حقوق الإنسان وجدليّة الكونيّة والخصوصيّة: قراءة في كتاب الأسس الفكريّة لثقافة حقوق الإنسان


فئة :  قراءات في كتب

حقوق الإنسان وجدليّة الكونيّة والخصوصيّة: قراءة في كتاب الأسس الفكريّة لثقافة حقوق الإنسان

ساهم انهيار المعسكر الشرقي في نهاية الثمانينيات من القرن الماضي، وتزايد عدد الدول الليبرالية في مزيد من الانتشار لحقوق الإنسان، لدرجة أصبحت لغة ضمن منظومة الخطاب الكوني، وقد تزايد الوعي بأهمية الانخراط في المنظومة الكونية الحقوقية في الدول العربية، ودخل أغلبها في مبادرات لترسيخها، على رأسها الالتزام بالتربية على حقوق الإنسان ونشر ثقافتها، بالرغم من أن هذه الجهود تصطدم واقعيًا بإشكاليات فكرية؛ كالجدلية بين الكونية ذات المرجعية الغربية، والخصوصية المستندة على المرجعية الدينية الإسلامية، وعراقيل واقعية؛ كضعف الترسانة القانونية الحامية للحريات، وضعف المجتمع المدني.

وعليه، تعد الكتابات المهتمة بهذه الجوانب مهمة في نشر ثقافة حقوق الإنسان، منها؛ كتاب محمد سبيلا الصادر عن المركز الثقافي العربي عام 2010، الذي يركز على الأسس الفلسفية والفكرية لحقوق الإنسان، الذي تسلح فيه بنظرة تاريخية، وفلسفية وفكرية عميقة، تتجاوز العرض والتحليل إلى النقد والتفكيك.

أولًا: تطور حقوق الإنسان: تمدد وانتشار.

بالرغم من تعدد مقترات تطبيق حقوق الإنسان، إلا أن المؤلف يعتبرها قاصرة ومحدودة للإحاطة بمختلف مجالاتها واتساعها، لاسيما تلك المجالات الجديدة التي لم يفكر فيها أثناء وضع الإعلانات والمواثيق الحقوقية؛ كالبيئة والمعلوميات والتكنولوجيا، ويقترح تقسيمًا يمكن من استيعاب جميع الحقوق، يحصرها في عشرة أنواع من حقوق الإنسان، وهي كالتالي:

- الحقوق السياسية: تعد الحقوق والحريات السياسية عماد باقي الحقوق الأخرى؛ باعتبار الاعتراف بها وبمكانتها في النظام السياسي يعدّ مفتاحًا لضمان الحقوق الأخرى، ويجملها المؤلف في أربع مجموعات: أولاها: حقوق الانتماء السياسي، المتمثلة أساسًا في حق الانتماء إلى أية منظمة سياسية كيفما كانت الإيديولوجية السياسية التي تتبناها وتدافع عنها، ويتوافق هذا الحق مع النظام الديمقراطي التعددي القائم على التعددية السياسية، غير أن من الناحية الواقعية، العديد من الأنظمة السياسية لا تأخذ بهذا المبدأ، أو لا تطبقه في صورته المطلقة، حيث تلجأ إلى منع تأسيس بعض التنظيمات السياسية التي تتنافى مع مبادئ دستورية أو هوية الدولة؛ كمنع تأسيس أحزاب على أسس دينية، أو عرقية، أو مبادئ متطرفة.

وثانيتها: حقوق المشاركة السياسية، وتتجلى في كل ما يتعلق بالمشاركة السياسية المشروعة في مختلف صيغها، منها؛ المشاركة في التظاهرات السياسية، وحرية التصويت والترشيح، وحق ملاحظة ومراقبة العملية الانتخابية، ودون شك تعد هذه الحقوق أساس الديمقراطية التمثيلية القائمة على تفويض السلطة عن طريق الانتخابات.

وتلجأ الأنظمة السياسية إلى تنظيم مختلف مكونات ومظاهر هذه الحقوق؛ كتحديد السبب القانوني للترشيح والانتخابات، وشروط اكتساب الحق في التصويت، وتنظيم سبل مراقبة نزاهة الانتخابات.

وثالثتها: حق التعبير، ويشمل كافة أشكال التعبير عن الرأي، سواء بشكل مباشر فردي أو جماعي، من خلال التجمعات العامة، أو عن طريق مختلف وسائل الإعلام والاتصال المكتوبة والمسموعة والمرئية؛ كالمقالات والمؤلفات والرموز والصحافة المكتوبة والتلفزيون، وكذا مختلف وسائل الإعلام الاجتماعي الحديث؛ كالهاتف النقال والإنترنت، وحتى لا تتحول أشكال التعبير هذه إلى وسائل للاعتداء على حرية الآخرين، أو التحريض على الحقوق العامة ومؤسسات الدولة، فإن النظام القانوني للدولة يتدخل لتنظيمها.

ورابعتها: حقوق الشعوب، وتتمثل أساسًا في حق تقرير المصير، والحقوق الثقافية للشعوب، الذي لم يتم الاعتراف به قانونيًا إلا في وقت متأخر، وبالضبط بعد تحرر العديد من الدول من السيطرة الاستعمارية، وكانت أولى الوثائق في هذا الإطار قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 637 في 6 دجنبر 1952، ثم قرار رقم 1514 في دجنبر 1960، ثم توالت النصوص المقرة لهذا الحق الهام؛ كالوثيقة الصادرة عن مؤتمر هلسنكي 1975.

وبالرغم من أهمية هذا الحق، إلا أن تطبيقه اعترضته صعوبات سياسية في عدد من المواقع الإقليمية، وكذا في حق الشعوب في السلم، الذي صعد الوعي به إلى الساحة العالمية بسبب مخلفات الحرب العالمية الثانية، والدرجات التي بلغها الصراع أثناء فترة الحرب الباردة، وما نتج عنه من تطوير أسلحة الدمار الشامل، حيث عبرت الجمعية العامة عن تخوفها من الحرب وعن أحقية الشعوب في السلم.

إضافة إلى الحقوق الثقافية للشعوب، التي تشكل أهمية قصوى واستثنائية في وثائق منظمة اليونسكو وعملها، كما تشكل حماية اللغات الأم وحماية الحقوق الثقافية للشعوب الأصلية والضعيفة موضوعًا مهمًّا في عدد من المواثيق الدولية.

- الحقوق الاقتصادية: وتشمل الحق في الملكية، والحق في العمل والحقوق الثقافية، والحق في التنمية، والحق في بيئة نظيفة، وإذا كانت بعض هذه الحقوق تم إثارتها بشكل مبكر منذ الإعلانات الأولى لحقوق الإنسان؛ كحق الملكية الذي نص عليه إعلان حقوق الإنسان والمواطن لعام 1789، باعتباره حقًّا مقدسًا لا يقبل الانتهاك، ليشكل بعد ذلك مبدأً ليبراليًا أساسيًّا؛ فإن بعض الحقوق الاقتصادية لم تدخل مجال حقوق الإنسان إلا بعد صدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان؛ كالحق في العمل، والحق في تلقي أجر مناسب، والعمل في ظروف مرضية، كما أن بعضها الآخر لم يعترف بها إلا بعد نضالات طويلة؛ كالحقوق النقابية التي جاءت نتيجة جهود الأحزاب السياسية والحركة النقابية، فعلى سبيل المثال ظل حق الإضراب محل جدال واسع، وظلّ ممنوعًا إلى حدود عام 1864 قبل أن تنص عليه أغلب الدساتير، وتقرّه المواثيق والعهود الدولية. إضافة إلى ذلك، فإن بعض الحقوق الاقتصادية لم يتم إقرارها إلا في وقت متأخر، مثل؛ الحق في التنمية الذي لم يتم تبنيه من طرف الجمعية العامة للأمم المتحدة إلا في إعلان 4 دجنبر 1986، وكذا الحق في بيئة نظيفة الذي لم يتم إقراره إلا في بداية التسعينيات بعد سلسلة من المؤتمرات، حيث تم إمضاء اتفاقيتين في هذا الإطار؛ اتفاقية الأمم المتحدة بشأن التنوع البيولوجي التي دخلت حيز التنفيذ في 29 دجنبر 1993، واتفاقية الأمم المتحدة بشأن تغير المناخ.

بالرغم من اهتمام المواثيق الدولية ودساتير الدول بهذه الحقوق، إلا أن ترجمتها على أرض الواقع كثيرًا ما تؤدي إلى نتائج غير مرضية.

- الحقوق الاجتماعية: مرتبطة أساسًا بدولة الرفاه الاجتماعي، أهمها؛ الحق في السكن، والحق في الصحة، والحق في الضمان الاجتماعي. وتبقى الاستفادة منها خاضعة لجملة من الشروط، تختلف حسب طبيعة الأنظمة السياسية؛ لذلك يعتبر النص عليها في الدساتير بمثابة توجيهات إلى السلطات العمومية لبذل جهودها قصد تحقيق هذه الحقوق وحمايتها.

- الحقوق العائلية: وهي حقوق لصيقة بالإنسان وبنيته الاجتماعية الأولى، وتشمل؛ الحق في الزواج واحترام العلاقات العاطفية، والحق في تساوي الزوجين داخل الأسرة، والحق في الطلاق، وحق الإجهاض. وتتميز بحداثة الاهتمام بها وحمايتها قانونيًّا؛ كالحق في مساواة الزوجين داخل الأسرة، حيث لم تصدر مواثيق دولية في هذا الإطار إلا في 1979 من خلال إصدار الجمعية العامة للأمم المتحدة لاتفاقية القضاء على كل أشكال التمييز ضد المرأة، الذي نصّ على حق اختيار الزوج، وحق الإشراك في الولاية والوصاية على الأولاد، كما تتميز باختلاف مواقف الدول منها، لما تثيره بعض الحقوق من اختلافات عميقة كالحق في الإجهاض.

- الحقوق الإعلامية والمعلوماتية: وتشمل؛ الحق في تولي الأخبار والمعلومات، والحق في الحقيقة، وحقوق الفاعلين الإعلاميين. ترتبط هذه الحقوق بالتطورات التي عرفتها وسائل التواصل الحديثة وانتشارها، والآثار التي تؤدي إليها على مستوى حرية الفرد واختياراته الشخصية، ومعطياته المتاحة؛ إذ تحولت الدعاوى من الحرية الكبيرة لوسائل الإعلام والمعلوميات إلى ضرورة ضبها وتنظيمها وحماية الإنسان من مخاطرها.

- الحقوق القضائية والأمنية: كالحق في الأمن، والحق في الحياة التي أقرَّتها العديد من المواثيق الدولية؛ كالإعلان العالمي لحقوق الإنسان (المادة الخامسة)، والعهد الخاص بالحقوق المدنية والسياسية (المادة السابعة)، واتفاقية مناهضة التعذيب التي اعتمدتها الجمعية العامة في 10 دجنبر 1987، وغيرها، كما تقرّها عدد من النصوص الدستورية. غير أن التمتع بهذه الحقوق يتوقف على جملة من الظروف القانونية والثقافية السائدة داخل المجتمع.

- الحقوق الثقافية: تتميز باتساع مداها، وتتمثل في خمسة حقوق كبرى هي؛ الحق في التربية والتعليم، والحق في الهوية الثقافية، والحق في المشاركة الثقافية، وحق التأليف والإبداع، والحق في الاختلاف. وأغلب المواثيق الدولية والإقليمية لحقوق الإنسان تنصّ عليها، بالرغم من اختلاف تواريخ إقرارها؛ إذ تمّ النص على بعضها مباشرة بعد الحرب العالمية الثانية؛ كحق التعليم، بينما تأخر النص على حقوق أخرى كالحق في الهوية الثقافية.

- الحقوق البيئية: بفعل التطور البيئي وازدياد استغلال الطبيعة وما نتج عنه من اختلالات بيئية، تزايدت الدعوات والمبادرات لحماية البيئة، لهذا نظمت منظمة الأمم المتحدة جملة من المؤتمرات تمخض عنها عدد من الاتفاقيات المهمة.

- الحقوق العقدية والميتافيزيقية: نظرًا لما للجانب المعنوي والروحي والرمزي في حياة الإنسان من أهمية، فإنّ المواثيق الدولية اتجهت إلى إقرار الحقوق المرتبطة بها، منها على الخصوص (الحقوق العقدية) التي كان بداية إقرارها منذ إعلان حقوق الإنسان والمواطن عام 1789 (المادة العاشرة)، ودستور الثورة الفرنسية لعام 1791، ثم تلتها إعلانات وعهود إقليمية وعالمية أخرى؛ كإعلان هلسنكي لعام 1975، وإعلان الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1981 حول القضاء على أشكال التعصب والتمييز القائمين على أساس الدين أو المعتقد، ويتضمن هذا الحق عدة حقوق جزئية؛ كالحق في الاعتقاد في أي عقيدة دينية كيفما كانت، والحق في الانتماء داخل هذه العقيدة لأي نحلة أو فرقة فرعية، والحق في ممارسة الطقوس والشعائر الخاصة.

وكذلك الحقوق الميتافيزيقية التي تشمل مسائل الحياة والموت والانتحار والجنازة والإعدام، وبذلك تمتد لتمس عدة مسائل كانت نتيجة للتطور العلمي المعاصر؛ كالإجهاض، وأطفال الأنابيب، وتغيير الجنس واللون، وكراء الأرحام، وكل هذه القضايا تعتبر لحد الآن قضايا خلافية، يختلف تعامل الدول معها اختلافًا بينًا، وتثير صعوبات في تنظيمها.

- الحقوق المترتبة عن الإعاقة والخبل: سعت المنظمات الدولية إلى سنِّ مواثيق هدفها حماية فئات تتميز بالهشاشة الصحية والعضوية، وقد أصدرت الأمم المتحدة إعلانًا خاصًّا بحقوق المتخلفين عقليًّا عام 1971 كما أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1975 الإعلان الخاص بحقوق المعوقين التي تشمل "الحقوق المدنية والسياسية، وحقوق التوصل إلى الاستقلال الذاتي، وحقوق العلاج الطبي والنفسي والوظيفي بما في ذلك أجهزة التقويم والبدائل، وحقوق التعليم والتدريب والتأهيل المهني والتوظيف، والحق في الأمن الاقتصادي والاجتماعي، والحق في أن تؤخذ حاجاتهم بعين الاعتبار في أية خطة اقتصادية واجتماعية، وحق الإقامة مع الأسرة، والحق في الحماية من الاستغلال، والحق في المساعدة القانونية"[1].

وقد تطورت هذه الأصناف من حقوق الإنسان خلال فترة طويلة من حياة الشعوب والتفاعلات الدولية، يجملها الخبراء في ثلاثة أجيال؛ أولها: جيل يغلب عليه طابع الحقوق الفردية والسياسية، ويشمل المواثيق الأولى لحقوق الإنسان؛ كإعلان فرجينيا في 12 يونيو 1776، وإعلان استقلال الولايات المتحدة الأمريكية في 4 يونيو 1776، والإعلان الفرنسي لحقوق الإنسان والمواطن في غشت 1789، والتي تعززت بصدور المواثيق الدولية كالإعلان العالمي لحقوق الإنسان 1948.

وثانيها: جيل يغلب عليه طابع الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، كالعهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في 1966، واتفاقية حقوق المرأة في 1952، وإعلان حقوق الطفل في 1959، والإعلان العالمي بشأن استئصال الجوع وسوء التغذية في نونبر 1974.

وثالثها: متميز بالطابع التضامني الكوني لحماية الجنس البشري من مخاطر التطور العلمي، ويشمل هذا الجيل الإعلانات المتعلقة بالحق في بيئة سليمة، والحق في التنمية، والحق في حماية التراث المشترك للبشرية.

ثانيًا: الإشكاليات الفكرية لحقوق الإنسان:

يخصص المؤلف القسم الثاني من الكتاب لخمس قضايا فكرية إشكالية يثيرها انتشار حقوق الإنسان؛ أولاها: جدلية الكونية والخصوصية، فإذا كانت النصوص الأولى المتعلقة بحقوق الإنسان تميزت بطابعها المحلي والخصوصي، كالوثيقة الكبرى الإنجليزية (magna carta) (1215) وإعلان الحقوق (1688) وإعلان الاستقلال الأمريكي (1776) ودستور الولايات المتحدة (1787) فإنه ابتداء من الإعلان الفرنسي لحقوق الإنسان والمواطن، ستشكل الشمولية خاصية مرافقة لجلّ المواثيق التي جاء بعدها، ومنها المواثيق الدولية؛ كالإعلان العالمي لحقوق الإنسان، حيث الحقوق المنصوص عليها تهم جميع البشر بغض النظر عن "العرق أو اللون، أو الجنس، أو اللغة، أو الدين، أو الرأي السياسي، أو الأصل الوطني أو الاجتماعي، أو الثروة، أو المولد، وأي وضع آخر"[2]. وستتعزز الشمولية في مواثيق من الجيل الثالث من حقوق الإنسان التي تنص على الإنسانية برمتها، كما سيتعمق ذلك بفضل مصادقة جل دول العالم تقريبًا على المواثيق الدولية.

غير أن الإقرار القانوني وانتشار فكرة كونية حقوق الإنسان نظريًا، تواجهه صعوبات واقعية متعلقة بالمرجعية؛ فالكونية تفسر واقعيًّا بالثقافة الغربية وتفوقها على باقي الثقافات، والتي غالبًا ما يتم توظيفها كأداة للهيمنة وخدمة مصالح سياسية وإيديولوجية واقتصادية، وهو ما يطرح ردود أفعال من قبل ثقافات أخرى تنتمي إلى عوالم حضرية غير غربية تتشبث بالخصوصية، باعتبارها تتوفر على تقاليد وعادات اجتماعية وتاريخية، وقيم ثقافية تتعارض مع بعض جوانب شمولية حقوق الإنسان.

وتشكل المبررات الأخيرة سند موقف دول الجنوب خاصة التي توظف دعاوى الخصوصية للتملص من الالتزامات القانونية، والتغطية على قمع الحريات وانتهاكات حقوق الإنسان وغياب الديمقراطية، بالرغم من أن بعض التعارضات بين الخصوصية والشمولية تظل موضوعية.

والملاحظ أن النقد المتبادل بشأن المحلية والكونية ينصب أساسًا حول توظيف وتسخير حقوق الإنسان في هذا الاتجاه، أو ذاك، أكثر مما ينصب حول كونية حقوق الإنسان.

وثانيتها: الأصول الفلسفية لمفهوم حقوق الإنسان، فإلى جانب التجربة السياسية في الدول الغربية، شكلت الاجتهادات الفكرية والتنظيرات الفلسفية مصدرًا أساسيًّا لحقوق الإنسان، لاسيما تلك المرتبطة بالصعود التدريجي للفكري الأوربي ابتداءً من القرن الخامس عشر، والذي سيتوج بفلسفة الأنوار، فإذا كانت بعض مبادئ حقوق الإنسان، ودعاوى المساواة برزت في الحضارات القديمة، وفي الديانات السماوية، فإن مجالها ظل محصورًا في دائرة الأخلاق، ولم يتعداه إلى دائرة القانون؛ ذلك أن حقوق الإنسان هي وليدة العصر الحديث، ولم تبرز ملامحها الفكرية والقانونية إلا ابتداءً من القرن السابع عشر.

وتجد حقوق الإنسان مصدرها الفلسفي في ثلاثة روافد فكرية كبرى؛ وهي فكرة الحرية، حيث تم النظر إلى حقوق الإنسان في جوهرها كحريات يتم ضمانها أخلاقيًّا وتشريعيًّا، وتحويلها من مثال أخلاقي إلى واقع تشريعي، وتجد هذه الخلاصة الأساسية جذورها في النزعة الإنسانية التي مثلت الأرضية الفكرية لعصر النهضة، حيث التركيز على تمجيد الإنسان ومركزية الكائن البشري كفاعل أساسي في التاريخ والمعرفة، متمع بالعقل والقدرة على الفكر، وبحرية لا تقبل الإنكار أو المصادرة، وفكرة العقد الاجتماعي التي تبلورت على يد روادها الأربعة (بوفندورف، وهوبز، ولوك، وروسو) والتي شكلت فكرة أساسية للتعبير عن نقد نظرية الحق الإلهي في الحكم المدعومة من طرف الكنيسة، والدعوة إلى تجاوزها والانتقال بالإنسان من الاستسلام للغيب إلى التعاقد، وإرادة الأفراد في قيام المجتمع السياسي.. وفكرة الحق الطبيعي التي طورها رواد مدرسة الحق الطبيعي، ومفادها وجود حقوق طبيعية للناس سابقة على وجود المجتمع والسلطة لا يلغيها أي نظام.

وثالثة هذه الأفكار التي يركز عليها المؤلف في القسم الثاني: مرجعية حقوق الإنسان، ويقتصر في هذا الإطار على المرجعية الإسلامية والمغربية، حيث يؤكد المؤلف أن المرجعية الإسلامية جاءت كنوع من الاجتهاد والمنافسة لإبراز الأصول الإسلامية لحقوق الإنسان، حيث تكاثرت المواثيق والنصوص والإعلانات ذات المرجعية الإسلامية منذ عام 1979، ولتؤكد أن حقوق الإنسان الواردة في المواثيق العالمية لها أصول في الثقافة الإسلامية.

كما يتناول الجهود المغربية القانونية والمؤسساتية والاجتهادات الفكرية والوطنية لحقوق الإنسان في المغرب، وبداية الوعي بها، والتي تعود أساسًا إلى بداية الاهتمام بالمسألة الدستورية منذ بداية القرن العشرين.

ورابعتها: ارتباط حقوق الإنسان بالديمقراطية، باعتبارهما نواتان أساسيتان للحداثة السياسية تمكنان من الحد من السلطة، وتأسيس تعاقد بين المجتمع والدولة قائم على التمثيلية، كما تمكنان من تحقيق دولة الحق والقانون وتجسيدها.

وخامستها: الحق في الحياة، حيث يعود الكاتب إلى هذا العنصر بعد أن كان قد طرحه وتناوله في الفصل الأول لما يثيره من نقاشات مستمرة، وآراء متضاربة بين معتقدات الضمير والأخلاق ونصوص المواثيق والتشريعات، تنصب أساسًا حول بعض القضايا الخلافية المرتبطة بهذا الحق، ألا وهي الإجهاض، والإعدام، والقتل الرحيم، والتعقيم.

ثالثًا: بين الحقوق المثالية والحقوق الواقعية: حدود حقوق الإنسان

بالرغم من تقدم حقوق الإنسان وانتشارها في دول المعمور وتزايد الاقتناع بها، إلّا أن الكثير من الثغرات والحدود ما زالت ترافقها على مستوى واقع الشعوب، يحصرها المؤلف في ما يلي:

- تزايد إيديولوجية حقوقية منافسة؛ كإيديولوجية حقوق الحيوانات، وحقوق النباتات، فالاهتمام بحقوق الحيوان يعود إلى وقت متزامن مع الاهتمام بحقوق الإنسان، حيث صدر أول إعلان لحقوق للحيوان عام 1850 بفرنسا، يحرم إساءة المعاملة للحيوانات الأليفة، وتوّج هذا الاهتمام بالإعلان العالمي لحقوق الحيوان الصادر عام 1978، الذي ساهم في تزايد الوعي الحيواني في الدول الصناعية لاسيما مع وجود ترابط بين حقوق الحيوان والتدهور البيئي.

إن تزايد الوعي الحيواني يسائل أحد أسس حقوق الإنسان المتمثل في مركزية الإنسان الذي قامت عليه مختلف المواثيق الدولية والحداثة الغربية.

- دولة الحق والقانون ونواقصها المتمثلة أساسًا في تغييب الحقوق الاجتماعية من دائرتها؛ كحق الشغال والتمدرس، والسكن.

- "حق المطاردة" الذي تدافع عنه الشركات الإعلامية الكبرى، وتسخر له عدة لوجستيكية ومالية ضخمة من أجل تسجيل الأشخاص وضبطهم في أوضاع مثيرة للرأي العام، بشكل يهدد الحق في الحميمية، مما أدى إلى تزايد طروحات إقرار وحماية الحق في الحميمية، لما تؤدي إليه المطاردة من انتهاك للحياة الخاصة، بشكل يساهم في البحث عن صيغة قانونية مرنة لتجسيد الحق في الخصوصية، وضمان الحق في المعرفة الذي يعتمد عليه للدفاع عن حق المطاردة.

- حق الاختلاف؛ أي حق الإنسان في ممارسة اختلافه دينيًّا ولغويًّا وثقافيًّا، وممارسة مظاهر تميزه عن الآخرين، والمؤسس لمجمل الحقوق الثقافية؛ كالحق في التعليم والتربية، والحق في الهوية الثقافية، والحق في الدين، والحق في الطقوس الثقافية الخاصة.

وإذا كانت العديد من المواثيق الدولية تقر حق الاختلاف، فإنّ هذا الإقرار يحمل في طياته خطر تفتيت لانهائي للهويات.

- التعارض بين المنظومة الغربية لحقوق الإنسان والمنظومة الإسلامية، باعتبار الأولى وضعية بشرية ونسبية، والثانية دينية تدّعي الأبدية والسمو المطلق، مما يخلق توترًا فكريًّا، وحدودًا أمام انتشار بعض الحقوق في الدول الإسلامية.

- نواقص النظام الديمقراطي، المؤسس على إعطاء حقوق صورية بشكل متساوي لأناس غير متساوين في وضعيتهم الاجتماعية وحقوقهم على مستوى الواقع.

- صعوبة ضمان حقوق الإنسان فيظل غياب التنمية الشاملة؛ الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.

- التوظيف السياسي والاقتصادي لحقوق الإنسان، حيث وظفت حقوق الإنسان من طرف الدول الغربية للضغط على الدول الاشتراكية لإحراجها بغياب هذه الحقوق، ووظفت بعد انهيار المعسكر الشرقي للضغط على الدول المتخلفة لدفعها لقبول النظام العالمي الجديد، كما استثمرت حقوق الإنسان كآلية في الإستراتيجية الاقتصادية ودعم اقتصاد السوق، وإدخال مزيد من المستهلكين في النمط الغربي المعولم.

رابعًا: ملاحظات:

يثير المؤلف جملة من الملاحظات يمكن إجمالها في التالي:

- عدم التوازن في التحليل بين بعض العناصر؛ فمقابل التعمق والإحاطة بمختلف أصناف حقوق الإنسان التي أورد لها المؤلف حوالي 70 صفحة، يشير فقط في صفحتين ونصف إلى أجيال حقوق الإنسان، التي تمثل عنصرًا ثانيًا في الفصل الأول.

- عدم الاستفاضة في بعض الأفكار، مثلًا، عندما يذكر أن بعض الدول تمنع تأسيس تنظيمات سياسية، لا يشير المؤلف إلى نماذج مقارنة، كألمانيا التي تمنع تأسيس أحزاب سياسية تتبنى الأيديولوجية أو الأفكار النازية[3].

- عدم العودة إلى مواثيق دولية أساسية ومهمة في المنظومة القانونية لحقوق الإنسان، واقتصاد الجهد والتحليل في عدد من العناصر.

- بالرغم من أن التصنيفات تبقى نسبية، فإن المؤلف في تحديده لأصناف حقوق الإنسان، وقع في خلط واضح في بعض الأصناف، على سبيل المثال بين الحقوق الاقتصادية وحدد منها الحق في بيئة نظيفة، ثم صنف الحقوق البيئية[4]، وقد بلغ هذا الأمر حدّ تكرار نفس المعلومات والإشارة إلى نفس المعاهدات، وتكرار مناقشة فكرة دولة الحق والقانون في نفس الفصل[5].

ولعل المراجعة الدقيقة كان من شأنها تجنب مثل هذه الهفوات التي لا تغيب عن المؤلف الذي راكم تجربة طويلة في ميدان التدريس والتأليف.


[1] من الإعلان العالمي لحقوق المعوقين الصادر عن الأمم المتحدة في 9 دجنبر 1975

[2] من المادة 2 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان عام 1948

[3] سبيلا محمد، الأسس الفكرية لثقافة حقوق الإنسان، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء/ بيروت، الطبعة الأولى، 2010، ص 13

[4] قارن بين الصفحة 70، والصفحة 31 من الكتاب.

[5] يمكن ملاحظة التكرار المقصود في الفصل الثالث من الكتاب، ص ص 181-187، وص ص 198-200