قراءة في كتاب "النصُّ والاختلاف: هيرمينوطيقا الصورة الإلهية عند ابن عربي" لمحمد أمعارش


فئة :  قراءات في كتب

قراءة في كتاب "النصُّ والاختلاف: هيرمينوطيقا الصورة الإلهية عند ابن عربي" لمحمد أمعارش

"إن فكرة الإنسان عن الله، ليست إلا مرآة تعكس لنا فكرته عن نفسه"[1] فريدريك هيكل

نهدف من المقال إلى تقديم قراءة في كتاب "النص والاختلاف: هيرمينوطيقا الصورة الإلهية عند ابن عربي"[2] لمحمد أمعارش، وهو كتاب صادر عن مؤسسة  "مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث" سنة 2017، وننبِّه، في البدء، أن هدفنا لا يخلو من صعوبة، ولاسيما أننا أمام دراسة استغرقت من صاحبها ربع قرن من البحث والمجاهدة، وتمتد على ثلاثة أقسام كبيرة مجموعها 952 صفحة من القطع الكبير، ولعل ما جعل الباحث يستغرق وقتا كبيرا في إنجاز هذه الدراسة هو كونه لم يكتف بالوقوف عند حدود فهم نصوص ابن عربي، بل اضطر إلى خوض تجربة روحية، حتى تنجلي له المعاني التي تتوارى عن نظره الحسِّي والعقلي؛ لذلك حسبنا أن نقف عند المقدِّمات الضرورية النّاظمة لهذه الدِّراسة، ولاسيما أن المقام لا يسمح بالتَّفصيل، دون أن يعني ذلك استغناء القارئ عن العودة لمتن النَّص للوقوف من قرب عن التَّفاصيل التي تجعل موضوع الصُّورة الإلهية موضوعا جديرا بالتَّفكير، لما يجترحه من آفاق للنَّظر والنَّقد والتَّأويل.

يُعَدُّ البحث في موضوع الصُّورة الإلهية من أشرف المباحث في علم الكلام والفلسفة والتَّصوف، ولاسيما أنه موضوع يرتبط بصورة الله، وما يطرحه من نقاش ذي طابع هرمينوطيقي، نظرا لتفرُّق النَّاظرين فيه، على الأقل، إلى فريقين بارزين هما: المجسِّمة الذين يأخذون القول في الذات الإلهية على حرفيته، وبالتالي فالله سميع وبصير على الحقيقة؛ والمنزِّهة الذين يتحاشون نسب صفات مما تقدَّم إلى ذات الله، مرجِّحين معناها المجازي، ومستدلِّين بما ورد في الآية إحدى عشرة من سورة الشورى: "ليس كمثله شيء"؛ وبين هذا الفريق وذاك، برز إلى الوجود فريق آخر هو القائل بالخيار البرزخِي، وهو الذي يمثِّله ابن عربي، من حيث إنه يقع في منزلة وسطى بين الفريقين السَّالفين؛ ذلك أنه مسلك يحسب التَّشبيه والتَّنزيه طرفان لحقيقة واحدة هي الذَّات الإلهية، ولعل هذا ما تعبِّر عنه الآية الرابعة والثمانون من سورة الإسراء، والتي ورد فيها: "قل كل يعمل على شاكلته، فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلا، وهو أعلم بالمهتدين"؛ مما يعني أن التأويل البرزخي يستند على "استراتيجية فهم تقوم على التجانس الكلي بين الظاهر والباطن"[3].

أحصى الباحث، بناء على النقاش الذي تقدَّم ذكره، ثلاث قراءات للصورة الإلهية: القراءة التَّمثيلية التي تميل نحو التَّشبيه؛ والقراءة التَّأويلية التي تميل نحو التَّنزيه؛ والقراءة البرزخية التي تأخذ بالميلين معاً غير معدمة لأحدهما على حساب الآخر؛ إذ بقدر ما أن الله سميع وبصير، فهو ليس كمثله شيء، وهذه، على الحقيقة، قراءة هيرمينوطيقية بالمعنى الذي أثبته محمد أمعارش في دراسته، من جهة أنها تسمح بتقويض التقابل بين المجسِّمة الذين يأخذون بالمتشابه، وبين المنزِّهة الذين يردونه إلى المُحْكَمِ؛ وقد ترتب عن هاتين النزعتين تفرُّق الأمم إلى ملل ونحل، كل منها تدَّعي أنها الفرقة النّاجية؛ يعني هذا، من جملة ما يعنيه، أن القراءة البرزخية تسعى إلى تحرير القول المتشابه من الأحكام المسبقة التي تمجُّه؛ وعندها يصير المتشابه ليس سبَّة، ولا تنقيصا من الذَّات الإلهية، كلا، إنما هو الشَّاهد عليها أوَّلا، والمدخل لفهمها ثانيا؛ وبالتالي فالمتشابه ليس عائقا يطلب حلاًّ، إنما هو حل يكفي استجلاء ظاهره، وعدم الزيغ عنه، وفي ذلك يقول الرَّاسخون في العلم في الآية السابعة من سورة آل عمران: "آمنا به، كلٌّ من عند ربنا".

تؤول هرمينوطيقا ابن عربي إلى حل التقابل بين المؤلف والقارئ، وبين النَّص والمتلقي، وهو ما يعني حل الهويات المنغلقة، وجعلها تنفتح على اختلافاتها؛ ذلك أن كل هوِّية لا تختلف عن أغيارها فحسب، بل تختلف عن نفسها أيضا؛ إذ في البدء كان الاختلاف، وهو ما يسمح بتفجير الهويات المنغلقة، والنصوص المتحجِّرة، والتَّأويلات المتصلِّبة. يقول الباحث: "إن الجمع بين صدق النص وشرعيته في عالمه، وصدقية كل قراءة ومشروعيتها في عالمها، هو وحده الكفيل، عند ابن عربي، بجعل النص مقروءا، وجعل القراءة نصّاً، وفك عزلة الهوِّيات المغلقة، عبر الاشتغال على تنفيس قبضة التقابلات الرُّسومية بين الحقِّ والخلق، والحلال والحرام، والدُّنيا والآخرة، والسَّلف والخلف، والأصل والفرع، والقسمة الضِّدية بين الوجود والعدم، والحقيقة والخيال، والعَيان والوجدان، وبفتح طرفي المقابلة، بعضهما على بعض، ورؤية هذا في ذاك، فلا يعود يقال: نص وقارئ، إنما؛ قارئ ونص، ونص في قارئ، تحريراً لهما من قبضة الهويات المغلقة، وإثباتا للتَّوالج بينهما لا للتَّراتب"[4]، مصداقا للآية الثالثة عشرة من سورة فاطر: "يولج اللَّيل في النهار ويولج النَّهار في اللَّيل"؛ وهو ما يعبِّر عنه ابن عربي في الفتوحات المكية بالقول الآتي: "الحقيقة هي ما عليه الوجود بما فيه من الخلاف، والتَّماثل، والتَّقابل، إن لم تعرف الحقيقة هكذا وإلا فما عرفت"[5].

حَرَّرَ ابن عربي إذاً النصوص المؤسِّسة للثَّقافة الإسلامية من الفهم الجامد الذي يمارس الوصاية على الفكر وعلى رجالاته، فكانت اجتهاداته، حقّاً، فتوحات مبينة في الفكر البشري اجترحت مسارب للانعتاق من النَّزعات الأحادية والمنغلقة على ذاتها باسم الحقيقة، أو الفرقة النَّاجية، أو السَّلف الصالح؛ فالنَّصُّ، كيفما كان هذا النَّص، يحوي الاختلاف، وهو ما يسوِّغ الاختلاف بين الناس في تأويله وفهمه؛ فإذا كان التَّأويل الفلسفي والكلامي يكرِّسان للصِّراع من حيث إنَّهما يتوسَّلان أساسا بالنَّظر البرهاني وغيره من الأقيِسة المنطقية، فإن التَّأويل الصوفي يتأسَّس على "المكاشفات والأذواق واستكناه المعاني الأنطولوجية والكسمولوجية للُّغة والحروف"[6]؛ وهو ما يعني أن صراع التأويلات هو من صراع النص مع ذاته، واختلافها هو من الاختلاف الذي يسكنه، وتباينها هو من المباينة التي تكتنف النص أيّاً كان شأنه، وفي هذا الصدد يؤكِّد جاك ديريدا أن لا شيء، جليلا كان أو دقيقا، يقع خارج النص. وإذا كان ما أثبتناه من خصائص للنص، فمن ذا الذي يدَّعي أنه الأعلم بحقيقته ما ظهر منها وما بطن؟

إن أمر الحقيقة متنازع فيه بين الناس، وهو ما يبرر أحقية كل أحد في الفهم دون وصاية ولا حجر، وهذا عين الوفاء للنصوص التي حقيقتها ليست معطاة سلفا، إنَّما هي تبنى باستمرار تبعا للحاضر الذي ما فتئ ينير البدايات، ويكشف الظُّلمات، ويعيد النَّظر في المسلَّمات؛ وهو ما يجعل النُّصوص المؤسِّسة للثَّقافة الإسلامية نقطة تحوُّل وليس نقطة بدء، من حيث إنَّها ما تفتأ تسائل أفهامنا، وتحثُّنا على إعادة القراءة والفهم والتَّأويل. يقول ابن عربي في الفتوحات المكية: "الحقُّ في الجمع بالقول بحكم الطائفتين [يقصد المشبِّهة والمجسِّمة] فلا ينزِّه ينزيها يخرج عن التَّشبيه، ولا يشبِّه تشبيها يخرج عن التَّنزيه، فلا تطلق ولا تقيد"[7].

يستفاد، إذن، أن موضوع الصورة الإلهية هو موضوع هرمينوطيقي محض، والهيرمينوطيقا، في هذا المقام، تحيل على معنيين هما: المشاهدة من جهة، والكشف من جهة أخرى؛ الأولى تحيل على البحث عن المعنى الموضوعي؛ أي الضروري من العِلم، بينما الثانية تحيل على محاولة فهم ما حدث، وما جرى، وما حصل؛ وهو ما يعني الانتقال من الميتودولوجيا إلى الفينومينولوجيا، وهو الانتقال نفسه الذي حكَم محمد أمعارش في دراسته عن الصورة الإلهية عند ابن عربي، وعيا منه أن الهيرمينوطيقا ليست فحسب "تقنيات بحث عن المعنى الجاهز والصحيح والمستقر في النص، وإمساك به في مقولات ومفاهيم؛ بل هي تحليل كيفية حدوث المعنى "عند"؛ أي تحليل الطَّريق إلى المعنى، وتفكيك عملية البحث والتَّفتيش نفسها عن المعنى، من حيث هي كاشفة عن الشَّرح المزدوج للنص والقارئ معاً، في تشارحهما الذي يفتحهما بعضهما على بعض، فيظهر المعنى بوصفه انشراحا تنفرج به كربة النص والقراءة، وافتراقهما في الزمان والموطن"[8]. وتبقى اللغة هي المعبِّرة عن هذا الاختلاف الذي يطبع صورة الله، بل الاختلاف الذي يسم الوجود برمته بحقِّه وخلقه، وهو ما عبَّر عنه مارتن هايدجر بالقول: "اللُّغة مأوى الوجود"[9]؛ فهي التي تستضيف حضوره وغيابه، سكونه وحركته، ظاهره وباطنه، أو قل، بكلمة واحدة، تستضيف اختلافه.

ولعل ما أتينا على ذكره يجد جذوره في مكتسبات الفكر المعاصر؛ ذلك أن القرن التاسع عشر عَرَفَ نوعا من التأويل لا عهد للسابقين به، وهو تأويل لا حدود له؛ أي إنه تأويل لا يني ينعكس على ذاته، تأويل لا يدعي حقيقة تذكر، بل هو تأويل للخطابات موضوع التأويل، وتأويل لهذه التأويلات نفسها. إنه تأويل لا ينفك عن الابتداء، مؤسسا بذلك لزمان يختلف عن زمان الجدل؛ فإذا كان زمان الجدل زمنا خطِّيا يهدف إلى بلوغ النهاية، وما تفترضه من كمال بعد النقص، وامتلاء بعد الخواء، ويقين بعد الشك، وتطابق بعد الانفصال، فإن زمان التأويل المعاصر زمان دائري على شاكلة العود الأبدي؛ أي إنه زمان مضطر، كما يؤكد ميشيل فوكو، إلى أن يمر من الموقع نفسه الذي مر منه من ذي قبل.[10]

يفسِّر ميشيل فوكو هذا الانتقال بالقطائع التي أحدثها ثلاثة مفكرين، وهم على التوالي: كوبرنيك في الفيزياء، وداروين في البيولوجيا، فضلا عن سيغموند فرويد في علم النفس؛ وهي قطائع يشبِّهها ميشيل فوكو بالجروح التي أصابت نرجسية الإنسان؛ وتتمثل تحديدا في تقويض كوبرنيك لمركزية الأرض التي يحيا عليها الإنسان؛ وكشْف داروين على أن الإنسان ينحدر عن القردة؛ وبيان سغموند فرويد أن اللاشعور هو الذي يتحكَّم في سلوك الإنسان، بينما دور الشُّعور لا يتعدى الوهم والتَّضليل[11].

يولي ميشيل فوكو لمسألة التأويل أهمية كبرى إلى درجة أنه لا يتردد في الإعلان عن حُلْمٍ مفاده تخصيص موسوعات تضمُّ كلّ تقنيات التأويل المختلفة التي شهدتها البشرية بدءا من النُّحاة الإغريق وصولا للزمن الحديث. لكن بغضِّ النظر عن مختلف أنواع التأويل، فإن كل تأويل، كيفما كان، ينطلق حسب ميشيل فوكو من اعتقادين رئيسين: الأول مفاده أن اللغة تخفي أكثر مما تظهر[12]؛ والثاني مفاده أن اللغة لا تعني فقط ما يتم التلفظ به من كلام؛ أي الصورة اللفظية للغة، بل تشمل كذلك لغة الطبيعة وما في معناها، ولغة الجسد وما يتعلق به. يقول ميشيل فوكو: "هناك أشياء أخرى في العالَم تتكلم دون أن تكون لغة. فقد تكون الطبيعة والبحر وحفيف الأشجار والحيوانات والأوجه والأقنعة والسكاكين"[13]. يدعونا هذان الاعتقادان اللذان يحكمان مسألة التأويل إلى استنطاق كل خطاب، من أجل الكشف عن المسكوت عنه، ونقله من الخفاء إلى الظهور، ومن الغياب إلى الحضور.

تجدر الإشارة إلى أنه على الرغم من الأهمية التي يوليها ميشيل فوكو للتأويل، إلا أنه لا يعتبر الأركيولوجيا ضربا من ضروب التأويل، لأنها، في نظره، لا تسعى إلى الكشف عن باطن الخطابات وما تخفيه، متجاوزة بذلك سطحها وظاهرها نحو أعماقها، إنما الأركيولوجيا، في نظره، هي بالأحرى تأويل لتأويلات حول الخطابات، أو قل هي، بلغة عبد السلام بنعبد العالي، منهج وصفي أكثر مما هي منهج تأويلي[14]. إن الأركيولوجيا، باختصار، أبعد ما تكون عن الفلسفات التأويلية، التي ما فتئ ميشيل فوكو يوجه لها سهام النقد، نظرا لما تكرسه من ثنائيات الظاهر والباطن، والعمق والسطح، والجوهر والعرض، وهي ثنائيات من صميم الميتافيزيقا التي تسعى الأركيولوجيا لتقوضها من أجل مجاوزتها؛ وفي هذا الصدد، نعتَبر أن ما نهض به محمد أمعارش في دراسته، ليس انتصارا لضرب من التأويل على حساب آخر، إنما هو قام بعمل أركيولوجي للكشف عن الأنظمة المعرفية التي تنطلق منها الملل والنحل التي تفرقت في تأويل صورة الله، محاولا تفكيكها وخلخلتها، وقد وجد في مدوَّنة الشيخ الأكبر خير معين وسبيل، لما تتيحه من هامش كبير من الفهم بعيدا عن التعصب لرأي من الآراء.

انتقل محمد أمعارش، بناء على مكتسبات الفكر المعاصر الآنفة، من البحث في الصورة الإلهية كما تقررت عند ابن عربي، وما ترتَّب عنها من تأويلات، إلى البحث في الصورة الإنسانية، وما يرتبط بها من تحدِّيات العصر؛ وهو ما يعني الانتقال من مسائل قديمة ترتبط بالذات الإلهية والصفات والقضاء والقدر والخلافة...إلخ، إلى مسائل من صميم العصر تتعلَّق بالحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، دون أن يعني ذلك الدعوة إلى القطيعة مع التُّراث الكلامي والفلسفي والصُّوفي، كلا، بل هو استئناف للبحث فيه، في ضوء روح جديدة تنهل من الفكر المعاصر، وهو ما تشهد عليه العُدَّة المنهجية التي استند عليها الباحث في مقاربته لموضوع الدراسة، والتي تراوحت بين الفلسفة من جهة والعلوم الإنسانية من جهة أخرى. إن البحث، إذن، في موضوع الصورة الإلهية هو مساءلة للتُّخوم بين الإلهي والإنساني، بين الله والعالم، بين المتعالي والمحايث، ولعل هذا ما جعل فيورباخ يقول: "إن الإنسان خلق الله على صورته"[15]. وقد سمحت مساءلة ابن عربي لعلاقة الإنسان بالله بترتيب الحدود على نحو يمسح بالعيش المشترك الذي يطبعه الحب والسلام والحق في الفهم والتعبد والاعتقاد.

يتحصَّل إذن، أن موضوع الصورة الإلهية موضوع استأثر باهتمام الباحثين من حقول معرفية مختلفة شملت الدين والفلسفة وعلم الكلام والتصوف، وقد اختلفت الأنظار في تأويل صورة الله بين أربع قراءات، خاصة في الحديث القائل: "خلق الله آدم على صورته"؛ إذ نجد القراءة التمثيلية التي تجعل أمر الصفات الإلهية يرجع إلى الله حقيقة لا مجازا، فتصير هي هو، وهو هي؛ وهناك قراءة تأويلية ترجع الصفات إلى الله مجازا لا حقيقة، فتصير هي ليست هو، وهو ليس هي؛ وهناك قراءة إرجائية، وهي في الواقع لا تعدو إلا تنويعة على القراءتين السابقتين، والتي لا تقطع بدلالة ما، إنَّما هي تفتح احتمالات الصِّفات الإلهية على الله من جهة، وعلى الإنسان من جهة أخرى، فتصير بموجبها هي هو، أو ليست هي هو؛ وهناك القراءة البرزخية؛ أي تلك التي تجمع في نسب الصفة إلى الحق من جهة؛ أي إلى الله وإلى الخلق من جهة أخرى؛ أي إلى الإنسان، دون نفي أحدهما على حساب الآخر؛ فتصير، حينئذ، حقيقة الصفات الإلهية على النحو الآتي: "لا هي هو، ولا ليست هي هو، بل أمر ثالث واعتباري وإضافي برزخي متحصل من التَّضايف"[16].

نَهَضَ الباحث إذاً، بعمل من صميم مكتسبات الفكر المعاصر، وذلك بتفجير إمكانات النصِّ المختلف حوله وفيه، وجعله نصّاً مفتوحا على قراءات مختلفة ومتباينة، وهو ما يعني تحريره من القراءات المغلقة التي تحجر على الفكر الإنساني وتشلُّ حركته، أو قل بلغة أمبيرتو إيكو أن الباحث جعل موضوع الصورة الإلهية نصا مفتوحا، وليس نصا مغلقا، وما لذلك من فضل في استئناف النقاش الفلسفي والكلامي والصوفي الذي كان قاب قوسين أو أدنى من الانغلاق، جراء النزعات التي تتعصب للرأي الواحد، وتنفي ما عداه؛ وهو ما يعني أن موضوع الصورة الإلهية هو مناسبة حقيقية لتحرير الفكر الإنساني من التعصب وفتحه على إمكانات العيش المشترك؛ أي العيش الذي لا تقوم له قائمة دون التَّسليم بالاختلاف الذي يطبع الحق والخلق، الذات والموضوع، القديم والحديث، ويؤول إلى معاني برزخية تَنِدُّ عن التحديد، وهذا ما يعكس عمق التجربة الروحية لتصوف ابن عربي نتيجة ما تتيحه من إمكانات مختلفة للتأويل، وما تجود به من عيش مشترك يقبل بالاختلافات، ويسلب التقابلات، ويوسع من رحبة الإمكانات؛ وفي هذا المضمار لم تكن التجربة الصوفية لابن عربي مجرد طقوس وأذكار وزهد وانكفاء على الذات، إنما هي تجربة هرمينوطيقية عميقية، تعيد النظر في النصوص، محاولة فهمها على نحو آخر، بعيدا عن الصراع بين الملل والنحل، وفي ذلك يقول ابن عربي في ديونه الموسوم بترجمان الأشواق:

"لقد صار قلبي قابلا كل صورة          فمرعى لغزلان ودير لرهبان

وبيـت لأوثـان وكعـبـة طائـــف          وألواح ثوراة ومصحف قرآن

أدين بدين الحـب أنى توجهــت           ركائبه فالحب ديني وإيماني"[17]

 

لائحة المصادر والمراجع

أولا، المصادر

محمد أمعارش، النص والاختلاف: هيرمينوطيقا الصورة الإلهية عند ابن عربي، مؤسسة مؤمنون بلا حدود، المغرب - الرباط، الطبعة الأولى، 2017

ثانيا، المراجع

الكحلاوي محمد، التأويل الصوفي لدى ابن عربي، مراجعة نقدية لصور العلاقة بين الظاهر والباطن، مجلة المناهل، العدد 91-92

بنعبد العالي عبد السلام، في الفكر المعاصر، الأعمال، الجزء الثالث، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء - المغرب، الطبعة الأولى، 2014

فوكو ميشيل، جينيالوجيا المعرفة، ترجمة أحمد السطاتي وعبد السلام بنعبد العالي، دار توبقال، الدار البيضاء - المغرب، ط 2، 2008


[1] محمد أمعارش، النص والاختلاف: هيرمينوطيقا الصورة الإلهية عند ابن عربي، مؤسسة مؤمنون بلا حدود، المغرب - الرباط، الطبعة الأولى، 2017

[2] المصدر نفسه، ص 135

[3] محمد الكحلاوي، التأويل الصوفي لدى ابن عربي، مراجعة نقدية لصور العلاقة بين الظاهر والباطن، مجلة المناهل، العدد 91-92، ص 12

[4] محمد أمعارش، النص والاختلاف، هيرمينوطيقا الصورة الإلهية عند ابن عربي، مصدر مذكور، ص 100

[5] المصدر نفسه، ص 104

[6] محمد كحلاوي، التأويل الصوفي لدى ابن عربي، مراجعة نقدية لصور العلاقة بين الظاهر والباطن، مرجع مذكور، ص 15

[7] محمد أمعارش، النص والاختلاف، هيرمينوطيقا الصورة الإلهية عند ابن عربي، مصدر مذكور، ص 879

[8] المصدر نفسه، ص 24

[9] المصدر نفسه، ص 883

[10] ميشيل فوكو، جينيالوجيا المعرفة، ترجمة أحمد السطاتي وعبد السلام بنعبد العالي، دار توبقال، الدار البيضاء - المغرب، ط 2، 2008، ص 54

[11] المرجع نفسه، ص 46

[12] المرجع نفسه، ص ص 43-44

[13] المرجع نفسه، ص 44

[14] عبد السلام بنعبد العالي، في الفكر المعاصر، الأعمال، الجزء الثالث، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء - المغرب، الطبعة الأولى، 2014، ص 63

[15] محمد أمعارش، النص والاختلاف، هيرمينوطيقا الصورة الإلهية عند ابن عربي، مصدر مذكور، ص 135

[16] المصدر نفسه، ص 143

[17] المصدر نفسه، ص 601