فلسفة التفكـيك كما يتصورها جاك دريدا


فئة :  مقالات

فلسفة التفكـيك كما يتصورها جاك دريدا

فلسفة التفكـيك كما يتصورها جاك دريدا

ملخص:

تتناول الدراسة أهم أسس التفكيكية، باعتبارها منهجا في التفكير والنقد إلى تفكيك الأسس والثوابت الميتافيزيقية والمطلقة. وتعتبر التفكيكية سلاحا معرفيا رصينا هدفه إعادة قراءة النصوص الفلسفية والفكرية بطريقة نقدية شاملة وجديدة، بعيدا عن الولاءات المجانية للأفكار التي اعتبرت لمدة طويلة مسلمات لا ينبغي زعزعتها أو نقدها أو إلغاؤها بصفة نهائية. لمقاربة التفكيكية، تركز الدراسة على مشروع الفيلسوف والمفكر الفرنسي جاك دريدا، وتحاول الإجابة عن الأسئلة البحثية التالية: 1. ماهي السمات الأساسية لفكر الاختلاف؟، 2. كيف يمكن تعريف التفكيكية ومفهوم التفكيك؟، 3. ماهي أهم الأفكار والتصورات التي يقترحها جاك دريدا لفهم التفكيك والفلسفة التفكيكية عموما؟

1- مقدمة:

شهدت نهاية الستينيات في فرنسا ثورة حقيقية في جميع مجالات الفكر والعلوم الإنسانية، وتحديدا بعد أحداث مايو 1968 الطلابية. ستعرف هذه الأحداث التاريخية الموشومة في ذاكرة الفرنسيين وغيرهم ظهور مذهب التفكيك الذي ارتبط بصفة أساسية بالفيلسوف والمفكر الفرنسي جاك دريدا. وتسعى التفكيكية باعتبارها منهجا في التفكير والنقد إلى تفكيك الأسس والثوابت الميتافيزيقية والمطلقة. التفكيكية هي سلاح معرفي رصين هدفه إعادة قراءة النصوص الفلسفية والفكرية بطريقة نقدية شاملة وجديدة بعيدا عن الولاءات المجانية للأفكار التي اعتبرت لمدة طويلة مسلمات لا ينبغي زعزعتها أو نقدها أو إلغاؤها بصفة نهائية. التفكيكية هي ثورة جريئة على ثوابت الأفكار التي عمرت طويلا دون أن تتم خلخلتها بواسطة جهاز مفاهيمي ونقدي صارم.

تحاول هذه الورقة الإجابة عن الأسئلة البحثية التالية:

  • ماهي السمات الأساسية لفكر الاختلاف؟
  • كيف يمكن تعريف التفكيكية ومفهوم التفكيك؟
  • ماهي أهم الأفكار والتصورات التي يقترحها جاك دريدا لفهم التفكيك والفلسفة التفكيكية عموما؟

2- محاولة تعريف التفكيكية:

عندما نتحدث عن التفكيكية، لا بد أن نتحدث عن فكر الاختلاف وعن بعض رموزه الفكرية التي أسست له أو التي تبنته أو التي قامت بنقده بغاية تطويره. نذكر مثلا من بين هذه الأسماء: نيتشه، هايدغر، جيل دولوز، جان فرانسوا ليوتارد، فوكو، جوليا كريستيفا وجاك دريدا. يقول الباحث المتميز رشيد بوطيب في تعريفه لفكر أو فلسفة الاختلاف:

"أن نفكر في الاختلاف، يعني ألا نفكر بمنطق الهوية، وأن لا نرجع الآخر والمتعدد إلى المثل والشبيه، لهذا فإنه من غير المعقول أن نفهم تيار الاختلاف، كتيار واحدي ومحدد المعالم. فكر الاختلاف لا يمكنه إلا أن يكون مختلفا ومخالفا وليس واحديا.

ويمكن للمرء أن يعتبر مقالة هايدجر «الهوية والاختلاف» الوثيقة الاصلية لهذا العمل الفكري، هذه المقالة التي تظهر كيف طغى مفهوم الهوية على الفلسفة الغربية منذ افلاطون، وكيف أن الكثير والمتعدد لا يمكن إدراكه إلا من خلال هذا المفهوم. طبعا، إن هذا التقليد الفلسفي يحتوي على أنظمة ثنائية وأخرى تعددية وثالثة ضد كل نظام، ولكن «الاتجاه نحو الواحد» يمثل التيار الطاغي، وإذا ما دعت الضرورة إلى تدميره، فسيترتب على ذلك توديع عادات فكرية كثيرة. إن التصورات الفلسفية تبدو متأثرة بعمق، بفكر الهوية، ولا يمكنها والحال هذه، أن تدرك الاختلاف. لهذا، فإن إطلاق صفة فلسفة الاختلاف هو في حد ذاته إشكال. ولقد لاحظ ذلك أدورلو بوضوح، حين قال بأن مفهوم التفكير هو مفهوم مطابق لذاته. فالتفكير بواسطة المفاهيم، يعني التعميم وتمييز المشترك، والخاص وغير المتطابق، يجب حسب منطق هذا الفكر أن يسقط. ولأننا وحسب أدورنو لا نملك فكرا آخر، يظل هناك طريق واحد أمامنا، أن «نخرج عبر المفهوم من المفهوم»، الخروج من الفلسفة يظل في حد ذاته فلسفة، لكنه خروج يحمل معنى القطيعة النهائية مع التقاليد."1

ومهما يكن من إشكال في التسمية، وفي تأرجحها بين فلسفة أو فكر الاختلاف، فالواضح أنه رغم أن مفهوم التفكيك التصق بجاك دريدا، إلا أن له روابط مهمة بالفلسفة الغربية وتحديدا بالإرث الفلسفي ل إدموند هوسرل Edmund Husserl ومارتن هيـدغر Martin Heidegger وفريدريش نيتشه Friedrich Nietzsche وغيرهم.

في البداية، لا بد من التأكيد على صعوبة تعريف التفكيكية. هناك تعريفات كثيرة ومتعددة للتفكيكية. مارتن هايدغر كان ربما أول من استعمل مفهوم التفكيك Déconstruction. وكان اهتمام هايدغر المركزي والرئيس هو تفكيك الفلسفة الغربية. وقد تم استعمال هذا المفهوم كما سبق الذكر من قبل الفيلسوف الألماني إدموند هوسرل، ثم جاك دريدا وبعدها غاياتاري سبيفاك وبول دو مان وباربارا جونسون وجان فرانسوا ليوطار وغيرهم.

وفي باب صعوبة تعريف أو صعوبة ترجمة كلمة déconstruction يشير الدكتور محمد شوقي الزين إلى أن التفكيك:

"يتعذر ترجمته من جراء قوته الإجرائية ودلالته السريالية، أقصد طبيعته الباروكية الملغزة. غالبا ما نعرب الكلمة Déconstruction بالتفكيك، وننعت الفلسفة القائمة عليها بالتفكيكية، وتم استعمال مرادفات تدل كلها على الإجرائية السلبية في المقولة: التقويض، الهدم، التخريب [...] حرفيا، تعني الكلمة "البناء المضاد"، فهي ليست التخريب أو الهدم، لأن في هذه الحالة نستعمل الكلمة destruction التي كان هيدغر قد استعملها في تقويض المنطق التراثي. يمكن القول، مبدئيا، أن التفكيك عبارة عن بناء مضاد، الذي ليس البناء ولا الهدم، وإنما بناء من نوع خاص، يخرج على القواعد البنائية، يتجاوز المعايير الهيكلية، تماما مثل الهندسة المسماة "التفكيكية" التي هي أبلغ شاهد على البناء المضاد، هندسة منكسرة ومنعرجة، ونتساءل إذا لم تكن هي الأخرى تجل من تجليات الهندسة الباروكية."2

طبعا، التفكيك مثلما يؤكد على ذلك الدكتور محمد شوقي الزين ليس مفهوما مرتبطا بالهدم أو التخريب الحامل لسمات سلبية كما قد يتبادر إلى الذهن، بل إنه أداة منهجية لإعادة البناء وإعادة الإنتاج بطريقة سليمة وصحيحة. ويعرف بول ريكورPaul Ricoeur التفكيكية بكونها طريقة للكشف عن الأسئلة الموجودة خلف الأجوبة التي يتضمنها نص ما أو نمط تفكير معين.3

أما الفيلسوف دافيد ب.أليسون David B. Allison، وهو من الأوائل الذين ترجموا كتابات جاك دريدا إلى اللغة الإنجليزية، فيشير إلى أن التفكيك هو مشروع فكري نقدي تتمثل مهمته في تحديد و"تفكيك المفاهيم التي ظلت لمدة طويلة تعتبر بديهيات لا ينبغي خلخلتها.4

ونظرا لالتباس وصعوبة تعريف التفكيك، وحتى إن كان ملتصقا بالنقد أساسا كما ورد في التعريف السابق، فإن جاك دريدا ينتقد هذا الطرح الإبستمولوجي الذي يجعل التفكيك والنقد في خانة واحدة، ويقول:

"إن التفكيك يهاجم أيضا فكرة النقد ذاتها؛ لست متحاملا بشيء على النقد، حتى أنني أعتقد أنه يجب دفعه أبعد ما يمكن دفعه. لكن في كل لحظة أسأل نفسي من أين قدم إلينا، باختصار، التفكيك لا يقتصر على النقد، وهو ليس أمرا سلبيا، إنه فكر النعم التأكيدي في التراث النيتشوي الكبير".5

ويمكن اختزال عدد كبير من التعريفات التي تدوولت حول هذا المفهوم في كون التفكيكية هي بالأساس استراتيجية لطرح أسئلة نقدية تهدف إلى كشف الفرضيات الميتافيزيقية التي لا جدال فيها وكذا التناقضات الداخلية، سواء في اللغة الفلسفية أو في اللغة الأدبية. غالبًا ما ينطوي التفكيك على طريقة قراءة تشمل مبدئيا التحريف عن المركزdecentering وكذا الكشف unmasking عن الطبيعة الإشكالية لجميع المراكز. يقول عبد الكبير الخطيبي:

"ماذا نعني بالتفكيك وبعبارة أدق تفكيك المفاهيم؟ إن مستوى أول من المعالجة (وأحيل هنا القارئ إلى كتابات جاك دريدا وميشيل فوكو)، يكمن في إبراز عملية تكوين المفاهيم ولحمتها حسب القوانين التي تحكمها، من الظاهر dehors إلى الباطن dedans، من ما هو مجتمعي إلى خطابه الذاتي. إن الباحث "أي باحث" لا يمكن أن يفلت من يفلت من الصرح الأثري لهذه المعرفة، archéologie التي ينوي ممارستها في حدود وعيه وقوله الحر، غير أنه بقدر ما ينغمر الوعي في ذلك الصرح بقدر ما يصطدم البحث بتدرج هرمي من الكتل الاستدلالية، والأحداث المتباعدة، كتل متجلطة، متناثرة على نحو ما على صخرة أسسها."6

يعتبر الخطيبي التفكيك إذن مفهوما نقديا، وهو نفس التعريف الذي سبق أن اقترحه دريدا في كتاباته الأولى، وأيضا اقترحه بعض المفكرين والمنظرين الآخرين. ففي مؤلفه النــــــظري "المغرب المتعدد Maghreb Pluriel" الصادر سنة 1983، استعمل الخطيبي استراتيجية "التفكيك" الدريدية من أجل بناء مشروعه الفكري المختلف على أساس مفهوم جديد اقترحه الخطيبي، وهو "النقد المزدوج". ولمفهوم "النقد المزدوج" مهمتان أساسيتان؛ يتمثل الهدف الأول في انتقاد وتفكيك الخطاب الإمبريالي الغربي المؤسس على التمركز الإثني حول الذات Ethnocentrisme، والهدف الثاني هو نقد الخطاب الذي تؤسسه البلدان العربية حول ذواتها. إذن، فالخطيبي ينتقد الفكر المطلق، وما يسمى بالهوية الطاهرة أو النقية، والتي تعتبر فكرا ميتافيزيقيا مبنيا على مفاهيم الأصل والوحدة والفرادة. فكر الاختلاف الذي ينادي به الخطيبي من خلال مفهوم "النقد المزدوج" يهدف إلى اقتراح رؤية متعددة وبعيدة عن المركز بكل أنواعه من أجل مواجهة كل أشكال الاحتواء.

ما يقوم به التفكيك بشكل أساسي هو تقويض الدافع نحو المثلنة idealisation والتشديد بدلا من ذلك على عدم التحديد والتكامل والتشظي. وفي الأدبيات الفلسفية يعتبر التفكيك إجراء نقديا حول طرائق التفكير التي تبحث عن معنى خارق خارج لعبة الاختلاف.

3- جاك دريدا باعتباره رائد التفكيكية

ازداد الفيلسوف والمفكر الفرنسي جاك دريدا بتاريخ 15 يوليو 1930 في مدينة البيار بالجزائر، وتوفي بمدينة باريس بتاريخ 9 أكتوبر 2004. ويعتبر جاك دريدا أول من استخدم مفهوم التفكيك من خلال زاوية فلسفية، حيث قام بإعادة صياغته وتوظيفه انطلاقا من جذوره الفلسفية. التفكيك في نظر جاك دريدا هو تطبيق نصي غايته هو توضيح الثراء الطبيعي الذي تتميز به اللغة ويحمله المعنى. فاللغة والمعنى حسب دريدا عالمان شاسعان ينبضان بالحياة والتجدد؛ في ما يلي نعرض أهم سمات التفكيكية عند الفيلسوف والمفكر جاك دريدا.

4- الإرجاء أو التأجيل Différance

ضد ميتافيزيقا الوجود، يجلب التفكيك مفهومًا يسمى الإرجاء أو التأجيل Différanceأو المباينة بتعبير عبد السلام بنعبد العالي. يستخدم جاك دريدا هذا المفهوم لوصف أصل الوجود والغياب. الاختلاف لا يمكن تعريفه، ولا يمكن تفسيره من خلال "الميتافيزيقيا من الوجود". في الفرنسية، يعني فعل différer معنى "التأجيل" ومعنى "الاختلاف". وهكذا، قد يشير الاختلاف ليس فقط إلى حالة أو نوعية الوجود باعتبارها مؤجلة، ولكن إلى حالة أو نوعية مختلفة. قد يكون الاختلاف هو الشرط الذي تم تأجيله، وقد يكون هو الشرط الذي يختلف عنه. قد يكون الفرق هو الشرط الأساسي للاختلاف.

إذا كان مفهوم الاختلاف Différence يعني بالنسبة إلى جاك دريدا أصل الحضور والغياب، فإن مفهوم Différance لا يمكن تعريفه، ولا يمكن فهمه من خلال ميتافيزيقا الحضور. في الفرنسية وكما سبقت الإشارة، كلمة Différance تعني التأجيل أو الإرجاء، وقد تعني أيضا الاختلاف. يؤكد دريدا أن الاختلاف Différence هو حالة التعارض بين الحضور والغياب.7

أما مفهوم Différance أي التأجيل أو الإرجاء، فيعني بالنسبة إلى جاك دريدا تلك المفصلة بين الكلام والكتابة، وبين المعنى الداخلي والمظاهر الخارجية. طالما يوجد معنى، فإن الاختلاف Différenceموجود هو أيضا.8

5- مركزية اللوغوس Logocentrism

يشير جاك دريدا إلى أن مفهوم "لوغوسنتريزم Logocentrism" يحوي كلمتين؛ الكلمة الأولى هي لوغوس logos، وهي كلمة يونانية تعني مبدئيا اللغة والخطاب والقانون والعقل. أما الكلمة الثانية، فتعود إلى الكلمة اللاتينية centrum التي تفيد التمركز بالإضافة إلى اللاحقة ism، وتعني نمطا أو مذهبا. ويرى دريدا أن مفهوم "لوغوسنتريزم Logocentrism" يعني أن اللوغوس يعتبر هو المبدأ المركزي للغة والفلسفة، بيد أن هذا المفهوم وضع جانبا دائما ولأسباب جوهرية كل الأفكار الحرة حول أصل ومكانة الكتابة writing.9

وفقًا لنظرية لوغوسنتريزم، يقول دريدا إن الكلام هو الدال الأصلي للمعنى، وتعتبر الكلمة المكتوبة مشتقة من الكلمة المنطوقة. الكلمة المكتوبة هي بالتالي تمثيل للكلمة المنطوقة. وتؤكد اللوغاريتمية أن اللغة تنشأ كعملية تفكير ينتج الكلام، ثم إن ذلك الكلام ينتج بالتالي الكتابة. نظرية لوغوسنتريزم هي تلك الخاصية المميزة للنصوص والنظريات وأنماط التمثيل وأنظمة الدلالة التي تولد الرغبة في وجود علاقة مباشرة وغير معتدلة ومغنية بالمعنى والوجود والمعرفة.10

ويرى عبد المالك مرتاض بأن دريدا يعتبر نظرية لوغوسنتريزم؛ أي مركزية اللوغوس أو مركزية العقل بأنها تلك النظرية القائلة إن الإشارة اللغوية تتكون من دلالة تستمد معناها من فكرة ذات دلالة أو مفهوم ذي معنى. وتؤكد نظرية لوغوسنتريزم على كون الدال يوجد في وضعية خارجية عن المدلول. تصوَّر الكتابة على أنها جزء خارجي عن الكلام، كما يصوَّر الكلام على أنه شكل خارجي للفكر. ومع ذلك، إذا كانت الكتابة مجرد تمثيل للكلمة، فإن الكتابة ليست سوى "دال على دال". وهكذا، وفقًا لنظرية لوغوسنتريزم، فإن الكتابة هي مجرد شكل مشتق من اللغة التي تستمد معناها من الكلام. تؤكد نظرية لوغوسنتريزم على أهمية الكلام، باعتباره أساسيًا في تطوير اللغة، ولكن أهمية الكتابة تبقى مهمشة.11

يوضح دريدا أنه وفقًا لنظرية لوغوسنتريزم، فإن الكلام قد يكون شكلا من أشكال الحضور presence، لأن المتحدث حاضر في نفس الوقت الذي يعتبر فيه المستمع حاضرا. لكن الكتابة قد تكون نوعًا من الغياب absence؛ لأن الكاتب ليس حاضرًا في نفس وقت حضور القارئ. قد تعتبر نظرية لوغوسنتريزم الكتابة بديلاً عن الحضور المتزامن للكاتب والقارئ.

إذا كان القارئ والكاتب حاضرين في وقت واحد، عندها سيتواصل الكاتب مع القارئ من خلال التحدث بدلاً من الكتابة. وتؤكد نظرية لوغوسنتريزم بالتالي أن الكتابة هي بديل للحديث، وأن الكتابة هي محاولة لاستعادة وجود الكلام. ويصف دريدا نظرية لوغوسنتريزم بأنها "ميتافيزيقا الحضور"، والتي تحفزها الرغبة من أجل "المدلول المتعال Transcendental signified".12

المدلول المتعال هو الدال الدي يتجاوز كل الدوال signifiers، وهو دلالة تتجاوز كل العلامات. المدلول المتعال هو أيضا مفهوم مدلول أو فكر يتجاوز أي دال منفرد، لكنه متضمن من خلال كل محددات المعنى. يرى دريدا بأنه من الممكن تفكيك "المدلول المتعال Transcendental signified" من خلال اختبار المسلمات التي تشكل أساس ميتافيزيقا الحضور metaphysics of presence ".

6- الأثر Trace

يحمل فكر الاختلاف معه فكرة الأثر trace. والأثر هو الشيء الذي تختلف عنه العلامة. الأثر هو الجزء الغائب من حضور العلامة، يقول دريدا: "الأثر لا يعني فقط اختفاء الأصل عنه، يعني هنا في الخطاب الدي نتبناه والمسار الدي نتبعه، أن الأصل لم يختف، إذ إنه لم يتكون يوما إلا في مقابل الأصل؛ أي الأثر الدي يصبح هنا أصل الأصل."13

كل دال اعتبر حاضرا في الفكر الغربي يحمل بداخله أثر دال غائب. وبالتالي، فالدال لا يعتبر حاضرا بشكل كلي ولا غائبا بصفة قطعية. يقول الدكتور عصام عبد الله إن: "الأثر هو ما يشير وما يمحو في الوقت نفسه، يشير دريدا إلى امحاء الشيء وبقائه محفوظا في الباقي من علاماته ويقوم عمل دريدا على بعث طاقة التعبير الحية في المعنى الآخر (المهمش) لهذه المفردات، والتأكيد عليه بقوة بحيث يعود يواجهنا كلما ورد ذكر الكلمة المتضمنة له".14

الأثر هو لا أصل الأصل. الأثر هو كما يقول جاك دريدا: "الأصل المطلق للمعنى بشكل عام. [...] الأثر هو الاختلاف المؤجل différance الذي يحيل إلى الدلالة".15

ويرى دريدا أن الأثر هو أدنى شكل من أشكال الحياة التي تعتبر من زاوية طر فينومينولوجية تكوين وإعادة إنتاج المعنى والهوية. الأثر يحيل إلى أشياء أخرى، وهو مكون مركزي في الطروحات الفكرية لجاك دريدا المنتمية أساسا لفكر الاختلاف. هذا، علما أن معاني الأثر هي استنتاجات وخلاصات لأشياء أخرى كما أن الأثر يعتبر بنية معقدة من الحضور والغياب. بنية الأثر هي نفس بنية الكتابة في كونهما يقومان بنفس الوظيفة المتمثلة في المحافظة على المعنى ونقله عبر الزمان والمكان.

7- الكتابة

حسب الباحث رسول محمد رسول، فإن مفهوم الكتابة لدى دريدا يرتبط بمركزية علم اللغة التي تسيطر على العقل البشري، ويستدل الباحث بما عبر عنه جاك دريدا حين قال:

" نطلق كلمة لغة على الفعل والحركة والفكر والتروي والوعي واللاوعي والخبرة والانفعال، ولكننا نميل الآن إلى أن نطلق كلمة كتابة على كل هذا وأشياء أخرى؛ لا نطلقها فقط على الحركات البدنية لعملية التدوين في الكتابة الأبجدية، والكتابة التصويرية، والكتابة الرمزية، لكننا نطلقها أيضا على ما يجعل الكتابة ممكنة، ونطلقها كذلك فيما وراء الوجه الدال، على الوجه المدلول عليه نفسه، وعلى كل ما يمكن أن يؤدي عموما إلى التدوين سواء كان حرفيا أم لا حتى لو كان ما توزعه الكتابة في الفراغ مختلفا عن الصوت البشري مثل السينما والرقص إلى جانب الكتابة التصويرية والموسيقية والنحتية، وعلى كتابة ألعاب قوى، وكتابة عسكرية وسياسية، إذا ما نظرنا إلى التكنيك الذي يتحكم في هذه المجالات".16

مصطلح الكتابة الأولى أو الكتابة الأصلية arche-writing استعمله جاك دريدا لوصف شكل للغة التي لا يمكن تصورها داخل ميتافيزيقا الحضور. الكتابة الأولى arche-writing هو الشكل الأصلي للغة الذي لا يستمد من الكلام، يقول الأستاذ محمد شوقي الزين في هذا السياق:

"تستمد الكتابة (اللسان، نسق العلامات، منظومة الرموز) من الكــــــــــــــتابة-الأصــــــلية (archi-écriture) نظامها في الاشتغال. يمكن القول بأن الكــــــــــــــتابة-الأصــــــلية "ثقاف" الكتابة التي هي "ثقافة" لأنها تنخرط في زمن التشكيلات الثقافية الكبرى من إبداعات تجد جسدا لها في الكتاب (livre) واللوحة الزيتية والمعزوفة الموسيقية، إلخ."17

هذا، فإن دريدا من خلال اقتراحه لمفهوم "الغراماتولوجيا Grammatologie" يحاول لفت الانتباه إلى أهمية الكتابة، ويطالب بالتالي إعادة اكتشاف وظيفتها، باعتبارها متفردة في سماتها وخصائصها. الكتابة في منظور دريدا ليست فقط علامة دائمة الحضور، كما أنها تستطيع تجاوز السياق الذي ولدت فيه وتنتقل بالتالي إلى سياقات أخرى وتتفاعل فيها. الكتابة إذن وعلى عكس الكلام تستطيع الانتقال بسلاسة من سياق إلى سياق آخر، ومن نظام علامات إلى نظام علامات آخر. وتشير الأستاذة مديحة دبابي إلى أن الكتابة باعتبارها إضافة وملحقا supplément بالصوت كما يرى ذلك روسو، وكما يؤكد على ذلك دريدا، فالأصل يحتاج دائما إلى إضافة طبقا لاستراتيجية التفكيك التي تحتوي على عدة دلالات. من بين هذه الدلالات أن "الملحق أو الزيادة supplément" يحيل على شيء تتم إضافته، أو قد تكون غايته سد نقص ما. الملحق بإمكانه إعادة ترتيب نظام ما انضاف إليه أو قد يحل محله أيضا. والتكملة هي "زيادة على شيء ما واستبدال له" وهذه "التكميلية" يؤكد دريدا على أنها عامل أساسي في كتابة النصوص وانتشارها. إذن، فالكتابة في نظر دريدا هي عملية دينامية تكسر البنية المغلقة على معنى واحد والتكميلية هي استراتيجية أساسية في إعادة إنتاج النص من جديد. كل قراءة هي كتابة معادة (réécriture).18

وبالتالي، وكما يؤكد الباحث على ذلك رسول محمد رسول، فمفهوم الكتابة لدى جاك دريدا هو مفهوم شاسع ومنفتح على فضاءات جديدة تجعل وجود الكتابة متحرّرا من سلطة القيود والثوابت التي تكبله وتتحكم في كينونته. الكتابة "وجود منظور وغير منظور"، و"وجود مرئي وغير مرئي" و"وجود مادي وغير مادي".19

تقترح "غراماتولوجيا" دريدا إذن أن الكتابة تنشأ، تماما مثلها مثل الصوت عن توتر دائم، وبالتالي فلا يمكن للكتابة أن تكون نسخة من اللغة المنطوقة. الكتابة ليست ذلك الشكل الخطي فقط، ولكنها أيضا التعبير عن الأثر ونحت هذا الأثر trace. الكتابة تقوم بتعميم المعنى وتقوم بإشاعته في مجال عام مما يستعصي ربطه بأي قصد أصلي. جاك دريدا يلح على أن الكتابة هي أصل اللغة.

8- خاتمة

على الرغم من عدم إيمانه واقتناعه بكون التفكيك إجراء نقدي، إلا أن دريدا يعتبره السبيل الأنجح لبناء الهوية. التفكيك في نظر جاك دريدا ليس هدما، بل هو بناء صارم للمفاهيم والأفكار والبنى وفق منظور فكر الاختلاف. التفكيك لدى دريدا يفضح الأفكار التي كانت تعتبر مسلمات لا ينبغي الإطاحة بها أو استئصالها أو نقدها. وبطبيعة الحال، فهو لا يقوم، مثله مثل الخطيبي بالهجوم على الميتافيزيقا، بل يقوم بنقدها وإظهار ما هو سلبي فيها وما يستوجب التجاوز أيضا. التفكيكية ليست مشروعا فكريا بديلا كما يؤكد على ذلك دائما جاك دريدا، ولكنها مشروع فكري يمتلك جرأة نقدية قادرة على خلخلة الأنظمة الفكرية والإيديولوجية السائدة بنوع من الصرامة العلمية والأصالة المعرفية.

 

هوامش ومراجع

 

1        رشيد بوطيب، "ماذا تعني فلسفة الاختلاف"، جريدة الشرق الأوسط، عدد 8360، 18أكتوبر 2001

2        الزين، محمد شوقي. (2017). دريدا الباروكي: رؤية في الانعطاف الدريدي داخل النص الفلسفي الغربي. في محمد بكاي (محرر)، جاك دريدا فيلسوف الهوامش: تأملات في التفكيك والكتابة والسيــاسة بيروت: منشورات ضفاف، ص ص.49-50

3        Anne Carolyn Klein, Meeting the Great Bliss Queen: Buddhists, Feminists, and the Art of the Self (Boston: Beacon, 1995), 8

4        David B. Allison, "Introduction," in Jacques Derrida's Speech and Phenomena and Other Essays on Husserl's Theory of Signs, trans. David B. Allison (Evanston: Northwestern University press, 1973), xxxii, n. 1

5        فرانز أوليفيه جيسبير، "ما كان يقوله جاك دريدا (حوار)"، ترجمة عزيز توما، كتابات معاصرة، السنة 15، العدد 59، (2006)، ص 25

6        عبد الكبير الخطيبي، "تخليص السوسيولوجيا من النزعة الاستعمارية"، المجلة المغربية للاقتصاد والاجتماع، العدد 7 (1984)، ص 9

7        Jacques Derrida. Of Grammatology, trans. Gayatri Chakravorty Spivak, (Baltimore: John Hopkins University Press, 1976), p.49.

8        Derrida, Jacques. 1981. Dissemination, trans. Barbara Johnson. Chicago: Chicago UP, p. ix

9        Jacques Derrida. Of Grammatology, trans. Gayatri Chakravorty Spivak, (Baltimore: John Hopkins University Press, 1976), p.43

10    Elizabeth Gross, “Derrida and the Limits of philosophy”, Sage Publications, Thesis Eleven, 1986; 14; 26, p. 27

11    Powell, Jim. 1997. Derrida for Beginners. New York, NY: Writers and Readers.

12    Jacques Derrida. Of Grammatology, trans. Gayatri Chakravorty Spivak, (Baltimore: John Hopkins University Press, 1976), p.49

13    جاك دريدا، في علم الكتابة، ترجمة أنور مغيث ومنى طبة، المركز القومي للترجمة، ط2، 2008، ص.149

14    عصام عبد الله، جاك دريدا: ثورة الاختلاف والتفكيك، مكتبة الأنجلو المصرية، ط1، 2008، ص.28.

15    DERRIDA, J. (1967). De la grammatologie. Paris: Minuit, p.95

16    رسول، محمد رسول. (2017). نقد العلامة في فلسفة جاك دريدا: من هيمنة الدال الميتافيزيقية إلى فضاء الدلالات المنفرجة. في محمد بكاي (محرر)، جاك دريدا فيلسوف الهوامش: تأملات في التفكيك والكتابة والسيــاسة. بيروت: منشورات ضفاف، ص.92

17    الزين، محمد شوقي. (2017). دريدا الباروكي: رؤية في الانعطاف الدريدي داخل النص الفلسفي الغربي. في محمد بكاي (محرر)، جاك دريدا فيلسوف الهوامش: تأملات في التفكيك والكتابة والسيــاسة. بيروت: منشورات ضفاف، ص.56

18    دبابي، مديحة. (2017). الكتابة وتفكيك البنية الأنطو-تيو-لوجية لنسق الفكر الغربي. في محمد بكاي (محرر)، جاك دريدا فيلسوف الهوامش: تأملات في التفكيك والكتابة والسيــاسة. بيروت: منشورات ضفاف، ص ص. 161-162.

19    رسول، محمد رسول. (2017). نقد العلامة في فلسفة جاك دريدا: من هيمنة الدال الميتافيزيقية إلى فضاء الدلالات المنفرجة. في محمد بكاي (محرر)، جاك دريدا فيلسوف الهوامش: تأملات في التفكيك والكتابة والسيــاسة. بيروت: منشورات ضفاف، ص.93