سيمياء الضحك: من الألش الشعبي إلى فلسفة المقاومة

فئة :  مقالات

سيمياء الضحك: من الألش الشعبي إلى فلسفة المقاومة

سيمياء الضحك: من الألش الشعبي إلى فلسفة المقاومة

مدخل: في ضرورة الضحك

"إن الضحك هو الخاصية المميزة للإنسان"، بهذه العبارة المنسوبة إلى الفيلسوف الفرنسي رابليه، والتي استهل بها الدكتور شاكر عبد الحميد مدخله لدراسة الفكاهة، نبدأ رحلتنا. فالضحك، هذا الفعل الإنساني العابر، ليس مجرد رد فعل فسيولوجي على مثير طريف، بل هو ظاهرة ثقافية، نفسية، واجتماعية بالغة التعقيد. إنه سلوك يكشف عن أعمق تناقضات الوجود الإنساني؛ فهو، كما لاحظ الفلاسفة منذ القدم، يجمع بين الألم واللذة، الجد والهزل، القوة والضعف. هذه الدراسة ليست مجرد جمع للنكات أو "الألش" الشعبي، بل هي محاولة "تأويلية" و"سيميائية" لقراءة علامات الضحك في الوعي العربي، باحثين عن إجابة للسؤال الجوهري: على ماذا نضحك حقاً؟

إن الإجابة تتكشف في فرضية أساسية: الضحك هو شكل من أشكال المقاومة. مقاومة ضد القهر السياسي، ضد الأزمات الاقتصادية، ضد الكبت الاجتماعي، بل وضد عبثية الوجود نفسه. من النكتة السياسية التي تتداولها الشعوب همساً في وجه الطغيان، إلى "الألش" اليومي الذي يحول قسوة الواقع إلى مادة للسخرية، تظل الفكاهة هي السلاح الأخير لمن لا سلاح له، وصوت من لا صوت له.

الضحك كآلية نفسية: نظريات التحرير والتفوق

لفهم هذه الظاهرة، لا بد من الغوص في أعماق النفس البشرية. يرى سيغموند فرويد في كتابه التأسيسي "النكتة وعلاقتها باللاوعي"، أن النكات هي آلية نفسية عبقرية تسمح لنا بالتعبير عن رغبات عدوانية أو جنسية مكبوتة بطريقة آمنة ومقبولة اجتماعياً. الضحك، من هذا المنظور، هو اللذة الناتجة عن تحرير هذه الطاقة المكبوتة، وهو تنفيس ضروري للصحة النفسية. أما فلاسفة نظرية التفوق (Superiority Theory)، من أفلاطون إلى توماس هوبز، فيرون أن الضحك ينشأ من "البهجة المفاجئة" التي نشعر بها عند إدراكنا لنقص أو عيب أو سوء حظ يلحق بالآخرين، مما يمنحنا شعوراً بالتفوق عليهم. الضحك هنا هو ضحك القوة والانتصار، ولو بشكل رمزي.

لكن الفيلسوف هنري برجسون يقدم رؤية أكثر اجتماعية في كتابه "الضحك"، حيث يرى أن الضحك هو "عقاب اجتماعي" موجه ضد كل سلوك آلي أو متصلب في كائن حي. نحن نضحك من الإنسان عندما يتصرف كآلة؛ لأن الحياة تتطلب المرونة والتكيف. الضحك هنا هو أداة الجماعة لتصحيح الانحرافات والحفاظ على حيويتها. هذه النظريات لا تتعارض بالضرورة، بل تكشف عن وظائف متعددة للضحك؛ فهو تنفيس نفسي، وتأكيد للقوة، وتصحيح اجتماعي في آن واحد.

تجليات الضحك في الثقافة العربية: من الجاحظ إلى "الألش"

لم تكن الفكاهة غائبة عن تراثنا العربي، بل كانت حاضرة بقوة، مما يدل على أصالة "روح الفكاهة" في الشخصية العربية. يعدّ كتاب "البخلاء" للجاحظ عملاً تأسيسياً في الأدب الساخر، فهو لا يكتفي بسرد نوادر البخلاء، بل يقدم تحليلاً نفسيًّا واجتماعيًّا عميقاً لدوافع البخل. يقول الجاحظ في مقدمته إن كتابه "يدور حول نوادر البخلاء، واحتجاج الأشحاء، وما يجوز منه في باب الهزل، وما يجوز منه في باب الجد". كما أفرد ابن الجوزي كتاباً كاملاً لـ"أخبار الحمقى والمغفلين"، وهو وإن كان يهدف إلى العظة، إلا أنه يزخر بالقصص الطريفة التي تكشف عن المفارقات الناتجة عن غياب المنطق، وهو جوهر الكثير من النظريات الحديثة للضحك.

هذا الإرث يمتد وصولاً إلى العصر الحديث. يرى الدكتور شوقي ضيف في كتابه "الفكاهة في مصر" أن روح الفكاهة تأصلت في نفوس الشعب المصري من أقدم الأزمان، كوسيلة للتنفيس عن "عسف بعض الحاكمين وظلم المحتلين". إن "الألش" المصري المعاصر ليس ظاهرة حديثة، بل هو امتداد لهذا الإرث الثقافي الغني. وكما يذكر أحمد أمين في "فيض الخاطر"، فإن هذا "اللون من ألوان الفكاهة المصرية" متجذر في تاريخها، وهو أداة الشعب في تحويل الألم إلى سخرية، والبؤس إلى نكتة.

الضحك كسلاح للمقاومة المعاصرة

في السياقات التي يضيق فيها هامش التعبير الحر، تتحول الفكاهة إلى سلاح سياسي. تشير الدكتورة حورية بن قدور في دراستها "فن الفكاهة كشكل من أشكال المقاومة المعاصرة" إلى أن "السخرية كثيراً ما استعملت تحت أشكال مختلفة: سخرية، فكاهة، نكتة، هزل، استهزاء... كل بحسب توظيفها وفعاليتها". في المجتمعات التي تعاني من القهر وكبت الحريات، تصبح النكتة السياسية "وسيلة للتندر والمرح... ووسيلة سخريتهم من الأوضاع البائسة والمنحطة".

الضحك هنا هو فعل "تحدٍّ رمزي" للسلطة، ينزع عنها هالتها من القداسة والهيبة. إنه، كما يقول محمود يحياوي، "يحقق نوعاً من التحرر". عندما يكون النقد المباشر خطيراً، تصبح النكتة هي المتنفس الآمن للتعبير عن السخط والغضب المكبوت. إنها "تعبير مفعم بالعدوانية تجاه ضحيتها، عدوانية متولدة عن القهر اليومي المعاش".

هذه الوظيفة السياسية للضحك ليست حكراً على عصر دون آخر. فكما وثق سيد عويس ظاهرة الكتابة على هياكل المركبات في "هتاف الصامتين" كشكل من أشكال تعبير الطبقات الشعبية عن همومها، يمكننا اليوم أن نوثق "الميمز" والكوميكس على وسائل التواصل الاجتماعي كـ"هتاف" رقمي يعبر عن نفس الهموم ولكن بأدوات العصر. إنها ذاكرة الشعب التي تؤرخ للأزمات بشكل أكثر صدقاً من كتب التاريخ الرسمية.

خاتمة: ما بعد الضحك

في نهاية هذه الرحلة، نعود إلى سؤالنا الأول: على ماذا نضحك؟ الإجابة الآن تبدو أكثر تركيباً: نحن نضحك على التناقض، على الشعور بالتفوق، وعلى تحرر المكبوت. لكن الأهم من ذلك، نحن نضحك لنؤكد وجودنا، لنقاوم ما يهدد هذا الوجود. الضحك ليس مجرد نفي أو هدم، بل هو، في عمقه، فعل إثبات للحياة. وكما يقول ميلان كونديرا، "الضحك هو الحياة بعمق". إنه تعبير الكائن عن فرحه بأن يكون موجوداً. في عالم يزداد تعقيداً وأحياناً عبثية، يصبح الضحك ضرورة وجودية، فهو يؤكد على إنسانيتنا المشتركة، وعلى قدرتنا على تجاوز الألم والمأساة من خلال السخرية. إن فهم "سيمياء الضحك" لا يقتل متعته، بل يضاعفها؛ لأنه يكشف لنا عن العمق الإنساني والفلسفي الكامن في أكثر أفعالنا اليومية عفوية. فالضحكة، في النهاية، هي علامة على أن الروح ما زالت حية، وأن الأمل ما زال ممكناً.

 

 

المراجع:

بن قدور، حورية. (2022). فن الفكاهة كشكل من أشكال المقاومة المعاصرة. مجلة التدوين، 14(01)، 84-94

يحياوي، محمود. (د.ت.). الفن الهزلي عند برغسون.

أمين، أحمد. (1947). فيض الخاطر (الجزء السابع).

عبد الحميد، شاكر. (2003). الفكاهة والضحك: رؤية جديدة. سلسلة عالم المعرفة.

ضيف، شوقي. (د.ت.). الفكاهة في مصر. سلسلة اقرأ.

أمين، أحمد. (1947). فيض الخاطر (الجزء السابع)، ص 63

عبد الحميد، شاكر. (2003). الفكاهة والضحك، ص 9

ضيف، شوقي. (د.ت.). الفكاهة في مصر، ص 8

عبد الحميد، شاكر. (2003). الفكاهة والضحك، ص 92

عبد الحميد، شاكر. (2003). الفكاهة والضحك، ص 95

برجسون، هنري. (1983). الضحك، بحث في دلالة المضحك. (ترجمة: سامي الدروبي وعبدالله عبد الدايم).

الجاحظ. (1991). البخلاء (تحقيق: طه الحاجري).

كونديرا، ميلان. (1990). كتاب الضحك والنسيان. (ترجمة: أنطوان أبوزيد).

عبد الحميد، شاكر. (2003). الفكاهة والضحك، ص 17

عبد الحميد، شاكر. (2003). الفكاهة والضحك، ص 25

عبد الحميد، شاكر. (2003). الفكاهة والضحك، ص 433