دور المركزيّة الغربيّة في صناعة خطاب الكراهية بين الشعوب


فئة :  قراءات في كتب

دور المركزيّة الغربيّة في صناعة خطاب الكراهية بين الشعوب

دور المركزيّة الغربيّة في صناعة خطاب الكراهية بين الشعوب([1])

قراءة في كتاب أماريتا سين([2])، الهويَّة والعنف: وهم المصير([3])


- السياقات التاريخيّة والسجاليّة للكتاب

هذا الكتاب هو في الأصل مجموع ستّ محاضرات قدّمها أماريتا سين Amartya Sen في جامعة بوسطن في الفترة ما بين نوفمبر 2001 وافريل 2002، حملت هذه الدروس عنوان: "مستقبل الهويّة". يتنزّل هذا الهاجس ضمن سياقيين: الأوّل تاريخي، والثاني نظري.

يحيل السياق التاريخي مباشرة إلى أحداث الحادي عشر من سبتمبر في أمريكا، وما اقترن بها من سجالات واتهامات وضعت الإسلام "الجهادي" في دائرة القنص والمطاردة الأطلسيّة. ولم تكتفِ التحليلات الأيديولوجيّة عند هذا الحدّ، بل نراها قد عمّمت الخطر الذي بات يمثله الإسلام عموماً والمسلمون بكلّ أطيافهم على الأمن القومي الأمريكي.

يردّ أماريتا سين على هذه الادّعاءات ويحاول تنسيبها، وينقد بشدّة تضخيم الخطر "الإسلاموي" على الأمن القومي الغربي، ويعتبره مخطّطاً لتورية المعضلات البنيويّة التي بات يتخبّط فيها النظام الرأسمالي الكوكبي بعد انفراده بإدارة العالم[4].

ينخرط الاقتصادي والفيلسوف البنغالي ضمن النقاش الكوني الذي فجّرته أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، بعد أن أدرك بحدس المثقف الاستشرافي أنَّ العالم الغربي قرّر الدخول في المرحلة الثانية من إعادة تشكيل العالم. علماً أنَّ المرحلة الأولى بدأت مطلع تسعينات القرن الماضي، حين انهارت الإمبراطوريّة السوفياتيّة، وانفردت الولايات المتحدة بحكم العالم، معلنة ميلاد "النظام العالمي الجديد"[5].

تتمثل عناوين المرحلة الثانية التي بدأت مطلع القرن الحادي والعشرين في إيجاد تبريرات كافية و"مقنعة" للتدخل في مناطق الثروات الطاقيّة وحيازتها نهائيّاً، وهو المخرج الذي كانت تحتاجه الرأسماليّة العالميّة لحل أزماتها الدوريّة.

تفتقت العبقريّة الأمريكيّة عن سيناريو الحادي عشر من سبتمبر الدرامي، في مسعى لتحميل مسؤولياته - كما هو معروف - إلى ثقافة الشرق الأوسط الدمويّة، وهو الادعاء الذي روّجته كونيّاً الإدارة الأمريكيّة أثناء حكم المحافظين. ثمّ قامت بتجنيد أبواق دعايتها من مثقفين وإعلاميين وفنانين، لإثارة مشاعر الرعب من هذا الشرق الأسطوري والدموي، ومن هذا الدين الذي يحضّهم على قطع رؤوس الغربيين لنيل الرضاء الإلهي. وهكذا بدأ تنفيذ ما كان يسمّيه "صقور" الإدارة الأمريكيّة: "مشروع الشرق الأوسط الكبير".

دخل العالم في عهد الصراعات الهوويّة، الذي كان صامويل هنتغتون قد رسم ملامحه بشكل توقعي منذ بداية تسعينات القرن الماضي في كتابه: "صدام الحضارات وإعادة تشكيل النظام العالمي" (1996). ثمّ أردفه بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر بكتاب هووي صريح، بعنوان: من نكون؟ تحديات الهويّة القوميّة الأمريكية (2005)[6].

ينبّه سين النخبة الأمريكيّة والغربيّة عموماً إلى التريّث وعدم الانسياق وراء إعادة إنتاج خطاب الكراهية والتمييز العنصري والثقافي والحضاري بين الشعوب، والعمل على التحرّر من أوهام المركزيّة الغربيّة التي دفعت الغرب إلى تبرير عدوانه المتكرّر على بقيّة شعوب العالم.

فضلاً عن السياق التاريخي والحراك الجيو-سياسي الذي عرفه العالم بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، يتنزّل كتاب: "الهوية والعنف ضمن سياق نظري شهده الفضاء الأنغلوسكسوني، وذلك بعد صدور كتاب نظريّة العدالة لجون رولس[7]، وما أعقبها من ردود فعل صدرت عن زمرة من الفلاسفة الأنغلوسكسونيين المدافعين عن أولويّة الانتماء الجماعتي (ماك إنتاير-مايكل ساندال ومايكل والتزر وتشارلز تايلور)[8]. يتدخّل سين في هذا النقاش الليبرالي/ الجماعتي، وينحاز إلى الفريق الأوّل، لكن مع بعض التحفظات، وينبّه الجماعتيين إلى عدم إجبار الأفراد على الولاء لمجتمعاتهم الأولى، وتمكينهم من هامش أكبر من الاختيار بين الثقافات والحضارات التي تتفق ورؤاهم للعالم.

- في الرد على التقسيمات الهوويّة والحضاريّة والدينيّة للشعوب

لا تثار قضايا الهويّة إلّا في حال تهديدها واستفزازها، ودون ذلك تظّل الهويّات في حالة سكون واستقرار، حتى أنَّنا لا ننتبه إلى وجودها وأهميتها، طالما لا تشكّل معطى حيويّاً في حياتنا العاديّة. ولكن حالما يأتيها الخطر من الخارج ويجبرنا الآخر على التماهي به والخضوع إلى نمط حياته وتبنّي رؤيته للعالم وتكييف سلوكنا بحسب سلوكه، تستيقظ فينا عندها مشاعر المهانة والاستعباد، فنشعر بقفدان خصوصياتنا، تلك التي صنعت عوائد حياتنا ومنحتنا إحساساً بالأمان الوجودي والاستقرار الجماعي. وعندها فقط نفهم أنَّ ما ندافع عنه ليس مجرّد هويّة مهدّدة بالتلاشي وبالتبعيّة للآخر، بل هي حرّيتنا وطريقة وجودنا في العالم، ومن ثمّة مصيرنا. لهذا فلا نعجب من اقتران مطلب الدفاع عن الهويّة بالعنف بكلّ أشكاله وتجلياته، إذ يتعلق الأمر بالصراع الأبدي بين الحريّة والعبوديّة، بين الخصوصيّة والغيريّة، بين الأنا والآخر، سواء أكان فرداً أو جماعة. ولكن هل تفادي التعرّض للعنف الآخر الهووي (بمعنى الوجودي والحيوي معاً) يحتّم علينا الانغلاق على ذواتنا الصغرى وخصوصياتنا الضيقة، والاحتراز من الآخر الذي يترصّدنا للهيمنة على وجودنا وحياتنا؟ أليست الهويّة، في هذا السياق، هي سجن "حمائي" نختفي وراء أسواره حتى لا يباغتنا الآخر؟ هل الحفاظ على الهويّات، بمعنى الخصوصيّات، هدفه الاحتماء وراء ذوات مستقلة أو جماعات وقوميّات "نقيّة" لا تخترقها الدماء "الغريبة" (الدولة-الأمّة الأوروبيّة نموذجاً)؟

هنا تحديداً تكمن معضلات الهويّة: فنحن مجبورون على نسج هويّات فرديّة وجماعيّة من أجل التميز والتفرّد، لأنَّ ذلك هو شرط الإبداع والاختلاف. علماً أنَّ المعنى الموجب للهويّة ليس التماهي بالجماعات الجاهزة والولاء لقيمها وعاداتها، بل الانتماء إليها دون التماهي بها بشكل سلبي. بمعنى أنَّ الفرد باعتباره غير قادر على نحت هويته القاعديّة (إرثه البيولوجي ووارثه الثقافي) بنفسه ودون أن تعطى له هذه الموروثات مسبقاً، إلّا أنَّه مطالب فيما بعد بإعادة تشكيل ذاته واختيارات حياته الفرديّة على ضوء هامش وحقوق الاختلاف التي يسمح بها المجتمع. وهذا هو معنى "الحريّة الموجبة" كما صاغها إسحاق برلين واستعادها أماريتا سين وتشارلز تايلور. وتعني بلغة سين أنَّ المجتمع مثلما هو مطالب بمنح أفراده هويّة قاعديّة تضفي على وجودهم الشرعيّة والمعنى، فهو أيضاً مطالب بتوفير "الإمكانات"[9] والحريّات الموجبة، حتى يختار الأفراد نمط الحياة الجيّدة التي يرتؤونها لأنفسهم.

وعليه من الحيف ألّا نرى هامش الإبداع الذي تنخرط فيه الذوات الحديثة، وهي تنحت هويّاتها المختلفة بشكل "متراكب" Superposée حسب تعبير إدغار موران، لا يميّز بين طبقة وأخرى، أو بين ميل وآخر، أو بين انتماء وآخر...لماذا نغضّ الطرف عن كلّ ميولاتنا التي تشكّل هويّتنا المتراكبة، ونُبقي فقط على بُعد أحادي في شخصيتنا: على غرار البُعد الديني مثلاً أو القومي أو اللغوي أو العرقي أو اللوني أو المثلي...إلخ؟ هل يضمر هذا الاختزال المفتعل رؤية ما للعالم؟ هل تنبع من الأيديولوجيا أم من المعرفة الموضوعيّة؟

إنَّ مردّ كلّ العنف المسلّط على ذواتنا هو هذا الاختزال الذي يردّنا إلى مجرّد كائنات مسطّحة، خالية من كلّ عمق، ومن كلّ المفاجآت ومن كلّ الاختلافات، كائنات يراد لها أن تكون منسجمة ومتماثلة حتى تكون أو تستحق صفة "العاقلة" أو "السويّة". وكأنَّ التنويع في الاختيارات والميولات والاندفاع نحو إشباعها مخالف لنواميس الانضباط والتعقل والأخلاق. لهذا تفترض أجهزة الرقابة والتقييد والتصنيف أن نصنف السلوكات والميولات والولاءات الفرديّة بحسب سلّم تفاضلي أخلاقوي أو عقائدي، حتى يسهل على السلطة الماديّة والرمزيّة التحكم في الرقاب والتصدي خاصّة لكلّ حالات التمرّد والخروج عن طور القطيع.

يتبين حينئذ أنَّ اختزال الأفراد والجماعات في هويّات أحاديّة، والدفع بها إلى الانغلاق والنرجسيّة، يخدم بالدرجة الأولى مصلحة السلطة ومهامّها في ضبط ميولات الأفراد وانتماءاتهم. أمّا الغاية، فهي استباق مخطّطاتهم وإحصاء حركاتهم وسكناتهم وإبقاؤهم داخل هذه الأسيجة الضيّقة وإرهابهم من الانفتاح على الآخر. والنتيجة هي تنامي مشاعر الفوبيا من الآخر (حالة الغرب اليوم). يقول سين: "إنَّ العنف ينمو عندما نعّمق إحساساً بالحتميّة حول هويّة يُزعم أنَّها فريدة وغالباً مقاتلة (...)، إنَّ فرض هويّة فريدة زعماً هو غالباً أحد المكوّنات الحاسمة من "الفن القتالي" لإثارة المواجهات الطائفيّة"[10].

بالنسبة إلى سين لا يتعلق إشكال الهويَّة في علاقتها بالصراع والعنف بين المجتمع والسلطة وبين اطياف المجتمع الواحد فحسب، بل أيضاً بين الفرد والسلطة ماديّة كانت أو رمزيّة. إذن فأصل المشكل ليس حضارياً وأنثروبولوجيّاً فحسب، بل يعود بنا إلى مشكلة اغتراب الذوات في المجتمعات ما بعد الحداثيّة. فما وقع بالتحديد من تحوّلات جيو-سياسيّة كبرى مطلع تسعينات القرن الماضي، ولعلّ أبرزها قيام العولمة الأمريكيّة وتآكل سيادة الدولة الوطنية، حرَّر الأفراد من قبضة الولاء لهذه السلطة، التي لطالما مارست عليهم سياسة الفرز الهووي (أنطونيو نيغري)، ودفعتهم إلى إعادة التفكير في انتماءاتهم وولائهم.

لقد مكّن التحرّر ما بعد الحداثي الأفراد من حريّات انتمائيّة جديدة إلى مجموعات وأطياف وطوائف وجمعيّات ورابطات ومنتديات وعقائد وميولات جندريّة وشبكات تواصليّة افتراضيّة، لم تكن لتظهر لولا تفكّك سلطة الدولة-الأمَّة وضمور رقابتها على الأفراد. لم يعد مستساغاً الحديث اليوم عن مجتمع متجانس ومتضامن عضويّاً (حسب سبنسر ودوركايم)، بل عن "حشود" Multitude. يقول نيغري/ هاردت الحشود: "هي كثرة، ومجموعة من الفرديّات، ولعبة مفتوحة من العلاقات، ليست متجانسة ولا أيضاً مساوية لنفسها، بل هي متمايزة، وقابلة في الوقت نفسه لاستقبال المختلفين عنها. بينما تنحو بنية الشعب إلى الانغلاق والتجانس حول الهويّة الواحدة والنهائيّة، ولا يطرح الاختلاف إلّا في تعارض مع الهاجس الهووي، بحيثإأَّن ما يقع خرج دائرة التعريف هو مخالف وليس مختلفاً، وتجب إمَّا إزاحته أو احتواؤه. أمَّا الحشود، فتنفتح على التمايزات وتهضمها. الشعب هو بالتعريف بنية تأليفيّة متجانسة مُعدَّة للسيادة"[11].

هكذا تحللت البنى العضويّة والتضامنيّة للمجتمعات الكلاسيكيّة بمجرَّد ضمور سلطة الدولة-الأمَّة الأوروبيّة، ومقدم العصر العولمي.

أثار تراجع الدور التقليدي للمجتمع ردود فعل زمرة من الفلاسفة الأنغلوسكسونيين عرفوا لدى خصومهم بـ"الجماعتيين" Communautariens.

أ) في الردّ على "الجماعتيين":

"الجماعتيّة" هي نزعة فلسفيّة وليست حركة اجتماعيّة أو سياسيّة أو عقائديّة. وقد ظهرت كردّ فعل نقدي على "نظريّة العدالة" (1971) لجون رولس. وتضمّ زمرة من الأكاديميين الكنديين والأمريكيين، وهم: مايكل ساندال ومايكل والتزر وماك إنتاير وتشارلز تايلور.

يدافع الجماعتيون عن أولويّة التنظيم الجماعي وقداسة التاريخ والتقاليد الجماعيّة على الحريّات الفرديّة العشوائيّة والفوضويّة. فالفرد لا يكتمل إلّا داخل مثل الوحدة الاجتماعّية ومفهوم الخير المشترك. "فالمشترك هو الذي يحقق الإنسان كنوع لا كفرد"[12].

تمثل الجماعة إذن الرمز الأعلى للخير المشترك. ففي كنفها يستوفي الأفراد مُثلهم الفرديّة ويشبعونها. وتجدر الإشارة إلى أنَّ المقصود من "المشترك" ليس فقط "المعايير والممارسات، بل أيضاً الروابط السيكولوجيّة العميقة ومختلف صيرورات النمو التي بواسطتها ينغرس الأفراد في السياق الجماعتي ويندمجون محققين اجتماعياتهم"[13].

تمثل النزعة الجماعتيّة بالنسبة إلى سين عودة مستترة وحنيناً إلى التشكيلات ما قبل الحداثية التي عفى عليها الزمن، ذلك أنَّ المدينة التي يعتبرها الجماعتيون سابقة في غاياتها على الأفراد اقتداء بأرسطو، لم تعد ذلك الفضاء العائلي والأسري الذي تدرّج في الكثافة السكانيّة حتى بلغ مستوى المدينة، بل أضحت هذه المدن العملاقة والذكيّة Megapolis التي تتحكّم فيها البرمجيّات الرقميّة والأقمار الاصطناعيّة.

وعليه فطالما تغيّر فضاء المدينة، وحيث لم يعد الناس ينتظمون داخل مجتمع متجانس ومغلق، بل داخل "حشود" تجمعها مشتركات جديدة، فالأولى أن نعيد التفكير في "إمكانات"[14] أخرى بموجبها يتاح لكلّ فرد الاختيار بين أنماط متنوّعة من الحياة الجيدة التي يرتئيها.

يؤسّس سين رؤية للعدالة والإنصاف في تباين مع النفعانيّة والرولسيّة والجماعتيّة. ويسحب هذه الرؤية القائمة على تمكين الأفراد من الاختيار بين عدّة ممكنات على كلّ مجالات الحياة بدءاً بالاقتصاد إلى السياسة إلى الثقافة. وما يهمّنا في هذا الصدد هو تطبيقات نظريَّة "الممكنات" أو الحريّات الفرديّة لأنماط الحياة المتعدّدة في مجال الرموز والثقافات وبالتحديد حريّة اختيار الأديان والثقافات والحضارات كما يجب أن تتاح لكلّ الأفراد، حتى يتحرّروا من "الاحتجاز الحضاري"[15] ومن "الانعزال الهووي"، ذلك أنَّ هويّتنا مركّبة بشكل مدهش، "ففي حياتنا العاديّة نرى أنفسنا أعضاء لعدد متنوّع من الجماعات. (...) فالشخص الواحد قد يكون دون أيّ تناقض، مواطناً أمريكيّاً من أصل كاريبي وينحدر من أصل أفريقي ومسيحيّاً وليبراليّاً، وامرأة أو رجلاً، ونباتيّاً وعداء للمسافات الطويلة، ومؤرخاً ومعلماً وروائيّاً ومناصراً لقضايا المرأة وطبيعيّاً في علاقته بالجنس الآخر ومؤمناً بحقوق المثليين، ومحبّاً للمسرح، ومناضلاً من أجل قضايا البيئة، ومشجعاً للعبة التنس، وعازفاً لموسيقى الجاز، ويعتقد في وجود مخلوقات خارجيّة يمكن التواصل معها (...). واعتباراً لهويتنا المتعدّدة بشكل لا مفرّ منه، فإنَّ علينا أن نقرّر الأهميّة النسبية لصلاتنا وانتماءاتنا المختلفة في أيّ سياق بعينه"[16].

يرفض سين على غرار هابرماس أن تكون للثقافة المجتمعيّة -السابقة والمحدّدة لوجودنا- أيَّة قيمة إلزاميّة خارجيّة علينا، لكوننا ذوات حرّة ومتساوية في الحقوق والواجبات، بحيث لا تعدو هذه الثقافة أن تكون سوى "إحدى الميولات الفرديَّة من الدرجة العليا" وفق عبارات هابرماس[17]. يتعيّن أن يتولّى الأفراد مصيرهم الثقافي بأيديهم بعد زوال كلّ الحتميّات والهيئات والوصايا التي كانت توجّه أرواحهم وتتحكّم في أجسادهم. والمقصود بالمصير الثقافي هو التحرّر من "الاحتجاز الثقافي" الذي فرضته علينا الثقافة-الأم والهويّة القاعديّة والجرأة على اختيار الانتماء الثقافي وعدم تجريم الانسلاخ والترحال الثقافي والعقائدي، عندما لا تستجيب الثقافة-الأم إلى آمالنا وتطلعاتنا.

وعلى النقيض من الطرح الجماعتي لا تكرّس الحقوق الثقافيّة المنشودة إعادة غرس الفرد في محيطه الثقافي-الأم، بل تشرّع تحرّره من ثقل الثقافات الجاهزة بمنحه حريّة الاختيار بين البقاء والمغادرة دون إكراه أو ملاحقة أو تجريم. لا يتعلق الرهان هنا بالحفاظ على وحدة جماعيّة زائفة على وشك السقوط أو بإرغام الأفراد على الولاء لتراث ولتاريخ قد يكونون هم ضحاياه، بل الحفاظ بالدرجة الأولى على حرمة الأفراد وحريّة اختيارهم[18]. من هذا الأفق تخضع الحقوق الثقافيّة للرّوح الفردانيّة الليبراليّة وليس لروح جماعة قبليّة مهيمنة على الأفراد. فالحق الثقافي يجب أن يكرّس الحق الفردي ويعزّز هامش الحريّات بدل أن يقلّصه بفرض الولاء والطاعة لأنظمة سلطويّة متداعية ومتهافتة.

ب) في الرد على نظريّة "صدام الحضارات":

في سياق متصل بالردود على الاختيارات الأحاديّة المسقطة على الأفراد، وتشريعاً لذات الحقّ الثقافي الذي يجب أن يمنح للأفراد في المجتمعات الليبراليّة متى وجدوا لذلك حاجة، يردّ سين على ما يصفه بنظريّة "الاحتجاز الحضاري" التي يروّج لها صامويل هنتغتون.

تقوم هذه الأطروحة على "تصنيف الناس وفقاً للحضارات المزعوم انتماؤهم إليها وقابليّة هذا التصنيف للبقاء (...) (وينجرّ عن مثل هذا الوضع) أنَّ الناس الموضوعين داخل صناديق حضاريّة سيكونون خصوماً، وستكون الحضارات التي ينتمون إليها معادية لبعضها البعض"[19].

إنَّ احتجاز الشعوب داخل "صناديق حضاريّة" جاهزة، هو ضرب من الاعتداء على اختياراتها، والتعاطي معها على أنَّها "قاصرة" ولا يمكنها الاختيار سواء تعلق الأمر بالمجال الثقافي (الحق الثقافي) أو بالمجال السياسي (الحق السياسي). وبالتالي الوصاية على مصيرها لإبقائها بصفة أبديّة رهينة اختيارات من تفوّضهم السلطة للتحدّث باسمها، سواء أكان رجل سياسة أو رجل دين أو رجل قانون أو حتى إذا كان طبيباً...فكلّ هؤلاء "الأوصياء" على اختياراتنا (العبارة لكانط) يصادرون حقنا في التفكير والقرار ويقدّمون لنا وصفات جاهزة، حتى يضمنوا استمرار مصالحهم واستقرار وضعيّات التفاوت المعرفي والطبقي بين الأفراد.

وبالتمشي نفسه، وإلى الغايات نفسها، لا يفتأ دعاة المركزيّة الغربيّة في تصنيف الشعوب اعتماداً على نظرة عنصريّة ودونيّة، تعتبر الحضارة الغربيّة والرجل الأبيض تحديداً، أرقى ما توصّلت البشريّة إلى إبداعه، وأنَّه على بقيّة العالم أو "الشعوب الطّرفيّة" بتعبير سمير أمين، الاقتداء بحضارة "الغالب" وتقليد منوالها إذا رامت الالتحاق بركب "التقدّم"، بل بلغ الأمر بفرنسيس فوكاياما (اقتداء بهيغل) الادعاء بأنَّ حضارة الرجل الغربي الأبيض هي آخر محطّات التاريخ البشري، وبعد ذلك سيبدأ عصر الانحطاط والزوال[20].

يُحمّل سين الغرب مسؤوليّة تقسيم العالم إلى قطبين: شرقي/ غربي، متقدّم/متخلف، ما انجرّ عنه تبرير الحركات الاستعماريّة وما خلّفته اليوم من مشاعر الدونيّة والاضطهاد، دفعت بالبعض إلى استثمارها لتأجيج الصراعات الهوويّة بين الحضارات خدمة لأجندات غير دينيّة وغير حضاريّة[21]. كتب يقول: "إنَّ إنسانيتنا المشتركة تتعرّض لتحدّيات وحشيّة عندما توحّد التقسيمات المتنوّعة في العالم في نظام تصنيف واحد مهيمن مزعوم، يعتمد على الدين أو الجالية أو الثقافة أو الأمّة أو الحضارة"[22].

يردّ سين على مغالطات الغربيين وادعائهم التفوّق والسبق العلمي والذهني على بقيّة الشعوب وخاصّة الآسيويّة والعربيّة والأفريقيّة، ويبيّن أنَّ الغرب "لا يمتلك الأصول التجاريّة للأفكار الديمقراطيّة"[23]. فالآسيويون والعرب حققوا عبر التاريخ وقبل العصر الأوروبي حداثة علميّة وسياسيّة، طمسها المؤرخون الغربيون عمداً.

عرفت الهند وإيران واليابان في الأزمنة القديمة أشكالاً متنوّعة من التدبير السياسي الجماعي على غرار النقاش العام والاقتراع والشورى[24]. لكنَّ المؤرّخين الغربيين غالباً ما يقفزون من تجربة اليونان القديمة إلى فرضيّة الطبيعة "الغربيّة" أو "الأوروبيّة" المزعومة للديمقراطيّة، وهو أمر مربك وبغيض -حسب سين- لأسباب ثلاثة:

أوّلاً: هناك اعتباطيّة تصنيفيّة في تعريف الحضارات بتعبيرات عنصريّة إلى حدٍّ كبير. هناك أيضاً نكران للصلات الرابطة بين الإغريق ومعاصريهم من الحضارات القديمة الإيرانيّة والهنديّة والمصريّة.

ثانياً: عرفت بعض المدن في إيران والهند عناصر من الديمقراطيّة. وعلى سبيل المثال مدينة سوسة في جنوب غرب إيران، تمتّعت بمجلس منتخب وبرلمان شعبي وحكّام كان يرشّحهم المجلس وينتخبهم البرلمان.

ثالثاً: الديمقراطيّة ليست فقط عمليّة التصويت والاقتراع، لكنّها أيضاً التشاور والتفكير بين الناس عامّة (...) وعلى سبيل المثال بعض اللقاءات العامّة المفتوحة المبكّرة كان هدفها حلّ النزاعات بين وجهات نظر مختلفة حدثت في الهند في ما يُسمّى المجالس البوذيّة التي كان يشرف على تسييرها الإمبراطور أشوكا[25].

وفي الأزمنة الحديثة حقق الآسيويُّون حداثات جديرة بالتنويه والتقليد، لكنَّ المركزيّة الغربيّة تطمسها وتحاربها ولا تعترف بها. وعلى سبيل المثال، حققت سنغافورة في عهد مؤسّسها لي كوان يو مثالاً للنجاح الذي تتفاخر به القارّة الآسيويّة عامّة، حيث حافظت على غرار ماليزيا والهند وأندونيسيا والصين وكوريا (بلدان جنوب شرق آسيا عامّة) على زخمها العرقي وتنوّع هويّاتها وهي تخوض معارك البناء والإقلاع العلمي والاقتصادي. في حين فشلت دولة كفرنسا في إدارة التعدّد الثقافي والعرقي، ما أسفر عن أحداث عنف أليمة سنة 2005، تبعها بعد ذلك تنامي الحركات الأصوليّة فوق أراضيها[26]. وبدورها، حققت اليابان "معجزة" حداثيّة ارتكزت بالأساس على نشر التعليم ومقاومة الأميّة. في 1892 صدر المرسوم الرئيس للتعليم معلناً نهضة اليابان وقدرته على ولوج عصر الحداثة. وهو ما عبّر عنه بوضوح كيدو تاكايوشي أحد أهمّ مهندسي هذه الحداثة بقوله: "إنَّ شعبنا لا يختلف عن الأمريكيين أو الأوروبيين المعاصرين. إنَّ الأمر كله يتعلق بالتعليم أو نقص التعليم"[27].

خاتمة

لا تقترن الهويّة بالعنف في كلّ الأحوال، بل فقط عندما تُصاب الهويّة بالنرجسيّة، وتميل إلى الانغلاق والدوران حول محورها، وعندما ترفض الانفتاح على الغيريّات اعتقاداً منها في "الكمال" و"الطهريّة" (الهويّة العربيّة الإسلامية نموذجاً).

والمدهش هنا هو أنَّ الغرب الذي يزعم الكونيّة، وقع بدوره في محظور المركزيّة الهوويّة، فجعل نفسه مركزاً تشعّ منه الأنوار وبقيّة العالم أطرافاً تابعة غير قادرة على إنتاج حداثات مخصوصة. والنتيجة هي تنامي مشاعر الظلم والتجاهل وعدم الاعتراف والرغبة في الانتقام وحرب الأعراق والأديان[28].

[1]- نشر في الملف البحثي "العنف: قضايا وإشكالات" بتاريخ 29 مارس 2018، مؤسسة مؤمنون بلا حدود، تقديم وتنسيق: الطيب بوعزة ومحفوظ أبي يعلا.

[2]ـ أمارتيا كومار سين ولد عام 1933 في دكا عاصمة بنغلادش، وأنهى دراسته الأولى هناك، ثمّ تنقل بين جامعات متعدّدة ليحصل على الدكتوراة من جامعة كامبرديج، ثمّ تنقل للتدريس في جامعات عالميّة مرموقة، منها عميداً لكليّة ترينيتي في جامعة أكسفورد من عام 1998 إلى 2004. وهو يعمل حاليّاً أستاذاً للاقتصاد في جامعة هارفارد. حاز على جائزة نوبل للاقتصاد في عام 1998 عن دراساته المتصلة بالاقتصاد والرفاه الاقتصادي، ورغم أنَّه اقتصادي بالدرجة الأولى، لكنّه لم يحصر مؤلفاته في ذلك المجال، فقد ألف في السياسة ونظريّة العدالة وفي علم الاجتماع. من مؤلفاته:

  • L'Idée de justice, Flammarion, 2012. 
  • L'Inde. Histoire, culture et identité, Odile Jacob, 2007
  • Identité et violence, Odile Jacob, 2010. 
  • Rationalité et liberté en économie, Odile Jacob, 2005
  • La Démocratie des autres: pourquoi la liberté n'est pas une invention de l'Occident, Rivages poche, 2006.
  • L'économie est une science morale, La Découverte, 2004
  • Un nouveau modèle économique. Développement, justice, liberté, Odile Jacob, 2003 
  • Repenser l'inégalité, Points, 2012.
  • Éthique et économie, PUF, 2012
  • Commodities and Capabilities, OUP India, 1999
  • Poverty and Famines: An Essay on Entitlements and Deprivation, OUP Oxford, 1990
  • Choice, Welfare and Measurement, Harvard University Press, 1997

[3]ـ سوف نعتمد جزئياً على الترجمة العربيّة التالية:

- أماريتا سين، الهويّة والعنف: وهم المصير الحتمي، ترجمة: سحر توفيق، سلسلة عالم المعرفة، نشر المركز الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، يونيو 2008. وأيضاً على الترجمة الفرنسيّة التالية:

Amartya Sen, Identité et Violence, Traduit de l'anglais par Sylvie Kleiman-Lafon, Paris, Editions Odile Jacob, 2007.

[4]ـ أماريتا سين، الهويّة والعنف: وهم المصير الحتمي، ترجمة: سحر توفيق، سلسلة عالم المعرفة، ، نشر المركز الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، يونيو 2008، ص 90.

[5]ـ أمارتيا سين.

[6]. Samuel Phillips Huntington, the Clash of Civilizations and the Remaking of World Order, New Yor, Simon & Schuster, 1996.

- Who are we? The challenges to America's national identity, New York, Simon & Schuster, 2005.

[7]. Jhon Rawls, Théorie de la justice, Trad.fr. Catherine Audard, Paris, Seuil, 1987.

[8]. Berten, André, Pablo Da Silveira et Hervé Pourtois, Libéraux et communautariens, Paris, PUF1997.

[9]. Amartya Sen, Commodities and Capabilities, OUP India, 1999

[10]ـ أماريتا سين، الهويّة والعنف: وهم المصير الحتمي، ترجمة: سحر توفيق، سلسلة عالم المعرفة، نشر المركز الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، يونيو 2008، ص 9.

[11]. Michael Hardt, Antonio Negri, Empire, Paris, Exils, 2000, p.140.

[12]. Delaney, C.F. Rowman and Littlefield Publishers, the Liberalism - Communitarianism Debate.INC. United States of America, 1994 Introduction, op. cit., p.IX.

[13]. Nancy L. Rosenblum, "Romantic Communautarism: Blithedale Romance versus the Custom House", in the Liberalism-Communautarianism Debate, op. cit. p. 59.

[14]. Amartya Kumar Sen, commodities and Capabilities, OUP India, 1990.

[15]. Amartya Sen, Identité et Violence, op.cit, p. 34.

[16]. Ibid, p 11.

[17]. Jürgen Habermas, Une époque de transitions, Paris, Fayard, 2005, p.220.

[18]. Ibid. p.222.

[19]ـ سين، الهويّة والعنف، م.م، ص 54.

[20]. Faukuyama, Francis, La fin de l' histoire et le dernier homme, Flammarion, Paris, 1992

[21]ـ نفسه، ص 98.

[22]. Amartya Sen, Identité et Violence, op.cit, 16.

[23]ـ سين، الهويّة والعنف، م.م، ص 65.

[24]. Amartya Sen, La démocratie des autres: Pourquoi la démocratie n'est pas une invention de l'occident, Paris, Payot, coll. « Manuels », 2005, p.86 

[25]ـ سين، الهوية والعنف، م.م، ص ص 63-64 (بتصرف). لمزيد من الاطلاع انظر:

Amartya Sen, L’Inde, Histoire et culture, Paris, Odile Jacob, 2007.

[26]ـ سين، الهويّة والعنف، م.م، ص 100.

[27]ـ نفسه، ص 116.

[28]ـ نفسه، ص 146.