النهضة الأوربية بين الإصلاح الديني والنزعة الإنسانية


فئة :  مقالات

النهضة الأوربية بين الإصلاح الديني والنزعة الإنسانية

تعددت آراء الدارسين في تحديد تاريخ نهضة أوروبا؛ فمنهم من ربط بداية النهضة بسقوط القسطنطينية (1453م)، ومنهم من ربطها بالحركة البروتستانتية (1513م) وما تلاها من تمرد على سلطة الكنيسة، بينما يرى بعض الدارسين أن بداية النهضة الأوروبية انطلقت مع فشل الإمبراطورية العثمانية في حصار فيينا الثاني (1683م)، وعلى الرغم من اختلاف الدارسين في تحديد الإرهاصات الأولى للنهضة الأوروبية، فإن المراحل التاريخية التي شهدتها هذه الأخيرة، تؤكد أن المجتمع الأوروبي عاش فترات تاريخية شهد فيها تحولات ولحظات انتقال منذ نهضته الأولى التي تعود إلى القرن الثاني عشر من ثم النهضة الثانية التي قامت في القرن السادس على مرحلة الأنوار في القرن الثامن عشر، والتي تلتها مرحلة الحداثة التي كان إطارها الزمني القرن التاسع عشر، لذلك يصح القول إن المجتمع الأوروبي شهد عصورا متعددة المستويات؛ فمن عصور التخلف إلى عصور التقدم إلى ما هو أكثر تقدما.

لقد أسهمت مجموعة من العوامل الدينية والفكرية والعلمية في هذه التحولات، كان من أهمها، الثورة الدينية والنزعة الإنسانية التي نادى بها عدد كبير من المفكرين والفلاسفة، لذلك سينحصر موضوعنا في الحديث عن هذين المستويين؛ أي الإصلاح الديني الذي دعا له مارتن لوتر (1483-1546) للثورة على ما تقوم به الكنيسة، والنزعة الإنسانية التي حظيت باهتمام عدد كبير من الأدباء والمفكرين والفلاسفة، ضف إلى هذا النظريات العلمية التي أسس لها عدد من العلماء، أمثال كوبرنيك (1473-1643) وغاليليو (1564-1642) ونيوتن (1642-1727) ومال الفلاسفة إلى إعمال العقل في فكرهم، ومنهم ديكارت (1596-1650) وسبينوزا (1632-1677) حيث كان دورهم لا يقل عن دور العلماء.

وعلى هذا الأساس، أدى تلازم العقل والعلم إلى ابتعاد المجتمع الأوروبي عن الخرافات والأساطير في تفسير مجريات الحياة كما ظهر منظور جديد للإنسان، إذ تغيرت رؤية الإنسان إلى العالم وإلى نفسه وإلى الدين كذلك.

1- الإصلاح الديني:

ظلت طبقة الإكليروس (رجال الكنيسة) مهيمنة على الفكر الديني في مرحلة ما قبل النهضة، إذ كان الإنسان خلالها مكبلا بقيود هذا الفكر، وكان مطالبا بضرورة طاعة رجال الدين والاستجابة لأوامرهم؛ فالمرأة مثلا لاينبغي الارتباط بها، لأنها سبب الخطيئة، ولعل هذا ما جعل رجال الكنيسة لا يتزوجون، وسمحوا بالزواج للآخرين، بدليل أن المرأة وسيلة للإنجاب وضمان استمرار الحياة، وما عدا ذلك فالرجال مطالبون بتحقيق أهداف الكنيسة وكل من خرج عن هذه الأهداف يعرض للعقاب.

أما في مرحلة النهضة، فظهرت اتجاهات فكرية تبنت آراء ومبادئ ارتكزت على العقل قصد النظر في أمور الدين والإنسان؛ فظهرت نزعات، مثل نزعة "بادو" التي استمدت أفكارها من الفلسفة اليونانية، لتعبر عن نزعة مادية رأت في العقل أساس الحقيقة وليس الدين المسيحي. أماالنزعة المسيحية، فكانت أكثر انتشارا من نزعة Padou، والتي مثلها PIC DE LAMILONDOLE و MARCEL VISSIMIC، وهي نزعة اهتمت بالدين والفلسفة اليونانية؛ فمارسيل فسيميك عاد إلى الفلسفة الأفلاطونية ليبرهن على وجود الله، كما اعتبرها إعلانا على ظهور المسيح، ومع ذلك كان "فيسيميك" لا يغفل الجانب الدنيوي، بل كان يعطي قيمة للجسد والروح في آن واحد، مؤكدا أن أخلاق الإنسان تبقى غامضة بدون خلود النفس. أما علاقة الدين بالفلسفة، فهي علاقة انفصالية بخلاف ما ذهب إليه "لملندول" في توحيده بين الدين والفلسفة. والجدير بالإشارة أن الحديث عن هذين العلمين وما أثاراه من أفكار جديدة في المجال الديني، ارتبط بالحديث عن الإصلاح الديني الكاثوليكي أو ما سمي بالعبادة الحديثة.

لقد ظلت هذه الآراء تناقش ما سمي بالعبادة الحديثة، إلى أن قام مارتن لوتر بثورة دينية أسست لمذهب جديد هو المذهب البروتستانتي، وهو مذهب يعبر عن نظرة جديدة لله وللعالم. فحين عزم رجال الكنيسة على جمع الأموال لبناء كنيسة القديس بطرس زاعمين أن من تبرع بماله سيغفر له الله ذنوبه، عارض لوتر هذا الادعاء، وأكد أن الإيمان بالله أهم من الأعمال، لأن الله رحيم وعادل، مؤكدا على الحرية الروحانية libertéspirituelle، الأمر الذي أنكر نظام الكنيسة وسلوكها.

ومن تم يمكن القول، إن الإصلاح البروتستانتي أثر في تنمية الأخلاق، (نظرية الأخلاق)، وأصبحت مفاهيمها تطرح بشكل مخالف لمفاهيم الأخلاق في العصور الوسطى، فترتب عن ذلك مفاهيم جديدة، مثل الذاتية والحرية والوعي والإنسان، وبالتالي أسهمت في تفكك الوحدة بين الدين والحياة الاجتماعية، بل أثرت حتى على الحياة الثقافية، إذ رأى هيجل في هذا التفكك عنصرا لظهور الفلاسفة، ووجد فيه ج. لوكاش تقهقرا للملحمة التي تراجعت كجنس أدبي حل محله جنس أدبي جديد يحتضن مشاكل الإنسان وهمومه ألا وهو الرواية.

2- النزعة الإنسانية:

النزعة الإنسانية اتجاه فكري أو مذهب إنساني ظهر في إيطاليا مع بداية عصر النهضة الأوروبية، لم يقتصر هذا الاتجاه على الأدب فحسب، وإنما شمل جميع المؤسسات الاجتماعية والمذاهب الفلسفية والأخلاقية والعلمية، الأمر الذي أعطى لهذه النزعة طابعها الحضاري، مما يجعلنا نتساءل، هل فعلا كانت النزعة الانسانية الأوروبية ذات طابع حضاري؟

تجدر الإشارة إلى أن الاكتشافات الجغرافية كانت عاملاً قوياً أسهم في تغيير العقلية الأوروبية وفي نهضتها، إذ أصبح الإنسان الأوروبي يستخدم عقله ويستغل ذكاءه، فآمن بالتراكم المعرفي الموجود في عقله، وآمن بكرامته وبحريته، فتحرر بذلك من كل الأوهام والخرافات.

وقد كان لهذا التحول أثره الواضح على المستوى السياسي، إذ تلاشى الطابع المقدس للسياسة التي كانت تمارس بتعاون مع الكنيسة في العصور الوسطى.

وانتقل المجتمع الأوروبي اقتصاديا، من النظام الاقطاعي إلى النظام الرأسمالي الذي تبنته الطبقة البورجوازية، وارتبطت الحركة الاقتصادية بعنصر التمدن، إذ أصبح الاهتمام مركزا على التجار(التاجر قديما عند الغرب لا قيمة له)، لأنهم هم الذين أسهموا في نقل الحضارة الأوربية من حضارة بدوية إلى حضارة مدنية، وأصبح الربح هو الهدف الأساسي يقوم على اقتصاد المبادلات، وأصبح ينظر له كقيمة خلقية تجعل منه عنصرا للحضارة.

وعلى المستوى الفكري، أسهم عدد كبير من الرواد في تأسيس المذهب الإنساني، ومنهم:

- رنيه ديكارت: فيلسوف فرنسي آمن بوجود الله تعالى، وناصر المذهب الإنساني.

- سبينوزا، فيلسوف هولندي.

- جون جاك روسو، الذي عبر عن توجهه الإنساني من خلال كتابه المعروف "العقد الاجتماعي"

- جون لوك فيلسوف إنجليزي

- إيمانويل كانط، فيلسوف ألماني

ويمكن القول، إن هؤلاء الأعلام وغيرهم، انطلقوا في تأسيسهم للمذهب الإنساني من مستويات مختلفة، منها ما ارتبط بالفطرة والطبيعة، ومنها ما تعلق بالعقل، ومنها ما ارتبط بالسلوك النفسي والاجتماعي، غير أن المحور الأساسي الذي تقوم عليه هذه المستويات هو الإنسان.

لقد أكد المذهب الانساني حرية الإنسان وخلاصه من سلطة الكنيسة، وممارسة الوعي الفرد يقصد البحث عن معنى الوجود والحياة؛ فالحياة في حد ذاتها شيء رائع، ويستحق الإنسان أن يعيشها مهما واجه فيها من مصاعب وآلام.

إن النزعة الإنسانية، فوق ما تقدم، مذهب يؤكد فردية الإنسان ضد الدين، ويجعل من الإنسان مقياسا لجميع الأشياء.

وعلى الرغم من هذا نقول: هل النزعة الإنسانية الأوروبية كانت فعلا حضارة إنسانية؟ وهل حققت للإنسان الوعود التي كانت تعبر عنها في شعاراتها وأفكارها؟ هل التحولات التي شهدها المجتمع الأوروبي في عصر النهضة كان فعلا نهضة أم نقطة انطلاق للحركة الإمبريالية؟

ساعد عصر النهضة الأوروبية على تحقيق غرضين اثنين، هما:

- ترتيب البيت الغربي من الداخل ليقوم بمهمة السيطرة خارجيا.

- تسويغ الرجل المتمدن/الحضاري للسيطرة على العالم.

وعلى ضوء هذين الغرضين، نستخلص أن النزعة الإنسانية لم تكن سوى مذهبا يهتم بالمادة وليس الروح، بمعنى أنها أ فقدت الإنسان الشعور بالحقائق الروحية، وجعلته مسخرا للقوى المادية.

من جهة أخرى، لم تحقق هذه النزعة وعودها للإنسان؛ فبالرغم من تطور العلم وتقدم الحياة الاجتماعية، فإن ثمة صدعا بين تقدم الإنسان المعرفي وسلوكه الأخلاقي.

ثمة حقيقة لا يجب إغفالها في هذا الموضوع، وهي أن النزعة الإنسانية رحبت بالقومية والوطنية من خلال ما سمي بالدولة الوطنية l'état nation ولكنها رفضت العنصرية، لأن الأدب الإنساني لا حدود له، والعنصرية جسم غريب يرفضه الأدب الإنساني.