لماذا تتعاطف دوائر عديدة في الأكاديميا الغربية مع الاسلاموية؟


فئة :  مقالات

لماذا تتعاطف دوائر عديدة في الأكاديميا الغربية مع الاسلاموية؟

لماذا تتعاطف دوائر عديدة في الأكاديميا الغربية مع الاسلاموية؟([1])

4-عندما يتحوّل فريق من باحثي الإسلامويّة إلى أجهزة تسجيل تعيد ترديد مقولات الإخوان المنمّقة

د. وائل صالح

يقول قسمٌ وازنٌ من الأدبيّات المتداولة المتعاطفة مع الإسلامويّة في الدوائر البحثيّة والأكاديميّة الغربيّة وتحت تأثير كل من علم الاجتماع وعلم الأنثروبولوجيا، إنّ تحليل النصوص التأسيسيّة لفهم ممارسات ومخيّلة الإسلاميّين هو اختزال لواقعهم، وأنه يكفي الاكتفاء بما يقوله الإسلاميّون عن أنفسهم بخصوص أنهم ديمقراطيّون، وأن ولاءهم هو لدُوَلِهم الوطنيّة على سبيل المثال كحقيقة مسلّم بها.

ويعدّ الباحث الفرنسي «فرانسوا بورجا» واحداً من أبرز رواد هذا الاتجاه، حيث كانت بداية تعرّف بورجا على الظاهرة من خلال مقابلات وحوارات مباشرة مع بعض قادة الإخوان المسلمين، وهي المقابلات التي خرج منها بانطباع - بل باعتقاد جازم لديه!! - بأنهم يمثلون الوسطيّة ويحوزون الأغلبيّة على الساحة الإسلامويّة.

في كتابه الأخير «فهم الإسلام السياسيّ»، يرى بورجا أن الاختلافات بين باحث وآخر هي قبل كل شيء، اختلافات ذات طبيعة منهجيّة بالأساس، فكتابات أي باحث تتحدّد من خلال نوع اتصاله الأوّل بالظاهرة محلّ البحث.

ويطبّق بورجا هذه الفكرة على بعض زملائه من الباحثين الفرنسيّين المتخصّصين في دراسة ظاهرة الإسلامويّة مثل «جيل كيبل» الذي كان أول تعرّفه على الظاهرة من خلال قراءة النصوص التأسيسيّة ونصوص البرامج السياسيّة للإخوان المسلمين، أو «أوليفييه روا» الذي اعتمد على تحليل شعاراتهم السياسيّة المُعلَنة.

ويرى بورجا أن اختزال واقع الإسلامويّة في نصوصها المؤسّسة أو شعاراتها المُعلَنة هو خطأ منهجيّ، وأنّ تحليل مضمون نصوص وشعارات الحركات الإسلامويّة يبقى مجرّد تصوّر لمُراقب من بعيد جدّا ومن خارج واقع الظاهرة، وليس وصفًا واقعيّا للجذور العميقة لظاهرة الإسلامويّة.

لذلك، يعتقد «بورجا» أن الحوار المباشر في صورة مقابلات مع ممثلي الإسلامويّة هو الوحيد القادر على سبيل المثال أن يُظهر مثلا أنهم لا يستهدفون تطبيق الشريعة، ولا لاعتبارها الدستور السياسيّ للدولة، وهو ما يظهر كشرط لكي تكون الدولة «إسلاميّة» كما هو متعارف عليه. خلاصة الأمر ينتقد «بورجا» مقاربتيْ «كيبل» و«روا» كونهما تفترضان أن النصوص التأسيسيّة أو الشعارات هي التي تُرْشد الممارسة السياسيّة وتحدّد الخيال السياسيّ والاجتماعي للإسلامويّين وليس العكس.

ثمّة حقائق وملاحظات معاكسة غابت عن «بورجا» وعن المنتمين لهذا التيّار المتعاطف مع الإسلامويّة، والذي يقول إنّ تحليل النصوص التأسيسيّة لفهم ممارسات ومُخيّلة الإسلاميّين هو اختزال لواقعهم (عرضتُ بعضها في كتابي مع البروفيسور بجامعة مونتريال «باتريس برودر» «الإسلام السياسي بعد الربيع العربي... هل حان وقت النهاية للإسلامويّة السياسيّة»، هذه الملاحظات هي:

أولاً: يتم اختزال المنهج «التجريبيّ» عند هذا الفريق من الباحثين إلى نوع من التسجيل والنسخ لخطابهم الشفاهيّ المُعطى خلال المقابلات مع القادة الإسلامويّين، دونما قراءة مسبقة أو موازية لنصوصهم التأسيسيّة المكتوبة، والتي يتربّوْن عليها ويحفظونها عن ظهر قلب بل ويقدّسونها، وبدون تحليل لاحق شامل. باختصار، الباحث ليس جهاز تسجيل أو مجرّد معجب مغرم «Fan» بموضوع وأشخاص دراسته، ليكرّر ما يقال دون إخضاعه لأدوات جمع المعلومات وفهمها وتفسيرها وتحليلها كما يفعل عادة «الهواري عدي» أستاذ علم الاجتماع بمعهد الدراسات السياسيّة بليون بفرنسا عند تناوله حركة النهضة بتونس أو حزب الوسط المصري على سبيل المثال.

ثانيا: أن اختلاف الباحثين لا ينشأ فقط بسبب الفارق بين المقابلة الشفهيّة أو النص التأسيسيّ؛ فكلاهما تعبيرات لغويّة في النهاية، ولكن ما يصنع الفارق أيضا هو طريقة تعامل الباحث مع هذه التعبيرات، فلكي تكون قادرًا على فهم معمّق وجيّد لخطابات الإسلاميّين من خلال المقابلات المباشرة، يجب أن توضع أولاً تلك الخطابات في سياقاتها خصوصا الفكريّ منها، ثم يتم تحليل الخطاب نوعياً وكمياً للتمكّن من فهم هدفه ومنطقه وتماسكه، وتحديد الأسس المعرفيّة والخلفيّة والأطر النظريّة للخطاب التي ساهمت في تشكّله، والتي لا غنى عنها لمعرفة مضامين ومحتويات وغايات ومعايير وفضاء وبنية وجنس الخطاب للتمكّن من تحليله.

ثالثا: عادة ما يكتفي هذا الفريق من الباحثين بمقابلات مع عدد قليل من قيادات الإسلامويّة السياسيّة، المدرّبين على مخاطبة الباحثين الأكاديميّين ووسائل الإعلام الغربيّة بصورة منمّقة تتعامل بذكاء مع هواجس الغرب، وبالتالي لا يصحّ التعميم من خلالهم على كامل أعضاء جماعاتهم والمنتمين إليها والمتعاطفين معها، خاصة القواعد التي تتحدث بعفويّة أكثر، وتكشف الارتباط بالنص المؤسّس المتشدّد وليس الموازنة الإعلاميّة أو المداورة السياسيّة.

في حالة جماعة الإخوان المسلمين على سبيل المثال، لم يكن الباحث وحده هو من يختار من يتم معه اللقاء، ولكن كان للجماعة الدور الأكبر في ذلك، حيث تتمّ هذه اللّقاءات البحثيّة عادة مع مسؤولي الاتصال السياسيّ بالغرب، وهم عادة كوادر مدرّبة على اصطناع خطاب منفتح غير متشدّد مطمئن للغرب، وليسوا ممن يعملون في قطاع التنشئة للأعضاء الجدد أو قطاع الدعوة الموجّه لجمهور المسلمين عموما، حيث يمكننا القول باطمئنان إن خطابهم سيكون مختلفا بالطبع وغير معبّر عن حقيقة رؤى الإخوان ومواقفهم. ونادرًا ما تقابل الباحثون من هذا التيار مع أي من المنشقّين الذين خرجوا من الجماعة أو مع قيادات الجماعة الذين وصلوا للحكم في بلاد، مثل السودان وقدّموا نماذج مدمّرة لما يعرف بالحكومة الإسلاميّة (جبهة الانقاذ وعمر البشير المخلوع نموذجا استمر لمدة 30 عاما كاملا). لذا يمكننا القول إن مقابلاتهم ودراسات الحالة التي أجروها كانت انتقائيّة للغاية وغير ممثّلة - بالمعنى الإحصائي - للمنوال الغالب على خطابات عموم أعضاء الجماعة، وهي خطابات أكثر انغلاقا وتشدّدا وأقل تسامحا، والمشكل الأساسي أن هؤلاء الباحثين يستنتجون من خلال هذه اللّقاءات - المتحيّزة منهجيّا - تفسيرًا عامًا يريدون فرضه على بقيّة الباحثين والسياسيّين لفهم ظاهرة الإسلام السياسي.

رابعا: لم يسبق لهذا التيّار أن أجرى مقابلات مع إسلاميّين لمعرفة وجهات نظرهم الخاصة حول المكانة والدور الذي تلعبه النصوص التأسيسيّة والشعارات في ممارساتهم اليوميّة. إنهم كمن يضع فقط ما يعتقد هو على ألسنة من يقابلهم من الإسلاميّين، فهل يتفق الإخوان المسلمون مثلا مع افتراض «بورجا» بأن الشريعة ليست هي مصدر شرعيّة النظام السياسيّ!! [لاحظ كيف انقلب الإخوان المسلمون في مصر عند وصولهم إلى الحكم بعد ثورة 25 يناير على اتفاقهم المعلن مع القوى الوطنيّة الأخرى أيام مبارك على مدنيّة الدولة، وضمنوا دستورهم تطبيقا عمليّا لسيطرة الشريعة على السياسة بإنشاء هيئة دينيّة تعود إليها الدولة قبل اتخاذ قرارات سياسيّة].

بعبارة أوضح، يعتقد هذا الفريق من الباحثين أن الخطاب الدينيّ للإخوان المسلمين هو مجرد واجهة بلاغيّة لا تؤثر على ممارساتهم؟ ويبدو أن نهج «بورجا» وتيّاره ينكر حقيقتين واضحتين: الأولى، أن الإخوان المسلمين لديهم ثقافة وتراث نصّي يتعارضان تماما مع ما يدّعي وصفهم به. ثانياً، لم يقل الإخوان المسلمون قط أن هذه النصوص لم تعد تؤثّر على ممارساتهم وأهدافهم الاستراتيجيّة، ولا يقبلون أبدا أن يقول هو أو غيره عنهم ذلك أمام جمهورهم الحقيقيّ في بلادهم، يقبلونه فقط إن ظلّ في ندوة مغلقة أو كتاب بلغة غربيّة.

إذا كان «كيبل»، بحسب بورجا، يتجاهل تفاعل خطاب الإسلامويّة السياسيّة مع المجتمع ومعارضته للنظم الحاكمة في العالم العربي، فإن طريقة فهم بورجا وتيّاره يبدو لنا وكأنه يصر - دون مبرّر مقنع - على تجاهل وإخفاء البُعد الدينيّ والأيديولوجيّ وتأثيره الحاسم على الظاهرة.

خلاصة الأمر، إن من يقول إن تحليل النصوص التأسيسيّة لفهم ممارسات ومُخيّلة الإسلاميّين هو اختزال لواقعهم، لا يستخدم نهجًا تفرضه الظاهرة الإسلامويّة وطبيعتها على الباحث، بقدر ما يعمل على اختزال تلك الظاهرة القائمة على نصوص مؤسّسة لها كرؤية للعالم في عدد قليل من المقابلات [المخطط لها بعناية] مع بعض قياداتها التي تتعمّد استخدام «خطاب مصطنع» موجّه للغرب تحديدا بهدف كسب تعاطفه وتأييده السياسيّ.

[1] نشر هذا المقال أوّلا ضمن سلسلة المقالات الصادرة على موقع أصوات أونلاين.