حوار مع الكاتب المغربي أنور مجيد


فئة :  حوارات

حوار مع الكاتب المغربي أنور مجيد

حوار مع الكاتب المغربي أنور مجيد[1]:

"النظام المجتمعي هو الكفيل بالقضاء على التشدد"

حاوره: عبد العزيز جدير

يرى الكاتب والروائي المغربي - الأمريكي أنور مجيد، أن النظام المجتمعي (الرأسمالي) هو الكفيل بالقضاء على التشدد، وليس نظام بلد قائم على حكم فردي، يقوم شخص واحد فيه بالإمساك بكل شيء، معتبرا أن ازدهار الاقتصاد، وانتشار الرخاء، كفيلان بالقضاء على التشدد.

ويشير مجيد في حواره مع مجلة "ذوات"، أن إسبانيا مختبر حقيقي للقاء بين المسلمين والغرب الأوروبي، وأنه لا يمكن فهم الحضارة الأوروبية، بل الهوية الأوروبية، من دون أن نعرف أن أوروبا نشأت كهوية مضادة، وكرد فعل نقيض للإسلام. وهو ما يفسر برأيه، أن غزوات المسلمين ساهمت في خلق الوعي الأوروبي، والهوية الأوروبية، وكل شعب يتعرض للغزو، وتسلب حريته، وتجرح كرامته يندفع في سبيل بناء هوية معاكسة ونقيضة لهوية الغازي، وهذه عملية كونية تتكرر في الزمان، وتتخذ الشكل ذاته مع اختلافات ضئيلة، لأن الحرية هي الأصل، والكرامة هي جوهر الوجود البشري.

وأنور مجيد كاتب وروائي مغربي أمريكي، أستاذ السينما، والحضارات، والأدب بجامعة "نيو إنغلند"، ونائب رئيس الجامعة ذاتها بولاية ماين بأمريكا، وعميد فرعها بمدينة طنجة المغربية، والمسؤول عن "التواصل" مع فروع الجامعة بأوروبا، وآسيا، وأستراليا. مؤسس ورئيس "منتدى طنجة العالمي"، الذي يستقبل محاضرين من العالم، ومدير مجلة تحمل عنوان "طنجيس" (منتدى الكتاب المستقلين المنخرطين في التحليل النقدي للفكر العالمي وإعادة التفكير في الأوصاف التقليدية عن الإسلام).

كتب سيناريو "السفر الطويل"، وصدرت له رواية "السي يوسف" طبعت مرتين (1992 و2005)، ومؤلفات أخرى في الفكر والتاريخ والحضارات، هي: "إماطة اللثام عن التقاليد" (2000)، و"حرية وأرثودوكسية" (2004)، و"دعوة إلى الزندقة" (2007)، و"كلنا موريسكيون" أي المسلمين؛ الذين طردت إسبانيا بعضهم، وأبادت معظمهم (2009)، و"الإسلام وأمريكا" (2012).

عبد العزيز جدير: في روايتك "السي يوسف"، وردت هذه الجملة بالصفحة (75): "لو كنت واقعيا... ولكنني لست واقعيا"، هي جملة تخصك أنت ولا علاقة لها بالشخصية الرئيسة، أليس كذلك؟

أنور مجيد: ضبطتني، بالفعل إنها تخصني. ألا يكتب الإنسان ذاته أيضا؟ وتكمن علاقتي بالجملة في أنني كما قلت لك آنفا: في الأمر شبه ببعض مسألة الوحي، حين تكون منغمسا في لحظة الكتابة تحس بفرح وبمتعة، بل يداهمك إحساس لا تدرك كنهه، ولا مصدره، ولا طبيعته، وهو الذي يملي عليك ما تكتب. وما زارني ذلك الشعور في الحياة اليومية أبدا، بل خلال لحظة الكتابة فقط، حيث أكون في نوع من الترابط والتواصل مع الشخصية التي أكتب عنها، أعيش ظروفها، أتنفس هواءها، تهزني مشاعرها. إنه التحام بالشخصية، والتقاط لصوتها.

عبد العزيز جدير: لم لا تلجأ إلى الوصف في كتاباتك التخييلية؟

أنور مجيد: أتحاشى دقّة الوصف، والوصف القائم على الجمل التقليدية، المتعارف عليها، لأنها ستفرض علي بنية ليست هي التي تعتمل بداخلي، ومشاعر ليست هي التي تربطني بالشخصية التي تربطني بها علاقة وشيجة. الوصف الدقيق أو الجمل المتداولة، والمستهلكة، تقطع حبل السرة بيني وبين الشخصية التي أنا متصل بها عبر الأمشاج، وتجعل النص يفقد كثيرا من روحه الواقعية. بعد رواية "السي يوسف" كتبت رواية أخرى، وهي مكتملة وترقد في أدراج مكتبي، ولم أنشرها لحد الآن، وعنوانها ("الطريق إلى الملتقى"، Road To Moltaka). وتروي قصة طفل صغير، على لسان رجل شيخ، ومسار حياته: فهو قد درس ببلده، وبعد أن حصل على شهادة البكالوريا انتقل للدراسة في الخارج. ويلاحظ أن الصوت في هذه الرواية يختلف عن الصوت الذي يروي قصة "السي يوسف". ولما قدمت مسودة الرواية إلى الناشرة البريطانية التي نشرت روايتي الأولى لم يعجبها النص. قالت مبررة: لا يحتوي هذا النص على كثير من الحوارات، ولا يشبه رواية "السي يوسف"! فقلت لها: أتعرفين ما السبب؟ لأن السارد ليس هو سارد نص "السي يوسف". السارد هنا رجل عجنته الحياة، وتجاربها، وعلمته الهدوء وبعض الحكمة. ويعكس نص الرواية عقلية الشخصية، ونفسيتها.. وقد تتشابه شخصيتا النصين، لأن في جوانب منها حماقة ناس طنجة، وخفة عقولهم.. ويحكي كل من الساردين هذه الخصائص بطريقته الخاصة.

عبد العزيز جدير: حين تكتب التخييل، هل تضع تصميما للرواية قبل الشروع في كتابتها؟

أنور مجيد: حين أباشر كتابة التخييل، لا أضع أبدا خطاطة أو مخططا، بل أكتب وأفكر في الآتي من الأحداث والشخصيات والكتابة تتقدم. يظل التصميم يتشكل والكتابة تتقدم. أفكر في البداية في هوية الشخصية وعمرها، وزمنها الخاص، وطبيعة المرحلة التاريخية التي ستتحرك فيها. والباقي يأتي تباعا، يفرضه منطق تطور الأحداث. وأترك للشخصية حرية الحركة في فعل ما تريد، لأنني لا أدافع عن قضية أو أجعل الشخصية تناصر مذهبا أو إيديولوجيا معينة، لأن الأهم بالنسبة إلى الكتابة هو أثر مشاعر الشخصية، وكيف تتفاعل، وتدخل في صراع من مشاعر لغير أو تآخ وتقارب. أترك الأحداث تتصرف كما في الحياة، ألا نخطط كما نريد، ويجرفنا تيار الحياة كما يحلو له، ويلقي بنا في غيابات لم تطرأ على بال؟

عبد العزيز جدير: يبدو أنه على المفكر العربي أن يفكر في بعدين حضاريين يرتبطان بفكره ويدعوانه إلى التأمل وربما أخذ الموقف الفكري منهما، ما رأيك؟

أنور مجيد: البعدان الحضاريان هما العالم العربي الإسلامي والغرب الأوروبي (ومعه أمريكا)، ويتجلى هذان الموقفان فيما كتبت من كتب؛ ففي كتابيْ الأولين: "إماطة اللثام عن التقاليد، الإسلام ما بعد الكولونيالي في عالم متعدد الأقطاب" (2000)، و"حرية وأرثوذكسية، إسلام واختلاف فيما بعد العهد الأندلسي" (2004)، اتخذت موقفا من الغرب. أما في كتابي "دعوة إلى الزندقة" (2007)، فقد انتقلت إلى التفكير في العالم العربي والإسلامي، وقد مثل هذا الكتاب تغييرا كبيرا في تطوري الفكري كما لاحظ النقاد ذلك. في كتابي "إماطة اللثام" و"حرية وأرثوذكسية" كنت أقدم نظرة نقدية عن النظام الغربي، في بعديه الأوروبي والأمريكي، دفاعا عن العرب والمسلمين، وعنيت برصد تأثير الغرب في العالم العربي والإسلامي. فمثلا في كتاب "حرية وأرثودوكسية"، بينت كيف أن الاستعمار الغربي هو الذي يدفع الشعوب المستعمَرة نحو التزمت، والتطرف، والتشدد، ويدفع بها إلى اللجوء إلى تاريخها، وماضيها، وكل ما هو أصيل في حضارتها ويرتبط بهويتها للدفاع عن وجودها، ووضع اليد عما يجند جميع فئات الشعب ضد المستعمر. إذا كان الشعب المستعمَر مسلما فهو يعود إلى البحث عن أبعاد في الدين لإبراز الاختلاف عن المستعمر، ورفض هيمنته، والخضوع له، وليبرز له أن له حضارته الخاصة، التي لا يعرفها المستعمر، ولا يدرك كنهها. ويقول له هذه حضارتنا، ولا يمكنك تملكها، ولا إلغاؤها، وسندافع عليها، ونتشبث بها لنحافظ على وجدونا، وهويتنا، وخصوصيتنا.

وبذلك، فقد لعب الغرب الاستعماري دورا كبيرا في نشأة التطرف، فكل حركة استعمارية أو حركة هيمنة تقود بالضرورة إلى رد فعل، ويتجلى ذلك في الاحتماء بالهوية، والتركيز على الاختلاف.. وقد حدث هذا الأمر لكل الشعوب التي استعمرت بلادها، وفي كل العصور، ويحدث بالمقابل رد الفعل هذا على مستوى الأفراد أيضا.

وفي كتابي "حرية وأرثوذوكسية"، أوضحت للغرب نفسه، أن الشعوب العربية الإسلامية ليست وحدها التي تعاني من الاستعمار الغربي، بل قارنت بين هيمنة الغرب على الدول العربية الإسلامية، وهيمنة أمريكا على الهنود الحمر مع مقارنة ردود فعل الشعبين. فهناك تشابه وتقارب بين الشعبين المحتلين، وإن كان الاختلاف يكمن في كثرة عدد العرب والمسلمين وقلة عدد الهنود الحمر، كما أن كثرة عدد الدول الاستعمارية، والتنافس الاستعماري وتنوعه، مكن هذه الشعوب من أن يختلف مصيرها عن مصير الهنود الحمر، ولذلك بدت "الحالة الاستعمارية" شبه "عادية" بالنسبة إلى الشعوب العربية الإسلامية، إذ تمكنت هذه الشعوب من المحافظة على لغاتها، وعلى معظم عاداتها وتقاليدها، بينما "ثكلت الهنود الحمر أمهاتهم"، وحوصروا في مناطق محددة، وظلوا يصطادون كالطرائد، ويطاردون ليحصل المطاردون على مكافآت بعدد القتلى، ثم وضعوا داخل محميات كرمز لطبيعة حضارة مطاردة "الفرائس البشرية لتدجينها، وربما الاقتيات منها.."، وفقد الهنود بالتالي البلد، وربما الوطن بقوة النار، وقانون الغاب، ولم يبق أمامهم والله إلا سبيلين لا ثالث لهما: الاندثار، أو التحول إلى منتوج فلكلوري، فيما استطاعت الشعوب العربية الإسلامية أن تقاوم، وتصمد، وتضمن البقاء والاستمرار لأسباب منها أنها كانت لها دول، ولغة، وبعض من تكاثروا وتناسلوا.

عبد العزيز جدير: أية معادلة هذه يصعب تحقيقها: الخبز الكريم والحرية؟

أنور مجيد: هذه المعادلة تحققها الشعوب، حين تمتلك الوعي. تنمو الشعوب وتتطور في مناخ الحرية، وهو ما حرمت منه الدول الغربية الأوروبية الشعوب العربية الإسلامية. وبحسب دروس التاريخ المعاصر، ومنذ الثورات الأوروبية (الصناعية، والفكرية..)، لا توجد مادة تذيب التعصب كالازدهار الاقتصادي، وهو الدرس المستفاد أيضا من الثورة الأمريكية، فقد كانت بداياتها (القرن السابع، وأوائل القرن الثامن عشر) متشددة، كانت تضج بالدعاة من النوع الأصولي، "البيوريتانس". لا حديث لديهم إلا عن جهنم، والعذاب، ولما ازدهرت أمريكا مع أواخر القرن الثامن عشر، وانتشرت في أحشائها فلسفة التنوير، أصاب انتشار الفكر المتشدد فتور وتراجع، وحل محله الفكر المتفتح. حين يزدهر الاقتصاد، وينثر الرخاء أجنحته على المجتمع، يصاب التشدد في مقتل. وهناك استثناءات قليلة جدا، بل يمكن أن أضيف، من دون شطط أو مع بعض الشطط، أن النظام الرأسمالي هو الكفيل بالقضاء على التشدد بكل تأكيد، أقصد النظام الرأسمالي الذي هو نظام مجتمعي، وليس نظام بلد قائم على حكم فردي، يقوم شخص واحد فيه بالإمساك بالتجارة.

عبد العزيز جدير: وما الذي دفعك إلى إعادة النظر فيما قدمته في كتابيك السابقين، والسعي إلى تطوير الفكر النقدي لديك؟

أنور مجيد: صراحة، بعد إصداري للكتابين السابقين، بدأت أشعر في داخلي ببعض التناقض في فكري ومواقفي، وقلت في نفسي إذا كان الموقف النقدي هو المبدأ الأصيل للتطور الفكري والحضاري، نقد كل الأنظمة التي تقمع الناس، وتنتقص من كرامتهم، وتكاد تسلب حريتهم الفكرية، حتى يقتربوا من وضع الاستيلاب والعبودية. إذا كان هذا هو المبدأ الأساس، وقد ظللت أستهدف الغرب وأطلق عليه سهام النقد بل رصاصه واللكمات، فماذا بعد؟ لا شيء تغير؟ واكتشفت، فيما بعد، وهذه هي حركية الفكر، أن الحل الذي كتبت عنه في الكتابين السابقين ("إماطة اللثام"، و"حرية وأرثوذكسية") انتهى أمره. كنت وصلت إلى مرحلة "(We have to push the enveloppe)"؛ أي يجب أن نبعث بالظرف وننشر مضمونه كما تقول العبارة الإنجليزية. فما الحل؟ علي أن أوسع حدود البحث ومجاله. فلأنظر إلى ذاتي ومحيطي وأبحث عن مواطن انبثاق داء القمع والاستلاب والعبودية التي قد تكون تؤثث جوانب حضارتي؛ الحضارة العربية الإسلامية. فإذا ظللت تبحث في الغرب، وتنتقد آثامه والجراح التي أثخن بها جسد العالم العربي الإسلامي، وأغفلت البعد الآخر من المعادلة؛ أي الطرف الآخر، فلا طائل من وراء ذلك، ولا حل في الأفق. وقد تدخل لا محالة في ضرب من حالة هوس أو ذهان: تهاجم طرفا لا علاقة له بالمشكل الذي تعاني منه. كأن العدو في الداخل، وأنت تحطم الجدار. انصرف الغرب، بشكل من الأشكال، فقد رحلت جيوشه، وانتهى تنكيله المباشر بالمواطنين، ولم يعد هو الحاكم الفعلي؛ بمعنى أنه أصبح لكل بلد علمه الوطني، ونشيده الوطني، ولغته الوطنية، وأمنه الذي يراقب ترابه الوطني المحدد، ونقطه الحدودية، ويعقد الاتفاقيات ويبرم العهود، فما معنى الاستقلال إن لم تكن هذه العناصر كلها؟

العطب في الداخل، يقيم معنا، ولو بحثنا في تبريرات من قبيل الاستعمار الجديد: فعليك بإدارة شؤونك، والابتعاد عما يشل إرادة بلدك، ويقلص حريته.. إذن، يبدو أن المشكل الأساسي يكمن في المفاهيم، وطريقة فهمنا لها، ووجوب تمحيصها. الإسلام، ومفهوم العقيدة، وعلاقة الشخص بالدين، وسلطة الدين على المجتمع، والفكر الديني الذي يهيمن على العقول، ولم يسمح لأي فكر آخر أن يحتل رقعة جغرافية أو ذهنية داخل المجتمع، أو طريقة توظيف الدين.. ومن خلال هذا كله، تبين لي، أن هذا الجانب هو الشوط الثاني من العمل الذي علي إنجازه لأحيط بالموضوع من زاويتيه: العلاقات بين الغرب والإسلام، وبين الغرب والحضارة العربية الإسلامية، وقد كان ذلك هو مضمون كتابي الثالث "دعوة إلى الزندقة". وكان الدافع إلى التفكير في هذا الشوط الثاني، أيضا، هو هذا التناقض الذي تلخصه العبارة الشهيرة: "نحن والآخر"، وقد تم تحويرها إلى "نحن ضد الآخر".

عبد العزيز جدير: من خلال قراءاتي لك، يتبين أن هناك شوطا آخر، أليس كذلك؟

أنور مجيد: بالفعل، هناك شوط ثالث، إضافي؟ ويكمن في فكرة لمشروع كتاب رابع وأخير في الموضوع نفسه، وهو موضوع جديد في العلاقة بين الغرب والإسلام، وأنهما ينتميان معا إلى التقليد ذاته، والإرث الفكري عينه. أريد أن أبين أن الإسلام جزء لا يتجزأ من الفكر الإنساني، من الحضارة الغربية، فكل من يكتب عن الحضارة الغربية يفصل بينها وبين الإسلام، وهو أمر غير حقيقي ولا منطقي. إن هذا الكتاب سيقوم بدحض هذه الفكرة، وإبراز أن الإسلام شاء من شاء وأبى من أبى، جزء من الحضارة الغربية. سافرت مع الفكرة وتشكلها منذ البدايات الأولى، وقمت بالتحليل التاريخي وليس التحليل العقدي، وتتبعت الأمر منذ زمن الحضارة اليونانية، والتقطت كل العناصر التي ستلعب دورا في نشأة الإسلام، وأن هذا الدين نشأ أيضا من صلب الحضارة اليونانية، وليس الحضارة الغربية وحدها، وأنه لا فروق كبيرة بين الحضارتين، كما يزعم البعض أو الأغلبية. الموضوع فاكهة بحث سنوات عدة، وتأمل وتجميع للمادة والأفكار، ويحتاج فقط اقتناص لحظة زمنية كافية للتحرير. وما يشغلني الآن، في الحقيقة، هو الشكل الذي يتخذه الكتاب، هل سيكون كتابا يقوم على التحليل الأكاديمي، أم سأحرره بشكل سلس ليكون في متناول غالبية القراء.. مادة الكتاب تستريح على أحد أدراج مكتبتي. وسيمثل الكتاب لحظة ختام لجزء من مشروع بحثي عن الغرب والإسلام، الغرض منه تحريك بعض السواكن، وقلب بعض المفاهيم.

عبد العزيز جدير: تثير فضول القارئ تلك العبارة أو العنوان الفرعي لكتابك "حرية وأرثوذكسية": "ما بعد العهد الأندلسي"، ما الغاية من ورائها؟

أنور مجيد: الفترة التي قضاها المسلمون بالأندلس لا تمثل حلا، إنها فترة تحكمها ظروف وقوانين المرحلة الزمنية التي امتدت عليها. وبالنسبة إلي، فإسبانيا هي مختبر لقاء الحضارات منذ العصور الوسطى، وأقصد الحضارات الثلاث النابعة من الديانات السماوية. وإسبانيا مختبر إنساني مهم، لأنها عرفت الحضارة الرومانية، والأمريكية، والمسيحية.

تتمتع المسيحية الإسبانية بخصوصية لافتة للنظر، وقد ظل باباوات أوروبا، لمدة طويلة، يؤكدون أن الإسبان ليسوا مسيحيين، لأن المسيحية الإسبانية كانت مسيحية قروية، محلية، بسيطة، ولم تتحرر من الطابع الوثني أبدا. ولم توجد عند الإسبان مسيحية أرثوذكسية كما كان يدعو لها البابا.. إسبانيا مختبر حقيقي للقاء بين المسلمين والغرب الأوروبي. ولا يمكن فهم الحضارة الأوروبية، بل الهوية الأوروبية، مثلما كتبت عنها في كتاب "كلنا موريسكيون"، من دون أن تعرف أن أوروبا تكونت أو نشأت كهوية مضادة، هوية رد فعل نقيض للإسلام؛ ذلك أنه خلال الفتوحات الإسلامية لما حط المسلمون الرحال بفرنسا زمن "عبد الرحمان الغافقي" و"شارل مارتل" بمدينة "بْواتيي"، وخاضوا معركة "بلاط الشهداء"، يومها ستظهر للوجود كلمة أوروبا، وكلمة شعب أوربي. فقد برزت يومها ضرورة توحد أوروبا ضد غزوات المسلمين أو فتوحاتهم، وهو ما يبين أن غزوات المسلمين ساهمت في خلق الوعي الأوروبي، والهوية الأوروبية. كل شعب يتعرض للغزو، وتسلب حريته، وتجرح كرامته يندفع في سبيل بناء هوية معاكسة، نقيض هوية الغازي.. وهذا هو المثال الثاني، وقد تحدثت من قبل عن مثال العرب والمسلمين حين تعرضهم للهجوم الإمبريالي الغربي، وهذه عملية كونية تتكرر في الزمان، وتتخذ الشكل ذاته مع اختلافات ضئيلة، لأن الحرية هي الأصل، والكرامة هي جوهر الوجود البشري.

ومن بين أسباب تأليف هذا الكتاب أيضا، أني اقترحت أن يكون عنوان الكتاب "ما بعد الأندلس"، وليس ما بعد الاستعمار، كما قال "إدوارد سعيد" (لأن الاتصال الحقيقي بين الغرب والشرق بدأ مع سقوط الأندلس وليس مع الثورة الفرنسية). لكن الناشر، وهو ناشر مهم جدّا أي "جامعة ستانفورد"، قال إن هذه العبارة أو المصطلح لا وجود له في اللغة الإنجليزية. قلت له صحيح، إن المفهوم غير موجود، ولكننا سنقترحه، سنشتقه من المرحلة التاريخية ودلالاتها. ورغم ذلك لم يجرؤ على اقتراح المصطلح، ولو فعل لكان جرى الآن على أكثر من لسان. وانتهى الحوار بيننا بأن اكتفى الناشر بوضع المصطلح ضمن العنوان الفرعي، وقد علمت مؤخرا أن كاتبا تونسيا استعمل المصطلح في أمريكا، ثم بدأ بعض الكتاب يستعملونه.. ولكني أول من استعمله، وغلاف الكتاب شاهد على ذلك.

عبد العزيز جدير: درست السينما بمدرسة الفنون البصرية بنيويورك (1983)، وسحرتك أفلام الغرب الأمريكي، هل هي التي قادت خطواتك نحو الولايات المتحدة؟

أنور مجيد: لولا سحر السينما والرغبة في امتلاك أدواتها، ما ركبت متن السحاب. درست كل التخصصات من تصوير، وإخراج.. وأنجزت أفلاما سبق للجمهور مشاهدتها. تلك مرحلة من سفر التكوين.

عبد العزيز جدير: أما يزال ذلك الصنف من الأفلام يمسك بلبك؟

أنور مجيد: بالفعل، وأحب الحديث عن أفلام المافيا لأنها مهمة، ولها ارتباط قوي بالمجتمع الأمريكي. لأفلام المافيا سحر خاص علي، وأفلام رجال العصابات. تعود أصول المافيا إلى إيطاليين هاجروا إلى الولايات المتحدة، واستقروا بها كمواطنين، ثم أنشأوا خلايا مافيا للدفاع عن أعمالهم وتجارتهم. لما انتقلت للتدريس بجامعة "نيو إنغلند"، سنة (1991)، كان زميلي وصديقي "جاك داون" يقول لي إن هذه الأفلام تمثل قمة العنف، وأنت مفتتن بها، معناه أنك مفتتن بالعنف. قلت له إن كان هؤلاء يمثلون قمة العنف، ويرمزون إليه، فما تفسيرك لإقبال الناس على هذا الصنف من الأفلام، وما سبب الاعجاب؟ هناك شيء آخر غير العنف، هناك قيم تمثل محور هذه الأفلام. ومن بين هذه القيم الإخلاص، وقيمة العائلة ومرتبتها شبه المقدسة، ووجوب الدفاع عن العائلة، والقبيلة مهما كلف الثمن. وفي ذلك نوع من الفروسية، وقد سعيت ذات مرة، وأنا أدرس مادة السينما، أن أضع اليد على سر هذا الإقبال. عرضت فيلم "العراب" على الطلبة، ومعظمهم طالبات، ثم طرحت عليهم السؤال: لو خيرتم أن يكون "العراب" والدكم، من منكم يحب أن يكون والده؟ فوجئت أن كل الطلبة رفعوا أصابعهم. وأكدوا أنهم يفضلون أبوة "العراب".

في أمريكا يوجد فراغ. وأحب أن أمثل أمريكا دائما بشركة. لا يعيش الناس في مجتمع، بل في حضن شركة. من البيت إلى العمل، ومن العمل إلى البيت.. كل شيء منظم، مقنن.. لا وجود للتلقائية التي تلفت انتباهك في الدول العريقة. ويختار الناس بين سبيلين: الخضوع إلى سلطة القانون، لأنه لجم السلوك وقمع من تجاوز حدوده، أو الاندفاع نحو التطرف. مجتمع لا يشبه مجتمعاتنا العريقة، وذات الحضارة المتجذرة في التاريخ.

قبل أيام، حاضر عالم الاجتماع، فرانشيسكو دوينا، ضمن المركز الذي أشرف عليه في موضوع علاقة الفقراء الأمريكيين، المعدمين تماما بالوطن؛ هؤلاء الذين يعيشون في الشوارع. ولاحظ أنهم يحبون وطنهم. حين تسأل الواحد منهم يجيبك قائلا: أمريكا بلد جميل.. لا يشتكون، ولا ينسبون سبب وضعهم إلى بلدهم، أو ينتقدون البلد، لا يهجرون بلدهم، ولو أنهم يعيشون أسفل السافلين. وقد طرح فرانشيسكو هذا السؤال: لماذا لا يشتكي هؤلاء ولا يهاجرون؟ وهذا محور كتاب الرجل. وقال حين تنظر إلى بيوت الأمريكيين تجد العلم الوطني يرفرف فوقه، وحين تتنافس الفرق الرياضية فيما بينها تحرص على أداء النشيد الوطني أولا. ما سبب وضع المواطن الأمريكي علم بلده على واجهة بيته مثلا، وهو يعيش بين أحضانه، وداخل القارة الأمريكية؟

أمريكا عالم جديد، وليست مجتمعا جديدا. حين وطأت قدماي أرض البلد لأول مرة، انتابني ذلك الإحساس. وبالفعل، فكل شيء جديد، كل شيء كأنه خرج للتو من مصنع ما، وكما قالت لي سيدة من تطوان تسكن طنجة، يوم سمعت أني ذاهب إلى أمريكا للمرة الأولى، وبعض الحزن يطل برأسه عبر النظرة والصوت: "لم أنت ذاهب إلى ذلك البلد، ما الذي تريد أن تجلبه منه؟ ذلك بلد "هاجوج" و"ماجوج"، بلد من لا أصول لهم، بلد اللقطاء"؛ فهل هذا هو معنى العالم الجديد؟

وأول ما يلفت نظرك في أمريكا أن كل شيء منقول من أماكن مختلفة من العالم، تقليد لما كان عند شعوب أخرى مختلفة، كل واحد نقل معه عالمه وعناصر حميميته، حين تنظر إلى الهندسة تتأكد من أنها صور مزيفة، نوع من نقل أشياء العالم القديم (من أوروبا وبلدان أخرى) وزرعها في هذا العالم الجديد. وهذه المنقولات: ما جاء به الأوروبيون وغيرهم، وضعت فوق كل مكونات الحضارة الأصلية، لأبناء البلد الأصليين، لطمس المعالم، وخلقت نوعا من خليط.. كانت هناك إبادة، ثم مرحلة جلب العبيد واستغلال قوة عملهم.. تراجيديا لا مثيل لها جرت وقائعها على أرض هذه القارة. لم تتخلص أمريكا من ذلك العنف القديم الذي طبع ولادتها، وحكم توحيد ولاياتها. هو العنف الذي أسس هذه الحضارة الجديدة، في الولايات المتحدة، والمكسيك، بل والبرازيل نفسها، ولم تستطع هذه الدول منه فكاكا حتى الآن، ويبدو لي أن هذا العنف لا شفاء منه، لأنه تعزز وأصبح جزءا من الواقع اليومي لهذه الدول ومواطنيها، كما تعززت الفوارق الاجتماعية. ولا توجد مشاعر تجمع بين مواطني هذه الشعوب، توحد بينهم كما يتوحد شعب؛ مثل الشعب المغربي أو الفرنسي.

هذا المجتمع الأمريكي تشكل بطريقة خاصة جدا، ومن أعراق مختلفة منها البريطاني، وتمتعت كلها بروح المغامرة القائم على الرحلة إلى قارة جديدة، وبناء البيت، ثم العائلة، ومجتمع جديد، والبحث عن الرزق في هذا البلد غير الأمين.. ويتطلب كل ذلك روحا يسكنها بعض التوحش لتقبل على الوضع، كما يتطلب هذا الأمر خصالا معينة؛ منها هيمنة العنف على المجتمع، ووجوب التوفر على السلاح، فقد يهاجمك أصحاب الأرض من الهنود الحمر. ولا بد أن يولد العنف، والخوف من التعرض للهجوم أو القتل بعض روح الشراسة والتوحش للإقدام على العيش في قارة لم تخضع كلها، ولم تحتل بكاملها بعد. ويؤدي بك كل ذلك إلى العيش تحت سطوة الخوف الدائم من جارك، ولذلك عليك أن تتوفر على مساحة كبيرة لتضمن لنفسك الأمن، ولا تتعرض لهجوم أحد.. وهذه كلها تمثل العوامل المؤسسة للحضارة الأمريكية، وللشخصية الأمريكية. ويمكن أن نقول إن هذه العوامل أصبحت جزءا من جينات هذه الشخصية.. وبالرغم من أن المواطن الأمريكي تحضر، وتمدن، ويسكن ناطحات السحاب التي تطاول السماء، والفيلات المترامية الأطراف، فلم يفقد تلك الخاصيات. كأن هذا المواطن ورث تلك "الوحشية" التي كانت تميز تلك القارة، التي دجنها ونقلها إلى عهد التمدن، ورثها وهو يقتل الهنود الحمر والحيوانات، وأصبحت ترى ذلك العنف في تجارة المواطن الأمريكي، في السلاح، و"قيادته" للعالم..

عبد العزيز جدير: جسدت السينما الأمريكية خصيصة العنف خير تجسيد عبر أفلام لا يحصيها العد: "سائق التاكسي" لسكورسيزي، "قاطع الطريق الأمريكي" لريدلي سكوت، وأفلام أخرى، فهل جسدت روح المجتمع الأمريكي؟

أنور مجيد: بالفعل، فقد جسدت الأفلام الأمريكية العنف والوحدة أيضا، ولكنني أعتقد أن الأفلام التي التقطت روح المجتمع الأمريكي، إلى جانب أفلام المافيا وكتاب "طوكفيل"، هي أفلام "سيرجيو ليوني"، وانضافت إلى أفلامه موسيقى "إنيو موريكوني"، ثم جماعة "كلينيت إيستوود"، و"إيلي ولاك"، و"لي فان كليف"، وقد خصصت فصلا في كتابي "إسلام في أمريكا" وعالجت فيه فيلم "الطيب، والشرس، والقبيح" وظاهرة العنف، وكيفية استقبال الفيلم. وقد قال سيرجيو إني رغبت في التقاط جوهر المواطن الأمريكي واقتفاء تفاصيل روحه: الأمريكي الغازي أو الفاتح. وكان هذا الفاتح وحيدا، رواقيا، ليست له أية رابطة عائلية مثل "دجانـﮕو"، يظل ينتقل من قرية إلى أخرى، من بلد إلى آخر، هو قاطع طريق، لا يؤنس وحدته إلا الفلوس والمسدسات. وهذه هي الخصائص المؤسسة للشخصية الأمريكية، والتي التقطها بذكاء، وجمع بينها هذا المخرج الثاقب الفكر والنظر، هو الإيطالي.. ويذكرنا هذا الأمر بالإنسان الأول الذي كان دائم الترحال قبل أن يكتشف الزراعة فتفرض عليه الاستقرار، وهو ما قد يذكرنا به رواية "مائة عام من العزلة": في كل مرة، يبدو لنا العالم يتشكل من جديد، ويبدأ التاريخ في البناء من جديد: أليست أمريكا هي العالم الجديد؟ وقد تم القضاء على السكان الأصليين؛ الهنود الحمر، عبر سلسلة من حروب الإبادة؟، وهو ما عالجت جزءا منه في كتابي "حرية وأرثوذكسية".

عبد العزيز جدير: لقد اقتربت من هذا العنف وعاينته لما تم اختيارك لتدريس السجناء في أحد سجون الولايات المتحدة، لو تقربنا من الطلبة، ونوع الدروس التي كنت تقدمها لهم.

أنور مجيد: لما اختارتني إدارة الجامعة للتدريس بأحد أخطر السجون الأمريكية، وخضعت لامتحان الطلبة السجناء، لأنهم يرغبون في السخرية من الأستاذ. أما إمكانية الاعتداء عليه، فهي شبه مستحيلة، اخترت محور "المؤسسات في الأدب الأمريكي"، ذلك أن المؤسسات تفتك بالبشر وأحلامهم، وليكون الموضوع قريبا من أفئدة السجناء وواقعهم. ومن النصوص التي درستها لهم "قبلة المرأة العنكبوت" (والرواية أهم من الفيلم، لأنها محملة بهوامش تقدم تاريخ التحليل النفسي، واللاشعور)، و"عيون قصيرة النظر"، و"طيران فوق عش الوقواق"، ثم كتاب فوكو العظيم "نشأة السجن".

ولو أمكن لي إعادة التجربة لقمت بها من جديد، ولأضفت إليها شيئا لم أقم به، وانتبهت إليه بعد تلك التجربة: يجب مضاعفة العناية بهذه الفئات من الكائنات الهشة الوجود، والنبيلة في مشاعرها.. ولو أمكن أن أعود إلى الوراء لكنت انخرطت في عالم النشطاء المناضلين من أجل حقوق الإنسان، وحقوق السجين خاصة. هم يرتكبون جرائم، ويعاقبون على ما اقترفت أياديهم، ولكنهم حين يغادرون السجن، يظل ملفهم القضائي يلاحقهم، وينغص عليهم الوجود والاندماج ويجعل عقوبتهم لا تنتهي، بل تستمر في الزمان والمكان والفؤاد.. وذلك ظلم ما بعده ظلم. فكل من سجن مرة واحدة، لا يتم توظيفه في أمريكا، وبذلك تبدو العقوبة الأولى لا معنى لها. فلا جريمة تعاقب قانونيا مرتين، بينما هم يظلون يعاقبون على امتداد العمر. فكيف لا يعود الواحد منهم إلى أحضان الجريمة، على الأقل حين يعود إلى السجن يفهم أنه ارتكب جرما، ولكنه يدرك أيضا أن هذا المجتمع اعتدى عليه، ومدد العقوبة أبد الآبدين، وما قبل توبته، وما قبل اعتذاره، وما قنع بعقاب هو أقره، وأخضع إليه السجين، وأقنعه أن من ارتكب الجرم يستحق العقاب. ولكن، أن يستمر العقاب إلى يوم يقبرون، فذلك انتهاك صارخ للحق في الحياة.

عبد العزيز جدير: انتقلت من السينما إلى الكتابة التخييلية، فهل هي نوع من الاستمرار في السينما بوسائل أخرى؟

أنور مجيد: كتابة بالصورة، وأخرى بالكلمات، وأنا من النوع الذي يرغب في تعذيب الذات. كتبت الرواية خلال كتابة أطروحتي لنيل الدكتوراه. وحين تستعصي هذه أنغمس في الأخرى. هو نوع من مضيعة الوقت، وإطالة أمد كتابة البحث، ولكنه يحمل بعض الفرح، ويخفف من الحنين، ويحارب البطالة.. لليد سحر ما، ضرب من فضيلة. تتسرب إلى الأصابع كيمياء معينة، لحظة الكتابة، لا نستطيع إدراك كنهها ولا تحديد إسهامها في فعل الكتابة. الكتابة بالنسبة إلي ضرب من النقش، نوع من النحت، ويستحيل أن تنحت، وتنقش على آلة شبه صماء. الكتابة باليد ضرورة لأن هناك رابطا مقدسا بين اليد والفكر؛ يشكلان معا زوجين يلدان عبر القابلة (الأصابع) ذرية (الكلمات) وينشئان بيتا (الكتب). وحين تتوقف اليد عن الكتابة فذلك يعني أن العقل ليس براض عما كانت اليد تخطه، ويلزمها أن تتوقف حتى يعود الانسجام بين اليد والعقل.

[1] - مجلة ذوات العدد 59