، فكل المعجزات والكرامات المتداولة لم تعد تعني شيئا بالنسبة إلى كرامات (إمكانيات وفرص) الشبكة وبركاتها.

كان رجل الدين بمن هو عالم أو قائد أو وسيط او المؤسسة الدينية يستمد تأثيره من الثقة، هو من هو أو ما هو عليه؛ لأن الناس يرونه كذلك، ويمنحونه الثقة والاتباع على مسؤوليتهم هم أنفسهم، مهما كان حظه في الحقيقة من العلم أو الكرامة، فثقة الناس ورأيهم في شخص أو مؤسسة هي التي تمنحه صفة العارف، وبغير ثقة الناس واتباعهم يمكن لأي شخص ادعاء نسبة العلم أو الصدق إلى نفسه أو نفيه عن غيره.

يمكن أن تطبق معايير الشهادات العلمية التي تمنحها الجامعات (والكثير من حملة الشهادات العلمية العليا في الشريعة الإسلامية وقادة كليات وجامعات إسلامية تخرجوا من جامعات أميركية وأوروبية) في التعليم الرسمي، والمؤسسات الحكومية والرسمية، والشركات (والبنوك الإسلامية لموظفيها المستشارين)، والإفتاء الرسمي، ولكن ثقة الناس وحدها هي التي تمنح شخصا صفة العلم، وحقه بالاتباع والاحترام، .. هكذا نشأت المذاهب الفقهية على سبيل المثال، فلم يكن أبو حنيفة والشافعي ومالك وأحمد هم العلماء فقط والأئمة المجتهدين، ولكن الأمة منحت هؤلاء الأربعة ثقتها، والتزمت لفترة طويلة في تاريخها باتّباعهم.

وفي النهاية، فإن القرآن الكريم كما الكتب المقدسة أيضا موجه لكل إنسان، وإذا احتاج مؤمن به لمساعدة من أحد فهذا شأنه، وهو يقرر وحده ما المساعدة التي يريدها وما يحتاج إليه، وهو أيضا يتحمل وحده نتيجة إيمانه وفعله، ولن يفيده بشيء إن كان مخطئا أنه اتبع عالما، ولن يجادل الله بشهادة أو كفاءة وخبرة من اتبعه، وإن جادله بذلك فلن يفيده أيضا، والأصل في القرآن أنه موجه مباشرة إلى كل إنسان بذاته بلا وساطة "وما على الرسول إلا البلاغ"، وأنه مهيأ لفهم القرآن وتطبيقه "ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر" ولا يملك الناس جميع الناس سوى أن يتبعوا فكرتهم وإيمانهم، سواء كانوا مخطئين أو مصيبين، ولا تستطيع قوة في الأرض أن تجبرهم على اعتقاد فكرة، ولا تستطيع أيضا أن تمنعهم من الإيمان بفكرة، "أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين" و"لا إكراه في الدين".

هناك مسألة أخرى متعلقة بفهم الدين، فليست دراسة الدين تهدف فقط لأغراض إعداد المدرسين والأئمة والقضاة الشرعيين والمفتين، ولكن الدين يدرس باعتباره علما ومعرفة أو موضوعا للدراسة والبحث والتعلم (دراسات دينية)، ويدرس أيضا وفق مداخل وعلاقات علمية ومعرفية في الفلسفة واللغة والاجتماع والسياسة والثقافة والفنون والاقتصاد والقانون والتاريخ الاجتماعي وتاريخ الأفكار والتاريخ بعامة، وهي مجالات أكاديمية بحتة، لا علاقة لها بالإيمان والتدين، ويشغل بها المؤمن وغير المؤمن والمتدين وغير المتدين، وإذا كانت الجامعات الغربية أو غيرها تمنح للناس ولاية على فهم الدين وتعليمه فلا يجوز بحال من الأحوال أن تنال صفة مقدسة، إنها مرجعية علمية محترمة أو غير محترمة، وليست غير ذلك.

لقد غيرت الشبكة (سوف تغير) معنى المؤسسة والمعرفة الدينية، فبرامج الحاسوب وبخاصة في مرحلة البرمجة الإدراكية المتقدمة، والتي تتجاوز جمع وتنظيم البيانات والمعلومات إلى تحليلها تقدم لقاصدي المعرفة والمشورة (والاعتراف أيضا) كل أو معظم ما يحتاجون إليه، ولم يعد مجال للعمل الديني سوى الإضافة مما ليس موجودا في الشبكة من قبل، وفي تقديم الخدمات المعرفية صار يتشارك في الدور المعرفي والديني مع الفقيه/ الكاهن متخصصون آخرون، مثل مصممي ومبرمجي تطبيقات الشبكة وبرامجها وغيرهم، فمن هو رجل الدين اليوم؟ ألا يمكن أن يكون مبرمجا حاسوبيا وقد يكون منتميا إلى دين آخر وبلاد أخرى .. وقد لا يكون منتميا إلى دين، .. ثم وفي مرحلة عندما يتحول الذكاء الصناعي إلى تطبيقات حاسوبية تطور وتضيف ما يبدو حكرا على البشر اليوم هل سيكون رجل الدين روبوتا أو برنامجا حاسوبيا؟ وإذا كانت التقنية على الدوام غيرت في الممارسات والطقوس والشعائر الدينية، فماذا ستغير الشبكة في هذه الممارسات .. هل سوف نحج ونصلي عبر الشبكة؟

المساواة الشبكية تتحول إلى مساواة في المعرفة والتأثير والمشاركة، .. وعلى أي حال، فإن تشكلت طبقات متمايزة، فهي ليست الطبقات القائمة اليوم، وإن نشأت مؤسسات للتنظيم والإدارة، فإنها مختلفة بطبيعة الحال عما عرفناه وألفناه، ولن يكون فيها على الأغلب قلعة الحكم وهيكل العبادة، وإن بقيا فلن تكون العلاقة بينهما كما عرفنا وألفنا على مدى القرون!