هل تطوّرت مواقف أحزاب الإسلام السياسي بتونس من مشروع تحديث الدولة والمجتمع؟


فئة :  مقالات

هل تطوّرت مواقف أحزاب الإسلام السياسي بتونس  من مشروع تحديث الدولة والمجتمع؟

 هل تطوّرت مواقف أحزاب الإسلام السياسي بتونس

من مشروع تحديث الدولة والمجتمع؟

عبد المجيد الجمل([1])

 

مقدّمة:

قامت دولة الاستقلال بعد سنة 1956 بالعديد من الإصلاحات الشجاعة بقيادة نخبة متشبّعة بالفكر الغربي الليبرالي، ومن أبرز زعمائها الحبيب بورقيبة. ومن بين هذه الإصلاحات نذكر، إصدار مجلة الأحوال الشخصيّة، وتوحيد التعليم والقضاء، وإلغاء نظام الأحباس، وغيرها من الإصلاحات التي ما تزال تثير جدلاً إلى اليوم، فهناك من يعتبرها مكاسب يجب تطويرها من خلال إقرار نظام ديمقراطي، والمساواة التامّة بين المواطنين والجهات. أمّا بالنسبة إلى أحزاب الإسلام السياسي مثل حزب التحرير فرع تونس وحركة النهضة وبقيّة مكوّنات الإسلام السياسي، فإنّ البعض منها اعتبرها مشروعاً استعماريّاً، والحلّ في تطبيق الشريعة ونظام الخلافة، والبعض الآخر مثل حركة النهضة قبل ببعض مبادئ إصلاحات دولة الاستقلال، خاصّة تحت ضغط المعارضة الليبراليّة واليساريّة، وكذلك تحت الضغوطات الخارجيّة، وهو ما جعلها تقبل بمجلة الأحوال الشخصيّة، وتساهم بدور فاعل في صياغة دستور ليبرالي، أعلن بعض المبادئ الجريئة مثل حريّة الضمير، لكنّ ممارستها على أرض الواقع بينت أنّها مناهضة لبعض مبادئ الدولة المدنيّة، مثل المساواة التامّة بين المواطنين، وفصل الدين عن السياسة، وغيرها من المبادئ. وفي هذا السياق تناولت بالدراسة الإشكاليّات التالية:

- مظاهر تحديث الدولة والمجتمع بتونس بعد 1956

- ردود فعل أحزاب الإسلام السياسي تجاه تحديث الدولة والمجتمع بتونس.

هل تطوّرت مواقف أحزاب الإسلام السياسي بتونس من مشروع تحديث الدولة والمجتمع؟ حركة النهضة أنموذجاً

تميّزت الفترة الممتدّة في تونس ما بين 2011 واليوم بصعود لافت للإسلام السياسي. وبرز ذلك على العديد من المجالات ومن أبرزها صعوده للسلطة، ما بين 2011 و2014، في إطار حكومة "الترويكا" بقيادة حركة النهضة، التي كانت أيضاً طرفاً في كلّ الحكومات المتعاقبة ما بين 2014 واليوم.

لقد تميّزت ممارسات أحزاب الإسلام السياسي وردود فعلها ومواقفها بعدم التجانس تجاه العديد من إصلاحات دولة الاستقلال الحداثيّة، مثل صدور مجلة الأحوال الشخصيّة سنة 1956، وإعلان الجمهوريّة سنة 1957، وتوحيد القضاء والتعليم، وغيرها من المكاسب. فهناك قسم من أحزاب الإسلام السياسي مثل حزب التحرير وبعض الأحزاب السلفيّة اعتبرتها مشروعاً تغريبيّاً في خدمة الاستعمار ما تزال ترفضها بشدة. ولم تتطوّر مواقفها تماماً تجاه هذه المسألة. وهناك أحزاب أخرى، مثل حركة النهضة شهدت مواقفها بعض التطوّرات. وبرز ذلك من خلال تقديمها العديد من التنازلات تحت ضغط الأحزاب اليساريّة والليبراليّة، كما برز ذلك من خلال القبول بدستور توافقي سنة 2014 لم يدرج الشريعة مصدراً أساسيّاً للتشريع، وأقرّ عدّة إجراءات مثل حريّة الضمير، والنظام الجمهوري، والدولة المدنيّة وغيرها، لكنّ مواقفها رغم ذلك ما زالت رافضة للعديد من أسس المواطنة، مثل المساواة التامّة بين الجنسين، والمطالبة بإعادة نظام الأحباس، وإيجاد تعليم مواز. وفي هذا السياق سأتناول بالدراسة الإشكاليّات التالية:

* مظاهر التحديث بتونس بعد الاستقلال.

* مواقف أحزاب الإسلام السياسي من إجراءات التحديث بعد الاستقلال.

أوّلاً: مؤسّسات تحديث المجتمع التونسي بعد الاستقلال

قامت دولة الاستقلال بصفة مبكّرة بالعديد من الإجراءات الجريئة لتحديث الحياة الاجتماعيّة والثقافيّة، وقام هذا البرنامج على محاولة التوفيق بين متطلّبات الحداثة الغربيّة وفهم معيّن للإسلام[2]. ومن بين الإجراءات التي قامت بها:

- إلغاء الأحباس: إنّ هذا النوع من الملكيّة في بداية الاستقلال كان ينقسم إلى ثلاثة أنوع: الأحباس العامّة أو الخيريّة، والأحباس الخاصّة أو الأهليّة، وأحباس الزوايا أو الأحباس المشتركة (كانت مثلاً تحت سيطرة بعض الزوايا مثل الزاوية الرحمانيّة أو التيجانيّة).

إنّ هذا النوع من الملكيّة كان في بداية الاستقلال يمسح حوالي مليون هكتار. وقد قام بدور لا يُستهان به في حماية الأراضي التونسيّة زمن الاستعمار، لكنّه مثّل أيضاً عائقاً أمام تطوّر قوى الإنتاج[3] (رفض البنوك تسليف أصحاب الأحباس؛ لأنّها مجمّدة وخارجة عن المعاملات التجاريّة)[4]. وفي هذا السياق، صدر القرار الخاص بإلغاء الأحباس الخاصّة والمشتركة في 18 يوليوز 1957

ومن مظاهر التحديث السياسي إلغاء النظام الملكي، وإعلان الجمهوريّة، وإعلان دستور 1959: قام المجلس القومي التأسيسي يوم 25 يوليوز 1957 بإلغاء النظام الملكي وإعلان النظام الجمهوري، الذي ناهضه أنصار النظام الملكي، مثل اليوسفيين والزيتونيين.[5]

ومن الإصلاحات الأخرى توحيد التشريع وعصرنته. كان التشريع زمن الاستعمار الفرنسي (1881 - 1956) يتميز بالتشتت، حيث كانت توجد المحاكم الشرعيّة المالكيّة والحنفيّة. وكانت هذه المحاكم تطبّق المذهب الحنفي بالنسبة إلى الأقليّة التركيّة الموجودة بتونس، والمذهب المالكي بالنسبة إلى أغلبيّة الشعب التونسي.

أمّا القسم الثاني من التشريع، فتمثل في مجالس الأحبار، التي كانت تطبّق التشريع اليهودي في مجال الأحوال الشخصيّة على يهود تونس.

أمّا القسم الثالث من المحاكم، فقد كان يتكوّن من المحاكم التونسيّة العصريّة، التي كانت تطبّق القانون التونسي المدوّن على التونسيين في غير الأحوال الشخصيّة.

أمّا القسم الرابع من المحاكم زمن الاستعمار الفرنسي، فقد تمثل في المحاكم الفرنسيّة، التي كانت تطبّق القانون الفرنسي في القضايا التي يكون أحد أطرافها فرنسيّاً.

وبالإضافة إلى ذلك، وجدت المحاكم المختلطة، مثل المحكمة العقاريّة التي أنشئت سنة 1885. في ظلّ هذا الواقع المتأزّم لنظام القضاء، بادرت دولة الاستقلال إلى القيام بعدّة إجراءات لتحديث هذا المجال، وهي التالية:

- إلغاء المحاكم الشرعيّة يوم 3 غشت 1956، وتمّ أيضاً إصدار مجلة الأحوال الشخصيّة يوم 13 غشت 1956. وأصبحت نافذة المفعول على كلّ التونسيين بقطع النظر عن دينهم بداية من 27 سبتمبر 1957 (وهو تاريخ إلغاء مجالس الأحبار اليهود بتونس). اعتمدت الدولة التونسيّة عند تعصيرها القضاء على التشريع الإسلامي والاستلهام من التشريع الفرنسي. وقد وجد هذا الإصلاح معارضة من قبل الزيتونيين؛ ومن الإجراءات الأخرى التي شملها التحديث نذكر:

- توحيد التعليم وعصرنته. كان التعليم بتونس زمن الاستعمار الفرنسي غير موحّد على مستوى البرامج والهياكل، حيث وُجد التعليم الزيتوني التقليدي، والتعليم الفرنسي العصري، والتعليم الصادقي، والمدارس الفرنكو-عربيّة. ومدارس المؤسّسات الدينيّة المسيحيّة واليهوديّة. وأبرز إجراءات تحديث التعليم تمّ تجسيمها من خلال قانون 4 نوفمبر 1958 الذي أعدّه الأديب محمود المسعدي. وممّا أقرّه توحيد التعليم، ونشره في كامل البلاد، وجعله مختلطاً. وتمّ أيضاً إقرار الازدواجيّة اللغويّة (العربيّة والفرنسيّة).

أمّا بالنسبة إلى التعليم الزيتوني، فقد وقع إلغاء المرحلتين الابتدائيّة والثانويّة، وأصبح التعليم العالي من مشمولات كليّة الشريعة وأصول الدين التابعة للجامعة التونسيّة.

تحديث الثقافة وعصرنتها:

إنّ النخبة التونسيّة التي وصلت إلى السلطة سنة 1956 هي النخبة الممثلة للاتجاه التحديثي الليبرالي[6]، وهي متشبّعة بقسم كبير من فلسفة الأنوار الأوروبيّة، وبالفلسفة الوضعيّة. وبكتابات الجمهوريّة الثالثة الفرنسيّة (1870-1940). وعملت جاهدة على إعادة تشكيل الوعي العام للسكّان وتغيير المجتمع وفق قناعاتها. والإنسان الذي كانت تؤمن به هو الذي يؤمن بالانفتاح وبالحداثة الغربيّة بصفتها النموذج والمثال الذي لا مفرّ منه، والذي يعتبر العلم والتكنولوجيا خيارين ضروريين في الحياة. أمّا الخرافات والأساطير، فيجب حصرها في ميدان الفلكلور، ومن المبادئ التي عملت دولة الاستقلال على نشرها نذكر:

الإيمان بوجود أمّة تونسيّة يعود تاريخها إلى ما قبل تعريب البلاد ونشر الإسلام. وممّا قاله رئيس الجمهوريّة الأولى الحبيب بورقيبة يوم 18 مارس 1974: "تونس كانت لها شخصيتها منذ آلاف السنين منذ عهد قرطاج. لقد كانت الحدود موجودة قبل الاستعمار، وكان الجزائري ينتسب إلى الجزائر والتونسي إلى تونس والليبي إلى ليبيا، إنجاز الوحدة العربيّة عمل معقول وعظيم، يستدعي وقتاً لتغيير الأدمغة التي كانت طوال قرون تنظر لنفسها كأمّة وكشخصيّة متميزة"[7]. وفي هذا السياق، من الضرورة بمكان الإشارة إلى كون بداية تشكّل مسألة الهويّات الوطنيّة مثل الهويّة التونسيّة يعود إلى القرن التاسع عشر وتدعّم أثناء مقاومة الاستعمار الفرنسي[8].

المبدأ الثاني: يجب أن تبني تونس علاقتها بالمحيط العربي والإفريقي والإسلامي على مبدأ التضامن والتعاون، ولا يجب قيام تجارب وحدويّة متسرّعة. ودعت أيضاً إلى ضرورة الوقوف إلى جانب العالم الحر مهد فلسفة الأنوار والحداثة، وكان بورقيبة مناهضاً للشيوعيّة.

-المبدأ الثالث: من المبادئ التي عملت على ترسيخها الإيديولوجيا الجديدة لدولة الاستقلال ضرورة الإيمان بأنّ دولة الاستقلال تمثل أوّل دولة وطنيّة في تاريخ تونس، لذلك يصبح تعزيز أواصر "الوحدة القوميّة" واجباً مقدّساً على كلّ تونسي وتونسيّة. ومن الضرورة بمكان الإشارة إلى كون نظرة بورقيبة للدولة كانت مستلهمة من النظريّة الفرنسيّة اليعقوبيّة القائلة بمركزة الدولة وبأولويتها على كلّ شيء.

المبدأ الرابع: ضرورة إشراف الدولة على الدين، وتتكفّل بالاجتهادات التي توفّق بين الإسلام والحداثة، كما تتكفّل بالاجتهاد في هذا المجال، ولا تعوّل على رجال الدين للقيام بهذه المهمّة؛ لأنّ لهم تفسيراً تقليديّاً محافظاً.

وفي هذا السياق، اعتمدت الدولة بداية من 23 فبراير 1960 الحساب الفلكي في تحديد المواسم الدينيّة بدل الرؤية بالعين المجرّدة كما كان الحال سابقاً. وفي هذا السياق أيضاً، قامت الدولة ببسط مراقبتها على المؤسّسة الدينيّة، وقامت بشنّ حملات على الطرق الدينيّة والأولياء والشعوذة وزيارة الأضرحة. ولم يعد تدريس الأطفال بالكتاتيب مرغوباً فيه؛ لأنّ بيداغوجيّة المؤدّبين عقيمة وسمعة العديد منهم سيئة (النفاق، الشذوذ الجنسي).

ثانياً: مواقف أحزاب الإسلام السياسي بتونس من مشروع تحديث الدولة المدنيّة

أ) تأرجح مواقف أحزاب الإسلام السياسي بين تكفير منجزات الحداثة ومحاولة التعايش معها:

تميّزت مواقف أحزاب الإسلام السياسي بتونس بالتناقض تجاه مشاريع التحديث، فهناك قسم رفضها بصفة مطلقة، واعتبرها مشاريع استعماريّة هدفها ضرب الإسلام. وتكوّن القسم الأوّل الرافض بصفة مطلقة من حزب التحرير وبعض الأحزاب الأخرى، مثل تيّار المحبّة بقيادة السيّد الهاشمي الحامدي، أحد قيادات حزب النهضة سابقاً، حيث ناهضت هذه الأحزاب دستور 2014 وأغلب إن لم نقل كلّ مكتسبات دولة الاستقلال، واعتبرتها معادية للإسلام.

يمكن أن نلخّص مبادئ هذا القسم من أحزاب الإسلام السياسي وعلى رأسها حزب التحرير كما يلي:

- رفض فكرة الوطنيّة وكلّ ما يرمز إليها مثل الراية التونسيّة. ويُعتبر ذلك تطبيقاً لمبادئ السيد تقي الدين النبهاني، الذي يعتبر الرابطة الوطنيّة "رابطة فاسدة ومضللة".[9] وهذا ما جعله يعادي كلّ الرموز الوطنيّة، ومن بينها الراية التونسيّة خاصّة. وعلى هذا الأساس فإنّ الناشطين في حزب التحرير بتونس وببقيّة الدول العربيّة لا يضعون راية دولهم بمقرّات أحزابهم، ولا يرون مانعاً في تدنيسها. وهذا ما أعلن عنه رضا بلحاج الناطق الرسمي سابقاً باسم حزب التحرير فرع تونس في أكثر من مرّة. ومن بينها أثناء حادثة العلم بمنوبة يوم 7 مارس 2012[10] التي تمثلت في إنزال الراية التونسيّة من مدخل كليّة الآداب ووضع الراية السوداء مكانها. وممّا قاله رضا بلحاج في هذا السياق: "لا يجب المزايدة على راية الرسول"[11]، وقد رفضوا أيضاً وجود تعليم مدني وموحّد.

رفض النظام المدني الجمهوري والديمقراطيّة والدعوة لإقامة نظام الخلافة بتونس، وفي هذا السياق رفض حزب التحرير المشاركة في انتخابات 2011 و2014، باعتبارها انتخابات تهدف إلى انتخاب مجلس لسنّ قوانين وضعيّة، ومشروع حزب التحرير يعلن بكلّ وضوح أنّه "لا حاكميّة إلّا لله". وممّا قاله رضا بلحاج سنة 2014: "الديمقراطيّة هي أوّلاً فصل الدين عن الحياة؛ أي عن الدولة، وردّ الأمر كله للإنسان لا للوحي، وهي ثانياً اختيار من يطبّق هذا الفصل"[12]. وممّا يقوله في هذا السياق بكلّ وضوح:

"إنّ دولة الخلافة واجب مثل الصلاة والصوم والزكاة، بل لعلها أهمّ من هذه الفروض"[13].

- النظام الجمهوري كافر، وسيادة الشعب مضلّلة[14].

- الديمقراطيّة والدولة القوميّة القطريّة من مخلّفات الاستعمار وتتنافى مع الإسلام. وممّا أعلنه أيضاً حزب التحرير بتونس حول الديمقراطيّة أثناء اجتماع شعبي بأنصاره بمدينة الحمّامات يوم 27 نونبر 2011: "إنّ الديمقراطيّة نظام كفر، ليس لأنّه يقوم بانتخاب الحاكم، بل لأنّ الديمقراطيّة تجعل التشريع للبشر وليس لربّ العالمين"[15].

وفي هذا السياق، يمكن القول بطريقة جازمة: إنّ حزب التحرير، وكذلك بقيّة الإسلاميين المتشدّدين بتونس يرفضون بصفة كليّة كلّ مكتسبات دولة الحداثة، مثل الدستور المدني (دستور 1959 ودستور 2014). وكذلك النظام الجمهوري، مجلة الأحوال الشخصيّة. ويعتبر أيضاً أنّ رموزها عملاء للغرب الكافر.[16]

أمّا بالنسبة إلى القسم الثاني، فهو يتكوّن بالخصوص من حركة النهضة، التي يمكن تلخيص مواقفها من مكتسبات دولة الحداثة كما يلي:

مواقف حركة النهضة من دولة الخلافة:

إنّ منظّري حركة النهضة يجمعون على أنّ الهدف الأسمى لنضالهم هو نظام الخلافة وتطبيق الشريعة، لكنّ ذلك يتطلّب وقتاً طويلاً وتهيئة الظروف الملائمة لذلك من خلال أسلمة المجتمعات. وممّا قاله السيد راشد الغنوشي حول تقاطع مختلف أحزاب الإسلام السياسي حول تطبيق الشريعة وإرساء نظام الخلافة يوم 16 أبريل 2011: "حزب التحرير من الأحزاب الإسلاميّة، نلتقي معه في بعض النقاط ونختلف في نقاط أخرى، نلتقي في مسألة الشريعة، ويجمعنا الإسلام. ونختلف في مسألة الخلافة؛ لأنّها أمر بعيد المدى".[17]

إنّ هذا الموقف يبرز بوضوح مشروع الدولة الذي تنادي به حركة النهضة على المدى البعيد، وهو دولة الخلافة وتطبيق الشريعة. وهذا ما قاله أيضاً السيّد حمادي الجبالي رئيس أوّل حكومة لحركة النهضة وحلفائها يوم 26 نونبر2011 أثناء اجتماعه بأنصاره للاحتفال بفوزهم في الانتخابات: "يا إخوتي، أنتم اليوم أمام لحظة ربّانيّة في دورة حضاريّة جديدة، فإن شاء الله في الخلافة الراشدة السادسة".[18]

انطلاقاً من هذه المواقف، فإنّ مشروع حركة النهضة على المدى البعيد هو تطبيق الشريعة ونظام الخلافة، لكنّ قبولها بالنظام الجمهوري[19] ومساهمتها في إرساء دستور 2014 ألا يعتبر تطوّراً؟

في الواقع، هذا ما تختلف فيه حركة النهضة عن أحزاب الإسلام المتشدّد؛ فقد قبلت تحت ضغط المعارضة التونسيّة، وكذلك الدول الغربيّة، عدم إدراج الشريعة مصدراً أساسيّاً للتشريع، والقبول بدستور يحتوي على العديد من المبادئ التقدميّة مثل حريّة الضمير.

- موقف مرتبك، وفي تحوّل بطيء من الوطنيّة التونسيّة Nationalisme tunisien

إنّ زعماء حركة النهضة، ومن بينهم الشيخ راشد الغنوشي، كانوا في البداية مناهضين لفكرة[20] الوطنيّة وكلّ إصلاح على الطريقة الغربيّة، وممّا يقوله الشيخ راشد الغنوشي في هذا المجال: "كان قلبي طافحاً بحبّ المشرق العربي الذي كان ملجأ روحيّاً للمجتمع الأهلي العربي الإسلامي في مواجهة الرياح اللّافحة القادمة من الغرب، والتي حققت نصرها مع الاستقلال بزعامة الحبيب بورقيبة والنخبة المتفرنسة. ولذلك سرعان ما عافت نفسي البلاد، فظللت أتحيّن الفرص، حتى استخرجت جوازاً للسفر".[21]

إنّ هذه الشهادة تؤكّد أنّ بداية الصراع بين النظام البورقيبي، وراشد الغنوشي ورفاقه، كانت بين قطبين: الأوّل حداثي يُعتبر امتداداً لخير الدين باشا وعلي باش حانبة والطاهر الحداد، يهدف إلى بناء أمّة تونسيّة ودولة وطنيّة على الطريقة الغربيّة وخاصّة الكماليّة، والثاني "عروبي إسلامي"، مناهض لكلّ ما هو "تونسي قطري"؛ لأنّ أحزاب الإسلام السياسي، بما في ذلك حركة النهضة في تونس، تعتبر فكرة "الدولة الوطنيّة" l’Etat nation وكذلك فكرة الأمّة "التونسيّة"، "الجزائريّة"، "العراقيّة"، "الإماراتيّة"، "المصرية"، فكرة غربيّة ومعادية للإسلام. وعلى هذا الأساس، عارضت كلُّ التنظيمات التابعة للتنظيم العالمي للإخوان المسلمين الدولَ القطريّة.

إنّ هذا الخطاب تواصل إلى بداية التسعينيات، لكن منذ تلك الفترة إلى اليوم هناك بداية تحوّل، نتيجة لضغوطات الواقع، ونتيجة أيضاً "لتجذّر التونسة" والفكرة الوطنيّة لدى قسم كبير من الشعب التونسي. وهذا التحوّل برز من خلال ما يلي:

القبول بالوطنيّة القطريّة، كما نصّ على ذلك دستور 2014. وممّا ورد في التوطئة: "نحن نوّاب الشعب التونسي"[22]. فحسب ما يبدو هذه الفكرة جديدة على الفكر الإخواني، الذي يعترف فقط بوجود الأمّة الإسلاميّة. وممّا ورد بالدستور: "وتأسيساً لنظام جمهوري، في إطار دولة مدنيّة"[23].

إنّ كلّ هذه المفاهيم الحديثة للدولة، مثل الجمهوريّة، المدنيّة، يرفضها بشدّة زعماء الفكر الإخواني بمصر، وبكلّ الدول العربيّة. وهذا ما جعل العديد من السلفيين وقادة حزب التحرير بتونس يهاجمونها بشدّة، معتبرين الدستور الجديد شهادة على كون "إسلام النهضة لايت". وأنّه لا حكم إلّا لله؛[24] لكن هل تمّ الحسم في هذه المسألة بصفة نهائيّة؟

لا أعتقد ذلك، لأنّ كبار منظّري النهضة ما زال حلمهم في إعادة مجد دولة الخلافة الإسلاميّة، وممّا يؤكّد ذلك:

- إنّ فكرة "الوحدة الوطنيّة"، الشعب التونسي، أصبحت كثيرة التداول لدى قادة النهضة، خاصّة بعد فشل تجربة الإخوان في مصر، وفي ليبيا. وبالرغم من أهميّة هذه الخطوة، التي اعتبرها البعض "بداية لتونسة النهضة" فهي حذرة جدّاً. وحسب ما يبدو كانت مرتبطة بالتحوّلات الدوليّة وخاصّة الكارثة السوريّة واليمنيّة والوضع بمصر. ولا ننسى أيضاً محاصرة دول الخليج العربي، وخصوصاً الإمارات العربيّة المتّحدة والمملكة العربيّة السعوديّة. وبالرغم من تحوّل الخطاب وبداية ظهور مصطلحات مثل "بلادنا"، المقوّمات الوطنيّة، الثقافة الوطنيّة، فإنّ فكرة الأمّة التونسيّة، الوطنيّة التونسيّة Nationalisme tunisien، غير متداولة تماماً في القاموس السياسي لقيادات النهضة، باستثناء أقليّة مثل لطفي زيتون، الذي اعتبر نفسه يمثل التيّار الوطني داخل حركة النهضة.[25]

حركة النهضة ودولة المواطنة: إنّ المواطنة لا تتجسّم في أيّة دولة إلّا من خلال المساواة التامّة بين مواطنيها، بقطع النظر عن دينهم وجنسهم، لكنّ ممارسة حركة النهضة للسلطة بيّنت أنّ مشروع دولة مواطنة لم يتبلور بعد لدى هذه الحركة وبرز ذلك من خلال ما يلي:

- إقصاء غير المسلم من الترشّح لرئاسة الجمهوريّة: ففي هذا المجال، لا بدّ من الإشارة إلى أنّ الدول الديمقراطيّة، بما فيها تركيا[26] حاليّاً، يتساوى فيها المواطنون أمام القانون بقطع النظر عن دينهم. والدستور التركي الحالي لا يمنع أيّ مسيحي أو يهودي من الترشّح لمنصب رئاسة الجمهوريّة، بينما الدستور الحالي بتونس الذي ساهمت النهضة في صياغته سنة 2014، فإنّه يمنع مثلاً اليهود التونسيين، الذين دخل العديد من مناضليهم السجون الفرنسيّة إلى جانب التونسيين المسلمين لتحرير البلاد من الهيمنة الفرنسيّة، من الترشّح لهذا المنصب. [27] وهذا في الواقع يتماشى مع البُعد الإخواني لمسألة السيادة في فكر السيّد راشد الغنوشي، الذي يقول في هذا السياق: "السلطة الحاكمة في الإسلام سلطة محكومة بشرع الله،... بينما في الدول الغربيّة، حيث التشريع للأمّة ممثلة بهيئة تشريعيّة من الطبيعي إعلاء الهيئة التشريعيّة فوق كلّ الهيئات الأخرى".[28]

أمّا المسألة الثانية، فهي رفض المساواة التامّة بين المرأة والرجل

على الرغم من كون حركة النهضة شكّكت في حياديّة اللجنة، وبيّنت في بيان لها أنّ اللجنة لا تمثل كلّ الحساسيّات، فإنّها هذه المرّة بيّنت حقيقة الفصل بين الدعوي والسياسي. وبرز ذلك من خلال ما يلي:

لقد أصدر المكتب التنفيذي لحركة النهضة بياناً بتاريخ 4 يوليوز 2018، وممّا ورد فيه نقتطف ما يلي: "إنّ بعض المسائل التي وردت في التقرير تهدّد كيان الأسرة ووحدة المجتمع"، وأعلن أيضاً: "إنّ حركة النهضة تؤكّد على قيمة الحقوق والحريّات والمساواة بين الجنسين، وأهميّة تعميق التشاور والحوار حول مضمون التقرير"، وأعلنت الحركة أنّها ملتزمة بما دعا إليه رئيس الجمهوريّة من أنّ تونس "دولة مدنيّة لشعب مسلم"[29]. وبالرغم من هذا الكلام، فإنّها شنّت حملة شرسة على التقرير من خلال مشاركتها الفاعلة في المسيرات التي تمّ تنظيمها من الجمعيّات التي تدور في فلكها، ومن خلال المنابر الإعلاميّة مثل قناة الزيتونة وجريدة الرأي العام. ولم تكتفِ حركة النهضة برفض التقرير، بل رفضت بشدّة الجزء الذي تبنّاه السيد الباجي قايد السبسي حول المساواة الاختياريّة في الميراث. وممّا صرح به القيادي في حركة النهضة السيّد عبد الحميد الجلاصي إثر عرض السيد الباجي قايد السبسي التقرير على مجلس وزاري وتمريره للبرلمان للتعجيل بعرضه على التصويت: "إنّ الحركة ستصوّت ضدّ المشروع، وهذا ليس بالموقف الجديد للحركة".[30] وهكذا، فإنّ ما يمكن استنتاجه من هذه الردود والمواقف ما يلي:

- إنّ فكر أغلب قواعد حركة النهضة وبعض قياداتها محافظ، ولا يختلف كثيراً عن الفكر السلفي. وأيّة مغامرة أو قراءة للقرآن والموروث الديني بطريقة تتماشى مع الواقع الجديد على غرار ما فعل الطاهر الحداد وبعض علماء الأزهر مثل العالم الهلالي يجعلها تخسر قواعدها.

- إنّ رفض قيادات حركة النهضة والجمعيّات الدائرة في فلكها اعتمد على قراءة للدستور التونسي الصادر سنة 2014 تختلف تماماً عن القراءة التي انطلق منها السيّد الباجي قايد السبسي ورجال القانون الليبراليّون واليساريّون. وخاصّة فيما يخصّ الفصول المتعلّقة بالمواطنة والمساواة التامّة بين مختلف أفراد المجتمع. وبالتالي، فإنّ مسألة المساواة في الإرث هي بالأساس معركة دستوريّة.

- وبالإضافة إلى ذلك، فإنّ الثقافة التقليديّة لقسم من قيادات النهضة وقواعدها ترى في المساواة إلغاء للفوارق الجنسيّة ولا تتماشى مع الشريعة. وممّا يقوله نور الدين الخادمي وزير الشؤون الدينيّة أثناء فترة حكم حركة النهضة (2011-2014): "ونموذج العدل الإسلامي قائم على كون المرأة الشقّ المكمل للرجل"[31]. وهذا التصوّر هو الذي دافعت عنه حركة النهضة أثناء كتابة الدستور، كما بيّنت ذلك النسخة الأولى للدستور، التي تمّ تغيير بعض بنودها تحت ضغط المعارضة اليساريّة والليبراليّة. وممّا يؤكّد البنى التقليديّة بوضوح نور الدين الخادمي الذي يقول: "لتقريب المعنى نأخذ مسألة الميراث مثلاً، فالرجل مثلاً يلزم بأعباء وواجبات ماليّة لا تلزم بها المرأة، فهو الذي يدفع المهر وينفق على أثاث بيت الزوجيّة وعلى الزوجة والأولاد. أمّا المرأة، فهي تأخذ المهر ولا تسهم بشيء من نفقات البيت على نفسها وعلى أولادها ولو كانت غنيّة"[32]. وأحياناً تنفق المرأة أكثر من الرجل، خاصّة إذا كانت مداخليها أرفع من مداخيل الرجل.

إنّ هذا التصوّر الذي عبّر عنه نور الدين الخادمي تجاوزه قسم كبير من المجتمع، بل الواقع مغاير تماماً لدى طيف لا يستهان به من التونسيين، حيث تساهم المرأة بقسم مساوٍ للرجل في الإنفاق، وأغلب الموظّفين يشترون منازل عن طريق قروض مشتركة.

أمّا المسألة الثالثة، فهي مسألة تطبيق الشريعة

لقد أثارت هذه المسألة منذ 2011 إلى اليوم صراعاً كبيراً بين أحزاب الإسلام السياسي، ومن بينها حركة النهضة، وبقيّة الطيف السياسي بتونس ليبراليين ويساريين. ويمكن الجزم بأنّها حجر الزاوية لدولة المواطنة. وتطبيق الشريعة ينسفها بالكامل. وفي هذا السياق، من الضرورة بمكان التذكير بمواقف السيّد راشد الغنوشي من هذه المسألة:

لقد تعدّدت مواقفه، وممّا يقوله: "فالنصّ من الكتاب والسنّة ثابت الورود قطعي الدلالة، الحاكم الأعلى والسلطة التي لا تعلوها سلطة"[33]. وهذا يعني أنّ راشد الغنوشي متمسّك بتطبيق الشريعة بناء على المقولة التقليديّة: "السيادة للشعب والسلطان للأمّة"، لكنّ ذلك يبقى مرتبطاً بقيام دولة الإسلام.

وقد أكّد في هذا السياق، أنّ المواطنة لا يتمتّع بها من غير المسلمين إلّا من يرضى بأحكام الشريعة. ممّا ورد في كتابه مقاربات في العلمانيّة والمجتمع المدني: "يتمتّع المسلمون بحمل جنسيّة الدولة الإسلاميّة، باعتبارهم أغلبيّة ارتضت الاحتكام لشريعة الإسلام. ويمكن أن يتمتّع بالمواطنة فيها غير المسلم أيّاً كانت عقيدته مادام يقبل الاحتكام إلى القانون العام للدولة؛ أي الشريعة"، لكنّ اشتباك حركة النهضة بالواقع، وخاصّة المعارضة القويّة من قبل الأحزاب الليبراليّة، جعلها تقبل بالعديد من التنازلات. من بينها:

- القبول بالفصل الأوّل من دستور 1959

- عدم إدراج الشريعة في الدستور كمصدر أساسي للتشريع.

- إدراج حريّة الضمير في الدستور.

- وضع الراية الوطنيّة التونسيّة في كلّ مقرّاتها. وفي اجتماعاتها (عكس حزب التحرير والسلفيّة).

- تداول هذه الكلمة في الدستور.

- بداية بروز مصطلحات مثل الأخوّة التونسيّة.

وحسب ما يبدو، فإنّ هذا كان تحت ضغط الواقع؛ لأنّ حسن البنا منظّر الإخوان يعتبر أيضاً أنّ الفكرة الوطنيّة مضللة[34].

أمّا على المستوى الاقتصادي، فقد تمّ إلغاء الأحباس العامّة والخاصّة. وتفكيك مؤسّسات "الصدقة الجارية، وما ترمز إليه من تأطير ديني وأخلاقي للعلاقات الاجتماعيّة".[35]

لقد كان ظهور أحزاب الإسلام السياسي بتونس مرتبطاً بعدّة عوامل، من بينها نسق التحديث الذي كان سريعاً، فلا غرابة أن تبني هذه الأحزاب خطابها ومشروعها على هدم مشروع دولة الاستقلال، وممّا يقوله عبد الفتاح مورو، أحد مؤسّسي الجماعة الإسلاميّة حول هذا الرفض الشامل لكلّ قرارات الدولة الوطنيّة: "إنّ سقف الرفض لكلّ ما يصدر عن بورقيبة كان عالياً. وأنا شخصيّاً كنت مسانداً لموقف بورقيبة من مسألة اعتماد الحساب عوضاً عن رؤية الهلال. لكنّ مساندتي كانت مرفوضة من أفراد الحركة، وخصوصاً أنّها تزامنت مع دعوة بورقيبة للإفطار عام 1961. لقد كان توجّه الحركة يقوم على رفض كلّ أفكار بورقيبة. وكانت الحجّة في ذلك أنّها أفكار صدرت عن بورقيبة في إطار فهم منه معادٍ للدّين"[36].

علاقة الدين والسياسة:

إنّ كلّ أحزاب الإسلام السياسي بتونس، مثل حزب التحرير (فرع تونس)، وجبهة العمل والإصلاح، تقرّ بصفة واضحة أنّ علاقة الدين بالسياسة وطيدة، ولا يمكن الفصل بينهما.

وممّا يقوله محمّد خوجة رئيس جبهة العمل والإصلاح بتونس التي تأسّست سنة 2012: "نحن ببساطة مسلمون نؤمن بالإسلام عقيدة ومنهج حياة، نعمل على تطبيق الشريعة"[37]. والشيء نفسه بالنسبة إلى حزب التحرير الذي لا يعترف بالدساتير الوضعيّة، ويعتبر أنّ تطبيق الأحكام الشرعيّة ضرورة عاجلة.

وممّا يقوله: "حزب التحرير يعتبر أنّ جميع الأديان غير الإسلام من يهوديّة ونصرانيّة، وجميع المبادئ من شيوعيّة واشتراكيّة ورأسماليّة، هي أديان كفر. وأنّ اليهود والنصارى كفّار، وأنّ من يؤمن بالرأسماليّة أو الشيوعيّة أو الاشتراكيّة فهو كافر. ويعتبر أنّ الدعوة إلى القوميّة والإقليميّة والطائفيّة والمذهبيّة يحرّمها الإسلام"[38].

إنّ هذا القسم من أحزاب الإسلام السياسي بتونس يعتبر أنّ الفصل بين الدين والسياسة وعدم تطبيق الشريعة يتنافى تماماً مع مبادئ الإسلام. وتطبيق أيّ فكر وضعي كفر واضح. وعلى هذا الأساس، ناهضت دستور 2014 وطالبت بإسقاطه. ولم تشهد مواقفها أيّ تطور[39].

أمّا القسم الثاني من أحزاب الإسلام السياسي بتونس، فتمثله بالخصوص حركة النهضة، فهل شهدت مواقفها تطوّرات؟

إنّ أغلب منظّريها وأسسها الفكريّة تؤكّد أنّ الإسلام والسياسة جزء من خاصيّات الإسلام، وأنّ تكوينها يندرج في سياق إعادة العلاقة بين الإسلام والدولة بتونس؛ لأنّ دولة الاستقلال حسب تقدير زعمائها ضربت هذه العلاقة. وبالرغم من إعلانها في الفترة الأخيرة الفصل بين الدعوي والسياسي، فقد تبيّن أنّ ذلك مجرّد تقسيم شكلي. وتأكّد ذلك من خلال المسيرات التي قامت بحشدها الجمعيّات التي تدور في فلك حركة النهضة، وكذلك الأئمة الذين يتبعون لها في مئات المساجد، أثناء حملتها في أواخر سنة 2018 ضدّ تقرير الحريّات الفرديّة. وبرز قبل ذلك أثناء حملتها الانتخابيّة سنة 2011؛ فمن الشعارات التي رفعتها أثناء الاجتماعات الانتخابيّة "الشعب مسلم، ولا يستسلم".

أمّا على المستوى النظري، فيمكن أن نرصد ذلك من خلال العديد من المواقف.

وممّا يقوله الشيخ راشد الغنوشي في هذا المجال: "فمن واجب المسلم بذل جهوده في إقامة الدولة الإسلاميّة التي تتأسّس على عقد بين الجماعة والقائد، يلتزم من خلاله القائد بإنفاذ الشريعة، مقابل التزامها بطاعته".[40]

إنّ هذا الكتاب تمّ نشره سنة 2011 أي أثناء الثورة، ممّا يؤكّد أنّ مسألة الشريعة والخلافة تُعتبر من الثوابت في فكر السيّد راشد الغنوشي، وهو من هذه الزاوية امتداد للفكر الإخواني، فما قاله السيّد راشد الغنوشي هو تقريباً ما قاله حسن البنا في كتابه "مذكّرات الدعوة والداعي"، حيث اعتبر أنّ الإسلام عبادة وقيادة ودين ودولة وروحانيّة وعمل وجهاد ومصحف وسيف.

إنّ العلاقة عضويّة بين الدين والسياسة في فكر منظّري حركة النهضة. وممّا يؤكد ذلك أنّ الحركة في أوّل ندوة صحفيّة لها بعد الإعلان عن البيان التأسيسي لحركة الاتجاه الإسلامي تذكر "أنّ سبب دخولها الميدان السياسي يعود إلى النضال من أجل التمكّن من إحداث جمع بين الدين والسياسة".[41]

إنّ هذا الموقف تواصل إلى اليوم، والدليل على ذلك ما صرّح به السيّد راشد الغنوشي تجاه هذه المسألة لجريدة إلكترونيّة سعوديّة يوم 14 نونبر 2011، أكّد فيه بكلّ وضوح رفضه للفصل بين الدين والسياسة، وتكفيره لإصلاحات دولة الاستقلال بقيادة الحبيب بورقيبة. وممّا قاله: "في عنق كلّ مسلم ومسلمة تونسي دين لابن باز رحمه الله (أحد القيادات الوهابيّة بالمملكة العربيّة السعودية)، كان أولى قرارات دولة الاستقلال الإقدام على ما لم تتجرّأ عليه فرنسا نفسها مثل غلق جامع الزيتونة، تأميم الأوقاف، الوعد بإصدار يساوي بين الذكور والإناث في الإرث. لقد هال ابن باز الجرأة على أركان الإسلام من قبل رئيس دولة إسلاميّة فدعاه إلى التوبة".[42]

في الواقع ما صرّح به السيّد راشد الغنوشي من كون سنة 2011 يمثل حقيقة المشروع، ويبيّن أيضاً أنّ الحركة تتقن بطريقة جيّدة سياسة "التمكين"، أحد المبادئ الأساسيّة لعمل الإخوان. وعلى هذا الأساس، طوّرت بعض مواقفها، من مجلة الأحوال الشخصيّة، وزعامات دولة الاستقلال، مثل الحبيب بورقيبة، الذي رفض سابقاً السيّد راشد الغنوشي الترحّم عليه بأحد برامج الجزيرة. وحالياً أصبحوا يعتبرونه زعيماً وطنيّاً، ومن المدافعين عن مجلة الأحوال الشخصيّة.

إنّ هذه المواقف تبيّن أنّ حركة النهضة بتونس تعتبر أنّ أحد مصادر قوّتها هو الحديث باسم الإسلام تجاه الخطر الذي يتهدّده من قبل الليبراليين واليساريين، وأنّ رؤيتها للعلاقة بين الإسلام والسياسة وطيدة. ويبرز ذلك حاليّاً من خلال سيطرتها على مئات المساجد والشعارات التي رفعتها أثناء حملتها الانتخابيّة، ومن بينها: "الشعب مسلم، ولن يستسلم". وموقفها من مسألة المساواة في الإرث التي طالب بها السيد الباجي قايد السبسي رئيس الجمهوريّة الثانية منذ 2014 إلى اليوم.

إنّ هذا الموقف من علاقة الترابط الوطيد بين الدين والسياسة في ممارسات حركة النهضة، أكّده بكلّ وضوح أحد قيادات حركة النهضة حاليّاً، وهو السيد لطفي زيتون الذي طالب بضرورة فصل السياسي عن الديني. وممّا صرّح به في فبراير 2019 نذكر: "من الإصلاحات المطلوبة داخل حركة النهضة، تحرير الإسلام من الصراع الحزبي. والاقتناع نهائيّاً أنّ هذا الإسلام ملك لـ 12 مليون تونسي حتى لمن لم يعتنق الإسلام، لنا أقليّات دينيّة في تونس ثقافتها ثقافة إسلاميّة، أنا حتى مصطلح الإسلام والديمقراطيّة غير مقتنع به".[43]

الخاتمة

لقد توصّلنا من خلال هذه الدراسة إلى النتائج التالية:

إنّ رؤية أحزاب الإسلام السياسي في تونس لمسألة مشروع تحديث الدولة والمجتمع تتميّز بالخصائص التالية:

- وجود قسم أوّل يرفض بالكامل الإصلاحات مثل إرساء النظام الجمهوري، وتوحيد التعليم، والقضاء، وإصدار دستور 1959، ومجلة الأحوال الشخصيّة، ويعتبرها تغريباً وكفراً، وتندرج ضمن خدمة الغرب الكافر. ومن أبرز هذه الأحزاب نذكر حزب التحرير (فرع تونس)، وجبهة العمل والإصلاح، وتيّار المحبّة بقيادة الهاشمي الحامدي (قيادي سابق بحركة النهضة). وكلها ناهضت بشدّة دستور 2014 واعتبرته مشروع كفر، وتجمع أيضاً على تطبيق الشريعة، وهذا ما بينته مواقفها المناهضة لدستور 2014.

أمّا القسم الثاني من الإسلام السياسي، فتمثله بالخصوص حركة النهضة، التي تُعتبر امتداداً لتيّار الإخوان المسلمين، التي أصبحت جزءاً من منظومة الحكم منذ 2011 إلى اليوم، بل كانت الفاعل الرئيس بين 2011 و2014. فبالرغم من قبولها لدستور 2014، الذي أكّد بدون رجعة على النظام الجمهوري، وحريّة الضمير، والمساواة التامّة بين الجنسين وغيرها، وبالرغم من بعض التطوّرات الجريئة والمحدودة والموجّهة أساساً للغرب، مثل الانفتاح على يهود تونس، حيث ضمّت إحدى قوائمها بدائرة المنستير في الانتخابات البلديّة في أبريل 2018 أحد التونسيين اليهود، وبالرغم من هذه التطوّرات فإنّ موقفها من علاقة الدين بالسياسة، دولة المواطنة، ما يزال لم يتطوّر. والدليل موقفهم الرافض لمسألة المساواة في الإرث. وقد أكّدت ذلك بعض الأصوات من داخلها مثل السيد لطفي زيتون، الذي دعا في فبراير 2019 إلى ضرورة فصل الديني عن السياسي، واعتبار الإسلام دين كلّ التونسيين.

وقد برّر رفضه للإسلام الديمقراطي بقوله: "الإسلام الديمقراطي فيه خلط بين الديني والسياسي، فيه توريط للدين في الصراع السياسي، خليه الإسلام متاع الناس الكل"[44].

لقد أكّد السيد لطفي زيتون أنّ مسألة العلاقة بين الدين والسياسة ما تزال أحد أسس حركة النهضة الفكريّة. وأنّ التغيير ضروري، مع العلم أنّ السيّد لطفي زيتون كان من الذين تضامنوا مع السيدة بشرى بالحاج حميدة رئيسة لجنة الحريّات الفرديّة. وأعلن تضامنه معها تجاه حملة التكفير التي طالتها من قبل مختلف أنصار الإسلام السياسي، وهو ما يؤكّد بداية ظهور تيّار ليبرالي داخل هذا الحزب.

 

المصادر والمراجع

1) الصحف

جريدة التحرير 29 سبتمبر 2011

جريدة التونسيّة 19-08-2011

جريدة الرأي العام 21 سبتمبر 2018

جريدة الشارع المغاربي، 11 فبراير 2019

جريدة الشروق 25 يونيو 2012

جريدة الشروق 25 يونيو2013

جريدة الصباح 5 غشت 2013

جريدة الصباح 15 غشت 2017

جريدة الصباح 21 غشت 2017

جريدة الصباح الأسبوعي 30 سبتمبر 2013

جريدة الفجر (الناطق الرسمي باسم حركة النهضة)، 16 أبريل 2011

جريدة المغرب 29 نوفمبر 2018

2) الكتب والمقالات باللغة العربيّة

- بلخوجة الطاهر، الحبيب بورقيبة، سيرة زعيم، شاهد على العصر، تونس 1999

- التيمومي الهادي، تونس 1956-1987، دار محمّد علي للنشر صفاقس، الجمهوريّة التونسيّة، 2006

- جماعي، بورقيبة والبورقيبيّون وبناء الدولة الوطنيّة، مؤسّسة التميمي للبحث، زغوان 2007

- الجمل عبد المجيد:

  • تناقض السياسة الإنجليزيّة والفرنسيّة تجاه البلاد التونسيّة، بين 1830 و1878، وتأثيره على ظهور الشعور الوطني بتونس، المجلة التاريخيّة العربيّة للدراسات العثمانيّة، عدد45-46، ديسمبر 2012
  • المجلس التأسيسي الأوّل في تونس، دار أمل للنشر والتوزيع 2013
  • ردود فعل أحزاب الإسلام السياسي، بتونس، تجاه دستور 2014، مؤسّسة مؤمنون بلا حدود، قسم الدين وقضايا المجتمع، 2014
  • معاداة حزب التحرير للوطنيّة والانتقال الديمقراطي بتونس، المظاهر والخلفيّات (2011-2015)، مؤسّسة مؤمنون بلا حدود، قسم الدين وقضايا المجتمع، 2016
  • هل يمكن إعادة التجربة التركيّة بتونس، مؤسّسة مؤمنون بلا حدود، قسم الدين وقضايا المجتمع، 2015
  • الجدل حول المساواة في الإرث، بين حرّاس الشريعة الحداثيين بتونس وبالخارج، مؤسّسة مؤمنون بلا حدود، 2018، قسم الدراسات الدينيّة.

- حجي لطفي، بورقيبة والإسلام: الزعامة والإمامة، تونس، دار الجنوب للنشر 2004

- دستور الجمهوريّة التونسيّة، 2014، منشورات المطبعة الرسميّة للجمهوريّة التونسيّة 2014

- الغنوشي راشد، مقاربات في العلمانيّة والمجتمع المدني، دار المجتهد للنشر والتوزيع، تونس، 2011

[1] باحث وأكاديمي تونسي، متخصّص في العلاقات الدوليّة وتاريخ الزمن الراهن، مدير قسم التاريخ، كليّة الآداب والعلوم الإنسانية بصفاقس.

[2] الهادي التيمومي، تونس بين 1956 و1987، دار محمّد علي الحامي للنشر والتوزيع، صفاقس، تونس، 2006، ص. 36

[3] الهادي التيمومي، المرجع المذكور سابقاً، ص. 36

[4] المرجع السابق نفسه، ص 39

[5] عبد المجيد الجمل، المجلس التأسيسي الأوّل في تونس، دار أمل للنشر والتوزيع، 2013، ص. 29

[6] الهادي التيمومي، المرجع السابق نفسه، ص. 39

[7] كتابة الدولة للإعلام، خطابات الحبيب بورقيبة، تونس، 1975، الجزء الثالث، ص. 202

[8] عبد المجيد الجمل، تناقض السياسة الإنجليزيّة والفرنسيّة تجاه البلاد التونسيّة بين 1830 و1878، وتأثيره على ظهور الشعور الوطني بتونس، المجلة التاريخيّة العربيّة للدراسات العثمانيّة، العددان، 45-46، ديسمبر كانون الأوّل، 2012، منشورات مؤسّسة التميمي للبحث والمعلومات، تونس.

[9] تقي الدين النبهاني، نظام الإسلام، من منشورات حزب التحرير، ط6 (نسخة معتمدة)، 1422م، 2001، ص، 24

[10] تمثلت هذه الحادثة في صعود شاب سلفي يوم 7 مارس 2012 إلى موقع الراية التونسيّة الموجودة بباب كليّة الآداب ونزعه للعلم التونسي ووضع "علم الخلافة" مكانه، لكنّ الطالبة خوله الرشيدة التحقت به ومنعته بشجاعة كبيرة من نزع الراية التونسيّة.

[11] التحرير، الإثنين29 ديسمبر 2014، الموافق لــ 5 من ذي الحجة 1435

[12] جريدة التحرير، 29 سبتمبر 2014

[13] جريدة الشروق، 25 يونيو 2012

[14] www.arakmia.com

[15] عبد المجيد الجمل، معاداة حزب التحرير للانتقال للوطنيّة والانتقال الديمقراطي بتونس: المظاهر والخلفيّات (2011-2015)، مؤسسة مؤمنون بلا حدود، قسم قضايا الدين والمجتمع، أفريل 2016

[16] جريدة التونسيّة، 19-08-2011

[17] جريدة الفجر (الناطق الرسمي باسم حركة النهضة) 16 أبريل 2011

[18] جريدة المغرب 27 نونبر 2011

[19] الفصل الأوّل من دستور 2014 ينصّ على ما يلي: "تونس دولة حرّة، ذات سيادة، الإسلام دينها، والعربيّة لغتها، والجمهوريّة نظامها" (لا يجوز تعديل هذا الفصل).

[20] عبد القادر الزغل، آمال موسى، حركة النهضة بين الإخوان والتونسة، سيراس للنشر 2014، ص ص 46-47

[21] مقالة للسيد راشد الغنوشي، نشرتها الجريدة الإلكترونيّة السعوديّة، وتمّت إعادة نشرها بجريدة المغرب التونسيّة بتاريخ 24 نوفمبر 2011

[22] دستور الجمهوريّة التونسيّة، 2014، منشورات المطبعة الرسميّة للجمهورية التونسيّة 2014، ص. 7

[23] دستور الجمهوريّة التونسيّة 2014، المطبعة الرسميّة للجمهوريّة التونسيّة، ص. 7

[24] عبد المجيد الجمل، ردود فعل أحزاب الإسلام السياسي بتونس تجاه دستور 2014، مؤسّسة مؤمنون بلا حدود، قسم الدين وقضايا المجتمع، 2014

[25] الشارع المغاربي، 12 فبراير 2019

[26] عبد المجيد الجمل، هل يمكن إعادة التجربة التركيّة بتونس، مؤسّسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث (مقالة محكمة)، 2015

[27] المصدر السابق نفسه، ص. 7

[28] راشد الغنوشي، مقاربات في العلمانيّة والمجتمع المدني، دار المجتهد للنشر والتوزيع، مطبعة تونس الأولى 2011

[29] موقف حركة النهضة من تقرير الحريّات الفرديّة: https://www.jomjomhoria. comfort80406

[30] جريدة المغرب، 29 نوفمبر 2018

[31] جريدة الرأي العام، 27 سبتمبر 2018

[32] المصدر السابق نفسه.

[33] المرجع السابق نفسه.

[34] عبد المجيد الجمل، معاداة حزب التحرير للوطنيّة والانتقال الديمقراطي بتونس (المظاهر والخلفيّات) (2011-2015)، مؤسّسة مؤمنون بلا حدود.

[35] عبد القادر الزغل – آمال موسى، حركة النهضة بين الإخوان والتونسيّة.

[36] حوار معمّق مع الأستاذ عبد الفتاح مورو، بتاريخ 1 أكتوبر 2010 بمقرّ سكناه الكائن بتونس الكبرى. انظر بلحاج موسى (آمال)، موقع الدين في المعيشة الاجتماعي اليومي: التدين عند الشباب، أطروحة دكتوراه، كليّة العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة، السنة الجامعيّة 2012-2013-، ص. 96

[37] الموقع الرسمي للحزب jabhatislah.org/1cat

[38] منهج حزب التحرير في التغيير (نسخة معتمدة)، دار الطباعة للنشر، ص، ب، 135190 بيروت لبنان، كانون الأوّل، تشرين الأول 2009، ص. 27

[39] عبد المجيد الجمل، معاداة حزب التحرير للوطنيّة والانتقال الديمقراطي بتونس: المظاهر والخلفيّات (2011- 2015) مؤسّسة مؤمنون بلا حدود، قسم الدين وقضايا المجتمع، 2016، ص ص 6-7

[40] راشد الغنوشي، مقاربات في العلمانيّة والمجتمع المدني، دار المجتهد للنشر والتوزيع، تونس، 2011، ص. 33

[41] توطئة البيان التأسيسي لحركة الاتجاه الإسلامي، 6 يونيو 1981

[42] مقالة للسيّد راشد الغنوشي، نشرتها الجريدة الإلكترونيّة السعوديّة بتاريخ 14 نوفمبر 2011. وتمّت إعادة نشرها بجريدة المغرب التونسيّة، بتاريخ 24 نونبر 2011

[43] الشارع المغربي، 12 فبراير 2019

[44] المصدر السابق نفسه.