358
2016 )9(
العدد
الصفحة الأخيرة
سيادة...
عبد السلام بنعبد العالي
خلال معرضفرانكفورت للكتاب، كان المترجم الألماني هارتموت فندريش قد خصّ إحدى الصحف باستجواب دالّ من بين ما جاء
فيه اعترافه شاكياً: «لم أتلقّ مكالمة شكر واحدة على ما بذلته لفترة طويلة تجاوزت العقود الثلاثة».
تطرح شكوى المستعرب الكبير أسئلة عديدة لعل أهمّها: لو كان المترجم الألماني قد نقل أعمالاً عن لغات أخرى غير عربية، عن
الإنجليزية مثلاً أو عن الفرنسية، هل كان سينتظر كلمات شكر؟ وفي حال الجواب نفياً عن هذا السؤال، لماذا تطرح هنا بالضبط مسألة
الاعتراف بـ«الجميل»؟ وما سرّ إحساس المترجم الألماني بأنه عندما ينقل النّصوص العربية يسدي إلى الناطقين بلغة الضاد معروفاً ينبغي
أن يكافأ عليه؟
ربما لن تتيسّ لنا الإجابة عن هذه الأسئلة ما لم نخرج عن هذا الإطار الضيّق ونلجأ إلى مقارنة هذا الموقف، ليس بموقفمترجم خارج
الثقافة الألمانية، وإنّما بموقف مُنظُر ألماني لمسألة الترجمة، لعله يلقي لنا بعض الأضواء على التحوّلات الكبرى التي عرفتها علائق القوة
بين «الشرق» و«الغرب».
لا شكّ أنّ القارئ قد خمّن أنني أعني هنا صاحب «الديوان الشرقي للمؤلف الغربي». ممّا يُنقل عن المفكر الألماني الكبير أنه في سنة
، وفي خضم الاحتلال النابوليوني، وعندما عزم بعض المثقفين على وضع منتخب لأحسن الأشعار الألمانية كي تكون في متناول
1808
عامّة القراء، طلبوا مشورته ليرشدهم إلى القصائد الدالة في هذا المضمار، فكانت نصيحته الوحيدة التي أسداها إليهم هي أن يضمّوا إلى
الدّيوان أيضاً ترجمات ألمانية لقصائد أجنبية، بحجّة أنّ تلك الترجمات تشكّل، في نظر صاحب «الديوان الشرقي»، إبداعات لا تنفصل
البتّة عن الأدب الألماني، وبحجّة «أنّ الشعر الألماني مدين بأهمّ أشكاله للأجنبي، وهذا منذ ميلاده».
لا يعتبر غوته إذاً أنّ الترجمة «إنقاذ» للنصوص المنقولة واعتراف بها، وإنّما يرى فيها بالأولى «تطعيماً» للثقافة المتر ِة، يقول: «عندما
تذبل الآداب القومية فإنّا تنتعشوترى الحياة من جديد عن طريق الآخر». فما يهمّه في الترجمة هو كونا أداة «إنعاش» للأدبواللغة.
بفضل الترجمة تنفصل اللغة عن نفسها لتستنبت في غير موطنها. على هذا النحو، عندما تنقل اللغة الألمانية الأدب العربي على سبيل
المثال، فإننا لا ينبغي أن نرى في ذلك ارتفاعاً بهذا الأدب نحو الكونية، وإنّما مساهمة في إرساء أسس الكونية ذاتها، أو، بتعبير غوته،
أي «العصر الذي لا تكتفي فيه الآداب بالتفاعل فيما بينها، بل تدرك وجودها هي في
Weltliteratur
فتحاً لعصر «الأدب العالمي»
إطار تفاعل ما يفتأ يتزايد». وهكذا فإنّ الترجمة ستتيح للّغة الألمانية أن تحيا في ذلك الأدب وتنتعشفي أحضانه. ها هنا لا يعني تفتّح
اللغة علىخارجها ابتلاعاً للآداب الأجنبية وتدجيناً لها. إنّه، على العكسمن ذلك، انفتاح على الآخر، وخروج للهويّة عن ذاتها بحيث
يصبح إدراكها لذاتها إدراكاً متحوّلاً مشروطاً بتفاعل لن ينفكّ يتزايد مع آخر، وما يهمّنا هنا هو أنّ غوته يرى أنّ الترجمة هي أداة ذلك
الخروج.
على العكس من هذا الموقف تماماً ينبني موقف المستعرب المعاصر. فهو يعتبر أنّ نقل النصّ العربي هو نوع من مدّ يد المساعدة بهدف
جرّ الآخر نحو الذات، والارتقاء باللغة المتر َة إلى مستوى الكونيّة. لا عجب إذاً أن يتوقّع المترجم-المنقذ جزاء واعترافاً. لكن ممّن ينتظر




