تقديم كتاب "الدستور وحرية العقيدة" لمعتز محمد أبو زيد


فئة :  قراءات في كتب

تقديم كتاب "الدستور وحرية العقيدة" لمعتز محمد أبو زيد

"الدستور وحرية العقيدة قاعدة شرعية أم نص قانوني أم موروث اجتماعي" كتاب للدكتور المصري معتز محمد أبو زيد، أصدرته الهيئة المصرية العامة للكتاب سنة 2013. وهو يتضمن دراسة مقارنة حول الحرية الدينية في عدة بلدان.

يتسم هذا الكتاب بضخامة حجمه فهو يمتد على 735 صفحة تتوزع على أربعة أبواب:

باب تمهيدي حول "حرية العقيدة بين الحقوق والحريات".

باب 1: حرية العقيدة في الشريعة الإسلامية.

باب 2: حرية العقيدة في الأنظمة الدستورية المعاصرة.

باب 3: حرية العقيدة في النظام الدستوري المصري.

ويهمنا في بداية هذا العرض أن ننظر في بناء هذا الكتاب وتوازن تخطيطه، ولننطلق من النظر في حجم الأبواب، ونلفي الباب التمهيدي يمتد على 77 صفحة في حين يحتل الباب الأول 215 صفحة، أمّا الباب الثاني فإنه يحتوي على 230 صفحة، ويختتم الكتاب بباب ثالث يشتمل على 178 صفحة.

وما يستخلص من هذه الأرقام أن التوازن الكمي للكتاب من حيث حجم أبوابه ليس بالمختل بصفة عامة وإن كان الباب التمهيدي قليل الحجم بالمقارنة ببقية الأبواب لكن ما يبرّر ذلك أنّه باب يضطلع بوظيفة التقديم والتمهيد ولا يندرج في صلب شواغل الكاتب، أمّا الأبواب الثلاثة الأخرى فهي ليست متفاوتة الكم تفاوتا يدعو إلى القلق لذلك يمكن أن نقول في هذا المستوى من العرض إنّ الكاتب نجح في توزيع مادة كتابه على مختلف أقسام الكتاب بشكل أقرب ما يكون إلى العدل.

ونلاحظ هذا الاتساق في مستوى آخر أيضا هو البناء الداخلي لأبواب الكتاب، وهو ينهض على بنية ثلاثية ذلك أنّ كلّ باب يتكون من ثلاثة فصول وكلّ فصل يقوم على مباحث تتفرّع إلى مطالب. وهذا يعني أنّ الكاتب يعتمد أربعة مراحل يتدرج بحثه وفقها هي الباب فالفصل فالمبحث فالمطلب.

ترجع أهمية بحث موضوع هذا الكتاب "حرية العقيدة في الدستور" إلى ما يمثله الدستور من أهمية فهو "ليس فقط النص الأسمى على سلّم القواعد القانونية وإنما هو نص يمثل مبدأ لأمة أو صورة لإيديولوجية شعب أو دولة يتبين منه إلى أي فكر تنتمي هذه الدولة"[1].

وتتجلى أهمية هذا البحث كذلك من خلال استعراض صاحب الكتاب للأفكار الدستورية المختلفة وفقا لإيديولوجية دول عدة وتأثير ذلك في النص المنظّم لحرية العقيدة.

اعتمد الباحث في مقاربة مسائل بحثه المنهج الوصفي التحليلي المقارن بين مقاربة الشريعة الإسلامية لموضوع حرية العقيدة ومقاربات بعض الأديان الأخرى لها كالمسيحية واليهودية، وشملت المقارنة دولا مختلفة المرجعيات بين إسلامية ومسيحية ويهودية وعلمانية.

في الباب التمهيدي "حرية العقيدة بين الحقوق والحريات" بيّن الكاتب أنّ الحقوق والحريات ليست مواد خاوية وإنّما هي أسلوب حياة. ولمّا كانت هذه الحقوق والحريات متعددة تصدّى الكاتب في هذا الباب لتقسيمها وتحديد موقع حرية العقيدة منها. وانقسم هذا الباب إلى ثلاثة فصول، اهتم الأول بتقسيم الحريات والثاني بماهية حرية العقيدة والثالث بهذه الحرية في المواثيق الدولية والإقليمية.

انطلق بحث الكاتب في هذا الباب من مفهوم الحق، وهو يدلّ في الأنظمة الحديثة على "الرابطة القانونية التي بمقتضاها يخول للشخص على سبيل الانفراد والاستئثار والتسلط على شيء أو اقتضاء أداء معين من شخص آخر" (ص23).

ويرى جان لوك أنّ الحق هو الحرية وأنّ أول حق هو الحرية نفسها، والحرية عنده تخبر عن حالة طبيعية تميز الوجود الإنساني بصفة عامة.

والحقوق نوعان سياسية ومدنية إلاّ أن الكاتب يشير إلى التباس الصلة بين مفهومي الحق والحرية، "فبعض الحقوق تسمّى حريات لأنها تحمل للأفراد سلطات معينة يسبغ عليها القانون حمايته من أي اعتداء"، (ص248).

ويستعرض الباحث تعريفات عدّة للحرية يستخلص منها اتفاقها على أنّ الأساس في الحرية إرادة واختيار. ويتوقف الكاتب عند صلة الحقوق بالحريات ماضيا وحاضرا فيستخلص أنه يوجد معيار مهم للتمييز بينهما يتمثل في أنّ الحقوق تقرّر سلطات للأشخاص في حين أنّ الحريات إنما وجدت لترسم للأشخاص طريقا لممارسة تلك الحقوق.

ومن وجوه الصلة بين الحقوق والحريات مسألة النسبية، فالحق مطلق لأنه يعطي للإنسان أو يمنع منه، أمّا الحرية فهي نسبية أي إنّ الفرد مدعو إلى تكييف حريته مع معايير الجماعة التي يعيش ضمنها. وتتبدى نسبية الحريات من خلال تغير مفهومها بتغير العصر والمكان والإيديولوجية المهيمنة على السلطة السياسية والثقافة السائدة.

وهذا التغير شمل أيضا أنواع الحقوق والحريات وأقسامها إلا أن هذا التنوع والتغير لا يعني غياب الوشائج الحميمة بين هذه الحقوق والحريات فكثير منها يترتب على الآخر ولا وجود له إلا بوجود الآخر، فحرية الصحافة مثلا لا يمكن أن تتحقق إلا بوجود حرية فكرية واقتصادية.

توقف الكاتب في مرحلة ثانية من الباب التمهيدي عند ماهية حرية العقيدة فلاحظ تنوع الاتجاهات القانونية في تحديدها:

اتجاه أول: يقصد بحرية العقيدة أن يتمكن الإنسان من اعتناق دين ما أو عدم اعتناقه وأن يتمكن من تغيير عقيدته أو عدم تغييرها فلا تفرض عليه الدولة دينا معينا[2].

اتجاه ثان: يذهب إلى أنّ حرية العقيدة من الحريات الفكرية العامة، وهي تعني إما حرية اعتناق دين معين وإمّا حرية الشخص في ممارسة الشعائر الدينية علانية.

اتجاه ثالث: يرى أن حرية العقيدة هي حق الفرد في اعتناق ما يشاء من الديانات السماوية.

اتجاه رابع: تعني حرية العقيدة لديه قدرة الإنسان على الإيمان بما يشاء من معتقدات دينية وفلسفية دون أن يكون لأحد حق الكشف عمّا يؤمن به في قلبه وعقله.

ويخلص الباحث إلى أن مفهوم حرية العقيدة من وجهة نظر الدراسات القانونية الحديثة يتمثل في "اعتناق الفرد دينا معينا أم لا وعند اعتناقه لديانة معينة فإنه يمارس حريته في يقينه وإيمانه بتلك الديانة بصرف النظر عن ممارسة طقوسها أم لا وإمكانية تغيير تلك الديانة لأخرى سواء جاء هذا الاختيار موافقا لدين الدولة الرسمي أو مخالفا له حتى لو لم يوجد لدى الدولة دين رسمي" (ص51).

ولمّا كان تطور مفاهيم حرية العقيدة واختلافها خاضعا للتاريخ ومرتبطا بتحولاته خصّص الكاتب مبحثا لتاريخ هذا النوع من أنواع الحرية. انتهى فيه بعد النظر في عدة حضارات بشرية قديمة إلى غياب مفهوم كامل وواضح لهذه الحرية في الحضارات القديمة.

بحث الكاتب كذلك مسألة تمييز حرية العقيدة وتحديدها فنظر ابتداء في صلة حرية العقيدة بحرية ممارسة الشعائر الدينية، فالحرية الأولى مسألة اختيارية وفردية وخاصة بالإنسان ولا تكلّف الدولة سوى التنصيص على السماح بها أما الحرية الثانية فهي واضحة وصريحة ويكثر فيها الاحتكاك بالسلطة من حيث توفير أماكن ممارسة الشعائر والترخيص بتلك الممارسة.

نظر الكاتب في مستوى ثان في صلة حرية العقيدة بحرية العبادة فالعبادة أحد مشتقات العقيدة وهي مظهر من مظاهر تطبيقها إلاّ أن حرية العبادة تختلف عن حرية العقيدة من ناحية أنّ العبادت يمكن ممارستها على أنها إحدى الشعائر الدينية أولا وقد ترى الدولة أو تنظم إحدى العبادات كالزكاة مثلا. وقد تتشابه العقائد لكن العبادات تختلف فأهل الأديان السماوية الثلاثة مثلا مجمعون على عقائد واحدة من قبيل أن الدين مصدره الله إلاّ أن العبادات ليست هي ذاتها في تلك الأديان.

وتتصل حرية العقيدة أيضا بحرية الفكر فكلما كانت العقيدة نتيجة عمل عقلي وكانت الحرية في استخدام العقل على أفضل ما يكون هي حرية العقيدة فإن حرية العقيدة قد تقبل التصنيف باعتبارها حرية من حريات الفكر إلاّ أن دور العقل في حرية العقيدة لا يتعدى إحدى مراحلها، والملاحظ أن من العقائد ما يسمو على اعتبارها من الأفكار فالأديان السماوية لا يمكن أن يعتبرها من يؤمنون بها أفكارا.

وعند النظر في حرية العقيدة وحرية الرأي بيّن الكاتب اشتراكهما في ورودهما في مرحلة لاحقة بعد حرية الفكر وإعمال العقل إلا أنهما يختلفان في "أن العقيدة أرسخ من الرأي، فالرأي قد يتأتى لفكرة طارئة عابرة أمّا العقيدة فمن أهم قواعدها اليقين والثبات الذي لا يقبل الشك أو التأويل بعكس الآراء التي قد تتفاوت ما بين الصحيح والباطل والراجح والمرجوح"، (ص77).

توقف الكاتب في الفصل الثالث عند مسألة حرية العقيدة في المواثيق الدولية والإقليمية، فالدول لم تكتف بالتنصيص على حرية العقيدة في نصوصها الداخلية بل تعدّى الأمر إلى الاتفاقيات الإقليمية والدولية التي تشترك فيها عدة دول وتلتزم بتنفيذها.

والظاهر أنّ حرية العقيدة في المواثيق الدولية وقع التمهيد لها من خلال أول إعلانات حقوق الإنسان الصادرة في فرنسا إثر الثورة الفرنسية عام 1789م، فقد أشار هذا الإعلان إلى حرية العقيدة واقترنت هذه الحرية في تلك النصوص بحرية التعبير شرط ألاّ يتعارض ذلك مع النظام العام[3].

وقد تضمن ميثاق منظمة الأمم المتحدة الصادر سنة 1945 فقرة ثالثة من المادة الأولى تذكر أنّ من أهداف الأمم المتحدة "تعزيز احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية للناس جميعا والتشجيع على ذلك إطلاقا بلا تمييز بسبب الجنس أو اللغة أو الدين وبلا تفريق بين الرجال والنساء.

والملاحظ أن حرية العقيدة لم ترد في هذا الميثاق صريحة واضحة وإنما أشير إلى أنها ضمن الحريات الأساسية، ويبرّر الكاتب هذا الأمر بأنّ حرية العقيدة لم تكن قد تبلورت في شكلها الحالي في ذلك العصر الذي أنشأت فيه منظمة الأمم المتحدة.

وبعد ثلاث سنوات أي عام 1948 اعتمدت منظمة الأمم المتحدة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وأهم ما ورد فيه بالنسبة إلى موضوعنا المادة الثامنة عشرة، وهي تنص على "أن لكل شخص حق حرية الفكر والوجدان والدين، ويشمل هذا الحق حريته في تغيير دينه أو معتقده وحريته في إظهار دينه أو معتقده بالتعبد وإقامة الشعائر والممارسة والتعليم بمفرده أو مع جماعة وأمام الملإ أو على حدة".

وفي سنة 1966 أصدرت منظمة الأمم المتحدة العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وقد خلت هذه الوثيقة من التنصيص على الحرية الدينية صراحة واكتفت بالإشارة إليها من خلال ذكر عدم التمييز بسبب الدين، فقد ورد في البند 2 من المادة 2 من هذا العهد أنه "تتعهد الدول الأطراف في هذا العهد بأن تضمن جعل ممارسة الحقوق المنصوص عليها في هذا العهد بريئة من أي تمييز بسبب العرق أو اللون أو الجنس أو اللغة أو الدين أو الرأي.....".

وفي السنة نفسها 1966 أصدرت منظمة الأمم المتحدة العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، وقد أعاد هذا العهد الـتأكيد على ما ورد في المادة 18 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وزاد عليها أنه "لا يجوز تعريض أحد لإكراه من شأنه أن يخل بحريته في أن يدين بدين ما أو بحريته في اعتناق أي دين أو معتقد يختاره. ولا يجوز إخضاع حرية الإنسان في إظهار دينه أو معتقده إلا للقيود التي يفرضها القانون والتي تكون ضرورية لحماية السلامة العامة والنظام العام أو الصحة العامة أو الآداب العامة أو حقوق الآخرين وحرياتهم الأساسية. وتتعهد الدول الأطراف في هذا العهد باحترام حرية الآباء والأوصياء عند وجودهم في تامين تربية أولادهم دينيا وخلقيا وفقا لقناعاتهم الخاصة.

ويستنتج الكاتب أن هذا العهد الدولي ورد متميزا ومباشرا في احتوائه لحرية العقيدة والتنصيص عليها تحديدا وتغطيته العديد من جوانبها كتغيير الدين وإظهاره وممارسة شعائره والنص على عدم وجود إكراه من أي نوع وتنظيم تلك الحرية بين الآباء والأبناء.

تطرق الكاتب بعد ذلك إلى حرية العقيدة في المواثيق الإقليمية مستهلا بحثه بالاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان التي صدرت في روما عام 1950 في نطاق مجلس أوروبا. وقد نصت المادة 9 من القسم الأول من هذه الاتفاقية على أنه "لكل إنسان الحق في حرية التفكير والضمير والعقيدة، وهذا الحق يشمل حرية تغيير الدين أو العقيدة بإقامة الشعائر والتعليم والممارسة والرعاية سواء على انفراد أو بالاجتماع مع آخرين بصفة علنية أو في نطاق خاص.

والظاهر من خلال هذا النص التزام الدول الأوروبية بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان وعدم وجود اعتراضات على الحرية الدينية لديهم.

وفي سنة 1969 أعدت منظمة الدول الأمريكية الاتفاقية الأمريكية لحقوق الإنسان، وجاء في الفصل 2 للحقوق المدنية والسياسية في المادة 18 أنه "لكل إنسان الحق في حرية الضمير والدين وهذا الحق يشمل حرية المرء في المحافظة على دينه أو معتقداته أو تغييرهما وكذلك حرية المرء في المجاهرة بدينه أو معتقداته أو نشرهما سواء بمفرده أو مع الآخرين سرا وعلانية، ولا يجوز أن يتعرض أحد لقيود قد تعيق حريته في المحافظة على دينه أو معتقداته أو في تغييرهما.

وفي الميثاق الإفريقي لحقوق الإنسان والشعوب الصادر عن منظمة الوحدة الإفريقية سنة 1979 جاء بالمادة 8 أن "حرية العقيدة وممارسة الشعائر الدينية مكفولة ولا يجوز تعريض أحد لإجراءات تقيد ممارسة هذه الحريات مع مراعاة القانون والنظام العام.

والملاحظ أن هذه المادة وردت محدودة مجملة إن قارناها باتفاقيتي أوروبا وأمريكا لأن هاجس إفريقيا كان التحرر من الاستعمار قبل كل شيء. والملاحظة نفسها نلاحظها في مشروع الميثاق العربي لحقوق الإنسان فالكاتب يرى أن حرية العقيدة تتمتع بنص شامل ينظم كل جوانبها في ذلك المشروع بشكل منفصل عن أية حرية أخرى. ويعني ذلك أنها وردت مقترنة بحرية الرأي ن فالمادتان 22 و23 تنصان على أن "حرية العقيدة والفكر والرأي مكفولة لكل فرد، وللأفراد من كل دين الحق في ممارسة شعائرهم الدينية كما لهم الحق في التعبير عن أفكارهم عن طريق العبادة أو الممارسة أو التعليم وبغير إخلال بحقوق الآخرين، ولا يجوز فرض أية قيود على حرية العقيدة والفكر والرأي إلا بما نص عليه القانون.

إنّ ما تقدم يدلّ حسب الكاتب على الصفة العالمية لحرية العقيدة بين حريات الأفراد العامة والأساسية على المستوى الدولي.

خصص الكاتب بعد الباب التمهيدي بابا أول لبحث مسألة حرية العقيدة في الشريعة الإسلامية فنظر في الفصل الأول في مفهوم حرية العقيدة في الإسلام، ودرس في الفصل الثاني موقف الإسلام من الأديان الأخرى أما الفصل الثالث فقد كان مداره على المسلمين وحرية العقيدة في إطار الإسلام.

ركز الكاتب في بداية هذا الباب على دراسة مبدإ لا إكراه في الدين وأسانيده النقلية والعقلية، وأكد أيضا بعد التطرق إلى اختلاف المواقف الفقهية من نسخ الآية التي تتضمن مبدأ عدم الإكراه في الدين على أن هذه الآية غير منسوخة وإنما هي محكمة وثابتة منذ نزولها.

وقد حاول الكاتب أثناء بحثه موضوع انتشار الإسلام بين الدعوة والقوة أن يدافع عن فكرة عدم انتشار الإسلام بالقوة مبينا جملة من الأدلة الشرعية والتاريخية على عدم انتشار الإسلام بحدّ السيف. يقول في هذا السياق: "إذن فحمل السيف في الإسلام جاء للوقوف أمام كتل الطغيان التي تحارب كتلة الحق فكان الهدف من ذلك السماح بحرية الرأي والعقيدة فكان جهاد الإسلام الأول جهادا يدافع عن حرية العقيدة" (ص131).

لقد قاتل الإسلام - حسب الكاتب - دفاعا عن حرية العقيدة حتى تنتشر في وقت أرادت القوى التي عارضته أن تكبتها وتمنعها وتحدّ من وصولها إلى الناس.

ومن الواضح أن الكاتب يقف في صف فريق من الكتاب من ذوي المرجعيات الإسلامية على غرار محمد متولي الشعراوي ومحمد الغزالي.

إن ما يمكن مؤاخذة الكاتب عليه في مقاربته لهذه المسألة أنه لم يكن موضوعيا بالقدر المطلوب فقد لجا إلى التعميم وإلى الشعارات دونما ارتباط وثيق بالواقع التاريخي فقد كان بإمكانه أن يعرض الرأي الآخر وأن يورد حججه ويردّ عليها بهدوء ودون تشنج لكنه آثر الهجوم على أصحابه متهما إياهم بنفث السم في بنيان الدين الإسلامي.

هكذا يبرهن الكاتب على أنه كلما تعلق الأمر بتاريخ المسلمين وقع الكثير من الباحثين في الخلط بين الإسلام المثالي والنظري والإسلام التاريخي متجسدا في ممارسات المسلمين، وبدل مواجهة تاريخ المسلمين بشجاعة وموضوعية يقع إهدار البعد التاريخي لصالح رؤية تمجيدية انتقائية.

درس الكاتب في الفصل الثاني من الباب الأول موقف الإسلام من الأديان الأخرى فبين منذ البداية أن معاملة الشريعة الإسلامية لأصحاب الديانات الأخرى جاءت على أكمل ما يكون، فقد كفل الإسلام حرية العقيدة لغيره من الأديان على نحو حكمته العديد من المبادئ السماوية السامية، وهذه المبادئ هي العدل والمساواة والحرية.

يتطرق الكاتب بعد ذلك إلى عدة مسائل منها ما وسمه بـ"الإشكاليات المثارة بشأن حرية العقيدة للمسلمين في الإسلام، وتتمثل الإشكالية الأولى في رأيه في الردة والخروج عن الدين الإسلامي. ومكمن الإشكال في نظره هو في سماح الإسلام للمسلمين بخوض تجربة الردة عن الإسلام، وهل هي مجرد استخدام للحرية أم هي جريمة وخروج على الدين يستوجب القصاص؟

إن مثار الإشكالية حسب صاحب الكتاب ليس في جواز الردة أو عدمه وإنما هو في الآثار الخطرة المترتبة عليها التي قد تصل إلى فقدان الحياة. وتطرق في هذا الصدد إلى رأيين أساسيين يتبنى أولهما موقف تطبيق حد القتل على المرتد، وهو رأي مجمع عليه حسب الكاتب، ويستند إلى آيات القرآن الكريم. ويستعرض في هذا الشأن ثلاث آيات لا نلفي فيها أي تنصيص على القتل على غرار الآية 217 من البقرة "وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىٰ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا ۚ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَٰئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ۖ وَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ".

أمّا الرأي الثاني فهو يذهب إلى عدم تطبيق حدّ القتل على المرتدّ، وهذا الرأي الفقهي الذي سكت الكاتب عن ذكر هوية ممثليه ناصره بعض المحدثين في القرون الثلاثة الأخيرة، وهو يخالف قتل المرتد لما كفله الإسلام من حرية العقيدة للمسلمين وأنه لا يجوز قتل المسلم الخارج عن دينه ذلك أن هذا لا يخرج عن إطار ممارسة حرية من حرياته الأساسية وهي حرية العقيدة وأنه إذا كان الإسلام قد اتبع مبدأ لا إكراه في الدين مع الكفار أعداء الدين والمشركين فمن الأولى إعمال هذا الحق وهذه الحرية في حق المسلمين، ويقرر أصحاب هذا الرأي أن العقيدة هي علاقة خاصة بين العبد وربه لا مجال فيها للعقاب الدنيوي.

ومن حجج أنصار هذا الرأي أن الآيات التي اعتمدها أصحاب الرأي الآخر وإن كانت قد توعدت المرتد بالعقاب الأخروي وغلظت ذلك العقاب فإن ذلك لا يبرر توقيع حد القتل عليه في الدنيا ذلك أن تلك الآيات قد خلت مما يشير إلى ذلك العقاب الدنيوي.

وبعد أن عرض الكاتب الرأيين اصطف إلى جانب الرأي الأول معتبرا أن جريمة الردة بترك الإسلام واعتناق دين آخر أمر يجافي المنطق لأن الانتقال من دين إلى آخر لا يوافق طبائع الأديان في نظره، وهي طبائع تفضل الثبات والاستقرار. ويذهب الكاتب أبعد من هذا حين يعتبر أنه لا ضرورة لاشتراط التأليب على الإسلام والدعوة إلى الردة وقتال المسلمين حتى يسمح بقتل المرتد.

وقد يبدو هذا الموقف متناقضا مع حرص الكاتب على تأصيل مبدإ حرية الاعتقاد في الممارسة الإسلامية لكنه يبرر ذلك بأن الردة الفردية تتحول بمرور الزمن إلى ردة جماعية.

انتقل الكاتب في الباب الثاني من كتابه "الدستور وحرية العقيدة" من المجال الزمني القديم إلى المجال الحديث مركزا على دراسة حرية العقيدة في الأنظمة المعاصرة، وقد خصص ثلاثة فصول لهذا البحث ففي الفصل الأول تطرق إلى موضوع حرية العقيدة في دساتير الدول ذات النظام الإسلامي وفي الفصل الثاني درس حرية العقيدة في دساتير الدول ذات النظام الديني غير الإسلامي، وفي الفصل الثالث توقف عند مسألة حرية العقيدة في دساتير الدول ذات النظم غير الدينية.

عرض الكاتب في الفصل الأول لدستور المملكة العربية السعودية فبين أن النظام الأساسي للمملكة ينص على حماية الدولة لحقوق الإنسان وفق الشريعة الإسلامية، لكن هذا النظام لم يعترف في مستوى الممارسة بأحكام دين آخر غير الإسلام وإن كان يحافظ لغير المسلمين على ديانتهم ماداموا من المقيمين في المملكة. ولم يسمح هذا النظام بتغيير العقيدة من الإسلام إلى أي دين آخر كما حظر الدعوة والتبشير لأية ديانة أخرى غير الإسلام.

قارب الكاتب بعد ذلك مسألة حرية العقيدة في دستور جمهورية إيران الإسلامية وقسم هذه الدراسة إلى قسمين، أحدهما درس فيه طبيعة الدولة والدستور في إيران، والآخر بحث فيه مسألة تطبيقات حرية العقيدة في دستور إيران.

ولئن قرر الدستور الإيراني أن الديانة الرسمية هي الإسلام وأن مذهب المسلمين فيها هو مذهب الشيعة الإمامية الاثني عشرية فإنه تعهد باحترام باقي المذاهب الإسلامية وبحرية متبعيها في تطبيق أحكامها في الأحوال الشخصية، وصرّحت إحدى مواد الدستور بأن الديانات المعترف بها للإيرانيين في جمهورية إيران الإسلامية هي الزرادشتية واليهودية والمسيحية بجانب الإسلام.

والملاحظ أن الدستور الإيراني حاول مسايرة الدساتير الليبرالية على الرغم من الطابع الديني الواضح في مواد الدستور الإيراني فقرر في المادة الرابعة عشرة حرية العبادة لغير المسلمين في إيران مادام ذلك لم يخرج إلى نطاق الاعتداء على المسلمين وإيذائهم. وفي المادة 23 من هذا الدستور ذكر صراحة احترام النظام الإيراني لحرية العقيدة وأنه لا يمكن التحقيق مع أي شخص أو القبض عليه أو تقييد حريته بسبب اعتقاد دين أو مذهب معين، ومع ذلك لم يخرج هذا الدستور عن عباءته الدينية فأنشأ مركز صيانة وحماية للنظام الإسلامي سمّاه مجلس صيانة الدستور تحت إشراف كبار رجال الدين في الدولة.

درس الكاتب في مرحلة تالية حرية العقيدة في الشرائع السماوية غير الإسلام مستهلا بحثه بالديانة اليهودية. وممارسة غير اليهود لدياناتهم مسموح بها عند اليهود إلا أنهم ينظرون إليهم باعتبارهم أقل من اليهود يقال عنهم الأغيار أي غير شعب الله وهم الأجانب عن اليهودية ومن ثم فإن من يرتد عن الدين اليهودي يعتبر من الأغيار المسموح بقتلهم، وهذا الموقف كان يتبناه الصدوقيون وهم أتباع قدامى لليهودية إلا أن المعتقد الذي ساد بعد تلك الفترة اقتصر على اعتبار ارتداد اليهودي عن دينه كفرا وزندقة وأن عذابه أخروي.

وقد أوضح الكاتب أن المسيحية وسعت من نطاق حرية العقيدة بالمقارنة مع ما كان عليه الحال في الديانة اليهودية وتجلى ذلك من خلال قبول المسيحيين لليهود فقد اعتبروا أنفسهم امتدادا طبيعيا لتلك الديانة اليهودية وإن كان النهج الروحاني للدين المسيحي يخالف مادية اليهود، ولم يسعوا لفرض دينهم بالقوة أو محو ذكر تلك الديانة اليهودية.

إن هذا الكتاب مفيد للدارسين من حيث ثراء مادته وتنوع مراجعه وشمول مباحثه لفترات زمنية طويلة ولمناطق جغرافية متعددة وهو لذلك جدير بالقراءة والتأمل والمراجعة النقدية لمحتوياته.


[1] معتز أبو زيد، الدستور وحرية العقيدة، ص 10

[2] انظر مثالا على هذا الاتجاه عبد المتعال الصعيدي، الحرية الدينية في الإسلام، ط2، دار الفكر، د. ت، ص 703

[3] Patrick Wachsman, Libertés publiques, 1996, Dalloz, p423.