محاضرة للدكتور محمّد حاج سالم: من الميسر الجاهلي إلى الزكاة الإسلاميّة

فئة: أنشطة سابقة

محاضرة للدكتور محمّد حاج سالم: من الميسر الجاهلي إلى الزكاة الإسلاميّة

محمد الحاج سالم يتحدّث عن كتابه:

''من الميسر الجاهلي إلى الزكاة الإسلاميّة، قراءة إناسيّة في نشأة الدولة الإسلاميّة الأولى''


في إطار الأنشطة الفكريّة والثّقافية التي ينظّمها كلّ من المنتدى الفكري لمؤسّسة "مؤمنون بلا حدود" و"رابطة تونس للثّقافة والتّعدّد"،بمقرّهما في تونس العاصمة، انتظم يوم الأحد السّادس عشر من نوفمبر الجاري لقاء مع الدكتور محمد الحاج سالم، احتفاء بصدور كتابه ''من الميسر الجاهلي إلى الزّكاة الإسلاميّة، قراءة إناسيّة في نشأة الدّولة الإسلاميّة الأولى''. وقد شهد اللقاءُ حضوراً مكثّفاً لعدد من المثقّفين والأكاديميين التونسيين.

كلمة الأستاذ احميدة النيفر:

أشار الأستاذ احميدة النيفر في كلمته، بعد التّرحيب بالضّيوف وبالأستاذ محمد الحاج سالم، إلى أنّ هذا اللّقاء يتنزّل في إطار افتتاح البرنامج الثّقافي للرّابطة لهذا الموسم، كما قدّم لمحة موجزة عن النّشاط المبرمج تباعاً، والذي يقوم على الاحتفاء بالكتب الحديثة النّشر، إلى جانب تنظيم مجموعة نوادٍ ثقافية وفنّية، وندوات علميّة.

كلمة الأستاذ عادل الحاج سالم:

أشارت الكلمة إلى أنّ الكتاب المحتفى به هو في الأصل رسالة دكتوراه، نوقشت بالجامعة التّونسية في سنة 2009، كما بيّنت اندراجه في سياق الاهتمام بنشأة الإسلام وصولاً إلى ظهور الدّولة. وبيّنت الكلمة التقديميّة أنّ فكرة الكتاب تنطلق من التّساؤل: هل كان العرب قبل الإسلام عاجزين عن إقامة دولة أم أنّهم كانوا راغبين عنها؟

فالدّراسة تتناول تلك الأواليات التي كانت تمنع من نشوء الدّولة، على اعتبار أنّ الدّولة كانت ستكرّس سلطة، والسّلطة كانت مرفوضة بالمعنى السّائد في ذلك العصر. وعرّجت الكلمة على التحدّيات التي واجهتها هذه الدّراسة، كغيرها من الدّراسات الأنثروبولوجية، من حيث عدم وجود دعائم أركيولوجيّة ساندة لها.

كلمة الأستاذ محمد الحاج سالم:

تحدّث الأستاذ الحاج سالم بداية عن حجم الكتاب الضخم (930 صفحة) مبيّناً أنّه كان من المفروض أن يكون عدد صفحاته ضعف ذلك تقريباً، إلا أنّه عمد إلى التخفيف والإيجاز في بعض المواضع منه واختصار الكثير من الإحالات، لكي لا يثقل على القارئ، وأنّه أراد له أن يكون متوجّهاً، في الآن ذاته، إلى المتخصّصين وإلى غير المتخصّصين من القرّاء.

ورغم أنّ لفظ الميسر لم يرد في القرآن أكثر من ثلاث مرات، وأنّ المصطلح في كتب التفاسير ضبابي وغامض، فإنّه استطاع أن يؤلّف فيه كلّ هذا الكم البحثي الهائل الذي راهن رهاناً علميّاً على رصد ظاهرة نشأة الدّولة في الإسلام، في حين أشار الحاج سالم إلى أنّ الدّراسات الإسلاميّة التي اهتمّت بالموضوع استندت كلّها -في رأيه- إلى مقاربات شموليّة غير قادرة على إنتاج أي معرفة علميّة، لأنّ الموضوع متفرّع ومتشابك وعميق. وأنّه لذلك اختار أن تكون مقاربته أنثروبولوجية إناسيّة وحسب نظرية الصيغة البنيوية في علم النفس الإدراكي، وهذا يعني أنّ مجموعة من الأجزاء في بنية ما لا تساوي الكل. ورأى أن يستعيض عن تلك النّظرة الشّمولية بنظرة جزئيّة، انطلق فيها من فهم طقس الميسر الجاهلي ليبني عليه فهمه لنشأة الدّولة في الإسلام، من خلال بيان انتقال مؤسّسة الميسر التي يذهب في الأذهان خطأ أنّها انتهت بالتّحريم، في حين أنّها قد غيّرت بنيتها وتحوّلت إلى مؤسسة الزكاة.

ومؤسسة الميسر كما قدّمها الحاج سالم هي لعبة تعتمد اجتماع زعماء القبيلة الواحدة عند القحط، في فصل الخريف أي في شهر رجب (الشهر الخريفي) مع ظهور نجم الثريّا، يجتمعون على المحاضر قرب منبع الماء، حيث تنتصب الأصنام المحاطة بالحرم التي بها أنصاب (سلسلة من الصخور الطبيعية)، وكانت تنشط الأسواق والبيع والشراء احتفاء بالمناسبة، وتُشترى الجزور ويُوفى ثمنها وتُنحر على الأنصاب تعويذاً للحرم، وتُقسّم على عشرة أجزاء، ويُؤتى برجل متألّه يُدعى ''الحُرْضَة'' وهو كبير الكهنوت، يلبس ثوباً أبيض يسمى المجول، ويغطي عينيه بعصابة، ويغطّي يديه بسُلْفَةٍ، ويؤتى برِبابة (جلدة توضع فيها الرّماح) ويؤتى بقداح الميسر، وهي عشرة قداح مستوية في الغلظ والطّول والاستدارة واللّون، ويكون منها سبعة ذوات حُزوز (علامات)، والثّلاثة الباقية قداح غفل (دون علامات واسمها السّفيح والمنيح والوغد)، ثم يحضر زعماء القوم، ويكونون عادة سبعة، وإن كانوا أكثر من ذلك اختير منهم سبعة ليلعبوا أوّلاً، ويختار كلّ منهم قِدْحاً من السّبعة ذوات الحزوز، وتُدخل القداح العشرة في الرِّبابة ويُخضْخِضها الرَّجُل الحُرْضَةُ، وينكز منها قدحاً ويسلّمه لرقيب القداح ليربح من اختار ذلك القدح نصيباً من ذلك اللّحم (العُشر) ويسلّمه للفقراء، وإن سُحب قدح غفل، فإمّا أن يكون السفيح، فيُسفح دم جديد، أي يُعاد الذبح لترضى الآلهة، وإمّا أن يكون المنيح، فيُمنح كامل اللّحم للفقراء، ويعاد الذبح لتُعاد اللّعبة، وإمّا يكون الوغد، فيذهب كامل اللّحم للكهنوت، ويعاد ذبح جديد لتعاد اللّعبة، وهكذا... ويمكن أن تُنحر في لعبة واحدة أربعون ناقة، وليس على زعماء القوم أن يتراجعوا عن النّحر حتى لا تغضب الآلهة وتحبس السُّقيا، ولأنّهم إن فعلوا فسيخسرون وجاهتهم وسينبذون(...)

وبيّن الحاج سالم كيف أنّ الميسر طقس ذو أبعاد دينيّة تتمثّل في محاولة إرضاء الآلهة حتى تمنح السّقيا وتمنع المسغبة، وله أبعاد اقتصادية تتمثّل في إبادة الثّروة من السّوام تزامنا مع فترة القحط وشحّ المرعى، حتى لا يختل التّوازن، وأبعاد سياسيّة تخصّ مصير تلك الزّعامات التي قبلت بتبديد جزء من رأس مالها المادّي في سبيل اكتساب سلطة رمزيّة مفرغة من كل محتوى.

وقد توصّل الحاج سالم إلى خلاصة، شدّد على أهميّتها، وهي أنّ الميسر طقس يمنع من ''تكدّس'' السّلطة المادّية لدى زعماء القبائل ممن يمتلكون الثّروة، وأنّه يفتّت مركزة تلك السّلطة بشكل متواصل، بما أنّه يذرّر تلك الثّروة ويبدّدها بالشّكل ذاته، خاصّة وأنّه كان لا يُلعب إلا داخل كلّ قبيلة على حدة. وبالتّالي فهو كان يمنع من إلحاق قبيلة صغيرة بأخرى كبيرة، ويساهم حينئذ في تواصل تفتّت المجتمع العربي الجاهلي، ويمنع من تكوّن دولة ذات سلطة مركزيّة موحّدة. ولذلك ضرب الإسلام هذه المؤسّسة وأفرغها من محتواها الوثني، وضرب طقس العمرة الذي كان مقترناً بالميسر، وقرن بين العمرة والحج، ولكنّه على المستوى الاقتصادي حافظ على المنافع نفسها (وَفيهِ منَافعُ للنّاسِ) فعوّضت الزكاة الميسر.

النّقاش:

دار النّقاش بين الحضور حول بعض الجوانب من الكتاب، ويمكن إجمال ما طرحه المتدخّلون في الأسئلة التّالية:

ـ تفاجؤنا بقولك إنّ ''شهر رجب هو شهر خريفي''، فهل رجب شهر شمسي أم قمري؟ وهل شهر الحج مثلاً كان ثابتاً في فترة محدّدة من السّنة؟ وهل كان التّقويم الجاهلي شمسيّاً أو قمريّاً، أم لا هو من هذا ولا من ذاك؟

ـ لماذا يصرّ البحث على استعمال كلمة جاهلية لتحديد فترة ما قبل الإسلام؟ كيف تتحدّد الجاهلية في البحث؟ وهل يُفهم من ذلك نظرة استنقاصيّة للدّين العربي في ما قبل الإسلام؟

ـ أشرت إلى المماثلة بين الميسر والزكاة من حيث الوظيفة، وإذا كان الميسر مهّد لظهور الدّولة بتذرير رأس المال، فإنّ الزكاة هي أيضاً شكل من أشكال هذا التّذرير، وهو ما لا يلتقي بالضّرورة مع المركزة وبناء الدولة.

ـ لماذا لم يهتم البحث بمؤسّسات جاهليّة أخرى كانت تمنع من ظهور الدّولة، مثل مؤسّسة الثّأر التي تجعل الحرب دائماً ممكنة، ومؤسّسة الأيّام الحرم التي تجعل السلم دائماً ممكناً؟ والحال أنّ علماء الأنثروبولوجيا يشيرون إلى أنّ ما يقضي على المجتمع البدوي شيئان: إمّا الحرب الشّاملة أو السّلم الشّامل، وهاتان المؤسّستان قد تواصلتا، في تراوح، بعد مجيء الإسلام وقيام الدّولة.

ردّ الأستاذ محمد الحاج سالم:

بدأ الأستاذ الحاج سالم ردوده بالحديث عن مسألة التّقويم، وبيّن أنّ السّائد في التّقويم لدى العرب قبل الإسلام هو الغموض في فهم مسألة النّسيء ووتيرته، ولماذا استبدله الإسلام بتقويم قمري، وهو إشكال عميق كتب فيه كثير من المؤرّخين دون التوصّل إلى حلّ. وأشار إلى أنّ الكثير من أولئك الباحثين وقعوا في خطأ اعتبار أنّ النّسيء هو كبس (intercalage) بين السّنة القمريّة والسّنة الشّمسيّة، وهذا في اعتقاده خطأ شنيع وقع فيه المؤرّخون، أدّى إلى مضاعفة الغموض السّائد عن تلك الفترة من التّاريخ الإنساني، فلا يمكنّنا ذلك التقويم من أن نميّز تاريخ الهجرة مثلاً، أو تاريخ فتح مكّة بالتدقيق (اليوم والشهر)، والحال أنّ هذا الأمر مهمّ حتى في بيان ورود آيات قبل أخرى.

وبيّن الحاج سالم أنّه حاول أن يحلّ جزءاً من معضلة التّقويم، وتوصّل إلى أنّ النّسيء كان تقويماً نجميّاً نوئيّاً، ينطلق من الاعتقاد بتأثير النّجوم في الأرض، ولم يكن لا قمريّاً ولا شمسياً، وأنّه يعتمد دورة سنويّة للنجم أي الثريّا، وهذه الدّورة تساوي الدّورة الشمسية نفسها (365 يوماً وربع)، وأنّ العرب قد قسّموا هذه الدّورة الزمنيّة إلى ثمانية وعشرين قسماً، تُسمّى منازل القمر. وقد بيّن أنّ ذلك يُفهم أكثر بالتوصّل إلى فهم منظومة التّماثل الرّمزي في العقل العربي الجاهلي، أي التّماثل بين ظهور النّجوم في السّماء، وبين الطّقوس التي كانت تؤدّى على الأرض، ومن بينها طقس الميسر، فالعمرة هي اجتماع قبائل على محاضر الماء زمن الخريف، والحج هو اجتماع القبائل نفسها على محاضر الماء قبل دخول الصّيف، أي في الرّبيع، وكان العرب يميّزون بين تلك الفترات ببروز نجم الثّريا في الخريف المؤذن بالمطر، وبزوال نجم الثّريّا في الرّبيع المؤذن بقدوم فصل القيظ. ويرتبط بذلك عرس الآلهة في الرّبيع (زمن التّزاوج) وولادة الآلهة في الخريف (زمن الخصب)، وهذا ما يفسّر ارتباط ما يحدث في السّماء من حركة بما يحدث في الأرض من طقوس.

وأشار الحاج سالم إلى أنّ ما يقصده بمصطلح ''الجاهليّة'' هو الفترة الزّمنية، التي تواضعت على تسميتها معظم الدّراسات والبحوث الأكاديمية التي اختصّت فيها بهذه التّسمية، وأنّ استعمال مصطلح ''ماقبل الإسلام'' ينقصه تحديد المجال الجغرافي الذي لا يستقيم مع المصطلح، ولا يفيد في مسألة الدّقّة العلميّة كثيراً، كما أكّد على أنّ استعماله لمصطلح ''الجاهلية'' لا يحمل وصماً لا سلبيّاً ولا إيجابيّاً.

وأشار إلى أنّ الميسر يعتمد تدمير الثّروة وتذريرها، في حين أنّ الزّكاة لا تدمّر الثروة، كما ذهب إلى ذلك أحد المتدخّلين، وإنّما هي تنمّيها من خلال الدّولة، فزكاة الغنيّ تتوازن مع حاجة الفقير، ممّا يفضي في النّهاية إلى نمط اقتصادي ينمو في إطار من التّكامل، لا مجال فيه للتذرّر لأنّه مضبوط من حيث القيمة والمقدار اللذان يناسبان حجم الثّروة. وهذا يوفّر مدخولاً للدّولة من خلال الأتاوات.

وختم الحاج سالم تعقيبه على ملاحظات المتدخّلين في النّقاش بالإشارة إلى أنّه ما زال هناك في التّراث الجاهلي أواليّات ومؤسّسات لم تنل حظّها من الدّراسة الأكاديميةّ والعلميّة بعد، ومن ذلك ما أشار إليه أحد المتدخّلين حول مؤسّسة الثّأر أو مؤسّسة الأشهر الحرم، وغيرها من محرّكات المجتمع البدوي الجاهلي، التي كان دورها الوظيفي يقوم على استدامة حالة الصّراع وتنظيمه وفق موازين القوى السّائدة في تلك البيئة وذلك العصر.