معنى المَثَل الأعلى العَلماني الكلمة، المبدأ، المثل الأعلى الكلمة والمبدأ


فئة :  ترجمات

معنى المَثَل الأعلى العَلماني  الكلمة، المبدأ، المثل الأعلى الكلمة والمبدأ

معنى المَثَل الأعلى العَلماني[1]

الكلمة، المبدأ، المثل الأعلى

الكلمة والمبدأ

الأصل الاشتقاقي لكلمة «لائيكيّة» (Laïcité) دالٌّ للغاية؛ فالكلمة الإغريقيّة (Lakos) «لايكوس» تعني وحدة السكّان، معتبرين ككلّ غير قابل للانقسام. اللّائيكي هو إنسان من الشعب لا تميّزه أيّ سلطة، ولا ترفعه فوق الآخرين، فليس له دور معترف به لتوجيه الوعي، ولا سلطة القول، وفرض ما يجوز اعتقاده. وهو يمكن أن يكون المنتمي البسيط إلى طائفة، وأيضاً الذي يتبنّى رؤية ملحدة للعالم، الاعتقاد المؤسّس لها مختلف عن الاعتقاد الملهم للدين. وحدة اللاووس (Laos) هي، إذن، في الآن نفسه، مبدأ حريّة ومبدأ مساواة. تقوم المساواة على حريّة الضمير المعترف بها باعتبارها أوّليّة، ولها الأهميّة نفسها بالنسبة إلى الجميع؛ ذلك يعني أنّ أيّ اقتناع روحيّة ينبغي ألّا يتمتّع باعتراف ولا بامتيازات ماديّة أو رمزيّة يكون امتلاكها مولّداً للتمييز.

إذا كان من غير الممكن ومن غير الواجب إكراه الضمير، فذلك لأنّه من منطلق الحريّة يتبنّى اقتناعاً أو عقيدة، وتلك الحريّة هي نفسها بالنسبة إلى كلّ الأفراد. يجب فهم وحدة السكّان، «لاووس» أو الشعب، باعتبارها متعارضة مع فكرة وجود مجموعة خاصّة منفصلة ومستقلة، يمكنها أن ترى نفسها جديرة بحقوق أكثر، وحتى بدور موجّه في علاقتها بالكلّ. إنّ التشديد على مرجعيّة الكلّ يتوازى، في هذه الحالة، مع الاهتمام بالمساواة أمام القانون بين الأفراد الذين يشكّلون الكلّ الاجتماعي. لا ينبغي لأيّ امتياز فعلي أن يتوسّط بين الناس والخير المشترك. وفي سياق حديث، يمكن القول، على سبيل التوضيح، إنّ الاقتناع الخاصّ بالبعض-سواء كان من طبيعة دينيّة أم غير دينيّةــــ لا يمكنه ولا ينبغي له أن يُفرَض على الجميع. إنّ الوحدة المرجعيّة للسكّان ليس لها إذن من أساس سوى تساوي قيمة قناعات أعضائه؛ إنّها تمنع تحوّل عقيدة جزئيّة إلى معيار عمومي يوفّر قاعدة للهيمنة على الكلّ. إنّها تتطلّب جهازاً قانونيّاً يسمح بالتعبير الحرّ عن كلّ خيار روحي في الفضاء العمومي، وليس للتحكّم فيه. سيتمّ الحكم هنا على المؤاخذات المتهافتة المُوجَّهَة إلى العلمانيّة بأنّها تتجاهل البُعد الجماعي للأديان: يعني التخصيص القانوني للديني التذكير، مع لوك (Locke)، بأنّ الدولة ليس لها أن تهتمّ بخلاص النفوس، ومع اسبينوزا (Spinoza) بأنّ الدولة ليس لها أن تأمر بأيّ شيء في مجال الحياة الروحيّة؛ لأنّ ما يهمّها هو الأعمال فقط ومطابقتها لمتطلبات الحياة المشتركة. ليست ماريان(*) الجمهوريّة حَكماً في ما يتعلّق بالمعتقدات، ففي حين يعتقد قيصر أنّ من المفيد توظيف الدين لغايات سياسيّة مع تكريسه شكلاً متميّزاً للاعتقاد، ترمي هي إلى أن تعيد الحياة الدينيّة والروحيّة إلى حرّيتها الكاملة، وذلك بأن تتحرّر من كلّ تحديد يتناقض مع توجّهها الكوني.

المساواة، الحريّة: يمكّن التوضيح الاشتقاقي لمعنى العلمانيّة من تقديم تعريف إيجابي لها. العلمانيّة هي الإثبات الأصلي لكون الشعب اتحاداً بين أناسٍ أحرار ومتساوين. إنّ الحريّة المعنيّة هنا هي جوهريّاً حريّة الضمير الذي لا يخضع لأيّ معتَقَد مفروض. والمساواة هي التي تتعلّق بمكانة الاختيارات الروحيّة الشخصيّة؛ أي أن يكون المرء ملحداً أو مؤمناً، موحّداً أو مقرّاً بتعدّد الآلهة، مفكّرا حرّاً أو متصوّفاً. لا يمكن إقامة تراتبيّة على اختيار من بين هذه الممكنات. علمانيّة هي الجماعة السياسيّة التي يمكن للجميع في إطارها أن يتعارفوا، ويبقى الاختيار الروحي شأناً خاصّاً. يمكن أن يأخذ ذلك «الشأن الخاص» بُعدين اثنين: أحدهما شخصي وفردي بصورة حصريّة، والآخر جماعي، ولكن في هذه الحالة لا تستطيع المجموعة المكوَّنَة بحُريّة أن تزعم أنّها تتكلّم باسم الجماعة الكليّة، ولا أن تستحوذ على الفضاء العام. ينتمي هذا «الشأن الخاص» إلى الجمعيّة الخاصّة، وليس إلى المجتمع المشترك. تسمح جمعيّات الحق الخاصّ للانتماءات الدينيّة وللرابطات الفلسفيّة بأن تأخذ بُعداً جماعيّاً، ولكن دون أن يرهن ذلك البُعدُ استقلاليّة الفضاء العام، الذي ينحو نحو الكوني.

لا يتكوّن الفضاء العلماني، وفق هذا التصوّر، من جمع المختلفين «الجماعيين»، بل من تقييم إيجابي لمستوى مرجعي يتعالى عليهم دون أن يلغيهم؛ لأنّه يتعلّق بمتطلبات مختلفة عن المتطلبات التي تكوّنهم. لا توسم الاختلافات المشتركة بين الجميع، والمخصّصة لترقية ما يوحّد بين الناس بغض النظر عن اختلافاتهم، باختيار خاصّ بالبعض، ولا تُرَدُّ إلى فسيفساء «هويّات جماعيّة» دون أن تفسد وظيفة الدولة بما هي موجِّه نحو الكليّة. إنّها معاينة إقرار جدّ مهمّة في مجتمعات يميّزها ما يُسمّى بالتنوّع الثقافي أو «التعدّديّة الثقافيّة» مع التباس هذه الحدود بالنظر إلى التباس مفهوم الثقافة المشار إليه أعلاه. وهو التباس مشابه، بمعنى ما، لمفهوم «الهويّة الجماعيّة» المقبولة كما لو كانت بديهيّة بذاتها. أليست الهويّة، على العكس من ذلك، فرديّة؟ وهل تلك الهويّة الفرديّة، المتعلّقة بكائن يتشكّل وجوده تدريجيّاً، نهائيّة ما دام على قيد الحياة؟ إنّه سؤالٌ منسوب إلى سارتر يمكنه أن يثبط كلّ طابع قدري للتعيين الهووي، ويسجّل التحرّر اللّائيكي للشخص في جذريّة نافية للقدر.

لا يعني حياد الدولة اللائيكيّة العقائدي أنّها ستكون غير مبالية بأيّ قيمة وبأيّ مبدأ. بالفعل، إنّ الاختيار المتزامن لحريّة الضمير المدعّمة بتعليمٍ محرِّرٍ، وللمساواة في الحقوق المذكورة في كلّ سجلّات التعبير عن الذات وإثباتها، ولكليّة فضاء مرجعي وخيرات موعودة للجميع، لا علاقة له بإضعاف نسبوي للدولة مفهومةً بوصفها مدينة سياسيّة. من الغريب، زيادة على ذلك، أن يتّهم الجدال المناهض لللّائيكيّة، بصفة متسرعة، العلمنة بتجفيف منابع الدولة الإيتيقيّة وبتقديسها هي. أمّا فيما يخصّ نزع السحر عن العالم الشهير، الذي نُقل إلى عالم الدولة، كما أكّده ماكس فيبر (Max Weber)، فيجب تأكيد أنّه لم يكن له في البداية معنى فقدان المَعالِم، بل كان له معنى إعادة تعريف مكانة وأنماط تلك المَعالِم. دون استبعاد إمكانيّة إعادة إنتاج الحكم المسبق الذي يقرّ بالتعاضد بين الأخلاقيّة والاعتقاد الديني المفروض، لم تُنتج العلمنة تقهقراً إيتيقيّاً، تماماً مثلما لم تشجّع الكليروسيّة (سلطة رجال الدين المسيحيين) القديمة، بصورة خاصّة، على احترام حقوق الإنسان وحبّ القريب. لقد لاحظ بايل (Bayle) أنّه إذا كان المرء يلتقي عادة بمسيحيين مجرمين، فإنّه يلتقي أيضاً بملحدين فضلاء. أمّا هيوم (Hume) فقد لاحظ أنّ الحياة المستقيمة تتعلّق بدافع أخلاقي محايث للبشر ومستقل نسبيّاً عن الفرضيّات اللّاهوتيّة أو الميتافيزيقيّة، التي يمكن أن تسندها ولكن بصورة اختياريّة ما دام المبدأ، في حدٍّ ذاته، ناجعاً كفاية.

لا تترك حياديّة الفضاء العام اللّائيكي مجالاً لسوء الفهم؛ إنّها لا تعبّر عن أيّ نزعة نسبيّة، ولا تُختزل، بطبيعة الحال، إلى عمليّة تحكيميّة خاصّة بمجرّد جهاز قانوني «لإدارة تعدّديّةِ الديني». ومع ذلك، يُعطي البعض لهذا التصوّر الأدنى والتمييزي ــــمادام الملحدون واللّاأدريّون مقصيّين من كنائسيّة (œcuménisme) التقاسم هذه-الاسم الخادع وهو «علمانيّة منفتحة». ليس الحياد العقائدي للدولة إلّا الوجه الآخر للصفحة، وهو الانشغال بالكلّي وبالقيم المشتركة بين الجميع. ليس الحياد إذن متعارضاً مع التعدّديّة التي يجعلها ممكنة في انتشارها المنصف، ولا مع الفصل القانوني بين الدولة والكنائس الذي يشكّل، في الوقت نفسه، شرطه وضمانته. والحال أنّه توجد طريقتان لإفساد هذا الحياد: إمّا بإيثار عقيدة خاصّة علناً أو احتيالاً، علناً في حالة دين الدولة، واحتيالاً في حالة النظام التوافقي، وإمّا بترك الفضاء العام مفتوحاً أمام عقائد لها الحقوق المتساوية نفسها قطعاً، ولكن مع حدٍّ مزدوج: الإقصاء التمييزي للقناعات الملحدة واللّاأدريّة، وخطر اختفاء المرجعيّات المشتركة في فسيفساء الخصوصيّات المعترف بها والمكرّسة. ليس الفضاء اللّائيكي، إذن، متعدّد العقائد، ولا هو وحيد الملّة: إنّه غير ملّي.

ثمّة فكرتان أساسيّتان يتضمّنهما المثل الأعلى العلماني. أوّلاً، فكرة وضع الحدود بين المشترك بين الجميع -أو يمكن أن يكون كذلك بصورة مشروعة- وما يتعلّق بالحريّة الفرديّة، بالفضاء الخاص. يهدف ذلك التقسيم إلى الاعتدال في مجال القانون، وهو يقصي نشاط الفكر المنفلت من كلّ رقابة، والقناعات الشخصيّة المنسوبة إلى حريّة الضمير وإيتيقا الحياة المستقلّة، في حدود الحقّ المشترك الذي يضمن وجود الحريّات. ثانياً، فكرة سيادة الإرادة التي هي مصدر الحياة المشتركة كما هي مصدر الوعي والعقل الذي ينيرها. لقد شدّد روسو (Rousseau) على ذلك: لكي يكون المجتمع الإنساني اتّحاداً حقيقيّاً، يجب على أعضائه أن يتّفقوا على المبادئ التي تؤسّسه. يوجد ذلك الاتفاق بحسب أنماط كثيرة شكلها الأبرز هو تبنّي دستور بواسطة الاقتراع، وشكلها الخفي يتمثل في الاتفاق على العيش كما لو كان المرء يقبل بمبادئ الحقّ المنظّمة للحياة المشتركة.

إنّ الالتزام المتبادل، الذي يكوّن الحياة الاجتماعيّة والسياسيّة، هو إذن، في الوقت نفسه، محدّد وإرادي. وهاتان الخاصيّتان متوازيتان. لا تتضمّن الحياة المشتركة أنّ الآخر يتمتّع بحقّ الوصاية على ضميري، وبأن يفرض عليّ ديناً ما، بل تتطلّب أن نراعي قواعد وجود حريّاتنا. إنّني أوافق على قواعد تلك المدينة بقدر ما أدرك أساسها المشروع، وبقدر ما أجعله خاصّاً بي دون التنازل عمّا يجب أن يبقى متعلّقاً بحياتي الشخصيّة. هنا يكمن حافز القبول بإعادة تأسيس العلمانيّة، سواء بالنسبة إلى المؤمنين أم بالنسبة إلى الملحدين واللّاأدريين.

مرجعيّة وأساس العلمانيّة، إذن، هو الشيء المشترك بين الجميع، على الرغم من الاختلافات الروحيّة. إنّ «الخير المشترك»، الشأن العام (respublica) هو مصدر كلمة جمهوريّة. تتطلّب هذه المرجعيّة وتفترض أناساً ذوي وعي منفكّ متحرّر من كلّ تبعيّة، وقادرين على أن يعطوا أنفسهم قانوناً يوحّدهم. هنا يأخذ مفهوم الاستقلاليّة كلّ دلالته: دلالة اقتدار لها جانبان: الأوّل قانوني وسياسي، وهو ما تعبّر عنه كلمة سيادة، الشعب السيّد هو الذي يعطي نفسه قانونه الخاص. والثاني إيتيقي ومدني، ويتمثل في التعرّف إلى الذات مصدراً للقانون الذي نطيعه؛ ومن ثمّ فهم أنّ تلك الطاعة لا علاقة لها بالخضوع أو الاستعباد. إذا كانت العلمانيّة تفصل وعي الناس لكي يتّحدوا بحريّة، فإنّها لا تُهيئهم، مع ذلك، للفوضى والنسبيّة التامّة اللتين تُنشِئان مملكة علاقات القوّة. توجد قيم علمانيّة، أو إن شئنا مبادئ، نابعة من تصوّر يطالب بالكرامة الإنسانيّة. حريّة الضمير، المساواة في الحقوق، الخير المشترك في ما وراء الاختلافات، الثقة المبدئيّة في الاستقلاليّة، الإثبات المتزامن لسيادة الوعي الفردي وسيادة الشعب على نفسه، مبدأ التحرّر الذي يجعلنا نتمتّع بمرجعيّات هُوَويّة مختارة بحريّة دون أن نكون تابعين لها: إنه مَثلٌ أعلى كامل يرجع صداه من كلمة علمانيّة.

من المعروف أنّ لفظة «ديمقراطيّة» تحتوي على عبارة أخرى هي الديموس (demos)، التي تدلّ، هذه المرّة، على الشعب مفهوماً بوصفه مجموعة سياسيّة. تحيل كلٌّ من الديمقراطيّة والعلمانيّة، بمعنى ما، إلى الفكرة نفسها: سيادة الشعب على نفسه منذ اللحظة التي يكون فيها غير خاضع لأيّ قوّة أخرى غير القوّة الصادرة عنه. أيّ مصدر لتلك القوّة إن لم يكن الناس الذين يعدّون أنفسهم متقلّدين مهمّة استقلالهم؟ ترمي فكرة العلمانيّة تحديداً إلى تحقيق الوحدة الأوّليّة لشعب ذي سيادة مؤسّسة على المساواة الصارمة في الحقوق بين أعضائه؛ وذلك بالنظر إلى ما يمكن أن يتناقض معها. إنّها تؤكّد إذن الإحالة إلى الخير المشترك، إلى الجمهوريّة أساساً وأفقاً للديمقراطيّة. ومن الواضح أنّ هذا التوكيد لا يتلاءم مع إعطاء بعض الناس سلطة عقديّة على الكلّ. لقد أعطى التاريخ أمثلة عديدة عن هذا النوع من السلطة، وفي كلّ مرّة على حساب حريّة الضمير وعلى حساب المساواة الأخلاقيّة والقانونيّة. يطلق على هذا النوع من السلطة اسم الكليروسيّة، وهي تمثل نقيض العلمانيّة. تتراوح الأشكال التاريخيّة لهذه السلطة بين الخضوع التام، كما هو الحال في النظام الثيوقراطي، أو في الأصوليّة التي هي شكله الجديد، والامتياز البسيط كما هو الأمر في الأنظمة التوافقيّة. يجب الآن توضيح مبدأ هذا التنوّع والأشكال التي نتجت عنه.

معنى الكليروسيّة

يميّز المعجم الديني بين اللّائيكي (laïc)، الذي لا يحظى بأيّ دور خاص في التمثيل الرسمي للدين، ورجل الدين (clerc)، الذي يعود إليه الدور الرئيس في إدارة شؤون الإيمان. يأخذ هذا التمييز أوّلاً معناه لدى مجموعة المؤمنين ليساهم في رسم الفرق بين الخيار الديني البسيط والوظائف الدينيّة الرسميّة التي تمارس بالنظر إليه. تتعلق كلمة «لائيكي»، بصورة تعميميّة، بالشخص الذي لا يشترك في «عقيدة» معيّنة، وكذلك بالشخص الذي يشترك فيها مع غيره، ولكنّه لا يتمتّع بأيّ نوع من السلطة لكي يحدّد المعيار الذي يتعلّق بها. اللائيكي، مؤمناً كان أو غير مؤمن، هو الإنسان مفهوماً بصورة كليّة ومفكراً فيه في استقلال عن الولاءات الروحيّة الجزئيّة.

يجب أن نلاحظ أنّ العبارة ذات الأصل الديني قد تركت المجال لعبارة لها معنى مختلف قليلاً، عندما تحدّثنا عن «اللائيكي» للدلالة إمّا على حركة رأي ترمي إلى تحرير الفضاء العام من الوصاية الدينيّة، وإمّا على شخص يعمل من أجل ذلك التحرير، وإمّا على المؤسّسات المحدّدة باستقلاليتها عن تلك الوصاية: وبهذا المعنى نتحدّث عن دولة لائيكيّة ومدرسة لائيكيّة.

لا تتميز الكليروسيّة بممارسة الوظائف الدينيّة في إطار جماعة المؤمنين فحسب، بل بطموح إلى الهيمنة الزمنيّة على كلّ المجتمع. هل يقال إنّها تنحدر بصورة طبيعيّة من النزعة التبشيريّة (prosélytisme) الملازمة لكلّ دين؟ سيكون ذلك من دون شكّ تسرّعاً. الصواب هو التمييز بين نمطين لانتشار الإيمان: واحد بواسطة الشهادة الأخلاقيّة والروحيّة، والآخر بالتمكّن من النفوذ الزمني. توضح فكرة كون الدين هو «اقتناع داخلي للضمير» (بايل، Bayle) مشروعيّة النمط الأوّل وعدم مشروعيّة الثاني. تؤثر العلاقات بين السلطة الروحيّة والسلطة الزمنيّة في العلاقات بين الدين والإكليروسيّة. يمكن أن ينشأ سوء فهم بفعل التاريخ الواقعي إذا لم نضع بوضوح تمييزين أساسيين؛ من جهة بين الدين والروحانيّة، ومن جهة أخرى بين الدين والإكليروسيّة.

لا يمكن أن تُختزل «الحياة الروحيّة» إلى الدين حتى وإن كان شكلاً مهمّاً منها، فالروح تحيا في ممارسات الحياة الاجتماعيّة متعدّدة الأشكال، في الثقافة الإنسانيّة بكلّ ثرائها. يمثل الفنّ والعلم والفلسفة، مثلاً، أشكالاً من الحياة الروحيّة تماماً مثل الدين، ولكن على صور مختلفة. تكمن الروح، من دون شك، في الإيمان، ولكنّها تحيا أيضاً في الفكر العقلاني، وفي نشاط الفنّان الإبداعي، وبصفة أعمّ في الثقافة. ليس للدين، إذن، أن يحتكر الروحانيّة.

أمّا فيما يخصّ السلطة الروحيّة، فقد وقع التمييز تقليديّاً بينها وبين السلطة الزمنيّة -أو العلمانيّة؛ أي تلك المندرجة في العصر- من أجل تحديد نمط وجودها الخاص: نمط سلطة أخلاقيّة تَحُثُّ دون إكراه وتُطوّر تأثيرها في إطار احترام حريّة الضمائر التي تتوجّه إليها. كذلك هو أمر الروحانيّة الدينيّة بما هي شهادة خالية من كلّ مصلحة، ما دامت لا تستعمل وسائل التكييف أو الإكراه التي تجعلها مماثلة لسلطة زمنيّة جائرة. إنّ اللجوء إلى المعنى نفسه (السلطة) للدلالة على السلطة الأخلاقيّة في حالة أولى، وعلى قوّة الإكراه في حالة ثانية؛ يجعل، زيادةً على ذلك، معنى السلطة الروحيّة ملتبساً. يبقى أنّ التمييز المتعلّق بالدور الممكن للدين في الحياة الاجتماعيّة، وفي مجال نشاط روحي لا يُردّ إليه، هو تمييز حاسم. لقد أكّد أوغست كونت (Auguste Comte) هذا الفرق بخصوص الكاثوليكيّة: ما دامت هذه الأخيرة شهادة روحيّة وأخلاقيّة نزيهة فقد كانت، بحسب مؤسّس الفلسفة الوضعيّة، مفيدةً ونافعةً مثلما كان يمكن أن تكون، فضلاً عن ذلك، أشكال أخرى للحياة الروحيّة كالفكر العقلاني أو المعرفة العلميّة. تؤدّي السلطة الروحيّة، إذن، دور استبعاد المصالح المباشرة التي يمكن أن تفصل بين الناس، أو تجعلهم متعارضين، فتحرّر بذلك الإحداثيّات الأخلاقيّة والسياسيّة من كلّ تبعيّة إيديولوجيّة. المشكل هو أنّ هذا الشكل من الروحانيّة الحرّة المجرّدة من الطموحات السياسيّة للهيمنة كان جدّ قصير في التاريخ الإنساني، حتى إنّ الفيلسوف المسيحي إمانويل كانط (Emmanuel Kant) أقرّ بسلبيّة محصّلة المسيحيّة التاريخيّة التي ألّف بشأنها نوعاً من «كتاب أسود» في بداية (الدين في حدود مجرّد العقل البسيط)[2]. لقد أفسد تحوّل الدين إلى سلطة زمنيّة مكوَّنة ومؤسَّسَة، في الإكليروسيّة، المطالبة التي تجعل منه مسيرة روحانيّة حرّة متاحة لضمائر محترمة تماماً في استقلاليتها في الحكم والتفكير.

من هنا يأتي التمييز الجوهري بين الدين والكيروسية. لا يمكن ولا يجب الخلط بين الدين، عقيدةً موحِّدة بين المؤمنين بصورة حرّة، والكليروسيّة بما هي طموح زمني إلى الهيمنة يتجسّد واقعيّاً في الاستحواذ على القوّة العامّة. تذهب الإكليروسيّة، محدّدة بهذه الطريقة، إلى أبعد من سلطة مشروعة لرجال الدين تمارَس في حدود جماعة مؤمنين ولا تدّعي وضع القانون للآخرين. من الملائم، مع ذلك، التمييز بين الخيرات الزمنيّة الخاصّة باتّحاد مؤمنين منظَّمين في إطار كنيسة (من الإغريقيّة إكليزيا ekklêsia أي مجلس) ووضع القوّة الزمنيّة التي تنظّم كلّ الجماعة السياسيّة تحت الوصاية. إنّ ديناً خالياً من سلطة داخليّة لرجال الدين يمكن أن يكون له كذلك نفوذ شبه كهنوتي بمجرّد أن يطوّر وصاية على الفضاء العام. ذلك ما تقوم به جماعات الضغط التي تحوّل النظرة الدينيّة إلى نظرة دنيويّة (*) في المجتمع المدني (الصورة دالّة: الدول التي تسود فيها البروتستانتيّة). وذلك أيضاً ما يفعله الزعماء الدينيّون الذين يتكلّمون إلى الجماعة التي يعدون أنفسهم ممثليها وقادتها الحصريّين (الصورة لدالّة: بعض الأئمة في المجتمعات الإسلاميّة).

لا يصحّ الخلط بين العصرنة (sécularisation) والعلمنَة (laïcisation). يمكن أن يبدو هذا التمييز صعباً إذ لا يزال الدين مسيطراً، مهما كانت المعتقدات التي يشملها، كمرجعيّة مفروضة حاضرة في النسيج الاجتماعي أكثر ممّا هي حاضرة في الدولة تحديداً: ذلك هو الحال في البلدان الأنجلوسكسونيّة. لا يختزل الفضاء العام إلى سلطة الدولة فحسب، بل إنّه يتضمّن القانون الذي ينظم العلاقات بين الناس. عندما يُعدّ التجديف، على سبيل المثال، جريمة فإنّ القواعد المشتركة تُخضَع لما تُقرّه عقيدة خاصّة. تلك هي حالة المملكة المتّحدة التي تقرّ، فضلاً عن ذلك، وكما هو معروف، بدين الدولة.

المثل الأعلى العلماني

لا يتناقض المثل الأعلى العلماني أبداً مع الديانات في حدّ ذاتها، بل مع إرادة السيطرة التي تميّز انحرافها الإكليروسي، مع الشطط السياسي والاجتماعي للتشدّد الديني. في خطاب شهير ضدّ قانون فلّو (Loi Falloux) الذي يؤكّد مراقبة الإكليروس للتعليم (1850)، يتحدّث فيكتور هوغو (Victor Hugo) بهذا الصدد عن «الحزب الكهنوتي»، قاصداً بذلك تمييزه بوضوح عن الكنيسة وعن «الدين الحقيقي». لا يتعلق الأمر إذن بالادّعاء على السلطة الروحيّة والزمنيّة لرجال الدين في إطار الجماعة الدينيّة الخاصّة حيث تُمارس، وفي الوقت الذي تَحترم فيه حدودها، ولكن تلك السلطة تصبح غير مشروعة عندما يُنسَب إليها، من حيث المبدأ، نفوذ على كلّ الجماعة الإنسانيّة. لا تؤسّس الخاصيّة الغالبة المحتَمَلة لعقيدة ما في مجتمع ما أيّ حقّ سياسي ولا أيّ امتياز زمني، إذا كانت حريّة الضمير بالنسبة إلى الأقليّة والمساواة بين الجميع محترَمَتين.

بالنظر إلى ذلك، يوجد نظاما سلطة متمايزان لهما قاعدتان مختلفتان؛ متمايزان لأنّ لهما وظائف لا يمكن الخلط بينها. إنّ تحديد مبادئ وقواعد الحياة المشتركة بين أناس يبقون، مع ذلك، سادة في فضائهم الشخصي شيء، وممارسة سلطة عقائديّة في تأويل إيمان خاص، وفي تأويل المذاهب المرتبطة به، شيء آخر. أمّا فيما يتعلّق بالقاعدة الخاصّة بهذه الوظائف، فليس لها بطبيعة الحال الحدود نفسها. يتعلّق الأمر، في الحالة الأولى، بالمؤمنين ضمن جماعة دينيّة معيّنة، وفي الحالة الثانية بكلّ سكّان البلد مؤمنين وغير مؤمنين. تخلط السلطة الدينيّة، في نهاية التحليل، بين نظامي السلطة، وتجعل أحدهما تابعاً للآخر: استيطان الفضاء العام. إنّها مُثقَلة بالعنف الخفيّ، أو المعلَن، إزاء كلّ شخص يعتنق عقيدة مخالفة.

عمليّاً ثمّة بعض الأسئلة البسيطة يمكنها أن توضّح هذه النقطة. هل للمرء الحقّ في أن يكون ملحداً أو بروتستانتيّاً أو يهوديّاً، عندما تكون السلطة الدينيّة الكاثوليكيّة مسيطرة على الفضاء العام؟ هل يمكن لمواطن أمريكي ملحد أن يتعرّف إلى نفسه في قَسَم رئيس الولايات المتحدة الأمريكيّة على الكتاب المقدّس؟ وهل يمكن لكاثوليكي أو ملحد أن يشعر بتساوي قيمة القناعات والمعتقدات إذا كانت العقيدة البروتستانتيّة هي المعتمَدة ديناً رسمياً في البلدان الأنجليكانيّة، والمفروضة مرجعيّةً لكلّ الجسم الاجتماعي؟ هل إنّ مسلماً مناصراً للإسلام المستنير، الذي يعبّر عنه التراث الإسلامي الكبير، حرّ في التعبير حيث تكون الأصوليّة المتطرّفة ممسكة بالسلطة؟ هل لامرأة مسلمة ترغب في الخروج إلى الشارع حاسرة الرأس الحريّة في أن تفعل ذلك؟ يُطرح هذا السؤال بالنسبة إلى التأويل الاعتباطي للقرآن، مضاعَف بإرادة وضع مدوّنة قانونيّة انطلاقاً من الصراط الموصَى به (الكلمة العربيّة: شريعة) وليس المفروض. هل يستطيع ملحد من أصل يهودي أن يوجّه حياته الشخصيّة كما يريد إذا كان الأحبار الأرثوذكس المتشدّدون يفرضون في الفضاء العام وصايتهم على الحقّ والمدرسة والذاكرة الجماعيّة؟ تأخذ هذه الأسئلة منعرجاً مهمّاً عندما تريد الأصوليّات الدينيّة، بسبب شغار تركة الحداثة التي تخلط بينها وبين حقّ الأفراد العلماني، العودة إلى التقاليد الأكثر رجعيّة. في هذا المستوى، تُعدُّ مسألة حقوق النساء ممثِّلة لكلّ ما هو مطروح في مجال الحريّة والمساواة والتحرّر، وكذلك في مجال الوقاية من الحروب التي تنتمي إلى عصر آخر. إنّ الرجم بسبب الخيانة الزوجيّة، والحرمان من الدراسة، وتغطية الجسد بالبرقع الأفغاني، وفرض حجاب شفّاف على العينين، هي أمور تمثل الحدّ الأقصى لسلطة دينيّة انقلبت إلى غلو، ولا توجد ديانة من بين الديانات التوحيديّة محصّنة منها إذا أردنا، على الأقل، إعادة إدراج الحاضر في التاريخ الطويل للارتباط الخطير بين الدين والسياسة. يبدو أنّ الثلاثة آلاف شخص الذين قضوا جرّاء تفجير برجي التجارة العالمي (توين تاور Twin Towers) يوم (11) أيلول/سبتمبر (2001)، كانوا صدى للثلاثة آلاف قتيل في سان برتيلمي (Saint Barthélemy) يوم (25) أيلول/سبتمبر (1572). ثمّة في الحالتين، مناخ لانتظار الخلاص (atmosphère messianique)، وعد بالجنّة، حلم متعصّب بالتطهّر والخلاص الجماعي.

لذلك يمكن ملاحظة ما يشبه توجّهاً مألوفاً: كلما صارت ديانةٌ ما مسيطرةٌ «روحيّاً» ديانةً مسيطرةً رسميّاً، فإنّ الديانات الأخرى، وبصفة عامّة الأشكال الأخرى للروحانيّة، تقهر بصور وبدرجات متغيّرة. اضطهاد جليّ أو إبعاد: يمكن أن يتحقق الفصل بطرائق مختلفة. تضمن العودة إلى العلمانيّة للديانات، من خلال استئصال كلّ إيثار عقائدي خاص من الفضاء العام، حريّة ومساواة حقيقيتين حيث لا يمكن لأحدها أن تستحوذ، مستقبلاً، على صفات الهيمنة الزمنيّة المشتركة.

لا يعني الاستئصال، بطبيعة الحال، أنّ القناعات والمعتقدات لا يمكنها أن تمارس أيّ تأثير على تصوّر القوانين المشتركة. ولكن، من حيث الحقّ، لا يمكنها مستقبلاً أن تؤثر إلّا بتوسّط تعبيرٍ حرٍّ مستخدم في نقاش عمومي ومحفِّز للعقول الفرديّة في احترام لحرّيتها واستقلاليّة حكمها. وبعبارة أخرى، ليست السلطات العقائديّة في بلد علماني فاعلين ذوي وضع قانوني معترف به، بل هي أقطاب روحيّة لكلّ مواطن حريّة الاعتراف أو عدم الاعتراف بها كسلطات. زد على ذلك أنّ مبدأ السيادة الديمقراطي لا يمكن أن يقبل بصنفين من الفاعلين: فاعلون فرديّون هُم المواطنون، وفاعلون جماعيّون هُم الجماعات الدينيّة والمذهبية التي تمارس ضغطاً. بهذا المعنى أيضاً تعطي العلمانيّة، في آنٍ واحدٍ، وبالتعارض مع سلطة رجال الدين، معنى للديمقراطيّة ولاستقلاليّة الحكم: السيادة الشعبيّة والسيادة الفرديّة توجدان في العلمانيّة بوصفهما نظيرَيْن ما لم يتدخّل شيء بين الإرادة العامّة والمواطن السيّد على أفكاره. وهذا لا يحكم بعدم الجدوى لا على الأحزاب ولا على الكنائس ولا على الجمعيّات المكوَّنة للمطالبة بالحقوق المنتهكة: الانشغال الوحيد هو إخراج مكان النقاش من النفوذ الحصري لأحد المتدخلين فيه. يتعلق الأمر بإيتيقا تداوليّة وأيضاً بالحقّ العام المتعالي على الجزئيّات لكي تعبّر عن نفسها من دون إكراه ودون تفكيك القانون العام. يمكن مذّاك لكلّ أصناف التجمّعات المذكورة أن تؤدي دور أقطاب تفكير وتدخل في النقاش العمومي المحكوم من حيث المبدأ بقواعد تَستبعد كلّ تكييف وكلّ تضليل مُتعَمّد من أجل إحداث الإقناع. ومرّة أخرى فإنّ التعبير في إطار النقاش العام لا يعني الهيمنة على الفضاء العام. يمكن للكنيسة أن تعبّر علانية عن رفضها لــــ«حبّة الغد»(*)، ولكن ليس لها أن تطالب بأن تقع استشارتها كما لو كان لها حقّ الرقابة على تقنينها ونشرها.

إنّ وحدة لاووس، وحدة الشعب، تجمع إذن بين حريّة ضمائر الأفراد الذين يُكوّنونه والمساواة بينهم في الحقوق في نطاق الشأن العام. وكلّ امتياز إيديولوجي أو عقائدي وكلّ غلبة للمصالح الخاصّة يمثل عائقاً أمامها. من هنا يتأتّى القبول الواسع بالعلمانيّة التي تستهدف الوحدة المثاليّة للمجموعة البشريّة فيما وراء أنواع النفوذ المختلفة التي ترتهنها؛ وحدة مثاليّة بالنظر إلى علاقات القوّة والهيمنة التي يمكنها، رأساً، أن تفرّق بين الناس، وبالنظر أيضاً إلى علاقات سوء الفهم التي يمكن أن تنشأ بينهم ما داموا يعيشون معتقداتهم الخاصّة بطريقة غير متسامحة وإقصائيّة بل متعصّبة. بالتأكيد، يجب عدم إهمال الأسباب الاجتماعيّة لعدم التفاهم وللتعصّب الذي يعبّر عنه، ولا يكفي البقاء في مستوى خطاب إيعازي بسيط. ولكن، في المقابل، أليس من عدم المسؤوليّة التخلّي عن المقتضيات التي تجعل الاندماج العلماني ممكناً بتِعلّة أنّها تبدو بلا أهميّة من منظور ميراث اجتماعي معيّن؟ ليس من السهل، إذن، إيجاد ما يوحّد الناس من جهة ما يفرّقهم، وبالرغم من التوترات المتعلقة بالخصوصيّات. إنّ قياس تلك الصعوبة متناسب مع أهميّة الأسباب الفاعلة اليوم. وبالنظر إلى ذلك لا توجد قراءة ناجعة للسبب الاجتماعي أو الاقتصادي. نرى ذلك خاصّة عندما يُنتِج ضعف أو إنهاك المقتضى العلماني، باسم التسامح أو بسبب الشعور النيوكولونيالي بالذنب، آثاراً من شأنها أن تقوّي التوترات الهُوويّة المدعَّمَة والمبرَّرَة من حيث ادّعاءاتها.

أنا إنسان قبل أن أكون مسيحيّاً أو يهوديّاً أو ملحداً. ألا ينطبق ذلك على كلّ «انتماء» اجتماعي، وطني أو إيديولوجي، وعلى الاعتقاد الروحي نفسه سواء كان دينيّاً أو غير ديني؟ إنّه استشهاد ذو حدّين إذا رأينا أنّه في وضعيّات قاسية معيّنة يمكن أن تبدو إنسانيّة الإنسان، الملغاة في الواقع والمستحضرة بطريقة تعزيميّة، مرجعيّة وهميّة أو سخيفة. ولكن عندما يتعلّق الأمر بالارتهان إلى معطى مسبّب للاغتراب، يكون الدور النقدي للمثَل الأعلى تحريريّاً. يجب، إذن، من حيث المبدأ، التخلص من كلّ انتماء دون إنكار الالتزام الخاصّ الذي يطابقه. يتعلّق الأمر باعتبار الكائن الإنساني منتمياً إلى ذاته في المقام الأوّل قبل كلّ تبعيّة، وبأنّ كلّ إنسان يتعالى على ما يتعرّف إلى ذاته فيه الآن وهنا. يتعلّق الأمر، في الوقت نفسه، بعدم الوقوع في خطأ تشخيص أسباب الألم.

يُعيرُ الاختلاف الثقافي أو الديني، الذي يُفترض في الأغلب أنّه غير قابل للتجاوز، اسمه وزيّه للشعور الغامض بالإقصاء الذي يثيره العنف، المذاع والمنَصَّب، الخاص بمجتمع تجاري مُحطِّم لكلّ إحداثيّة وموسوم برُقْيَة حقوق الإنسان المؤلمة وبــــ«العيش المشترك»، في حين أنّ قانون السوق على مستوى الوقائع يقود إلى وحدة قاسية؛ ذلك يُبيّن أنّ التخلص من الأوهام (désenchantement) لا يمتّ بصلة إلى العلمانيّة، على الرغم من أنّه يبدو تاريخيّاً معاصراً لظهورها. إنّه أمر يتعلّق بالآفاق. هل تُستعاد فكرة كون حقوق الفرد لا قيمة لها بتعلّة أنّ الليبراليّة الاقتصاديّة المتطرّفة تتصوّرها أساساً في أُفُق المبادرة الاقتصاديّة الحرّة التي ليست في متناول «الخاسرين»؟ تتوافق النزعات الجماعويّة الدينيّة أو العرقيّة والثقافيّة لكي تدفئ ما برّدته «مياه الحساب الأناني الجليديّة»... ولكي تخلط بصورة منظّمة المُثل العليا للأنوار، والحريّات السياسيّة، وقيم الديمقراطيّة والمواطنة، بخراب «الرعب الاقتصادي»، الذي تتحدّث عنه فيفيان فورّستر (Viviane Forrester). إنّها عقيدة مفروضة، نوعاً ما، لمّا كانت الشدّة تجعلها ممكنة ضدّ التضامن الاستبدالي. لقد كان لتدمير الحقوق الاجتماعيّة في بريطانيا العظمى تأثير سحريّ على الجماعات الدينيّة في الضواحي التي انسحبت منها الدولة.

بعد أن توضحت هذه الأمور، لا بدّ من العودة، بمقتضى الواقعيّة، إلى المَثل الأعلى وإلى الاتصال الذي يجب أن يحصل بينه وبين الوضعيّات العينيّة. لمّا كان كلّ الناس يتشابهون ويتقاربون بسبب حرّيتهم المبدئيّة التي هي قوّة استبعاد، بإمكاننا أن نتحدث عن التعالي العلماني. يتعلق الأمر بتضافر إيجابي تماماً بين الاعتراف بالحريّة الفرديّة وترقية ما هو مشترك بين الناس: المساواة والحريّة. العلمانيّة هي إثبات أصلي لتصوّر الرابطة الاجتماعيّة التي لا توحّد الناس إلّا بفصل وعيهم عن كلّ طاعة جزئيّة: يتضمّن الخير المشترك في المقام الأوّل حريّة الجميع، ورفض كلّ تمييز عقائدي. وهو يتضمّن أيضاً الترقية الفاعلة لكلّ ما من شأنه أن يضمن لكلّ واحد شروط قدرته على الفعل، وهي قاعدة كلّ حريّة أصليّة. إذا كانت الليبراليّة الاقتصاديّة المتطرّفة متواطئة مع الطائفيّة الدينيّة التي تبررها، فإنّ التحرّر العلماني يكون جديراً بالثقة بقدر ما لا تستبعد الحياة المدنيّة اقتصاديّاً واجتماعيّاً أولئك الذين هم مدعوون إلى أن يعيشوا بطريقة غير متحيّزة اختياراتهم الدينيّة والثقافيّة في ظل احترام القانون.

الأفق العلماني هو الذي يكتشفه كلّ واحد في ذاته عندما يعتني بمقتضيات فكر متحرّر من كلّ وصاية، ومن شأنه أن ينفتح على الكوني. لا يتضمن ذلك الاكتشاف إنكار المعتقدات والاختيارات الجزئيّة، بل يتضمّن القدرة على تنسيبها، وهي صالحة لتجنّب الانغلاق وعدم التسامح. إنّ عدم التحيز الداخليّ فضيلة علمانيّة قريبة من المأثرة الديكارتيّة: هذه الأخيرة هي، في الآن نفسه، شعور بالحريّة وعزم على استعمالها بشكل جيّد.

لا يقيم التحرّر العلماني تناقضاً بين سجل إنسانيّة حرّة ومتحررة، وكرامة متساوية لكلّ إنسان، وسجلّ الخصوصيّات العقائدية والثقافيّة: إنّه يتطلّب فحسب نوعاً من التمفصل يجعلهما موجودين معاً لدى الشخص نفسه بشكل يقصي موقف التعصّب وعدم التسامح. لا يفترض ذلك التحرّر أن تكون القناعات والمعتقدات في مأمن من كلّ نقد، بل أن يُحترم أولئك الذين يعتنقونها من حيث هم أشخاص. يمكن نقدُ دين معيّن أو شكل إلحادي من الإنسانويّة، وحتى السخرية منه وهجاؤه، ولكن يجب احترام حقّ الاعتقاد وحقّ عدم الاعتقاد والتفكير باعتباره يعبّر عن حقّ أساسي للشخص. يمكن لمسيحي أو مسلم أو لا أدريّ أن يعيشوا معاً في سلام ما دام الاختيار الروحي لكلّ واحد يبقى شأناً خاصّاً؛ أي ألّا يدّعي التحكّم في الفضاء العام. إنْ فَعَل ذلك، فإنّه يصبح عنفاً، وفي النهاية تجريماً مؤكّداً لحريّة التعبير الديني ذاتها. من الخداع، إذن، إقامة التعارض بين حريّة التعبير الديني والعلمانيّة، كما يحصل ذلك أحياناً، والحال أنّهما متوافقان.

إعادة تأسيس قانونية

لا تُردّ العلمانيّة (laïcité) إلى مجرّد عصرنة (sécularisation) (أي تحويل الشؤون الدينيّة إلى شؤون دنيويّة) الوظائف المدنيّة التي كانت في الماضي تابعة للسلطات الدينيّة. تتضمّن تلك الفرضيّة بالفعل أنّ الغايات نفسها تتمّ المحافظة عليها من خلال تحوّل كيفيّاتها. إلّا أنّ الأمر ليس كذلك. لا تقوم العلمنة بأيّ نقل للقداسة، ولا تقيم أيّ دين دنيوي، إنّها تعيد، في آنٍ واحد، تعريف غايات وأشكال السلطة السياسيّة ومكانة الخيار الديني الذي يُرَدّ إلى بُعده المتمثل في مسار روحي حرّ. إنّ ماريان (Marianne) ليست قيصر (César)، والله المعين بتساهله الأبدي ليس -أو ليس أبداً- القوّة اللّاهوتيّة-السياسيّة التي تصدر عنها الشرعنة العموديّة للسلطة الزمنيّة. لقد تحوّلت هذه الأخيرة من سلطة هيمنة إلى سيادة الشعب على نفسه. يُبرز مجاز العقد الاجتماعي «الأفقي» سيادة مواطنين متساوين.

ليست العلمانيّة مجرّد فصلٍ أو مجرّد حيادٍ عقائدي. ومثل تلك التوصيفات السلبيّة ليست إلّا نتائج للمقتضيات الإيجابيّة التي تعطيها معنى. تتعلّق تلك المقتضيات بما يمكن تسميته تأسيس الحريّة بالنسبة إلى الجميع وبالنسبة إلى كلّ واحد: بالنسبة إلى الجميع؛ لأنّ الجمهوريّة تتطلّب ذلك من أجل ممارسة المواطنة، وبالنسبة إلى كلّ واحد؛ لأنّ ذلك ما تقتضيه المساواة الأصليّة في المستويات الأخلاقيّة والسياسيّة. تكوين استقلاليّة الشخص العقلانيّة بواسطة التعليم، الذي يمكّن من الوصول إلى مبدأ الأشياء، يعني أن تُتاح له القدرة على التخلّص من الوصايات ومن جماعات الضغط. إنّ العلمانيّة مرتبطة جزئيّاً بالمدرسة، التي هي مؤسّسة الجمهوريّة الأساسيّة، وليست مجرّد «خدمة» عموميّة. تحرير الحكم الشخصي من كلّ وصاية يعني السماح للمجتمع بأن ينفصل عن ذاته، وذلك من شأنه أن يجعل نقد الثقافة الكونيّة ممكناً.

لتكوين مدينة سياسيّة حقيقيّة تتحقق فيها المصلحة العامّة، يجب أن تترسّخ فكرة السيادة الشعبيّة في هَمّ كونيّة مرجعيّات الدولة. إنّ الفصل العلماني بين الدولة والكنائس ليس له المعنى نفسه بالنسبة إلى جمهوريّة ديمقراطيّة، وبالنسبة إلى سلطة مهيمنة، حيث تكون المجموعة السياسيّة ذاتها(الدولة)متماهية مع الحكومة. لذلك لا يمكن تحويل ميكانيزمات تقديس السلطات التقليديّة المسيطرة (قيصر) كما هي إلى تكوين جمهوري (ماريان) (إذا قصدنا بهذا الاسم المجاز الدالّ على الجمهوريّة في فرنسا). ولا يمكنها (السلطات) أن تتطابق معها (الجمهوريّة) في الوظيفة نفسها ولا في التنظيم نفسه. تضمن المجموعة السياسيّة بواسطة العلمانيّة المساواة الإيتيقيّة بين المواطنين، وفي الوقت نفسه تضمن لهم حريّة الضمير. تجمع الجمهوريّة بين السيادة الجماعيّة وسيادة الرأي الفردي. إذا كانت حصافة المواطن تتناسب مع العقل الذي يُرشده، فإنّ وعيه سيكون دائماً سيّد ذاته. تؤيّد المساواة الإيتيقيّة الحريّة الداخليّة برفض إسناد أيّ امتياز لأيّ اختيارٍ روحيٍّ خاص.

لا تعاني ممارسة الاقتراع الحرّ في الديمقراطيّة من أيّ شرط تحديدي - سواء كان متعلقاً بدافعي الضرائب(*) أم بأصحاب الكفآت(**) - ومن ذلك تتأتّى أولويّة حريّة الوعي. ولكن سيكون من السذاجة البقاء في هذا المستوى، ونسيان أنّ الوعي المتحرّر يبقى قابلاً للعطب من جهة مجموعات الضغط، ومن جهة المتحيلين الإيديولوجيين، ما دام غير حائز في ذاته مبدأَ أفكاره الخاصّة، ما دام غير راشد. هذا بالضبط ما أكّده كانط في نصّه (ما الأنوار؟) تُزاوجُ الدولة العلمانيّة بين الحياد العقائدي والاهتمام بترقية استقلاليّة الحكم الخاصّ بكلّ فرد بصورة فعليّة؛ أي إنّها لا تترك تحقيقه لعوامل اتفاقيّة بتعلّة الاحترام التام للحريّة، التي يتمّ الخلط بينها وبين العفويّة.

ليست الدولة العلمانيّة، معرّفة بهذه الطريقة، بحاجة إلى شرعنة خارجيّة، ولا إلى تقديس من شأنه أن يُبرّر الطريقة التي توجد بها. إنّها تستمدّ قوّتها الأساسيّة من انخراط المواطنين الذين يدركونها باعتبارها الشكل المُمَوضع لسيادتهم الخاصّة. والرموز التي يمكن أن تناسبها ليست إلّا استبدالاً لذلك الإدراك بالحساسيّة؛ إنّها لا توجد لكي تؤدّي إلى الخضوع. في هذا السياق يوجد الشعور بالانتماء إلى جماعة قانونيّة واحدة الضروري لانسجامها مع الوعي العقلي بالمبادئ التي تؤسّسها بصورة مشروعة: إنّه شعور يختلف عن أنماط التضامن التقليديّة.

ليست العلمانيّة، إذن، قابلة لأن تفصل عن تكوين متأنٍّ لعمل الفكر النقدي. يتعلّق الأمر بالترقية الفعليّة، في الوقت نفسه، لما يجعل السلطة العامّة منفصلة عن مختلف جماعات الضغط، ولما يحرّر العقل الكامن لدى الناس من كلّ الإغراءات أو العوائق التي يمكن أن تواجهه. ترفع العلمانيّة، إذن، بصورة متزامنة، السلطة العامّة إلى كونيّتها المبدئيّة وترفع المواطنين إلى الاستقلاليّة العقليّة. وهذه الأخيرة تجعلهم سادة أنفسهم، قادرين على أن يعيشوا انتماءاتهم بطريقة متباعدة لكي يعطوا معنى لعالم مشترك، عالم يكون حوارهم فيهمع الآخرين أفضل عندما لا يكونون منغلقين على مرجعيّاتهم الحصريّة. وهذا الحوار لا علاقة له بـ«توافق» يتكوّن بوصفه نوعاً من القاسم المشترك أو التسوية بين المعتقدات؛ إنّه يرمي، من خلال إنعاش الانشغال بالتفاهم المشترك الذي يتعالى على الخصوصيّات، إلى أن يُدخل في النقاش العام مقتضى العقل والحقيقة، وهكذا يمكن تجنّب رفض الاختلاف.

في هذا السياق، ليس الإيمان الديني ملغىً أو مُنسّباً، بل معزوّاً إلى سِجلّ وجود وحياة روحيّة معترفاً به في بُعده الخاصّ دون أدنى التباس. الإيمان الديني شكل روحي من ضمن أشكال أخرى، وليس بالإمكان الخلط بينه وبين النزوع إلى الهيمنة الإكليروسيّة، أو التحزّب الديني غير المتسامح أو التعصّب.

إنّ للاستقرار تاريخاً متميزاً. لا يتناقض ترسّب الحساسيّة التي تسِمُ المخيال والذاكرة الجماعيّة الخاصّة بمجموعة إنسانيّة، مع إعادة التأسيس العلماني، ولكنّه يمكن أن يتوافق معها بشكل تام إذا كانت سجلّات الوجود مميّزَة بوضوح. وهكذا يمكن لأشكال الإيمان المختلفة أن توجد معاً بطريقة سلميّة، بشرط احترام القواعد التي تسمح، حقاً، لكلّ واحد بأن يضطلع بعقيدته بحريّة، وعلى قاعدة المساواة الإتيقيّة التي يمكن لدولة علمانيّة فحسب أن تضمَنَها بسبب حيادها العقائدي: لمّا كان لا أفضليّة لأيّ خيار روحي، فلا أحد يمكنه أن يشعر بأنّه ضحيّة تمييز يتطابق مع مأسَسَة تفضيل معيّن. وهكذا تتطابق السلطة العامّة تماماً مع مَثَلها الأعلى المؤسِّس المتمثل في الخير المشترك بين الجميع.

[1] - المقال المترجم، مقتطف من الفصل الأول من كتاب "ما العلمانية؟"، ترجمة منوبي غباش، صدر عن مؤسسة مؤمنون بلا حدود للنشر والتوزيع.

[2] - E. Kant, La religion dans les limites de la simple raison, trad. Gibelin, Vrin, 1975.(*)