نحو منظور سوسيولوجي تربوي مغاير: من التنشئة الاجتماعية إلى التذويت


فئة :  مقالات

نحو منظور سوسيولوجي تربوي مغاير: من التنشئة الاجتماعية إلى التذويت

نحو منظور سوسيولوجي تربوي مغاير:

من التنشئة الاجتماعية إلى التذويت

I

إن التحولات التي خلخلت الشرط البشري بشكل عام والشرط المجتمعي بشكل خاص، على جميع المستويات وفي مختلف السياقات، بما في ذلك التربية، من الحربين العالميتيْن مروراً بسقوط جدار برلين إلى التمدين الشامل والعولمة الجديدة، فرضت على العلوم الاجتماعية بعامة وعلم الاجتماع بخاصة إعادة النظر في طبيعته الإبستيمولوجية والمنهجية والمفهومية والإبدالية (البراديغمية) والنظرية، إلى درجة إعادة تشييد بُنيان ميادين أو تخصصات معرفية بعينها، كما هو حال علم اجتماع التربية وعلم اجتماع المدرسة بعدها. من هنا جاء اهتمامنا بمنظور ألان تورين Alain Touraine السوسيولوجي للتربية، باعتباره مساهمة ضمنية من أهم المساهمات في هذا التوجه المعرفي وفي هذه الصيرورة الإبستيمولوجية: من التنشئة الاجتماعية إلى التذويت.

هل ثمة منظور سوسيولوجي لألان تورين يُمكن اعتباره تربوياً؟ أيْ يخص ظاهرة التربية بالدراسة والتشخيص والتحليل. تجدر الإشارة هنا، إلى نقطة أساسية: ليست هناك نظرية سوسيولوجية تربوية أو دراسة سوسيولوجية تربوية مخصوصة لألان تورين، لكن ذلك لا يمنع بأي حال من الأحوال وجود إشارات سوسيولوجية تربوية ضمن متنه السوسيولوجي العام أو لنقل في سوسيولوجيته.

لذلك أتحدث هنا عن منظور سوسيولوجي تربوي، انطلاقاً مما سأتوقف عنده من إشارات مخصوصة بهذا الشأن، وعلى ضوءٍ تحليلي وتأويلي لمنظوره هذا الكامن في سوسيولوجيته، بما هي سوسيولوجية مُغايرة. لهذا اعتبرتُ منظوره هذا مُغايراً؛ لأنه قَلَبَ السوسيولوجيا رأساً على عقب: من علم المجتمع إلى علم الذات الفاعلة Sujet[1]. فما طبيعة هذا المنظور الإبستيمولوجية؟ وما انعكاساته السوسيولوجية الممكنة على التربية؟

II

لقد ظلت سوسيولوجيا التربية وفية إلى حد كبير لفكرة المجتمع، بما في ذلك السوسيولوجيا التأويلية أو التحليلية، أو الفهمية، أو الفردانية المنهجية، أو السوسيولوجيا المِيكْرَويّة (نسبة إلى سوسيولوجية الميكرو)، باعتبارها سوسيولوجية للأفراد والفاعلين، أكثر منها سوسيولوجية للمؤسسات والمجموعات والتنظيمات والأنظمة الاجتماعية، من بينها المدرسة، والتي يمكن أنْ نصطلح عليها بسوسيولوجية الفرد، في مقابل سوسيولوجية تفسيرية أو شمولية، وضعانية، مجتمعية أو مَاكْرَوِية (نسبة لسوسيولوجية المَاكرو)، يمكن نعتها بسوسيولوجية المجتمع.

وإنْ كانت السوسيولوجيا الفهمية للتربية (والمدرسة) تُعطي مكانة مهمة ومركزية للأفراد بصفة عامة وللمتعلمين بصفة خاصة، باعتبارهم فاعلين في العملية التربوية، بل إنها تعطيهم الأولوية على المجتمع، سواء على مستوى الفهم السوسيولوجي والمنهجي؛ أي الانطلاق من الوحدات الاجتماعية الصغرى، أم على مستوى استراتيجيات الفاعلين التربويين وقدرتهم على الاختيار والتصرف وفقاً لهذا الاختيار، لكنها لم تنف الطابع الإكراهي للمجتمع بصفة عامة وللمؤسسات التربوية والتعليمية بصفة خاصة، خاصة الأسرة والمدرسة. بمن في ذلك ريمون بودون Raymond Boudon، الذي يعد الفاعل السوسيولوجي المركزي في هذا الاتجاه، لاسيما في سوسيولوجية التربية.

يعود هذا الوفاء لفكرة المجتمع إلى ارتباط سوسيولوجية التربية منذ نشأتها، مع مؤسسي السوسيولوجيا الحديثة الأوائل، كما هو شأن إميل دوركهايم Émile Durkheim على سبيل المثال لا الحصر، إلى اللحظة المعاصر مع أطروحتيْ بيير بورديو Pierre Bourdieu (بمعية جون كلود باسرون) Jean-Claude Passeron وريمون بودون، حول التربية وغيرهما كثير، قلنا يعود هذا الوفاء إلى ارتباط هذا الميدان السوسيولوجي المركزي بمفهوم التنشئة الاجتماعية. هذه الحقيقة، لا يُمكن لأي عالِم اجتماع تربوي إنكارها أو التغاضي عنها.

تجدر الإشارة في هذا المقام إلى أن ما يصنف عادة في تاريخ السوسيولوجيا بكونه سوسيولوجية معاصرة، ليس من المعاصرة في شيء؛ وذلك لأنها، بحسب تورين على الأقل، ظلت في العمق سوسيولوجية للمجتمع، على اعتبار أن تورين لديه تصنيف مغاير لتاريخ السوسيولوجيا، من حيث هو تصنيف تاريخاني، يختلف كثيراً عن التصنيف المدرسي المعهود؛ بمعنى آخر: إن السوسيولوجيا الكلاسيكية عنده تتجاوز الأعمال التي كتبت بعد سنة 1930، إلى الأعمال والأبحاث التي تمتد إلى نهاية الستينات من القرن المنصرم؛ أي ما قبل حركة ماي 1968[2].

تبدأ السوسيولوجيا المعاصرة عند تورين في اللحظة عينها التي يتخلى فيها علماء الاجتماع عن فكرة المجتمع ويحلون محلها فكرة الفاعل أو بالأحرى فكرة الذات الفاعلة. فوفقاً لهذا التصنيف يمكن إدراج الكثير من علماء الاجتماع الذين يصنفون معاصرين ضمن السوسيولوجيا الكلاسيكية، لكونهم ظلوا يستظلون بطريقة أو بأخرى بفكرة المجتمع.

إذا أردنا أنْ نستلهم هذا التصنيف أو هذه القراءة السوسيولوجية لتاريخ المعرفة السوسيولوجية نفسها، وفقاً لحس تاريخاني، في تصنيف أو قراءة سوسيولوجية التربية، سنقول: إن سوسيولوجيا التربية ستظل كلاسيكية؛ أي تنتمي إلى ماضي المعرفة السوسيولوجية، ما دامت لم تستغن بعد عن مفهوم التنشئة الاجتماعية بوصفه مفهوماً مُحللاً ومفسراً، والذي يتعلق بشكل أو بآخر بفكرة المجتمع، ولم يحل محلها مفهوم آخر مُغاير، من شأنه أنْ يُخصب التحليل السوسيولوجي التربوي ويعيد تشييد ميدان سوسيولوجية التربية برمتها.

يتعلق الأمر هنا بمفهوم التذويت la subjectivation، وهو مفهوم مركزي في السوسيولوجيا التي يدعو إليها صاحب الذوات البشرية الفاعلة، أو إذا نحن أردنا أنْ نُحافظ من المفهوم الأول- مفهوم التنشئة الاجتماعية- على عبارة تنشئة، سنترجمه بالتنشئة الذاتية. وإنْ كان التذويت في هذا السياق، يتجاوز معنى عبارة تنشئة، ولو أضفينا عليها طابعاً تذويتياً.

من التنشئة الاجتماعية إلى التنشئة الذاتية (أو التذويت): أولم يحن الوقت بعد لتستند سوسيولوجية التربية، وكذا سوسيولوجيا المدرسة، على مفهوم التذويت، بدل مفهوم التنشئة الاجتماعية، خاصة وأن هذا الأخير قد استنفذ وظيفته المعرفية والاجتماعية، في ظل عصر نهاية الاجتماعيّة le social؛ تلك الاجتماعيّة التي تعمل هذه التنشئة على إنتاجها وإعادة إنتاجها؟ لنُعلق التعامل مع هذا السؤال إلى حين، ونعد الآن إلى مفهوم التنشئة الاجتماعية.

III

ربما لن نُجازف أو نُبالغ في شيء إذا قُلنا: إن سوسيولوجية التربية في مستوى مركزي من مستوياتها، هي سوسيولوجيا للتنشئة الاجتماعية، كيفما كانت طبيعتها الإبستيمولوجية واختياراتها المنهجية. يستعصي على المرء أنْ يغض النظر عن فكرة التنشئة الاجتماعية، فلا يمكن قراءة أي عمل سوسيولوجي تربوي، أكان عملاً ميدانياً أو نظرياً، إلا ويُحيل إليها أمن قريب أو بعيد. ينطبق ذلك على الأطروحات والدراسات كما ينطبق على القواميس والمعاجم السوسيولوجية، أكانت عامة أو تخصصية، فالتنشئة الاجتماعية تُعد من أهم المفاهيم الأساسية في علم الاجتماع.

صحيح أن هناك اختلافا في تحديد الطبيعة المفهومية للتنشئة الاجتماعية وحدودها التعريفية، لكنها تبقى مرتبطة بشكل أو بآخر بفكرة المجتمع أو بفكرة الاجتماعيّة، المتمثلة في العبارة المكملة لكمة تنشئة أي كلمة "اجتماعية"؛ ذلك الموضوع الذي شكل مورفولوجية الأصل الاصطلاحي لهذا العِلم الخِصب وما زال يُشكله إلى اليَوم: السوسيولوجيا.

ما التنشئة الاجتماعية وكيف يُمكن تعريفها إجرائياً؟ هناك العديد من التعريفات، لكنها تأخذ في الغالب شكلاً إجرائياً واحداً، قد يتضمنها جميعها، وهو التعريف الذي جاءت به عدة معاجم سوسيولوجية دقيقة، سنقتصر هنا على تعريف إجرائي جاء به أنتوني غيدنز Anthony Giddens بمعية فيليب صاتن Philip Sutton، في كتابهما المُشترك الموسوم بـ: "مفاهيم أساسية في علم الاجتماع" (Essential concepts in Sociology):

«التنشئة الاجتماعية هي العمليات الاجتماعية التي من خلالها يكتسب الأعضاء الجدد للمجتمع وعياً بالأعراف والقيم الاجتماعية، والتي تُساعدهم في تحقيق معنى جلي للذات. تستمر عمليات التنشئة الاجتماعية مدى الحياة»[3].

«تُشير التنشئة الاجتماعية إلى العملية التي تحول الطفل البشري العاجز جداً إلى شخص واع بنفسه وصاحب معرفة ويملك مهارات مستمدة من طرائق ثقافة مجتمعه؛ فالتنشئة الاجتماعية هي أمر أساسي لإعادة الإنتاج الاجتماعي والمُحافظة على استمرار المجتمع عبر الزمن»[4].

وبالتالي، فإن التنشئة الاجتماعية هي ما يحول الفرد من حالته ما قبل الاجتماعية إلى حالته الاجتماعية، أي إلى كائن اجتماعي، أو لنقل إلى عضو في الجسد الاجتماعي. فهي وإنْ كانت تُساهم في "تحقيق جلي للذات"، كما جاء في التعريف آنف الذكر، لكنها في حقيقة الأمر تبقى ذاتاً اجتماعية، وإنْ كانت تُمكن الطفل من الوعي بذاته بوصفه شخصاً، فإن هذا الوعي ليس فردياً في العمق، وإنما يستبطن أدواراً اجتماعية منوطة به، تستجيب لتطلعات المجتمع ومؤسساته. يتم كل ذلك، عبر وسائط عدة، من أهمها الأسرة والمدرسة والصحبة والإعلام.

هذا بالنسبة إلى عالِم اجتماع كأنتوني غيدنز، ومن معه، والذي عُرِفت نظرياته برد الاعتبار للفرد، إلى حد كبير، خاصة نظريته الانعكاسية، بالأحرى الحديث عن نظرية سوسيولوجية حتمية، كما هو حال نظرية إعادة الإنتاج الاجتماعي ولا مساواة الحظوظ الاجتماعية التي جاء بها بورديو حول المدرسة، وغيره كثير بعده، ممن طبقوا هذه النظرية، أكان عندنا أو عند غيرنا... بما في ذلك الأطروحة المضادة التي جاء بها ريمون بودون، والتي ظلت هي الأخرى متعالقة بفكرة المجتمع، ولو كان ذلك بدرجة أقل ممن سبقه (بورديو).

لكن السؤال هو: هل يمكن اليوم الحديث عن تنشئة اجتماعية في ظل نهاية المجتمعات وتحللها، نهاية المجتمعات الصناعية بما هي مجتمعات حداثية؟ الأطروحة المستحدثة لألان تورين.

IV

بعد هذه الوقفة مع مفهوم التنشئة الاجتماعية، لقد حان الوقت إلى استدعاء السؤال الأهم في هذا المقام: أولم يحن الوقت بعد لتستند سوسيولوجية التربية، وكذا سوسيولوجية التعليم والمدرسة، على مفهوم التذويت، بدل مفهوم التنشئة الاجتماعية، خاصة وأن هذا الأخير قد استنفذ وظيفته المعرفية والاجتماعية، في ظل عصر نهاية الاجتماعيّة، على الأقل في السياق المُعولم وفي مستوى معين، تلك الاجتماعيّة الذي طالما عملت تلك التنشئة الاجتماعية على إنتاجها وإعادة إنتاجها باستمرار؟

إذا كان هناك من نظرية سوسيولوجية لألان تورين، بالإضافة إلى نظريته الأولى عن الفعل الاجتماعي، وإن كان لا يعترف بذلك، فهي نظريته السوسيولوجية التاريخانية للحداثة، بما فيها الحداثة الفائقة.

وعلى هذا النحو، فإن موقفه من التربية والتعليم والمدرسة، هو امتداد لنظريته تلك. لهذا ارتأينا استحضار سوسيولوجيته باستمرار، على مستوى التحليل، بما هي سوسيولوجية تاريخانية للحداثة؛ تلك السوسيولوجيا التي يلعب فيها مفهوم الذات دوراً محورياً، كما هو شأن الحداثة والحركات الاجتماعية، إلى درجة اعتباره أن السوسيولوجيا اليَوم، لا يُمكن أن تكون إلا بوصفها علماً للذوات الفاعلة، وإنْ كانت علماً للمجتمع، فلتكن علماً لمجتمع الذوات الفاعلة.

لم تعد المدرسة ولا الجامعة الحديثة المتعالقة بالمجتمع الصناعي، في ظل مجتمعات تواصلية ومعلوماتية؛ أي فائقة الحداثة، لم تعد اليَوم قادرة على الاستجابة للمجتمعات الجديدة وفاعليها الجُدد، بما هي مجتمعات فواعل وذوات أكثر منها مجتمعات موضوعات ومؤسسات. لقد كانت تلك المؤسسات التعليمية وغيرها، مرتبطة بشكل أو بآخر، بالإضافة إلى وظيفتها الإدماجية الاجتماعية والمهنية وما يترتب عنها من صراع حول التراتبية الاجتماعية أو "السلم الاجتماعي"، كانت مرتبطة باقتصاد السوق الصناعي، حيث كان الإنتاج المادي في قلب المجتمع.

أما اليوم، حيث الكلمة الأولى والأخيرة هي كلمة التجربة الذاتية باعتبارها تجربة ثقافية، فينبغي إعادة النظر في المنظومة التربوية بصفة عامة وفي المدرسة بصفة خاصة، الكفيل بمجاوزة الأزمة الحالية التي تتخللها، إلى درجة الحديث عن "نهاية المدرسة"، والتي ينبغي إعادة النظر فيها على ضوء الذات الفاعلة، أي التعامل مع المدرسة باعتبارها مجالاً للتذويت، أكثر منها مجالاً للتنشئة الاجتماعية. لقد جعل تورين من أهم مهام السوسيولوجا التي يُدافع عنها قلب مفهوم المؤسسات ودورها، وهل هناك قلباً أثقل وأعمق من قلب مفهوم المدرسة ودورها؟

V

ليس هناك ما يجسد هذا القلب أكثر من موقفه النقدي مما يسمى في المجتمع الفرنسي وغيره من المجتمعات الأوروبية بـ "المدرسة الجمهورية"، بما هي مدرسة لائكية وتطال الفرنسيين بمجملهم، كيفما كانت الطبقة الاجتماعية التي ينتمون إليها أو المجال الذي ينحدرون منه؛ أي إنها تقوم على التعميم الإجباري للتعليم يطال كافة أبناء الجمهورية. تلك المدرسة، التي لم تؤد إلا إلى تعزيز الفوارق الاجتماعي وإعادة إنتاج اللا مساواة الاجتماعية، فضلاً عن كونها تعيش اليوم أزمة عميقة، بفعل الخروج من مجتمع صناعي متحلل والدخول في مجتمع جديد بمدرسة غير جديدة، لا تستجيب لمقومات هذا المجتمع وحركته.

أضحت "المدرسة الفرنسية"، منذ نهاية القرن المُنصرم وبداية هذا القرن، تعيش مشاكل عدة. يحدد صاحب كتاب "نهاية المجتمعات"، أفي هذا الكتاب الأخير أو في كتابه "تفكير مغاير" قبله، والذي يعد بمثابة مقدمة للأول، يحدد بهذا الصدد مشكلتيْن أساسيتيْن تؤزمان المدرسة الفرنسية والأوروبية بصفة عامة.

أما المشكلة الأولى، فتكمن بشكل أساسي في المساواة الزائفة التي تقتضي من المدرسين التعامل مع التلاميذ أو المتعلمين على أساس التشابه والتطابق من دون الأخذ بعين الاعتبار التفاوتات الاجتماعية بين الفقراء والأغنياء منهم، وفيما إذا كانوا قدماء أو وافدين جُدد، هذا ودون الأخذ في الحسبان اختلافاتهم النفسية. لهذا فإن هذه النزعة المساواتية المقنعة، أدت إلى نتائج كارثية وعكسية في غالب الأحيان.

وأما المشكلة الثانية، فتتمثل في التشويه الممنهج الذي لم يعد قابلاً للرؤية. فلم تعد المدرسة بالنسبة إلى التلاميذ وآبائهم، أكثر من مكان لتعلم قواعد السلوك الضرورية للحياة الاجتماعية. هذا وبغض النظر عن سوء التوجيه لدى المتعلمين وسوء التكوين لدى المدرسين.

لا يمكن بأي حال من الأحوال اختزال مشكلات التعليم إلى ملحق للمشكلة الأعم، التي تكمن إما في اللا مساواة أو في الهيمنة الرأسمالية. الأمر الذي يؤكد على وجود فراغ نظري مهول بين النظرية والتطبيق في مجال التعليم، إذ أصبح من الضروري التصدي للخطاب التأويلي السائد وتمحيص السير الداخلي للنظام التعليمي المعني، في كل صنف من أصناف المؤسسات.

وبالتالي، لم يعد الفكر الجمهوري الذي تقوم عليه تلك المدرسة قادراً على تغذية الآمال بقدر ما أصبح يخلق من اللا مساواة أكثر مما يخلق من المساواة في الحظوظ. لا يحيل أي مجال من مجالات الحياة الاجتماعية، إلى ضرورة تغيير النموذج الفرنسي وتناول العلاقات، بفعالية أكثر، بين عالم كوني ينبغي تحديده بوضوح والخصائص النفسية والاجتماعية والثقافية للتلاميذ، التي ينبغي أنْ يأخذها المدرسون في الحسبان.

لقد أصبحت المدرسة الفرنسية تطرح مشاكل ثقافية أكثرها منها اجتماعية. تلك المشاكل ناجمة بشكل أساسي عن محو الذات أو محاولة تدميرها، بدل توفير الشروط اللازمة لانبثاقها وتعزيزها في قلب الفعل التربوي. لكن الذات التي يدعو إليها تورين، لا تقوم على مصلحة فردية ولا على خير عام، فهي ليس فردية خالصة ولا جماعية محضة، إنها تقدم نفسها ضد الأنا. تلك الأنا التي ساهمت لائكية المدرسة الفرنسية في ترسيخها، وما نجم عنها من مشاكل. تتمثل تلك الأنا اليوم، بفرنسا الألفية الثالثة، في المواقف العامة المُعادية للإسلام، نظراً لكون هذا الأخير غدا يشكل قوة حيوية في المجتمع الفرنسي، بفضل تدفقات المهاجرين القادمين من البلدان الإسلامية. مواقف، تؤدي إلى ممارسات تمييزية وإقصائية للمسلمين، بما في ذلك قانون منع الحجاب في المدارس الفرنسية، الأمر الذي أدى بالجيل الثالث من المهاجرين إلى التخبط في مسلسل عدم الإدماج.

لهذه الأسباب وغيرها، تعد مشكلات المدرسة جزءًا من الأزمة العامة التي مست المجتمعات المعاصرة بعامة وأنظمتها السياسية بخاصة. وتكشف هذه المشكلات، في حالة فرنسا الحالية، عن المقاومة التي يواجه بها المجتمع الفرنسي التحول الذي يتخلل البراديغم الاجتماعي والثقافي.

VI

إننا أمام تحول جذري يتطلب إعادة النظر في المدرسة على ضوء مجتمعات التذويت، والتعامل معها ليس بوصفها مقاولة للتنشئة الاجتماعية، وإنما باعتبارها مجالاً للتذويت. هذه الفكرة، سيعززها تورين لاحقاً، ويطورها، في أعماله المتأخرة، خاصة في كتابه الموسوم بـ "دفاعاً عن الحداثة".

جاء حديثه عن التربية في محور وسمه بـ "من التبصُّر إلى التربية"[5]، ضمن الفصل الثالث من القسم الأول للكتاب، وهو معنون بـ "الذات البشرية الفاعلة". لهذا، فإن التربية عنده تحظى بمكانة مركزية في تنظيره للذات الفاعلة، خاصة تلك المتعلقة بالحداثة الفائقة l’hypermodernité. هذا من جهة، ومن جهة أخرى: جاء حديثه عن التربية فيما نعته بـ "حدود تحولات المنظومة التربوية"[6]، ضمن الفصل الرابع، أي الفصل اللاحق للأول، من القسم عينه الذي خصصه لإشكالية التذويت والسيرورة الهادمة للتذويت la désubjectivation.

انطلاقاً من تبصره للشرط البشري المعاصر الذي يقوم على التذويت[7]، يدعو صاحب دفاعاً عن الحداثة، في ظل تربية، أكانت مدرسية أو جامعية، كما هو شأن التواصل على نطاق أوسع، لم تعد تؤثر فيما يسمى بالرأي العام فحسب، خاصة عبر الشبكات الاجتماعية، وإنما أصبحت تساهم في تكوين الأفراد لأنفسهم بأنفسهم، وهذا ما يسميه بالتذويت الذاتي autosubjectivation، قلنا يدعو تورين إلى تخصصات مدرسية وجامعية تستجيب لإعدادات المتعلمين والطلبة على هذا النوع من التفكُّر الانعكاسي[8]؛ أي على فكر يعيد الاعتبار لمفهوم الذات، كما هو حال فكر ميشيل فوكو Michel Foucault[9]. هذه التخصصات، اختار لها اسم الأنثروبولوجيا. خاصة بالمعنى الذي أعطاه لها الباحثون الإنجليز والأمريكيون، فكلود ليفي ستروس Claude Lévi-Strauss. مع استحضار التاريخ واللغة الألمانية، ويخص بالذكر هنا صديقيْن أساسيين، على حد تعبيره، هما جاكوب بوكهارت Jakob Burck- hardt وفريدريك نيتشه Friedrich Nietzsche. فضلاً عن إلهام مؤرخي مدرسة الحوليات الفرنسية[10].

لكن الأهم من ذلك، وبالموازاة مع المعالجة المعرفية الموضوعية للعالَم، ينبغي أنْ تتناول المدرسة والجامعة مسألة الذات بعبارات التذويت. وهو الأمر الذي يتطلب انفتاحاً واسعاً على التعددية الثقافية. لعل التعددية الثقافية في حقول المعلومات وفردنة التعلُّم، هما المبدآن اللذان يتشرطان، من الآن فصاعداً، انفتاح أي مؤسسة اجتماعية على الإصغاء إلى أفكار الفعل الجمعي وحركته[11].

لعل التربية التي يدعو إليها تورين تقوم على التذويت أكثر من التنشئة الاجتماعية، تجعل من المدرسة مجالاً تذويتياً أكثر منها مجالاً للتنشئة الاجتماعية. فالتذويت في نهاية التحليل، هو انسجام فرد محدد أو مجموعة معينة مع صفة الذات الفاعلة التي تتطابق مع حضارتها وممارساتها، على غرار انسجام التنشئة الاجتماعية لفرد محدد أو مجموعة معينة مع معايير وأشكال تنظيم الحياة الاجتماعية في وضعية محددة وفي مجال وزمان معينيْن[12].

إن التذويت هو وعي فردي أو جماعي بالحقوق الأساسية؛ أي بالحقوق الكونية للذات البشرية الفاعلة، ألا وهي: الحرية والمساواة والكرامة[13]. يجعل التذويت من الفرد أو المجموعة حاملاً لحقوق الإنسان سالفة الذكر؛ بمعنى أنه يجعل منهم ممثلين لحركة اجتماعية أو بالأحرى لحركة إيتيقية وديمقراطية في المجتمع فائق الحداثة[14]. لذا، لا ينبغي النظر إلى المجتمع فائق الحداثة بكونه مجتمع تقنيات وتبادل وتواصل؛ أي لا يجب التعامل معه باعتباره مجتمعاً لموضوعات، وإنما ينبغي النظر إليه بوصفه مجتمعاً للذوات البشرية الفاعلة[15].

ومن هذا المنطلق فإن التربية لا يمكن أنْ تكون في هذا الصنف من المجتمعات إلا تربية تذويتية، كما هو الحال في المدرسة والجامعة.

VII

وعلى هذا النحو، فإننا أمام منظور سوسيولوجي مغاير للتربية بصفة عامة وللتعليم المدرسي والجامعي بصفة خاصة. يقوم على فكرة التذويت التي ترتبط بالذات البشرية الفاعلة، بدل فكرة التنشئة الاجتماعية التي تتعلق بالمجتمع، لكن السؤال هو: ما موقعنا نحن في المشارق والمغارب، من هذا المنظور؟

إذا نحن انطلقنا من مرجع التغير؛ أي إذا أردنا تعريف مجتمعاتنا العربية في المشارق والمغارب، انطلاقاً من حركتها وديناميتها، ووفقاً لتصور تاريخاني، يمكن القول: مِن شأن ما انتفاضات الربيع العربي عموماً وحركة 20 فبراير خصوصاً، أنْ يشكل أرضية خصبة لهذا النقاش، بل يمكن لانتفاضة 20 فبراير مثلاً، أنْ تشكل إحالة مرجعية لانبثاق الذات الفاعلة، بما هي، دينامية اجتماعية وثقافية، تعبر بشكل أو بآخر على قدرة المجتمع المغربي على خلق ذاته بذاته، وتحويلها، وكذا الوعي بفاعليته تلك، من خلال ثلاث مقولات مركزية يتداخل فيها الاجتماعي بالثقافي: الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية؛ ألا يمكن لهذه المقولات الثلاث أنْ تشكل أرضية صلبة لتذويت الفعل التربوي عندنا؟

 

 

المراجع:

*- باللغة العربية

لكعشمي، عثمان. سوسيولوجية ألان تورين، مؤسسة مؤمنون بلا حدود، 27 مايو 2021.

تورين، ألان. السوسيولوجيا ما بعد السوسيولوجيا: نحو سوسيولوجية جديدة لعالَم جديد. بعدي محمد، لكعشمي عثمان (مترجِمان)، موقع مؤسسة مؤمنون بلا حدود، 6 أبريل 2021.

تورين، ألان. نقد الحداثة، الطويل عبد السلام (مترجِماً)، سبيلا محمد (مراجعاً). الطبعة الأولى (الدار البيضاء: أفريقيا الشرق، 2010).

غيدنز أنتوني، صاتن فليب. مفاهيم أساسية في علم الاجتماع، محمود الذوادي (مترجماً). الطبعة الأولى (بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2018).

*- بلغة أجنبية

Boudon, Raymond. Dictionnaire de la sociologie (Paris: Larousse, 2018).

Boudon, Raymond. Traité de sociologie (Paris: Puf, 1992).

Boudon, Raymond. L’Inégalité des chances: La mobilité sociale dans les sociétés industrielles (Paris: Armand Colin, 1984).

BOURDIEU P., PASSERON J.-C. Les Héritiers: Les étudiants et la culture (Paris: Minuit, 1964)

BOURDIEU P., PASSERON J.-C. La Reproduction: Éléments pour une théorie du système d’enseignement (Paris, Minuit, 1970).

BOURDIEU P., « L’école conservatrice. Les inégalités devant l’école et devant la culture », Revue française de sociologie, vol. VII, 1966, p. 325 à 347

Chébaux, Françoise. La question du sujet entre Alain Touraine et Françoise Dolto: Archéologie de l’acte éducatif (Paris: L’Harmattan, 1999).

Touraine, Alain. Défense de la modernité (Paris: Seuil, 2018).

Touraine, Alain. Nous sujets humains (Paris: Seuil, 2015).

Touraine, Alain. La fin des sociétés (Paris: Seuil, Septembre 2013).

Touraine, Alain. Penser autrement (Paris: Fayard, 2007).

Touraine, Alain. Critique de la modernité (Paris: Fayard, 1992).

Touraine, Alain. La sociologie après la sociologie, La Découverte | « Revue du MAUSS ». n° 24 (2004).

[1] لأخذ فكرة مفصلة عن سوسيولوجية ألان تورين، يمكن الرجوع إلى: عثمان لكعشمي، سوسيولوجية ألان تورين، مؤسسة مؤمنون بلا حدود، 27 مايو 2021.

[2] يمكن العودة إلى: ألان تورين، السوسيولوجيا ما بعد السوسيولوجيا: نحو سوسيولوجية جديدة لعالَم جديد، بعدي محمد، لكعشمي عثمان (مترجِمان)، مؤسسة مؤمنون بلا حدود، 6 أبريل 2021.

[3] أنتوني غيدنز، فيليب صاتن، مفاهيم أساسية في علم الاجتماع، محمود الذوادي (مترجماً)، الطبعة الأولى (بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2018)، ص 215

[4] المرجع نفسه.

[5] Alain Touraine, Défense de la modernité (Paris: Seuil, 2018), p.p 134- 136.

[6] Ibid, p.p. 158- 160

[7] Ibid, p.p 113- 147

[8] Ibid, p134

[9] Ibid, p. p 125- 130

[10] Ibid, p. p 135- 136

[11] Ibid, p 136

[12] Ibid, p 149

[13] Ibidem.

[14] Ibid, p 150

[15] Ibid, p 151