فلسفة الاختلاف والتسامح


فئة :  مقالات

فلسفة الاختلاف والتسامح

 مقدمة:

"قد أختلف معك في الرأي، ولكنّي على استعداد لأن أموت دفاعا عن رأيك"[1].. بهذه الجملة المقتضبة والعميقة في الآن عينه، يخاطبنا الفيلسوف الفرنسي فرانسوا ماري أرويه (François-Marie Arouet)، المعروف باسم فولتير. وقد انبرى هذا الفيلسوف، في كتاباته وأعماله، للدفاع عن القيم الإنسانية المنفتحة على الآخر، والدّاعية إلى التخلص من الوحش الضاري الذي تمظهر في هيأة تعصب ديني تؤيّدُه محاكم التفتيش وسلطة رجال الكهنوت، وترتّب عنه تشرذم طائفي وحروب دينية دامية، اَسْتشرى حنق شعوب أوربا منها طوال القرنين السابع عشر والثامن عشر.

وعلى منواله، نكصت بعض المجتمعات العربية الإسلامية، وأضحت مهددة بالتمزق والتشتت والضياع؛ اللهم إذا اقتدرنا أن نسمو بمفاهيم جوهرية وإحقاقها داخل هاته المجتمعات كحرية المعتقد، وبدرجة أوفى تثبيت التسامح الديني والقيمي والإيتيقي والسياسي، واستيعاب الآخر المختلف عنّي عقديا وطائفيا وسياسيا وذهنيا، والإعلاء من منحى الاعتراف كإحقاق للتسامح والتواصل كتفعيل للتنوع والتعدد كنبذ الفرقة والشتات. وإذا تمكنا من تحقيق كل تلك الجوانب، فإننا بلا شك سنقتدر على خلق مجتمع إنساني تواصلي، منفتح على القيم الكونية، نابذ للانغلاق والتقوقع والدوغمائيات المتزمتة التي تصنع بؤر توتر طائفية ومذهبية يضيع معها المعنى ويفقد الإنسان قيمته كشخص وحقه كفرد داخل المجتمع البشري.

لكن ما التسامح؟ وكيف يتم إحقاقه في وقت كثرت فيه النّزاعات الطائفية والتمزقات المذهبية، وطغت فيه قيم الأنانية والكبرياء والتناحر بين أفراد وجماعة الأمة الواحدة؟ وكيف لنا أن ندعو إلى الحوار كأسلوب حياتيّ ورساليّ، بغية الإقناع والتبرير وإدارة الفكرة بين الطرفين أو أطراف متنازعة، تحترم في الإنسان حقه الطبيعي، وتخلق أجواء هادئة للتفكير المستقل تحصل معها القناعات الذاتية وتمتد إلى روح الجموع؟ وما أخلاقيات الحوار؟ وما ضروراته وضوابطه؟

التحليل:

أولا- مفهوم التسامح:

إن التسامح هو الموقف الذي يبيح لشخص ما قبول أساليب الآخرين في التفكير وطريقة معيشتهم الحياتية، ضد كل ما يمكن أن يعكّر صفوها، ومكافحة أدران العنصرية الوضيعة والكراهية المتزمّتة والاستعاضة عن كل ذلك بقيم الاندماج والاعتراف والاحترام، وليس العزل والإقصاء والتقوقع على الذات الذي لا نستطيع معه أن نفهم الآخر؛ فنعمد إلى ازدرائه واحتقاره لدينه أو عقيدته أو سياسته أو عرقه أو أسلوب حياته أو بلده أو لغته ... إلخ. ولهذا، سيكفل لي التسامح، كإيتيقا (Éthique) وكمبدأ وكموقف، بلوغ تلاحم عرقي كلياني للبشرية جمعاء[2].

والتسامح يضمن أسلوبا في محاربة الإقصاء الاجتماعي والنّزاع والعزلة، ويساهم بذلك في محاربة الحقد وفتح أبواب الحوار والتراضي بين الأطراف المتصارعة والمتناحرة، ورفض كل أشكال العنف، ويحقق الانفتاح على الثقافات الأخرى والمشاركة في إنتاج "الكوني- الإنساني".

1- سُبُل التّسامح في ضوء كريزيولوجيا (Crisiologie)[3] إدغار موران

إنه لمن باب الحصافة ونحن نتدارس مفهوم التسامح، باعتباره إتيقا وموقفا إنسانيا أن نعرّج إلى فلسفة إدغار موران المناهضة لاعتلال الحضارة الإنسانية المعاصرة. وهذه الأنتلجنسيا العمهية (Intelligence Aveugle)، على حد توصيف هذا الفيلسوف، أدّت بالإنسان المعاصر إلى منحى الضوضاء والأسلحة والنزاعات وأنماط تحررية زائلة وانقلابية ومضايقات فظيعة وتخويف سياسي وقسوة بشرية تمزّق القلب[4].

إن إحقاق التسامح لا بد أن ينهج نهجا سليما في آلياته وضوابطه، حتى يلقى ترحيبا من لدن الجماعة الإنسانية؛ فتقبلُ الآخر والاعتراف به لعرقه أو دينه أو سياسته هو، في حقيقة الأمر، العيش معه تحت وفاق التسامح معه وغض الطرف عن مطبّاته وزلاته.

إن كثيرا من النّاس، على حد وصف موران، قد تغافلوا كونهم يقطنون عالما يتواصل فيه الكل مع الكل عبر صيرورة معقدة عن النشاطات المتبادلة، وأن عقيدة العزل والتهميش والقطع ليست بالمحبذة إطلاقا؛ لأن الجزء لا يدان لنا بعزله عن المجموع (الكل). وعندما نعمد إلى القطع والفصل؛ فإننا، في حقيقة الأمر، نستأصل الإنسان من الطبيعة. وبناء عليه، فلكي نحقق تسامحا كونيا لا بد في مقابل ذلك من الاستشراف على مستقبل الهوية البشرية جمعاء التي ترتبط باحترام الناس لمطلب إحقاق الهوية الكوكبية، يتحول معها الفرد الإنسان إلى الشخص الكوني. ومن ثَمَّ، يكون مصير التاريخ أنه تماهٍ مع مصير الكوكب واندماج معه[5].

ولكن سرعان ما يأفل نجم التفاؤلية، ليحل محلها انفجار النّزاعات والصراعات بين قوى الاندماج والتواصل وقوى الانعزال والتفكك. وفي هذا الصدد، يقول إدغار موران إنه ثمة تدفق كوني لقوى عمهية وردود أفعال إيجابية وجنون انتحاري؛ ولكن، في المقابل من ذلك، هناك أيضا عولمة تطالب بالسلم والديمقراطية والحرية والتسامح[6].

ونفهم مما سلف أن التسامح عند إدغار موران لا بد أن يحايث الطبيعة البشرية، لتحصل اللُّحمة بين الفرد والمجتمع والنوع الإنسي في جوهره.

2- التسامح وعلاقته بإيتيقا الاعتراف (أنموذج أكسيل هونيث):

إن المبدأ الجوهري الذي يكتنف ماهية التسامح هو الاعتراف، فلا يمكن البتة تصور موقف تسامح بين الذوات البشرية إلا من خلال الاعتراف المتبادل؛ فالطرفان يعترفان نفسيهما من جهة اعترافهما ببعضهما اعترافا متبادلا. وهذا ما نتجلاه في أطروحة هيجل في كتابه "فينومينولوجيا الروح"[7]. وقد عمّق الفيلسوف الألماني أكسيل هونيث في مدلول الاعتراف، وربطه بالمنحى العلائقي السوسيولوجي؛ لأن هذه العلاقات تنحو إلى إحقاق الاعتراف المتبادل من خلال التذاوت البيني الذي هو من طبع الإنسي. ومن خلال أنموذج الاعتراف، يحصل التسامح البيني الذّاتوي ويحصل التفاعل الاجتماعي، ونحد بذلك من التناحر الاجتماعي وصور الازدراء والاحتقار. ويعدّ نموذج الحب صورة مثلى للتسامح بين الذوات؛ فبفضل التعاطف والحميمية في الأسرة وعلاقات الصداقة والمحبة بين البشر والتراضي بينهم، تتحقق سبل الاعتراف والتسامح؛ فالحب، وفق منظور أكسيل هونيث، يسمح للفرد بتحقيق الأمن العاطفي[8].

هذا بالإضافة إلى الحق الذي هو تمظهر آخر للاعتراف في صورته القانونية الذي يضمن حرية الأفراد واستقلالهم الذاتي؛ لأن الفرد يشارك الآخرين ويتقاسم معهم مميزات الفعل الأخلاقي المسؤول عن أفعاله. ويتمظهر الاعتراف كإيتيقا كذلك من خلال التضامن الاجتماعي داخل نسيج العلاقات السوسيولوجية. هذا في مقابل أشكال الاحتقار الاجتماعي المتمظهرة في ثلاثة أشكال تؤدي إلى خلق اللاتسامح: الشكل الأول يتمثل في الاحتقار من الناحية الجسدية (الاغتصاب والعنف ...)، ويتمثل الشكل الثاني من الاحتقار في الحرمان من الحقوق الذي يفقد المرء شعوره بالانتماء السوسيولوجي، ويتجسد الشكل الثالث من الاحتقار في الاحتقار القيمي المعياري المرتبط بالتقدير والاحترام الشخصي داخل المجال التفاعلي[9].

3- التسامح في ضوء التعددية الدينية (جون هيك نموذجا):

إن إشكالية التعددية الدينية هي إشكالية معاصرة، حتّمها الوعي المتزايد والمعرفة بأديان العالم الثلاثة الكبرى، وكذلك بحكم الاحتكاك الواسع والدائم بين أرباب الديانات المتعددة. هذا الوعي تولّد عنه ضغط وحرج بين العقائد والملل في العالم، وبالخصوص تلك التي تدّعي حيازة الحق والنجاة والإيمان؛ وهو ما تمخضت عنه صراعات وحروب دامية متجاوزة بذلك لواقعها التاريخاني وتفوق وضعها الماثل[10].

إن الأديان الكبرى في العالم تسير وفق طرائق منفصلة ومغلقة لا انفتاح فيها، وفي حالة جهالة بينها؛ ولكن التواصل الاجتماعي والمعلوماتي والدراسات العلمية المعاصرة حول الأديان ولّدت وعيا بلزومية المنحى التعددي، إلا أن هذا التعدد في بعض جنباته كوّن بؤر توتر في العالم، أسهمت في استشراء العنف العالمي والتناحر الطائفي يضيع معه مفهوم التسامح بين البشر ويكون العنف بديلا عنه. حقيقة هذه الاختلالات بين الطوائف وأرباب العقائد والملل تحرك أسئلة مثيرة للقلق؛ وهو ما دعا، وبصورة أكثر إلحاحا، إلى ضرورة إحقاق التسامح في ضوء التعددية الدينية. ولا يتأتى ذلك إلا من خلال تعايش أهل الديانات في عالم واحد، والتعددية الدينية ملازمة للتعددية السوسيولوجية وظاهرة طبيعية أصيلة؛ لأن التعدد والتنوع والاختلاف والتفاوت هي السمات الطبيعية للوجود الإنسي[11].

بل إن هناك من الدارسين من رهن التعددية الدينية بالتعددية الحضارية، كما يقر ذلك يورغان مولتمان بقوله: "في وقت من الأوقات، كان لكل أمة دين، وكان لكل حضارة تاريخها الديني الخاص"[12]. وبذلك، فلإحقاق التسامح التذاوتي لا بد من التخلي عن التفسير الديني الكلاسيكي الذي تعتقده بعض الطوائف الدينية، والذي يصور التعددية مظهرا للانحراف السلوكي أو العقائدي أو تكبرا عن اتباع الدين الحق، والفرقة الحقة والناجية؛ وهو ما يولد الكراهية بين الطوائف الدينية، ويكثر التناحر والتقاتل بين البشر.. ومن أكثر صور الأنانية والكبرياء التي يضمحل معها التسامح القول بأن الله يصطفي نعمته ويحصرها بأناس معينين، ويستثني مجموعات أخرى دون سبب واضح؛ وهو ما يولد حقد بقية الفرق الأخرى التي ترى في نفسها الخلاص والنصرة[13].

ويترتب عن هذه الأحقاد الدينية بروز التعصب الديني والتطرف وسيادة الكراهية في النفوس وتصارع الذوات وضياع المعنى وأفوله؛ فتعتقد كل طائفة أنها المنصورة والناجية من عذاب الله، وأن مذهبها هو المذهب الحق. ومن ثَمَّ، لا بد أن ينقل واقع التعدد الديني الذي يتمظهر داخل الحضارات الكبرى في الكون من كونه واقعا تاريخانيا وموضوعيا إلى حقيقة عقلية وإيمانية[14].

وبناء عليه، نصل إلى نتيجة مفادها أن الاعتراف بالحرية الدينية والعقدية واعتبارها حقوقا جوهرية هي بمثابة استجابة سياسية متوافقة، في مواجهة الصعوبات والتحديات التي تتمخض عن التعددية الدينية.

وهكذا، وعلى منحى التفاعلات السوسيولوجية بين أفراد المجتمع الواحد، يمكن تفادي التناحر والتنازع المحتمل؛ ولكن هذا لا يمنع من استمرارها في المستوى الإبستمي بين غير المؤمنين والمؤمنين في مختلف ربوع العالم من دون أن يتم الحسم فيها بصورة نهائية [15].

4- التسامح وخلق قيم الانفتاح الأخلاقي والديني: (هنري برغسون أنموذجا)

إن مفهوم التسامح يتعالق، بصورة حثيثة، مع المسلك الأكسيولوجي القيمي؛ وبالخصوص مع تجربة الانفتاح الإيتيقي والديني، وبدرجة أوفى عند الفيلسوف الروحي هنري برغسون الذي جسّدت فلسفته نداء روحيا مشوبا بنبرة المحبة والتسامح بين أفراد النوع البشري برمته. وقد اتخذ برغسون من قيمة الأخلاق مثلا أعلى يقود الإنسانية إلى الانفتاح الكوني، ناقما على أنماط حياتية رثة، تشابه كثيرا حشود النمل والنحل، ويجبلها الضغط والقسر والانغلاق، ومبدأ هذه المجتمعات هو الإلزام، وسيطرة الأنا الجمعي؛ وهي نفسها الأنموذج الذي ساد في المجتمعات البدائية، حيث يسود الظلم والقسر والازدراء والعنف الطائفي القبلي وتضيع معه سبل التسامح والمودة. ويقول هنري برغسون معلقا على مجتمعات الانغلاق والتقوقع: "كانت الحياة الاجتماعية مثالا غامضا كامنا في الغريزة والعقل على السواء، فتراه يتحقق على أكمل صورة في خلية النحل أو قرية النمل"[16].

ولتتحقق الصورة المثلى للإنسانية المتسامحة، لا بد من النهج على منوال المجتمع المفتوح، حيث الأخلاق المنجذبة نحو الإنسانية جمعاء تتجه نحو العمل بوصفها عاطفة سامية، ومثلها الأعلى هو "الحب"، ومصدرها الحياة، ومنبعها الانجذاب، وخاصيتها الإبداع والتطور، تتولد من انفعال عميق وتؤمن بالحرية والروحانية. كما نقم برغسون على الدين السكوني باعتباره دينا منغلقا دافعيته هي المخاوف بغية حفظ بقاء المجتمع ويسعى إلى إخضاع لحياة الجماعة ويؤمن بالخرافة والطقوسية، ليستشعر من خلالها الأفراد بالأمان والطمأنينة، وهو نموذج للتعصب الطائفي والتفرقة المذهبية والشرخ بين العقائد وكثرة الخرافات؛ وهو ما يخلق توترا ويتحول إلى صراع ديني طائفي لا يؤمن بالإنسانية المنفتحة، ويستعيض عنه بالدين الحركي الديناميكي الذي يتجسد في "براديغم" التصوف الذي قوامه المحبة والتسامح والبساطة والرقي المستمر [17]. وذلك بالذوبان المشترك في عاطفة الحب، دون الخضوع لإلزاميات الزواجر والروادع. أخلاق تقوم على الاحترام الكوني المهيب، أخلاق تسامحية تجبلها عاطفة سامية تخلق البشرية المعاصرة من براثن الأداتية والآلية الهدّامة ويحصل التسامح بين البشر، والشمولية الموحدة تدعى "دين الإنسانية"[18].

5- التسامح وخلق فضاء التواصل والحوار في الفضاء العمومي: (هابرماس أنموذجا)

تكمن أهمية فلسفة الألماني يورغن هابرماس في حرصه على الشرعنة لفلسفة تسامحية جديدة ترسخ لفلسفة تواصلية، وإحقاقا مهيبا لأخلاقيات التفاهم؛ وذلك في سياق فتح باب الحوار والنقاش في الفضاء العمومي. كما سعى هذا الفيلسوف الفرانكفورتي إلى التركيز على المنعرج اللغوي من جهة إيتيقا للحوار، وفق منظور كوني يخرج الذات من أفقها الضيق وينحو بها إلى المشاركة والتبادل الحقيق للمطارحات والآراء المختلفة[19].

وتتضمن إيتيقا التواصل الهابرماسية على المقصد التواصلي الذي يعمد فيه المتكلم إلى ربط وشائج قربى مع القارئ من داخل الخطاب نفسه، بالإضافة إلى المقصد التداولي الذي يتبلور في تلك الشرائط الجوهرية التي تكون بغية المتكلم من ورائها تجسيد عملية تخاطبية مع القارئ بغرض توجيهه الوجهة السليمة نحو الفهم السليم، بالإضافة إلى المقصد الحواري الذي يتحقق بالوعي الحواري الثقافي والانعتاق من أغلال الذاتية والصوت الواحد، إلى الانفتاح على تعدد الأصوات، وبالتالي نحو الآخر[20]. ويسعى هابرماس إلى توطيد عُرى التسامح الكوني المرتبط بالضمان الديمقراطي وتحقيق السلام العالمي الكوسمولوجي وترسيخ مواطنة إنسانية مبنية على أساس إيتيقي تشاركي وعقل تواصلي منفتح ومتنوع ومختلف، يضمن تواصلا ميزته الوضوح والجدّية والصدق، وتنكشف بذلك الأبعاد الكوسمولوجية المُقرّة بانفتاح الهويات على بعضها متعددة الرؤى والثقافات، وصنع مجتمع كوني إنساني متسامح[21].

ثانيا- الحوار:

1- طبيعته:

يكثر، في الزمن الراهن، التغني بمقولة الحوار والمحاورة والرأي المغاير والتعددية؛ من حوار للأديان إلى حوار للثقافات والحضارات، ومن حوار عربي أوربي إلى حوار قومي ديني، في البلاد العربية المسلمة[22]. وإذا ما تطارحنا كلمة "حوار" نجد أنها أوسع من كلمة "جدل"؛ لأن الكلمة الثانية تفيد معنى الصراع، في مقابل اللفظة الأولى التي تنفتح للصراع ولغيره، وهو ما يبتغى منه توضيح الفكرة عن طريق السؤال والجواب. ويتمظهر الحوار، خصوصا عندما يعمد الفرد إلى الدفاع عن فكرة ضد معارضيها ومنتقديها من الأعداء والخصوم، في مناحي الصراع. ويكون هدف الحوار، في شتى مناحيه، هو توضيح مختلف الرؤى الحياتية والرسالة؛ وذلك من خلال إثارة بعض القضايا المتعالقة بها، سواء في حوار طويل أو قصير[23].

وتمييزا بين الجدل والحوار، لنا أن نقر بالحوار الذي يتجسد في إدارة الفكرة بين طرفين مختلفين أو أطراف متنازعة ومتناحرة. أما الجدل، فيتبلور في إعطاء الحوار قوة العناد للفكرة والإصرار عليها، وتكون البراهين والإثباتات التي ينحو فيها كل اتجاه أو طرف إلى إعطاء الفكرة القوة والحصافة التي تجعل منها شيئا يستند إلى مبدأ ثابت ذي قرار مكين[24].

2- ضوابط الحوار وشرائطه:

يجب أن يتوفر في الحوار المناخ الذي يعيش فيه من أجل أن يتحول إلى سبيل ومسلك عملي خصب، بدلا من أن يكون عملا ضيّقا شكلا ومضمونا. ويتحقق هذا المناخ بجملة من الشروط والضوابط نوردها كما يلي:

شخصية المحاور الذي يدير عملية الحوار:

من الطبعي أن ينتهي الحوار في هدفه إلى منتهى حاسم يجبله الإيمان العميق والانفتاح والاقتناع بنتائج الحوار. ومن أجل إدراك تلك الغاية لا بد أن يملك كل من الطرفين المتحاورين حرية الحركية الفكرية، بالإضافة إلى الثقة بالنفس وبالشخصية المستقلة؛ بعيدا كل البعد عن التبعية أو القيدية أو الإرضائية، تحت وطأة الرهاب الفكري والسيكولوجي أو أن يشعر الطرف المعارض بعظمة الطرف المجابه له في الحوار، ويتضاءل أمامه وينسحق، أو أن يصبح صدى لأفكار الآخر. ويقر الباحث مايكل آنجلو ياكوبوتشي، في كتابه "أعداء الحوار وأسباب اللاتسامح"، قائلا: "إن الإحساس بالذات يقود إلى توكيد الهوية وتكوين الأنا، ويمكن أن يتحقق فقط من خلال مواجهة الآخر"[25].

شخصية الطرف الآخر للحوار:

يلزم لمن يسعى إلى إقامة حوار حقيقي ناجع إعداد الجو الداخلي للاقتناع بالنتائج الحاسمة التي يصل إليها الحوار، وإلا أصبح الحوار جدلا عقيما، هدفه تنميق الكلام والمباهاة واستعراض القدرات الكلامية والمزايدات الجدالية تدفعها الذاتية المتزمتة والقناعات المتقوقعة على نفسها، أو أن يعمد المحاور إلى الحط من مقام الطرف المعارض له؛ بل الأجدر أن يقف الحوار على موقف احترام للآخر ووضع كلامه وأموره على أحسن الوجوه، ما وجد لها وجها حسنا، مع مجانبة الحقد والبغضاء، وعدم الاستخفاف بأحد مع الأُلفة الجالبة للأخوة[26].

خلق الأجواء الهادئة للتفكير المستقل:

من الضرورات الملازمة للحوار خلق الجو الهادئ للتفكير الذاتي، الذي يمثل فيه الإنسان نفسه وفكره؛ بعيدا عن الانفعالات المنغِّصة للحوار الهادف، وبمنأى تماما عن أية حماسة قد ثوّرتها الجماعة تأييدا لفكرة أو رفضا لأخرى، فيستسلم الفرد لها استسلاما مذعنا من دون أن يشعر، فينصهر في الجو العام، ويصبح ظلا باهتا للجماعة. وألح المفكر المغربي طه عبد الرحمن، في كتابه "الحوار أفقا"، قائلا: "فلجازم اعتقادنا بأن الحوار متى دار على معرفة بقواعده وبصيرة بآدابه، من شأنه أن يوّرثنا من اتساع الأفق وتقليب النظر ما لا يورثه حديث النفس"[27].

المعرفة بموضوع الحوار:

يلزم على الأطراف المتحاورة أن يكونوا على معرفة عميقة بالموضوع المتحاور حوله؛ حتى لا يتحول الحوار إلى شتائم ومهاترات، يعمد من خلالها المتحاور إلى تغطية ضعفه وعجزه، وليس الدفاع عن فكرته بقوة وحزم. وإن هذا الشرط يلزم أن يكون المتحاور عارفا بالموضوع، وتكون لديه رؤية واضحة وهدوء في الفكر وقوة في الحجة ولطافة في الكلمة.

ومن ضوابط إيتيقا الحوار، نذكر ما يلي: الصحة والمعقولية، ودقة الأفعال والأقوال، والصدق والبرهنة.. وحينما يرتهن المتحاورون بهذه الضوابط يقتدرون حينها على صنع فضاءات تواصلية سمحة ذات منحى عمومي، ويؤدي الحوار دورا كبيرا يجنب الجماعات البشرية الصراع والتشتت. وهذا ما أقره هابرماس في تمثله لمشروع إيتيقا التواصل في سعيه إلى أن يصل إلى اختيار أو تقويم من لدن المتحاورين بطريق المناصفة [28]، من دون ضغط أو إكراه، إذ لا يجب على المتحاور أن يفرض موقفه على الآخرين؛ بل الأجدر له أن يكتفي بعرض المواقف والأفكار، والحوار هو الذي يعمد إلى تحديد مدى صحة تلك المواقف والأفكار ومعقوليتها ومصداقيتها وصلاحيتها ومدى تقبلها من لدن الذوات المتحاورة داخل الفضاء العمومي. ولتحقيق التفاهم بين الأطراف المتحاورة، لخّص لنا مانفريد فرانك مجموعة شرائط الواجب توفرها في الحوار نشيد بالذكر منها: صدق القضايا المطروقة، والجدّية (جدية المتكلم)، والصحة (صحة المعايير المقترحة)[29].

خاتمة:

حاولنا، من خلال البحث، أن نسلط الضوء على إشكالية التسامح والحوار في ظل الاختلاف. وتوصلنا إلى جملة نتائج، نلخصها في النقاط التالية:

- أن التسامح هو موقف وإيتيقا تبيح للشخص قبول أساليب الآخرين، وتضمن أسلوبا في محاربة الإقصاء الاجتماعي والنزاع ومحاربة الحقد، وفتح أبواب الحوار.

- أن التسامح، وفق منظور إدغار موران، مرهون بالتدفق الكوني لقوى عمياء وردود أفعال إيجابية وجنون انتحاري؛ ولكن، في المقابل من ذلك، هناك عولمة تطالب بالسلم والديمقراطية والحرية والتسامح الذي يحايث الطبع البشري لتحقيق اللّحمة بين الفرد والمجتمع والنوع بصورة عامة. وليتحقق التسامح الكوني، لا بد من الاستشراف على مستقبل الهوية البشرية جمعاء.

- أن التسامح يتعالق بإيتيقا الاعتراف عند إكسيل هونيث، ويتمظهر من خلال العلاقات البينية الذاتوية، بفضل الحب والتعاطف، الحقوق والتضامن، ودرء كل سبل الازدراء والاحتقار. كما أن التسامح لا يتم إحقاقه إلا بنبذ الأحقاد الدينية التي يترتب عنها التعصب والتطرف، والإيمان بالتعددية.

- بالإضافة إلى كون التسامح أصبح مع هنري برغسون تجربة عميقة لقيم الانفتاح الأخلاقي والديني في مقابل إيتيقا الانغلاق والدين السكوني.

- كما أن التسامح مع فيلسوف الجيل الثاني لمدرسة فرانكفورت، يوغن هابرماس، رسّخ لفلسفة تواصلية، مبنية على أسس إتيقا الفعل التواصلي، وفتح باب الحوار والنقاش في الفضاء العمومي، وفق منظور كوني، تنفتح معه الذات على الآخر ثقافيا وديمقراطيا وتصبح الذوات مؤمنة بقيم الانعتاق من أغلال الدوغمائية الوثوقية، وتنادي في مقابل ذلك بالحرية والتعددية والتشاركية ... إلخ

- إن الحوار ما هو إلا تجسيد مهيب لتداولية الآراء المتباينة ببن طرفين أو عدة أطراف درءا للصراع والتناحر، بغية توضيح مختلف الرؤى والتوجهات الحياتية والرسالية؛ وذلك من خلال إثارة بعض القضايا المتعلقة بها. ويركن الحوار، في جوهره، إلى ضوابط وشرائط؛ منها توفر المناخ الملائم الطبيعي الذي يتحوّل بدوره إلى مسلك عملي منتج، بالإضافة إلى تحديد شروط متعلقة بشخصية المحاور وكذلك المتحاور، وخلق أجواء هادئة يسودها الاحترام والاعتراف ليكون التفكير سديدا وهادفا ومستقلا، يضمن تحقيق التفاهم بين الأطراف المتحاورة وصدق القضايا المطروقة، والجدّية وجانبا كبيرا من الصحة.


قائمة المصادر والمراجع:

مصادر مترجمة:

-  فولتير، رسالة في التسامح، ترجمة هنرييت عبودي، دار بترا للنشر والتوزيع، دمشق (سوريا)، ط1، 2009

-  فريديريك هيجل، فينومينولوجيا الروح، ترجمة ناجي العونلي، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، لبنان، 2007

-  هنري برغسون، منبعا الأخلاق والدين، ترجمة سامي الدروبي وعبد الله الدائم، الهيأة العامة للتأليف والنشر، 1971


مصادر باللغة الفرنسية:

-  Edgar Morin, introduction a une politique de l’homme, édition du seuil, paris ,1965.

-  Edgar Morin, la nature de la nature, édition de seuil, paris,1977.

-  Edgar Morin, L’humanité de l’humanité, l’indenté humaine, édition seuil, paris, 2001.

- Edgar Morin, une politique de civilisation, édition érléo; paris ,1997.

-  Axel Honneth, Reconnaissance et Reproduction Sociale in la Reconnaissance, édition septentrion, presses universitaires, 2008.


مراجع باللغة العربية:

-  وجيه قانصو، التعددية الدينية في فلسفة جون هيك، المركز الثقافي العربي (المغرب)، الدار العربية للعلوم ناشرون (بيروت)، ط1، 2007

-   كمال بومنير، قراءات في الفكر النقدي لمدرسة فرانكفورت، مؤسسة كنوز الحكمة، الجزائر، ط 1، 2012

-  نورة بوحناش، إشكالية القيم في فلسفة برغسون، منشورات الاختلاف (الجزائر)، الدار العربية للعلوم ناشرون (بيروت)، مؤسسة محمد بن راشد آل مكتوم (الإمارات العربية المتحدة)، ط1، 2010

-  عزيز العظمة، دنيا الدين في حاضر العرب، دار الطليعة، بيروت، لبنان، ط 2، 2002

-   محمد حسن فضل الله، الحوار في القرآن، الجزء الأول، دار المنصوري، قسنطينة، الجزائر.

-  مايكل آنجلو ياكوبوتشي، أعداء الحوار وأسباب اللاتسامح، ترجمة عبد الفتاح حسن، تقديم أمبرتو إيكو، مكتبة الأسرة، الهيأة المصرية العامة للكتاب، 2010

-  شوقي أبو خليل، الحوار دائما، دار الفكر المعاصر (بيروت)، دار الفكر (دمشق)، ط3، 1996

-  طه عبد الرحمن، الحوار أفقا، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، لبنان، ط1، 2013

- حسن مصدق، يورغن هابرماس ومدرسة فرانكفورت ''النظرية النقدية التواصلية"، ط1، المركز الثقافي العربي، بيروت، لبنان، 2005

-  كمال بومنير، النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت ''من هوركهايمر إلى آكسل هونيث"، منشورات الاختلاف (الجزائر)، الدار العربية للعلوم ناشرون (بيروت)، دار الأمان (الرباط)، ط1، 2010

 الموسوعات:

-  مجموعة مؤلفين، موسوعة الفلسفة الغربية المعاصرة، تقديم علي حرب، دار الأمان (الرباط)، منشورات الاختلاف (الجزائر)، منشورات ضفاف (بيروت)، ط1، 2013


[1] انظر: كتاب فولتير، رسالة في التسامح، ترجمة هنرييت عبودي، دار بترا للنشر والتوزيع، دمشق، سوريا، ط 1، 2009

[2] Edgar Morin, introduction a une politique de l’homme, édition du seuil, paris, 1965, p92

-[3] الكريزيولوجيا (crisiologie) أو علم الأزمات هو مصطلح من نحت إدغار موران، ليكشف به عن المستنقع الذي وقع فيه البشر مع نهاية القرن العشرين؛ نتيجة الحروب والتلوث والتقدم التقني، وكأثر الأمراض وتغير نمط الحياة.

[4] Edgar Morin, La nature de la nature, edition de seuil، paris, 1977, p23

[5] Edgar Morin, L’humanité de l’humanité, l’identité humaine، Edition seuil, paris, 2001, p 220

[6] Edgar Morin، une politique de civilisation, édition erléo، paris, 1997, p 13

[7] فريديريك هيجل، فينومينولوجيا الروح، ترجمة ناجي العونلي، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، لبنان، 2007، ص 269

[8] Axel Honneth, Reconnaissance et reproduction sociale in la reconnaissance à l’preuve explorations socio-anthropologiques, paris, édition septentrion، presses universitaires, 2008, p51

[9] مجموعة مؤلفين، موسوعة الفلسفة الغربية المعاصرة، تقديم علي حرب، دار الأمان (الرباط)، منشورات الاختلاف (الجزائر)، منشورات ضفاف (بيروت)، ط1، ص ص 1598- 1599

[10] وجيه قانصو، التعددية الدينية في فلسفة جون هيك، المركز الثقافي العربي، (المغرب)، الدار العربية للعلوم ناشرون (بيروت)، ط1، 2007، ص 45

[11] وجيه قانصو، المرجع نفسه، ص 14

[12] المرجع نفسه.

[13] المرجع نفسه، ص 16

[14] المرجع نفسه، ص 18

[15] كمال بومنير، قراءات في الفكر النقدي لمدرسة فرانكفورت، مؤسسة كنوز الحكمة، الجزائر، ط 1، 2012، ص 153

[16] هنري برغسون، منبعا الأخلاق والدين، ترجمة سامي الدروبي وعبد الله عبد الدائم، الهيأة العامة للتأليف والنشر، 1971، ص 34

[17] نورة بوحناش، إشكالية القيم في فلسفة برغسون، منشورات الاختلاف (الجزائر)، الدار العربية للعلوم ناشرون (بيروت)، مؤسسة محمد بن راشد آل مكتوم (الإمارات العربية المتحدة)، ط 1، 2010، ص 272

[18] - المرجع نفسه، ص 288

[19] مجموعة مؤلفين، موسوعة الفلسفة الغربية المعاصرة، تقديم علي حرب، دار الأمان (الرباط)، منشورات الاختلاف (الجزائر)، منشورات ضفاف (بيروت)، ط1، ص ص 1497- 1498

[20] المرجع نفسه.

[21] المرجع نفسه، ص ص 1484- 1485

[22] عزيز العظمة، دنيا الدين في حاضر العرب، دار الطليعة، بيروت، لبنان، ط 2، 2002، ص 150

[23] محمد حسن فضل الله، الحوار في القرآن، الجزء الأول، دار المنصوري، قسنطينة، الجزائر، د ت، ص ص 19- 20

[24] المرجع نفسه، ص 22

[25] مايكل آنجلو ياكوبوتشي، أعداء الحوار وأسباب اللاتسامح، ترجمة عبد الفتاح حسن، تقديم إمبرتو إيكو، مكتبة الأسرة، الهيأة المصرية العامة للكتاب، 2010، ص 361

[26] شوقي أبو خليل، الحوار دائما، دار الفكر المعاصر (بيروت)، دار الفكر (دمشق)، ط3، 1996، ص 7

[27] طه عبد الرحمن، الحوار أفقا، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، لبنان، ط 1، 2013، ص 11

[28] حسن مصدق، يرغن هابرماس ومدرسة فرانكفورت، النظرية النقدية التواصلية، ط 1، بيروت، لبنان، المركز الثقافي العربي، 2005، ص 121

[29] كمال بومنير، النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت من هوركهايمر إلى أكسيل هونيث، منشورات الاختلاف (الجزائر)، الدار العربية للعلوم (بيروت)، دار الأمان (الرباط)، ط1، 2010، ص ص 117- 118