سوسيولوجيا جائحة الكورونا


فئة :  مقالات

سوسيولوجيا جائحة الكورونا

من الأطروحات التقليدية في تعليل الجائحة الأطروحة الدينية التي ترى في كل جائحة تعبيرا عن غضب إلهي ضد أقوام زاغوا عن الطريق الحق الذي سطره الله للبشر؛ فسوء التدين أو ضعفه من خلال ترك الفروض الدينية والإقدام على المحرمات هي الأسباب الرئيسة في تعليل الجائحة وتفسيرها من طرف "رجال الدين" في مختلف الديانات بشكل عام. ويذهب هؤلاء إلى القول إن الحل هو العودة إلى الصلاة وإلى الدعاء وإلى طلب المغفرة من الله. إن نظرية الجائحة-اللعنة هاته اخترقت التاريخ البشري ولا تزال، وهي نظرية غير علمية؛ لأنها نظرية غير قابلة للتفنيد (infalsifiable)، وهذه هي الخاصية التي تميز كل نظرية لا علمية من منظور فيلسوف العلوم كارل بوبر (Karl Popper)؛ بمعنى أنه يستحيل البرهنة على خطئها. فلا أحد فعلا، يمكن له أن يدحض زيف الأطروحة القائلة إن "الفيروس أداة يستعملها الله لمعاقبة بشرية فاسدة طاغية". من هذا المنظور الديني، لا يشكل العزل حلا حقيقيا للجائحة؛ لأنه لا يقتلع جذوره الحقيقية، والمقصود بها كل أوجه عصيان الأمر الإلهي. وقد اتضح هذا الطرح مثلا في عدم اعتبار رجال الدين العازل الذكري (préservatif) حلا لمعضلة انتشار جائحة السيدا، فذلك العازل ما هو في نظرهم سوى حماية للعلاقات الجنسية غير الزوجية التي هي في نظرهم أصل الجائحة، وهو نفس الطرح الذي عاود نفسه بمناسبة جائحة الكورونا فيروس اليوم. فالعزل الصحي بدوره (البقاء في المنزل/حظر التجول) لا يقضي بدوره على الفساد البشري المحرك لغضب الإله. لذا، لا تستسيغ المجموعات المدافعة عن أطروحة الجائحة-اللعنة العزل المفضي إلى منع صلوات الجماعة وصلاة الجمعة وفي إغلاق المساجد، وهي مجموعات ترفض أطروحة "التجمعات في المساجد فرصة لانتشار فيروس كورونا بين المصلين"، متذرعة بالآية: "قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا". فتلك المجموعات الدينية تعتبر عكس ذلك، أن العودة الجمعية الكثيفة إلى بيوت الله وإلى الالتزام بالقيم الدينية قمينة بإسكات غضب الله ونيل رحمته وعفوه.

العزل كسياسة عمومية

مهما بلغ استعمال الدولة للدين (أيضا) في تحصيل الشرعية السياسية والسيطرة على المجتمع، فإن الدولة لا تسمح لنفسها بالوقوف عند الدعاء وعند الوعظ ضد الفساد (في معناه الديني، إتيان المنكرات والمعاصي)، بل تعطي الأولوية لقول العالم على حساب قول الفقيه (دون أن تمنع المواطن المؤمن من الصلاة والدعاء في بيته ومن احترام المحرمات إذا شاء). لماذا تُعطَى الأولوية السياسية للأطروحة العلمية؟ لأنها لا تطرح سؤال "لماذا انتشر الوباء"، بل تطرح أسئلة "كيف ينتشر الوباء وكيف يمكن علاجه وكيف يمكن الوقاية منه". وهي الأسئلة التي تستوجب أجوبة إجرائية استعجالية للحفاظ على صحة الأفراد وعلى الصحة العمومية، بل وعلى صحة الوطن ككل، دون الخوض في اعتبارات لاهوتية و/أو أخلاقية قابلة للنقاش. فأمام جائحة الكورونا، تنصت الدولة أولا وقبل كل شيء إلى المتخصصين في العلوم البيولوجية (علماء أوبئة، أطباء، مختبرات...) قصد تقديم الخدمتين العموميتين الأساسيتين في هذه الحالة، العلاج والوقاية، وهما الخدمتان اللتان جعلتا من أولئك المتخصصين صناع القرار الحقيقيين، والمقصود به قرار العزل وترجمته من طرف الفاعل السياسي إلى حجر صحي كسياسة عمومية تسعى إلى الحد من انتشار أخطر للوباء. في هذا الإطار، لا بد من الإشادة ببعض الدول (مثل المغرب) التي عملت بقول العزل كقول علمي ونفذته كسلطة عمومية بشكل مبكر من خلال تدخلات مؤسساتها الصحية والأمنية والاقتصادية، وهي التدخلات التي أبانت عن ضرورة المركزة في مواجهة الجائحة، وعن استحالة أطروحة انسحاب الدولة من تنظيم الحجر الصحي. إن جائحة الكورونا فيروس تبرهن، حسب كل حالة قطرية، على ضرورة استمرار أو عودة "الدولة المعطية" (Etat-providence) في الحماية الصحية والاجتماعية.

في المغرب، كما في معظم الدول الأخرى من العالم، تم فرض عزل صحي إجباري وحظر جولان في ساعات معينة؛ وذلك بشكل مبكر سعيا للحد من انتشار أكبر للوباء. والواقع أن هذا القرار استجابة لسياسة مُعَولمة وضعتها "المنظمة العالمية للصحة"، وهي السياسة الصحية التي تطالب كل دولة بتطبيق العزل الخارجي والعزل الداخلي؛ فالأول يعني وقف تنقل البشر بين الدول لكي اتوقف استيراد وتصدير فيروس كورونا، فيما يعني الثاني الحد من حركية المواطنين داخل أوطانهم من خلال البقاء في المنزل والتباعد الاجتماعي (distanciation sociale) وتقليص الخروج إلى الأماكن العامة ومنع التجمعات وإغلاق المدارس والجامعات واللجوء إلى العمل والتعليم عبر الإنترنيت (قدر الإمكان). إنها سياسة عمومية عمودية أملتها "المنظمة العالمية للصحة" على كل الدول وفرضتها الكثير من الدول على مواطنيها، هدفها الأساس تحقيق أقل عدد ممكن من الإصابات بالفيروس وأقل عدد ممكن من الوفيات بالفيروس. وأصبح المطلوب من كل مواطن "البقاء في البيت" حفاظا على صحته الشخصية وعلى صحة أفراد أسرته وعلى صحة المجتمع ككل. وبالتالي، يصبح كل فرد مسؤولا على صحة الجميع، ومطالَبا بوعي وطني ومواطناتي.

أمام هذا النداء المؤسساتي الذي يعتبر المرء (ة) فردا- مواطنا من المفروض فيه أن يتفهم ويتقبل تجريده من حريته (في التنقل خارج البيت)، تُطرَح عدة تساؤلات تتعلق بإمكانية تطبيق (faisabilité) العزل. هل تستطيع الدولة المقتنعة بالعزل إقناع الكل بالبقاء في البيت؟ كيف التوفيق بين الإلزام الصحي بالبقاء في البيت، وبين الضرورة الاقتصادية للكسب والإنتاج؟ هل يمكن عزل الكل في البيت؟ هل للكل الإمكانيات المالية واللوجستية للبقاء في البيت؟

إشكالات العزل

من الواضح أن البقاء في البيت يظل الحل الوحيد أمام الجائحة الراهنة، لكنه يدعم اللامساواة ويؤجج الغضب الشعبي، ويمكن أن يؤدي إلى احتجاجات وتمردات؛ لأن تفعيله إشكالي وليس بالأمر الهين. فالبقاء في البيت، لا يمكن أن ينجح في الدول الفقيرة، إلا إذا تم إقناع وإشراك الشرائح الاجتماعية الفقيرة بذلك المسلسل وفيه. فتلك الشرائح تكسب قوتها يوميا وبشكل غير منتظم بفضل نشاطها داخل اقتصاد غير مهيكل؛ معنى ذلك أن مطالبة أفراد تلك الشرائح بالبقاء في البيت يعني منعهم من العمل ومن البحث عن الكسب اليومي. فهل كل الدول الفقيرة قادرة على سد هذه الثغرة؟ هل تستطيع كل تلك الدول إعانة كل مواطنيها الفقراء المتواجدين خارج الاقتصاد المهيكل من أجل الاعتزال في البيت؟ بالنسبة للمغرب، لا بد من الاعتراف بالمجهودات المبذولة في هذا الصدد والتنويه بها.

علاوة على إشكال الدخل الضروري للتغذية اليومية، هناك إشكال مساحة البيت؛ فكلما كان حجم البيت صغيرا، وكلما كان معامل الكثافة السكانية فيه مرتفعا، كلما كان البقاء فيه طيلة اليوم أمرا صعبا؛ ذلك أن الاكتظاظ في البيت يمنع من الاختلاء بالذات ومن الراحة، ويخلق بالتالي توترات داخل الأسرة، وهي التوترات التي تُفَرَّغ في العنف الأفقي ضد الزوجة، وفي العنف العمودي ضد الأطفال.

هما إذن اعتباران أساسيان يدفعان إلى الخروج من البيت، إما للبحث عن كسب أو للتنفيس عن الذات، الشيء الذي يؤدي حتما إلى الاصطدام مع قوات الأمن الساهرة على مراقبة العزل والخروج من البيت بشروط معينة. وفعلا تحفل الكثير من الفيديوهات المنشورة في وسائط التواصل الاجتماعي بوقائع اصطدام بين القوات العمومية، وبين أفراد أو جماعات تنم عن تجاوزات من كلا الطرفين. فأما تجاوزات الساكنة، فمرد معظمها إلى الفقر وإلى الأمية وإلى عدم الوعي بالخطر. أما التجاوزات الأمنية، ففيها خرق واضح لحقوق الإنسان باسم الحفاظ على الصحة العمومية. يتبين من تلك الاصطدامات أن الإجراءات المتخذة من طرف السلطات لا تدرك كإجراءات إيجابية وضرورية من طرف الجميع؛ لأنها أتت وفرضت من "فوق" دون أن تعلن منذ البداية أنها ستأخذ بعين الاعتبار ظروف عيش الجميع.

هنا، تطرح مسألة نجاعة التواصل المتبع قصد التعليل والإقناع وضرورة إشراك الساكنة والجمعيات في جميع القرارات والبرامج التنفيذية للسياسة العمومية الاحترازية. لكن ومهما كان التواصل مهنيا ومحكما، فإنه لن ينجح بشكل كامل ما دامت مشكلتا الكسب اليومي والاكتظاظ المسكني قائمتان. وبالتالي، يكمن الخطر في الانتقال من إشكالية صحية إلى إشكالية أمنية، وهو انزلاق يبين في نهاية التحليل أن الإشكالية سياسية بالأساس؛ بمعنى أن الاصطدام بين القوى العمومية والفقراء يعري واقع التهميش والحرمان ويعززه. صحيح أن الأمن الصحي حق من حقوق الإنسان وعلى الدولة السهر عليه أثناء الجائحة وإعطاءه الأولوية، لذلك يتعذر التوفيق بين الحق في الصحة والحق في الحرية والحق في الخبز والحق في السكن اللائق إبان زمن الجائحة، أي إبان زمن استعجالي سريع. واضح أنه لا مجال لمطالبة الدولة بالحق في الحريات الفردية (حرية التنقل هنا) وبالحق في السكن اللائق في زمن الكورونا، إذ يتحول هدف الحفاظ على الصحة العمومية هدفا يعلو على كل المطالب الأخرى. لكنه هدف يخفي ويعري في الوقت ذاته الأهداف الأخرى المعبرة عن التهميش والحرمان.

لذا لا بد من الاستمرار في مخاطبة الشرائح الفقيرة والتواصل معها، مع إعانتها على الإنفاق اليومي الأدنى لضروريات العيش الأدنى. لماذا؟ ليس فقط باسم اعتبارات إنسانية، وإنما بالأساس لاعتبارات سياسية؛ لأن مخيال تلك الشرائح يربط جائحة الكورونا بأناس أتوا من الخارج أو أناس سافروا إلى الخارج، ثم عادوا إلى الوطن وأجسامهم ثقلى بالفيروس؛ مما يعني أن الفقراء يعتبرون أنفسهم ضحايا فيروس استورده أناس مُعَوْلمَون يسافرون عبر العالم، والمقصود بهم عمال في الخارج، سواح رجال الأعمال... كل هذه الفئات تشكل فئات محظوظة، وعدوة بالمعنى الطبقي بالنسبة إلى الفقراء. من ثم، يقتنع الفقراء بأن قرار العزل والبقاء في البيت قرار تعسفي غير منصف يعاقبهم على "ذنب" لم يرتكبوه؛ فمكوثهم الإجباري في البيت ليس كمكوث غير الفقراء في البيت؛ لأن البيوت ليست متشابهة؛ ولأن الموارد ليست متقاربة؛ ولأن إمكانات التواصل والتسلية في البيت ليست متكافئة. وعليه، لا يمكن للشعور عند البقاء في البيت أن يكون متماثلا.

واضح جدًّا أن معاناة البقاء في البيت تتغير حسب الانتماء الطبقي وبإمكانها إن كانت سلبية وطويلة أن تؤدي إلى انهيارات فردية، وإلى تمردات جماعية (عفوية أو غير عفوية) ضد السلطات العمومية. فجائحة الكورونا تعمق التفاوتات الاجتماعية، وتبرزها أكثر للعيان وذلك على مستويات كثيرة منها درجة التعرض لخطر الإصابة بالفيروس وكيفية تدبير الحياة المنزلية وممارسة الوالدية والمساهمة في الفعل المدرسي الرقمي أو التلفزي. فمثلا ما مفاد القول بالاستمرارية البيداغوجية عند المقارنة بين طفل له حاسوب وغرفة خاصة وآلة طبع، وبين طفل لا يتوفر على تلك الإمكانات اللوجستية؟

صحيح أن الخوف من الوباء أعاد إلى البيت من جديد وظيفته في حماية الفرد من الأخطار الخارجية التي تهدده، وعلى رأسها الفيروسات. لكن عوض أن يكون ذرعا منيعا ضد الفيروس، يتحول البيت الفقير نفسه إلى بؤرة وبائية ينتقل داخلها الفيروس بين ساكنيه بشكل أسهل وأسرع؛ فالبيت لا يشكل في الأوساط الشعبية جسما ثانيا، يحمي الأجسام التي تعيش داخله ويقيها من الوباء. مرجع ذلك الاكتظاظ الذي يميزه وتعذر تطبيق التباعد الاجتماعي داخله، مما يقود كل فرد في الأسرة إلى اعتبار أفراد أسرته خطرا على صحته. هكذا يصبح الأب ذلك الآخر الجدري والخطير بحكم وظيفته الأساسية كمعيل؛ فهو الذي يخرج إلى العمل أو إلى الأسواق من أجل التبضع، وهو الذي يدخل الفيروس إلى بيته وينشره بشكل لا إرادي وبريء بين أفراد أسرته. وبالتالي، يصبح كل عضو من أعضاء الأسرة خرج من البيت، مصابا كامنا وناقلا كامنا، ويتحول إلى آخر خطير، إلى عدو ينبغي تجنبه والاحتراس منه. إنها لمأساة حقيقية تمنع كل تعبير عن الحب والحنان.

تفيد كل هذه المزالق أن العزل الصحي في البيت ليس عزلا صحيا في كل البيوت بغض النظر عن مستواها الاجتماعي والاقتصادي؛ فالعزل داخل البيت يعني إمكانيتي الاختلاء والتباعد داخله، وهي سلوكيات غير مألوفة من جهة في معظم البيوت، وغير ممكنة من جهة أخرى في معظمها.

خاتمة وتوصيات

تدفع الجائحة المجتمع البشري إلى الوعي بالمخاطر المحدقة به، إلى الوعي بهشاشته، إلى الشعور بالخوف والقلق وإلى الوقوع في الهوس الصحي. وتشكل الجائحة في الوقت ذاته مناسبة لبروز تقابلات بين الأنا والآخر، بين المجتمع والدولة، بين الطبقات الاجتماعية، بين الإثنيات، بين الطوائف الدينية، بين الرجال والنساء وبين الأكثريات والأقليات، وهي تقابلات تعبر عن نفسها من خلال العنف المادي و/أو الرمزي، وعلى الأقل على مستوى التنكيت المروح عن النفس المفرغ للقلق، وفي الوقت ذاته، تفرض تلك التقابلات تضامنا اجتماعيا ضد عدو. ويتعقد الأمر بسبب العزل الذي يهدد التضامن، بل ويهدد الرابط الاجتماعي المؤسس لكل مجتمع. فالرهان هو التوفيق بين ضرورتين استعجاليتين؛ بين ضرورة العزل، وضرورة التضامن.

أيضا، للجائحة بعد فلسفي مهم؛ لأنها مناسبة للتأمل في الشرط الإنساني، في علاقة الإنسان بالطبيعة، وبالشر. إنها فرصة للوعي بالشر الذي يلحقه الإنسان بالطبيعة، وللوعي بالشر الذي تلحقه الطبيعة بالإنسان. فرغم التقدم الهائل الذي حققته البشرية في ميدان العلوم والتقنيات البيولوجية، يأتي فيروس لا مرئي لينشر المرض والموت، وليخلق الرعب وليبين للإنسان أنه لم يستطع بعد أن "يصبح سيد ومالك الطبيعة" (كما ادعى ديكارت). من ثم يلجأ الإنسان في حالة كل جائحة كاشفة عن هشاشته إلى التفكير الديني الذي يقدم تفسيرا "مقنعا" (غير قالب للتفنيد) لما لا يخضع لسلطان عقله ولسلطاته المختلفة. إنه تفكير يلقى نجاحا كبيرا وسط الحشود، لأنه يدعو الإنسان إلى الاستسلام وإلى التواضع ويساعده نفسيا على مواجهة القلق وعلى تدبير الهلع. أيضا، من مزايا المقاربة الدينية الأخرى، اعتبار الجائحة محنة ممتحنة يجتازها الإنسان ليختبر الله قوة إيمانه وصبره. أكثر من ذلك، يعتبر الإسلام كل من مات في الطاعون شهيدا (حديث).

إلى جانب الدين ككتابة ما فوق عقلية تدعو الإنسان إلى الاستسلام وإلى التواضع، وهي الكتابة التي تلقى نجاحا كبيرا وسط الحشود، تشكل الكتابة في معناها الوضعي كإبداع بشري وسيلة أخرى للسيطرة (النفسية) على الجائحة. فالكتابة الإبداعية تشكل إلى حدّ ما آلية دفاعية يحاول الإنسان بواسطتها التحكم في ما ينفلت من سيطرته. فاللغة وسيلة لأنسنة ما هو غريب ووحشي، بل ولإفراغه من حمولته الشريرة المرعبة إلى درجة تحويله إلى موضوع هزل ومزاح (على أقل تقديد).

أما الكتابة السوسيولوجية السعيدة، فتساهم في تبديد القلق من خلال صياغة توصيات توجه إلى صناع القرار. وتنتمي تلك التوصيات الناتجة عن التشخيص السوسيولوجي إلى السياسة العمومية في مجابهة الظاهرة المرضية الحالية، جائحة الكورونا فيروس. في هذا الإطار، نقترح التوصيات التالية:

- تشخيص درجة وكيفية تأثير الحملات التواصلية لصناع القرار على إدراك الخطر، وعلى السلوكيات الوقائية في صفوف الساكنة،

- تشخيص تأثير نشر المعطيات العلمية على الساكنة وكيفية التعامل معها،

- تشخيص إدراكات وسلوكيات مهنيي الصحة ورجال الأمن والساكنة بمناسبة جائحة الكورونا فيروس،

- من إيجابيات الجائحة، التنبيه إلى ضرورة إعطاء الأولوية إلى قطاعي التربية والصحة وإلى إدماج الاقتصاد غير المهيكل وتقليص الفوارق الاجتماعية.

- أمام التعرض اللامتساوي للإصابة بالكورونا فيروس، ضرورة الاعتناء الأكبر بكل الأطر الصحية وشبه الصحية، النسائية منها بالخصوص؛ لأنها تشكل الغالبية ولأن تلك الغالبية تحتل المواقع الدنيا في المهن الصحية،

- من الضروري إعادة النظر في ثنائية الوجاهة الاجتماعية/المنفعية الاجتماعية، فإذا كانت هذه الثنائية منسجمة في حالات الأطباء ورجال الأمن، وإلى حد ما في حالة الممرضين/ت، فإن مهنا أخرى كثيرة لها منفعية اجتماعية عالية أثناء الجائحة دون أن تكون لها وجاهة اجتماعية أو أجرا محترما. من بين تلك المهن، مهن البيع بالتقسيط والنظافة والنقل العمومي. إن المنفعية الاجتماعية القصوى لهذه المهن المعرضة للإصابة بالفيروس لا تصاحبها لا وجاهة اجتماعية ولا أجور ملائمة. وبفضل الجائحة وفي إطارها، يتبين اليوم أن هاته المهن "الصغيرة" مهن كبيرة في الواقع؛ لأنها تضمن استمرار حياة المجتمع.

فلتكن إذن جائحة الكورونا فيروس تجربة مشتركة تغتني بفضلها البشرية على الصعيد الروحي، ودرسا كافيا للتخلص من السباق النيو-الليبرالي المحموم نحو الهيمنة ونحو الربح دون حدود على حساب إنسانية الإنسان.