حوار مع صادق بلعيد


فئة :  حوارات

حوار مع صادق بلعيد

حوار مع صادق بلعيد[1]

الشريعة القرآنية والشريعة الإسلاميّة: القراءة الأفقية للتراث

د. نادر الحمّامي: الأستاذ العميد صادق بلعيد، يلاحظ المتابع لأعمالك اهتمامك بمباحث الإسلاميّات، رغم أنّ تخصّصك في القانون العامّ، ولعلّ كتابك «القرآن والتّشريع» مثالاً على ذلك؛ فما هي الدّوافع الّتي جعلتك تنفتح على هذه المباحث؟

د. صادق بلعيد: لقد بدأت حياتي المهنيّة بالتّخصّص في القانون، لكنّ الأصل دائماً يغلب الصّنعة، والأصل أنّني عندما كنت تلميذاً، كنت أهتمّ بالآداب والعلوم الإنسانيّة أكثر من اهتمامي بالقانون؛ حيث درست في الصّادقيّة في قسم الأدبيّات الكلاسيكيّة، فاطّلعت على الآداب؛ اليونانيّة واللاتينيّة والفرنسيّة، وبقيت على ذلك التّفكير والتّساؤل، ولم يكن القانون، بعد ذلك، مجال اختصاص فحسب، بل كان منطلقاً للبحث في المجالات الفكريّة الّتي تتجاوزه. من هنا، جاءت فكرة الكتاب «القرآن والتّشريع»، وقد اهتممت فيه بالتّساؤل عن مدى إمكان القول بوجود تشريع إسلاميّ أو تشريع قرآنيّ، ومن ثمّ البحث في حقيقة قرآنيّة هذا التّشريع.

د. نادر الحمّامي: في هذا الكتاب، نجدك تميّز بين «الشّريعة القرآنيّة» الّتي تعتبر أنّها مرتبطة بالوحي الإلهيّ، و «الشّريعة الإسلاميّة» الّتي تعتبر أنّها العمل الفقهيّ الّذي قام به الفقهاء في التّاريخ. كيف تبيّن ذلك؟

د. صادق بلعيد: نعم، في الحقيقة ما هو معروف، ومتداول، ومقبول، ومحلّ إجماع الفقهاء القدامى، وترسانة كبيرة من المتخصّصين منذ العقود الأولى من الرّسالة إلى اليوم؛ هو ما نسمّيه، تشريعاً إسلاميّاً، وهو يكتسي شرعيّة كبرى لا مساس بها، ولا قدح مقبول فيها، في نظرهم، بحكم أنّها مستفادة من القرآن الّذي هو كتاب الله. وبالتّالي، أُسدلت على التّشريع الإسلاميّ قداسة الكتاب، وهذا ما يعبّر عنه بكلمة «الشّريعة» الّتي هي قرآن وسنّة وإجماع؛ والحال أنّ القرآن وحي إلهيّ والسّنّة عمل إنسان متميّز هو الرّسول والإجماع اجتهاد بشريّ. وما وقع، هو اعتبار أنّ قداسة القرآن تنسحب على السنّة أيضاً، ومن ثمّ، على العمل البشريّ المتمثّل في الإجماع. وأصبح المسلمون بمفعول ذلك مرتبطين (مكبّلين) بهذه المنظومة. وعندما بدأتُ في دراسة موضوع التّشريع في العالم الإسلاميّ، لفت انتباهي أنّ التّشريع المستند إلى القرآن، قليل جدّاً، إذ لا يتجاوز إحصائيّاً نسبة (2.7 %) من مجموع الآيات.

د. نادر الحمّامي: وقد استندت، بالأساس، إلى «أحكام القرآن» لابن عربي، وكذلك إلى بعض الدّراسات الحديثة.

د. صادق بلعيد: لقد استندت إلى ما كان موسّعاً كثيراً ومباشراً في اهتمامه بهذه المسألة. ووجدت أنّ ما يسمّيه الفقهاء «التّشريع القرآنيّ» طفيف من حيث الكمّ، ويكاد يكون عرضيّاً؛ فلم يشرّع القرآن للمسلمين في كلّ كبيرة وصغيرة، بل إنّ أكثر الآيات الحُكميّة والتّشريعيّة جاءت لسبب أو مناسبة، وهي مرتبطة بحاجة متعلّقة بزمن بعينه كما تشير إلى ذلك العبارة القرآنيّة «ويسألونك»، فلا نجد تشريعاً كاملاً في القرآن بخلاف ما يوهم به الفقهاء. أضف إلى ذلك أنّ الآيات الحكميّة نفسها وردت في كثير من الأمثلة مرتبطة باستثناءات من قبيل «إلّا الّذين...»، والاستثناء يجعل الحكم غير باتّ، بل يتطلّب عناصر تقديريّة أخرى هي بالضّرورة من خارج سياق الآية نفسها ومن خارج النّصّ، أي إنّها تتطلّب التّقدير المتعلّق بالواقع المحايث لسبب الحكم وهو فعل بشريّ ضروريّ في سياق فهمنا للآية، والغريب أنّ الفقهاء لم يهتمّوا بهذا الأمر ولم يولوه عنايتهم عند استنباط الأحكام، وكأنّهم لم يلاحظوا تلك الاستثناءات حتّى يبنوا عليها. ولعلّني أذكر مثالاً عمّا نحن بصدده حتّى نتبيّن الأمر بشكل أفضل، وهو مثال يهمّ تطبيق الحدود في باب الأحكام الجنائيّة، وتعبّر عنه آية الحِرابة، والحرابة هي قطع الطّريق للسّرقة والنّهب وكانت منتشرة منذ القدم في شبه الجزيرة العربيّة، وكانت لها آثار سلبيّة لما فيها من قتل وسفك للدّماء وسبي النّساء وقطع للنّسل. وتكون بخروج جماعة مسلّحة مشهرةً إجرامها بالسّرقة والنّهب والقتل، وقد أراد الإسلام أن يكفّ هذه الظّاهرة، فكانت الآية وذاك سياقها؛ وتبدأ هذه الآية من (سورة المائدة)، بقول: (إنّما جزاء): {*إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ *إِلاّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المَائدة: 33-34]؛ ففي الآية تخيير بــ (أو)؛ أي إمّا أن تفعل كذا، أو كذا، بخلاف ما فعل الرّسول في زمن غضبه على أولئك المجرمين، فأمر بهم فقطّعت أيديهم وأرجلهم، وسملت أعينهم، ثم نُبذوا في الشّمس حتّى ماتوا. فجاء القرآن، وقال: «إنّما»، ثم أضاف «أو»، وجاء هذا من بعد التّشريع فيما يخصّ السّرقة، والزّنى وغير ذلك، وأتصوّر أن في ذلك الزّمن، كان الصّحابة والمقرّبون يناقشون ما نزل من وحي على الرّسول، فاحتاروا كيف يأتي النّص بهذا الاستثناء الّذي يقول: {إِلاّ الَّذِينَ تابُوا}، فهل يستقيم المجتمع بمجرّد التّوبة؟ وهل يبطل الحكم بمفعول ذلك؟ وربّما، كان هناك ردّ من الرّسول تُرجِم في النّصّ القرآنيّ بهذه الآية؛ بأنّ مغفرة الله هي الّتي تتفوّق على الأحكام، {فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}. وبذلك، فإن الله يتدخّل في طبيعة التّشريع القرآنيّ. لذلك أعتبر أن السّياق مهمّ جدّاً في فهم آيات الأحكام؛ وذلك ينبّهنا إلى وجود ثغرة كبيرة بين ما نسمّيه التّشريع الإسلاميّ، الّذي هو تشريع أفقيّ بين الإنسان والإنسان، وما نسميه التّشريع القرآنيّ، الّذي هو تشريع عموديّ بين العبد وربّه؛ فإذا ارتكب الإنسان جريمة ما، فإن الله قد يغفر له إن تاب، وهذا يجعل من عمليّة التّشريع القرآنيّ صعبة التّحقّق في الواقع، حيث لا يمكن أن نقول إنّ التشريع القرآني يمكن أن يطبّق مباشرة، أو أن يشرّع ويقنّن في قانون المعاملات الحالي؛ لأنّه قابل دائماً لتدخّل مغفرة الله، الّتي لا يدرك الإنسان حدودها ولا نهايتها.

د. نادر الحمّامي: إذا وضعنا هذه الآية (الحِرابة)، في السّياق التّاريخيّ، فهل لدينا دلائل على أن النّبيّ هو من فعل ذلك؟ أليس الفقهاء، في إطار تشديد الحدّ، هم الّذين نسبوا له هذا العمل؟

د. صادق بلعيد: ذكرتُ آية الحِرابة باعتبارها مثالاً، فما وقع من شدّة العقاب الّذي سطّره الرّسول، أنّبه عليه القرآن بقوله «إنّما»؛ بمعنى أنّ «ما فعلته غير عادل»، وقد أثار بعض الفقهاء، ومن بينهم الشّافعيّ، حوادث مماثلة، وتساءلوا حول إمكان تطبيق الحكم فيها حسب ما ورد في الآية، ومن بينها حادثة سرقة منظّمة بين جماعة، تمّ القبض عليهم، إلّا أنهم تابوا قبل ذلك، وجاؤوا بهم إلى عليّ، فطالبوا بأن يطبّق عليهم ما جاء به القرآن، متعلّلين بتوبتهم، فاعتبر عليّ أنّهم تابوا ولم يؤاخذهم على فعلهم. هذا مثال يتعارض مع إطلاق الآية، ومسؤوليّة الفقهاء أنّهم جعلوا من التّفسير الّذي أتوا به مطلقاً بإطلاق النّصّ، في حين أن هذه الآية أصبحت غير ذات معنى، وقد أبطلت التّوبة مفعولها التّشريعيّ، وهذا ما يوجِد تناقضاً بين ما سنّه الفقهاء وما جاء به القرآن. فهؤلاء الفقهاء قاموا بدور حرّاس المعبد (سدنة الهيكل)، وجعلوا من التّشريع بصفة عامّة، والتّشريع الجنائيّ بصفة خاصّة، مسألة مطلقة، فتكوّنت حولها عادات وأفكار وتوجّهات متصلّبة وخشنة؛ ولنأخذ مثالاً آخر من العبادات، وهو صوم رمضان الّذي جاءت فيه آيات في سورة البقرة، تقول: {يا أَيُّها الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ *أَيّاماً مَعْدُوداتٍ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البَقَرَة: 183-184]. فعندما نحلّل النّصّ، نجد هذه التّفرقة بين المبدأ والاستثناء؛ المبدأ، يقول: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ}، والاستثناء، يقول بعد ذلك: {فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّامٍ أُخَرَ}، وعلى الّذين يطيقونه فديةٌ.

د. نادر الحمّامي: ونعلم التفسير الغريب للفظ «يطيقونه»؛ فالطّبريّ يقول في تفسيره: إن الّذين يطيقونه أي الّذين «لا يطيقونه».

د. صادق بلعيد: وهنا، يصبح الاستثناء كأنه رفَعَ المبدأ، فعلى الإنسان أن يسأل ضميره، ويقول: «هل أنا قادر على أداء هذا الفرض أم لا؟»، فإذا حكم بأنه ليس قادراً على ذلك فلا يقوم به. يعني ذلك؛ أنّ المسألة تصبح فرديّة وذاتيّة، والقرآن بهذه الآية، وضع مبدأ حرّيّة الاختيار للضّمير البشريّ لكلّ واحد منّا، لكن جاء الفقهاء، وقالوا: إنّ هناك الآية الأخيرة، وهي تبطل الاستثناء، وهي الآية الّتي تقول: {شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدَىً لِلنّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى ما هَداكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ *وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البَقَرَة: 185-186]، وهي الآية الّتي أتت، كما أكّدوا ذلك، لنسخ ما سبق. ولكن حتّى الآيات الأولى للصّيام تنتهي بجملة واضحة، لم يهتمّ بها الفقهاء، وهي {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} فالمسألة فيها خيار. وهو يعني أنّ الله تعالى لم يفرض على عباده، بل أوصاهم بأن...، فلماذا يوصينا بأمر ما إذا كان فرضاً؟ لذلك، أخلص من هذه الأمثلة كلّها إلى القول: إنّ النّظرة في الشّريعة من وجهة نظر فقهيّة جاءت بغير ما كان واقعاً في النّصّ.

إبستمولوجيا قراءة التّراث: القراءة العموديّة للتّراث

د. نادر الحمّامي: ما تفضّلت به يندرج في إطار القراءة الأفقيّة للموروث الفقهيّ القانونيّ، وقد أشرت في ختام كتابك «القرآن والتّشريع»، إلى ضرورة قراءة أخرى إبستمولوجيّة تُعنى بالنّظر في فلسفة الفكر المنتج للوضع القانونيّ الفقهيّ، وقد سمّيتها «قراءة عموديّة». فما هي طبيعة تلك القراءة العموديّة؟

د. صادق بلعيد: هنا، نمرّ من التّشريع العمليّ الواقعيّ إلى مستوى من التّفكير أعلى من العوارض، وقد وضعتُ رسالة في آخر فقرة من الكتاب، أخذت فيها عهداً على نفسي أن أقوم بهذا العمل الّذي يتمثّل في المرور من القراءة الأفقيّة للتّشريع إلى العموديّة، وأرجو أن يتسنّى لي القيام بذلك. والقراءة العموديّة تُعنى بالجانب الإبستمولوجيّ المتعلّق بالقوانين والتّشريعات من منطلق اتّصالها بالواقع، أي إنّها تجمع المستوى النّظريّ بالعمليّ، على اعتبار أنّ الإبستمولوجيا هي وصف الطّريقة البحثيّة من ناحية صحّتها العلميّة وتقدير النّتائج الّتي توصلت إليها بفضل جملة من الآليّات والوسائل. وهذا عمل أساسيّ، فلا يكفي أن نفكّر في مسائل التّشريع نظريّاً، وإنّما وجب أن يقودنا ذلك إلى نتائج واقعيّة وعمليّة، فهي مسألة نظريّة وعمليّة في آن واحد. والسّؤال الّذي أطرحه على نفسي أوّلاً، وأظنّ أنّه مطروح على كلّ الباحثين والجامعييّن في البلاد العربيّة والإسلاميّة، هو حول مدى قابليّة هذا التّراث الإسلاميّ للحضور في واقعنا المعاصر والتّأسيس لما نأمل في المستقبل. فنحن أمام تراث لا يمكن أن نتناساه، ولكن من الضّروريّ أن نأخذ إزاءه بعض البعد، لأنّه بشكله القديم، لم يعد صالحاً لتدبير المشاكل والمصالح الّتي تهمّ المدينة الرّاهنة. وبالتّالي علينا البحث فيه إبستمولوجيّاً حتّى نتجاوز الإشكال؛ فهو يعطينا فكرة عمّا كان فكّر فيه غيرنا، وهذا يجعلنا نعرف مزاياه وحدود التقائه مع واقعنا. وعندما نقاربه معرفيّاً بالشّكل الصّحيح ونجري عليه الكثير من المقارنات بما تأسّس لدينا في هذه المنظومة حديثاً وما تأسّس لدى الشّعوب الأخرى من منظومات تشريعيّة وقانونيّة وضعيّة، فإنّنا نقف أيضاً على نقاط ضعفه، ويكون بمستطاعنا أن نتجاوزه أو أن نقطع معه في مستوى التّمثّل وفي مستوى التّطبيق، ونكون بالتّالي قادرين على صياغة أجوبة متوافقة مع الرّاهن والمأمول. لذلك أقول إن الدّراسات المقارنة شيء أساسيّ لتنشيط الفكر النّقديّ في البحث حول التّراث.

د. نادر الحمّامي: البحث المقارنيّ مهمّ إبستمولوجيّاً، سواء كان في مجال الأديان أو التّاريخ أو الأفكار. ولكن هناك من يعتبر أنّه يتعارض مع خصوصيّات بعض المجتمعات، وهو ما يطرح مسألة الخصوصيّة والكونيّة. كيف يمكن تجاوز هذا الإشكال خاصّة في المجال التّشريعيّ؟

د. صادق بلعيد: بغضّ النّظر عمّا يراه البعض إشكالاً حقيقيّاً يواجه المنهج المقارنيّ، فإنّ علينا أن ننظر أوّلاً إلى الجدوى الّتي يمكن تحقيقها من خلاله، ونوازن بين طرفي الإشكال، بمعنى أنّنا نتقصّد الغاية المعرفيّة الّتي لا تتنافى مع مستوى الإيمان الشّخصيّ ولا الجماعيّ، فليس إجراء المنهج المقارني على التّراث الإسلاميّ في مستوى التّشريع يتعلّق بتغيير معتقدات النّاس ولا نفي صفاتهم الإيمانيّة، فذلك شأنهم الخاصّ، ولكنّه يتعلّق بمستوى الجدوى التّشريعيّة؛ فإذا طرحنا مثلاً الإشكال المتعلّق بالمنظومة الفقهيّة من حيث صعوبة تنزيل أحكامها في معاملاتنا الرّاهنة في المدينة، فيعني ذلك أنّ الصّعوبة إجرائيّة، وعلينا مواجهتها معرفيّاً، دون أن يكون في ذلك أيّ نوع من المساس بمصداقيّة تلك المنظومة في زمانها ومكانها. ولعلّ الأمر يتطلّب نوعاً من الفصل الّذي يجريه كلّ شخص بمفرده بين مستوى ما يؤمن به لذاته، ومستوى ما يمكن تطبيقه في واقع الحال، وهو إن تمكّن من تجاوز هذا الإشكال في ذلك المستوى الأوّل يصبح بإمكانه أن ينظر في ما يستوجب النّظر. وإن كان هذا الأمر ليس بالسّهولة الّتي نرجوها، ولا نتوقّع أنّه صعب التحقيق لدى عامّة النّاس فقط، بل إنّه صعب أيضاً لدى الكثير من النّخب الّتي تدّعي أنّها على قدر من المعرفة والإدراك، وهنا أذكر طرفة واجهتني حين كنت أطرح هذا الموضوع مع بعض الزّملاء في مستوى الجامعة، فقال لي أحدهم بكلّ صرامة: «إن كنت تشكّك في العقيدة، فأنا لا أخاطبك ولا أتكلّم معك»، هذا هو الإشكال الحقيقيّ الّذي جعل المأثور الفقهيّ الإسلاميّ في دائرة مغلقة. ولو نظرنا في الأمر منذ بدايته، سنلاحظ أنّه قديم جدّاً وأنّ أسبابه متشعّبة وعلى قدر من الصّعوبة. فبعد مدّة لا تتجاوز العقدين أو الثّلاثة من انتهاء الوحي، تشعّبت المسائل بالفتوحات، ودخلت أجناس أخرى إلى الإسلام، ولكن وقع في آن واحد، تصلّب كبير حكمت به السّياسة، وكان على عاتق من يمسك الحكم تجميع تلك الشّعوب المختلفة والمتضاربة حول كلمة واحدة هي القرآن، وحكم واحد هو الخلافة. ولم يكن على استعداد لقبول أيّ طعن في شيء من هذين المبدأين. وانطلاقاً من ذلك الزّمن، تراكمت الأبحاث والمجهودات العلميّة، ولكن في الاتّجاه نفسه؛ أي اتّجاه الانغلاق والانكماش على هاتين النّقطتين دون أشكال السّلطة الأخرى، وهذا تواصل إلى حد أنّه عندما أحس أصحاب السّلطة بأنّهم في خطر بسبب نشاط الآراء والأفكار، حكموا بغلق باب الاجتهاد، وظلّ الباب موصداً وعليه حرّاس أشدّاء يسمّون أنفسهم حرّاس العقيدة.

د. نادر الحمّامي: نذكر في هذا السّياق، الاعتقاد القادريّ الّذي أغلق كل أبواب الاجتهاد، وهذا الأمر شبيه بما وقع في المسيحيّة أيضاً، فهل يمكن أن نقارن الاعتقاد القادريّ بما حصل في مجمع نيقية (325م) (premier concile de nicée) مثلاً؟

د. صادق بلعيد: هذا ما حصل فعلاً، فقد نتج عن مجمع نيقية أوّل أشكال قانون الإيمان المسيحيّ، وبدأت علاقة الكنيسة بالسّلطة بالتّشكّل بعد أن كانت كياناً دينيّاً خالصاً، وبعد ثلاثة قرون من تطوّر الفكر المسيحيّ، واختلاطه بالأفكار والأديان المحيطة بحرّيّة في كلّ الاتّجاهات، أصبحت الكنيسة الموحّدة هي المرجع والسّلطة، في تحديد من يدخل في نطاق الإيمان من عدمه. وعندما ينظر الباحث في هذه المسائل من زوايا مقارنة، يجد أنّ الكثير من المناسبات والمواقف والأفكار الّتي عرفها التّفكير العربيّ الإسلاميّ؛ تقرّب كثيراً ممّا عرفته الدّيانات الأخرى مثل المسيحيّة واليهوديّة. ويمكن أن نقول إنّ ما حصل من علاقات بين العالم الإسلاميّ والعالم المسيحيّ؛ هو نوع من المحاكاة (mimétisme)، الّتي نجدها اليوم في العلاقات بين عالمنا المعاصر الإسلاميّ والعالم المعاصر الأوروبيّ، فما يقوم به الأوروبيّون نعتبره مهمّاً في بلادنا، ونعتبر أنّه يعبّر عن تقدّم كبير، وأن علينا أن نمتثل به.

د. نادر الحمّامي: ألا تعتبر هذه المحاكاة من بين الأسباب الّتي جعلت المجتمعات العربيّة والإسلاميّة لا تنتج إصلاحاً ذاتيّاً، وحين لا ينتج مجتمع ما إصلاحاً نابعاً من ذاته، فإمّا أن يقوم بالرّفض المطلق للغير، أو محاكاته محاكاة مطلقة. وبالتّالي، لا ينتج إصلاحه بذاته، فيؤدّي ذلك إلى قصور وعدم نهضة حقيقيّة.

د. صادق بلعيد: حين نتّبع التّسلسل التّاريخيّ، نلاحظ أنّ ما حدث في تاريخ الفكر الإسلاميّ منذ ثلاثة عشر قرناً تقريباً، هو تماماً ما حصل قبلنا في العالم المسيحيّ، وتأزّمت تلك الوضعيّة المنكمشة والمغلقة على نفسها، حتّى وقع نوع من الانفجار في المنظومة الدّينيّة والفكريّة والمجتمعيّة والسّياسيّة، تلك الفترة الفاصلة كانت من بداية القرن السّادس عشر إلى حدود القرن التّاسع عشر، حيث وقع في تلك المرحلة الانفجار الثّوري، وتلك الثّورات الكبرى قامت بوضع التّراث جانباً مرّة واحدة، فوقعت قفزة في مستوى المجتمع الغربيّ وهي تساوي فكرة القطيعة، بينما نحن في المجتمع العربيّ الإسلاميّ ما نزال نتساءل إلى اليوم، عن أوان تلك القفزة أو القطيعة لدينا، فمازلنا نتعلّق بالماضي كما يتعلّق الطّفل برحم أمّه، والحال أنّ عليه أن يولد، وفعل الولادة لا يعني أنّه سوف يتنكّر لأمّه. أعتقد أنّنا قد أضعنا فرصة تحقيق تلك القطيعة في القرن التّاسع عشر، عندما طفى على السّطح سؤال النّهضة، وكان أشبه بنوع من «الحمّى الفكريّة» الّتي أصابت بعض المفكّرين الكلاسيكيّين، لكنّ هؤلاء لم يتجرّؤوا على طرح السّؤال الحقيقيّ حول ضرورة القطع مع الموروث، وقرّروا التّمسّك به بغضّ النّظر عن مدى الحاجة إليه، واستقرّوا عند فكرة المحافظة.

د. نادر الحمّامي: لم تكن تلك الحركات الإصلاحيّة في القرن التّاسع عشر سوى محاولات ترميقيّة، وحتّى وإن كانت الأسئلة الّتي انطلقت منها حقيقيّة، فإنّ الإجابات عنها لم تكن كذلك؛ فلو أخذنا مثال ابن أبي الضّياف في اهتمامه بأنظمة الحكم السّياسيّ، وحديثه عن النّظام الاستبداديّ و«الملك الجمهوريّ»، يسترعي انتباهنا اعتباره أنّ الحكم الجمهوريّ لا يصلح للملّة الإسلاميّة، نظراً لقيامه على الانتخاب الحرّ المباشر، ورأى أنّ هذا ليس من قواعد المُلك. لقد كان واعياً بالاستبداد، ولكنّ الحلّ الّذي رآه كان ترميقيّاً، ما أدى إلى الفشل.

د. صادق بلعيد: هذا ما وقع فعلاً في المجال الدّستوريّ وفي مجال التّفكير في النّظام السّياسيّ وشروط تحقّقه، ولم ينته إلى نتائج مهمّة لأنّه تعلّق بالتّراث أكثر ممّا يجب وأهمل حاجة الواقع فأصبح تنزيل المنظومة التّشريعيّة القديمة عائقا أمام تحقيق إجابات واضحة حول الرّاهن قابلة للبناء عليها لاحقاً. فالإشكال بالنّسبة إلينا اليوم أنّنا لا نجد في تراثنا القريب الحلقات المتطوّرة الّتي يمكن أن نربط معها التّصوّرات الحديثة وأن نطوّرها على هذا الأساس، فنلجأ مباشرة إلى تراثنا القديم، وهذا القفز لا يتلاءم مع سياقات التّاريخ المترابطة تطوّرياً. فالسّياق الغربيّ الرّاهن إنّما تأسّس على القطيعة مع الماضي لأنّه استطاع أن يعقد حلقات التّاريخ ويلائم بين أساق الأفكار المتطوّرة وأنساق الواقع الرّاهن المختلفة عن الماضي. وعندما نقول إنّ هؤلاء قد تخلّوا عن سلطة التّراث فلا يعني ذلك أنّهم قفزوا في الفراغ، وإنّما قاموا ببناء نظرة جديدة تطوّريّة انطلاقاّ ممّا هو متحقّق لديهم في السّياق الحضاريّ والثّقافيّ، تتناسب مع واقعهم وتجيب عن أسئلتهم الرّاهنة من الناحية القانونية والسّياسيّة والاجتماعيّة والثّقافيّة. ولنأخذ أمثلة على ذلك؛ فكرة الحرّيّة الّتي وصلت إلى حدّ بعيد من القوّة في معناها وفي مضمونها وفي محتواها، ونعرف أن هذا المفهوم يعتبر الأكبر قيمة في المنظومة السّياسيّة الغربيّة اليوم، لم يأت إلّا ردّاً على منظومة الكبت الّتي عاش فيها المجتمع الغربيّ لمدّة قرون تحت هيمنة التّفكير المسيحيّ اللّاهوتيّ، وكذلك قانون الملكيّة فقد كان ردّ فعل على تعسّف السّلطة السّياسيّة وسلطة الإقطاع... في حين لا يزال المسلمون اليوم يقولون إنّ الإسلام عين الدّيمقراطيّة، ويستدلّون على ذلك بالآية: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشّورىٰ: 38]، والحال أنّ هذه الآية أتت لأسباب نزول معيّنة ومضبوطة، فلا يمكن، بالتّالي، تمديدها إلى المستوى الفكريّ والسّياسيّ حتّى نستخرج منها منظومة كاملة، توازي الدّيمقراطيّة الحديثة في شكلها الغربيّ.

د. نادر الحمّامي: فكرة الدّيمقراطيّة في المجتمعات الغربيّة متطوّرة بشكل متواصل؛ لأنّ الدّيمقراطيّة الّتي أتت بهتلر، ليست نفسها الدّيمقراطية الأثينيّة الّتي عاشت إلى منتصف القرن العشرين، والدّيمقراطيّة بعد الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان، ليست نفسها الدّيمقراطيّة السّابقة عن ذلك. أليس الإشكال، هنا، أنّ المصطلحات والمفاهيم في المجتمعات العربيّة ثابتة ثبوت العقيدة؛ بمعنى أنّ العقيدة ثابتة ولا يمكن أن تتغيّر، في حين أنّ المصطلحات والمفاهيم متغيّرة وليست ثابتة؟

د. صادق بلعيد: من جملة العيوب الّتي نراها في التّمشي الفكريّ الإسلاميّ الرّاهن أنّه شكليّ؛ بمعنى أنّه قاصر دائماً عن بلوغ المضمون في كلّ ما يفكّر فيه من قضايا التّراث، فعندما يريد تحقيق الدّيمقراطيّة في الواقع، لا يستطيع تجاوز الأشكال الماضية، فيحاول فرضها على سياقات لا تمتّ لها بصلة، كأن يعتبر أنّ الشّورى هي النّظير الإسلاميّ للدّيمقراطيّة الغربيّة الحديثة، ويحتجّ على ذلك بالسّياق القرآنيّ، وينطلق من ثمّ في إيجاد علاقات تمكّن من إعمال النّصّ في الواقع الرّاهن، ويتناسى أنّ هذا المفهوم متعلّق بالسّياق القديم المرتبط بأهل العقد والحلّ، وبمنظومة التّشريع الّتي تؤسّس لدولة الخلافة بجميع عناصرها ومميّزاتها الّتي لا تتناسب مع المدينة الرّاهنة، ويقول في النّهاية إنّ الإسلام ديمقراطيّ وأنا مسلم ديمقراطيّ. وهذا خلط عجيب لا يمكن أن يؤدّي إلى نتائج حقيقيّة، بل إنّه يزيد في تعميق الأزمة. وإذا كان الفكر الغربيّ يواجه أزماته باستمرار من منطلق مركزيّة الواقع، فإنّ الفكر الإسلاميّ يواجه أزماته من منطلق مركزيّة التّراث، وهذا هو الاختلاف العميق الّذي وجب أن نعي خطورته وأن نقيّمه إبستمولوجيّاً. ولعلّ ما يميّز التّمشّي الإبستمولوجيّ الغربيّ اليوم أنّه قادر على التّفكير في الأزمات بمنتهى الوضوح، وعندما نقول مثلاً إنّ الحداثة الغربيّة قد تأسّست على العقلانيّة، فهذا يوحي مبدئيّاً بأنّ الغرب قد تجاوز مستوى الأزمة من حيث أولويّة دور العقل في البناء الثّقافيّ والفكريّ والاجتماعيّ والاقتصادي والقانونيّ، إلّا أنّ الحقيقة أن الغرب لا ينظر إلى تلك العقلانيّة بنوع من التّسليم الّذي يجعله يطمئنّ إلى المبدأ بشكل نهائيّ، حتّى وإن كان بصدد البناء عليه، بل إنّه يجعل هذا المبدأ محلّ تساؤل دائم، أي إنّه يعتبره محور أزمة متواصلة، ومن ثمّ يعيد التّساؤل فيه من منطلقات أخرى، لذلك نجد أنّ الكثير من الدّراسات الغربيّة تطرح أسئلة من قبيل «هل العقل هو الرّكيزة الأساسية للتّفكير، الّتي يجب أن نعتمد عليها؟»، وقس على ذلك تواصل الأسئلة حول العدالة والحرّيّة والمواطنة والاختلاف والأقلّيّات والعمل... هكذا يعود الغرب على ما كان ثوريّاً في القرن الثّامن عشر والتّاسع عشر عن طريق التّساؤل المتواصل. في حين أنّ الفكر العربيّ الإسلاميّ لم يجتز أزمته القديمة، وحتّى في مستوى تلك الأزمة نجده عاجزاً عن التّساؤل، وما جاء به روّاد الإصلاح مثل محمد عبده وجمال الدّين الأفغانيّ وغيرهما، كان يحمل بوادر مهمّة ومشجّعة اقتربت من الأزمة، وحاولت تكثيف الأسئلة حولها، ولكنّها انتهت إلى نوع من المحافظة، وبالتّالي فشلت عن إدراك الأزمة في بعدها الإشكاليّ الّذي يتعلّق بالتّراث وبمدى أهمّيّة القطع معه. وبقي العرب والمسلمون يراوحون مكانهم منذ ذلك العصر فلا هم أدركوا السّبيل نحو الحداثة ولا هم أوجدوا علاقة ناجعة بين التّراث الّذي يتمسّكون به وواقعهم الّذي يعرف أزمة حقيقيّة تتفاقم كلّما أبطأ الحلّ.

أزمة الفكر العربيّ الإسلاميّ المعاصر

د. نادر الحمّامي: يتعلّق مفهوم «الأزمة» بسياق طبّيّ يعود إلى الطّبّ اليونانيّ القديم، وهو ينسحب حديثاً على عالم الأفكار والقضايا، ويُطرح في سياقات متعدّدة، ومن بينها سياق الفكر العربيّ الإسلاميّ المعاصر، فما هي مظاهر الأزمة في هذا السّياق، وكيف تنظر إليها؟

د. صادق بلعيد: كان لمفهوم الأزمة (crise) في التّاريخ الأوربيّ بُعدٌ علميّ طبيّ، ثم تفرّع إلى مجالات عديدة حتّى أصبح المفهوم شائعاً. وبالعودة إلى هذه المرجعية الطبّيّة؛ فالطّبّ يقول: عندما يذهب مريض ما إلى الطّبيب، على هذا الأخير أن يقوم بعمليّة الفحص (diagnostique)، وعادة ما يكتشف الطّبيب الدّاء، وليس المريض؛ لأنّ المريض ينشغل بالأعراض، وما هو خارجيّ، ولا يستطيع تفسير علاقة ذلك بنوعيّة مرضه بالضّرورة. في حين أنّ الطّبيب يكتشف الدّاء بيسر؛ لأنّه ينظر في ما وراء الأعراض. وهذا ما يقع، فعلاً، في المستوى العلميّ الاجتماعيّ، إلّا أنّه في كثير من الأحيان لا توجد آليّات دقيقة وناجعة للقيام بهذه العمليّة الوصفيّة للأعراض، ذلك أنّنا في المجتمع العربيّ الإسلاميّ نعيش أزمة، ولكن الكثير منّا ليس له وعي بها، وغالباً، نجد أن من يقوم بالفحص، وتحليل الأعراض، ومن ثمّ الاستنتاج، طرف غير مختصّ، أي من ثقافة أخرى. وهكذا فنحن المريض غير الواعي الّذي يفحصه طبيب غير مختصّ بمرضه، وينتمي إلى مرجعيّات فكريّة مختلفة.

د. نادر الحمّامي: حين نتحدّث عن أزمة فكر عربيّ؛ فالمسألة مرتبطة بالمفكّر، فهو من يقوم بدور الطّبيب لعلاج أزمة هذا الفكر، ولكن ماذا تقول إذا كان الطّبيب هو ذاته المريض؟

د. صادق بلعيد: هذا ما حدث في العالم العربيّ الإسلاميّ، وهو ما نعيشه؛ فنحن في حالة مرض بغير وعي، والأطبّاء منّا هم أنفسهم في حالة مرض وأزمة. ولم يحدث لدينا بعد ما حصل في العالم الغربيّ، حيث يحدث الكثير من الفلاسفة والمفكّرون إلى جانب النّخب المثقّفة والسّياسيّة حركيّة في مجتمعاتهم؛ بالمشاركات الفكريّة، والفلسفيّة، والحوارات، والنّقاش في المسائل العامّة، بغضّ النّظر عن قيمة الإنتاج الفلسفيّ الّذي يقدّمونه، وبغضّ النّظر عن التّباين في مستوى الانتماء أو الثّقافة أو التوجّه العقائديّ أو النّوع الاجتماعيّ، فإنّ تلك الحركيّة تثير النّقاش في المجال العامّ، وتمهّد السّبيل لطرح التّساؤل حول كل ما يمكن أن يمسّ الواقع أو يتعلّق به سواء كان ذلك من جانب البنية القانونيّة والتّشريعيّة أو من جانب المفاهيم العامّة أو من جانب التّمثّل الاجتماعيّ أو الممارسة السّياسيّة. هذا الأمر ما يزال بعيد التحقّق في مجالنا العربيّ الإسلاميّ، وإن كان الفضاء العامّ التّونسيّ شهد طفرة نوعيّة في مستوى الحرّيّات العامّة في السّنوات الأخيرة مكّنته من ولوج ساحة النّقاش والتأّسيس لرؤاه المختلفة، ومكّنته أيضاً من طرح بعض المسائل الّتي تُعتبر من المسكوت عنها في الثّقافة العربيّة الإسلاميّة ومن المحرّمات، إلّا أنّ الثّقافة العربيّة الإسلاميّة ماتزال قاصرة عن قبول هذه الأصوات ودخلنتها بالشّكل المقبول في سياق نقاش عامّ يؤثّث الفضاء الاجتماعيّ والفكريّ والسّياسيّ. ومازال المثقّف غير متحرّر بالشّكل المطلوب من إكراهات السّلطة وما يفرضه المجتمع التّقليديّ، وإن أراد التّعبير عن أمر ما فلا بدّ عليه أن يلبس لبوساً يتناسب مع ذلك، ولا بدّ له أن يدخل في جبّة السّلطان وألّا يخالف قوله أو قول المؤسّسة الدّينيّة مثلاً، حتّى لا يكون مارقاً أو مبتدعاً أو زنديقاً، وتلك إكراهات لا يبدو أنّ الفضاء الإسلاميّ قادراً على تجاوزها في الواقع المنظور. وهذا ما يؤدّي إلى ظاهرة هروب المثقّف والمبدع الّذي لا يستطيع التّعايش مع التّيّار النّمطيّ السّائد ولا يسمح لنفسه أن يكون مجرّد بوق لصوت السّلطة، والأمثلة عن ذلك لا تكاد تحصى لكثرتها في العالم العربيّ، وما تشهده فئة من المثقّفين وينتهي بها إلى الهروب أو الصّمت والانسحاب من المشهد العامّ، إنّما هو تعميق للأزمة، ودوران لا متناهي في حلقة مفرغة لا تؤدّي إلى نتائج أو حلول. أضف إلى ذلك كلّه غياب الأطر المناسبة الّتي تهتمّ بقضايا الإصلاح، وانسحاب الجامعة من ممارسة دورها الفكريّ والإصلاحيّ في المجتمع، فهي تكتفي بأطر ضيّقة ونخبويّة لا تكاد توصل صوتاً أو صدى إلى أسماع المجتمع أو حتّى المشاركين في الفضاء العامّ.

د. نادر الحمّامي: نجد في المجتمعات الغربيّة، أن السّياسيّ يصطف وراء المفكّر. ونجد عكس ذلك في المجتمعات العربيّة؛ فالسّياسيّ هو من يحدّد اتّجاهات المفكّر. ونذكر هنا، كتاب إدوارد سعيد حول المثقّف، وهو يتحدّث عن نوع من المعادلة؛ أي ما يسمّيه: «المفكّر خارج السّلطة، وهو داخل السّلطة»؛ بمعنى ألّا يستقيل من الشّأن العامّ ولكن، يُبقى على استقلاليّته الفكريّة. أليست هذه المعادلة صعبة؟

د. صادق بلعيد: فعلاً، هذا النّوع من المفكّرين نادر، مع الأسف، وكثير من أولئك المفكّرين يقع إدراجهم في تيّار معيّن، تحت مظلّة السّلطان، والبقيّة يقع بشأنهم ما كان تحدّث عنه الفيلسوف الأمريكيّ ماركوز (herbert marcuse)، عندما تكلّم عن مسار المفكّر، وانتهى إلى توصيف المثقّف بالمستقيل من الشّأن العامّ. تلك أيضاً حال المفكّر في العالم العربيّ، فهو في موقف الاستقالة، أو عدم الاهتمام، أو التّغاضي عن الشّأن العام، وهو يترفّع عن التّدخّل في الحيثيّات اليوميّة، وهذا تعامل خاطئ مع مفهوم النّخبة. وما رأيناه في كثير من الحالات، هو نوع من الاستسلام، ذلك أنّ من المفكّرين مَن يقول: «هذه أزمة حقيقية، ولكنّها ليست شأننا، فنحن نغسل أيدينا من هذه الأزمة، ونترك أمرها للمشتغلين بالشّأن العامّ من سياسيّين وغيرهم». والبعض من هؤلاء، وأنا أنتمي إليهم، ينتقدون من دون الوصول إلى اقتراح حلول ناجعة؛ فالضغط السّياسيّ يجعلك، في أفضل الأحوال، تقدّم النّقد ولا تأتي بالحلّ. وهذا ما عشته شخصيّاً، حين أقدمت مع مجموعة من الزّملاء، منذ سنتين، على إصدار نداء دعونا فيه المجتمع إلى إعادة النّظر في مسار الثّورة التّونسيّة وبرنامجها، وحصل أنّ رئيس الدّولة قرأ نصّ البيان، فطلب لقاء نخبة من بين الأربعين الّذين حرّروه، وكنت من بينهم، وطلب منّا الإفصاح عن مشاغلنا وما نراه، فأدلى كلّ بدلوه، وذكرنا كمّاً هائلاً من المشكلات الّتي نراها، فكان موقف رئيس الدّولة موقف السّياسيّ الماهر، وقال لنا: «أنا موافق على كلّ التّحاليل الّتي قدّمتموها، وبارك الله فيكم، ولكن أعطونا الحلول. هل من حلّ لكلّ هذه المشكلات؟». وعندما حاولت أن أحفظ ماء الوجه، وأقوم باقتراح بعض الحلول لم أجد مساندة من بعض الزّملاء؛ لأنّ الاختلافات في وجهات النّظر إلى طبيعة الحلول كانت عائقاً، يحتاج تذليله إلى نقاشات موسّعة في الفضاء العامّ وإلى النّظر إلى مختلف الآراء، وإلى استعداد السّياسيّ لتقديم مبادرات تلخّص تلك الرّؤى.

د. نادر الحمّامي: يمكن القول إنّكم وجدتم المساندة السّياسيّة، ولكنّكم لم تجدوا الحلول؟

د. صادق بلعيد: لقد كنّا بصدد القيام بعمليّة بناء نظريّ، أي إنّه ليس معنيّاً بالحلول بدرجة أساسيّة بقدر عنايته برصد المشاكل في سياقات متفاوتة ومتداخلة، وأردنا أن يكون هذا مركّزاً على منظومة فكريّة واجتماعيّة وسياسيّة، تمكّن من التّفكير والتّقدّم والاستمراريّة. ورغم أنّ الفضاء التّونسيّ فيه من الانفتاح والتّحرّر ما يعد بذلك، إلّا أن هذا ما لم يحصل بعد، ولا يمكن أن يتحمّل ذلك صاحب القرار وحده ولا المثقّف وحده، وإنّما هي عمليّة تواصل وانفتاح يجب أن تستمرّ وأن تنعكس على الفضاء العامّ الّذي يشارك فيه الجميع.

د. نادر الحمّامي: إذن، أنت وجدت مفكّرين بارعين في التّشريح والوصف، ولكنّك لم تجد من هو قادر على وصف الدّواء؟

د. صادق بلعيد: بل لم نجد المستشفى، والإطار الطبّي الّذي يمكّننا من العلاج، فعندما تريد أن تقدّم فكرة إصلاح، فلا بدّ أن يكون هناك مؤسّسة، وبدون هذا لا يمكننا أن نتقدّم، لذلك، فكثير من المفكّرين، يقولون: لا فائدة من الجهد ما دمنا لا نستطيع إيصال أفكارنا، أو تحقيق مشاريعنا الفكريّة، وهذا اليأس هو من المظاهر الكبيرة لهذه الأزمة الفكريّة، ما أدّى إلى الانسياق في مجال ما هو موجود بالنّسبة إلى البعض، أو عدم الاهتمام، وبالتّالي، اليأس تماماً، بالنّسبة إلى البعض الآخر.

د. نادر الحمّامي: ومن أبرز ما يتعلّق بهذه الأزمة، ممّا أضيف إلى ما ذكرتَ؛ أنّ بعض المفكّرين والنّخبة المثقّفة، حتّى وإن ظهروا، وتحدّث عنهم المجتمع وكانوا محلّ اهتمام؛ فإنّ هذا الاهتمام يكون في بعض المسائل الجزئية والعابرة فقط، وأحياناً، يكون لمجرّد الاستهلاك اليوميّ، ودون أسس فكريّة عميقة، فلا تظهر أفكارهم إعلاميّاً بالشّكل المطلوب، ثمّ إنّ المؤسّسات التّقليديّة، الّتي عندنا اليوم، لم تعد تسمح بهذا التّفكير، وبفكر الجامعة نفسها، الّتي لم تصبح هي القاطرة لإنتاج المعرفة والتّميّز الاجتماعيّ، وهذا ربّما إشكال آخر يمكن أن نضيفه.

د. صادق بلعيد: الأزمة ليست فكريّة فحسب؛ بل هي أزمة سياسيّة ومجتمعيّة، ولا بدّ على البلاد التّونسيّة أن توجّه التّحوّلات السّياسيّة الّتي تحدث فيها، نحو التّجديد الحقيقيّ والإصلاح، فما يحدث هو فرصة تاريخيّة على الجميع اقتناصها من أجل البناء والتّغيير، وهذا يبدأ وجوباً بالتّفكير في الإصلاح، وإيجاد ركيزة مؤسّساتيّة تمكّن من تحويل الفكر النّظريّ إلى فعل. وقد كنت من بين الّذين نادوا بوضع هياكل فكريّة وسياسيّة، تجمع المختصّين في قضايا الشّأن العامّ والمفكّرين والأكاديميّين والمثقّفين والمبدعين وغيرهم، وحثّهم على المبادرة والمشاركة الفعليّة، ووضع الخطط ورسم الأهداف المنظورة. هذه المؤسّسات هي ما يجب على السّياسيّ أوّلاً أن يبعثها أو أن يوفّر شروط بنائها وعلى المثقّفين تأثيثها، وعلى عامّة النّاس أن ينتبهوا إلى ما يصدر عنها ويلتمسوا فيه أبعاده ورؤاه الّتي يقدّمها في الإصلاح. وفي غياب هذه المؤسّسات، من الصّعب أن نتقدّم كثيراً أو أن نحقّق الأهداف الّتي نرجوها. ورغم كلّ مظاهر الأزمة الّتي نعيشها، لا يجب علينا أن نستسلم إلى اليأس، ومهما كانت المبادرات الّتي نقوم بها، فهي، ربّما، تمثّل لبنة صغيرة، ولكن لها مكانها في البناء، مع الأمل في أن يقوم الشّباب بمواصلة هذا البناء.

د. نادر الحمّامي: على هذا الأمل بمواصلة البناء، من منطلق القناعة بأنّ التّاريخ يتحرّك في إطار الأزمات، نصل إلى ختام هذا الحوار؛ الأستاذ صادق بلعيد شكراً جزيلاً لك على ما تفضّلت به.

1- أستاذ متميّز بالجامعة التّونسيّة، متخصّص في القانون العامّ. صادق بلعيد: له عدد من المؤلّفات في القانون العامّ، وأصوله الفلسفية والإبستمولوجيّة. نذكر من بينها كتاب (essai sur le pouvoir créateur et normatif du juge) «سلطة القاضي الإبداعيّة والحكمية» (1974)، وكتاب (islam et droit: une nouvelle lecture des «versets prescriptifs» du coran) «القرآن والتّشريع: قراءة جديدة في آيات الأحكام» (2000). شغل منصب عميد كلّيّة العلوم القانونيّة والسّياسيّة والاجتماعيّة، وأستاذاً زائراً في عدد من الجامعات الغربيّة والعربيّة.