الحرية الدينية في الإسلام لـــ عبد المتعال الصعيدي


فئة :  قراءات في كتب

الحرية الدينية في الإسلام لـــ عبد المتعال الصعيدي

صدر الكتاب لأول مرة عام 1955م الموافق 1375هـ، وهو من أهم مؤلفات الشيخ عبد المتعال الصعيدي؛ لأنه حاول أن يقدم رؤيا جديدة في الفكر الإسلامي حول قضية من أخطر القضايا التي تشغل بال الفرد المسلم، وهي قضية "الردة والمرتد" وأراد المؤلف أن يطرح طرحًا جديدًا في حكم المرتد، محاولا فتح باب الاجتهاد وتحديث أصول الدعوة ومواكبة العصر، والأمر لا يقف عند هذه القضية، بل يمتد ليشمل التجديد في "فقه الحدود" عمومًا. ولقد تحولت من مجرد فكرة يطرحها المؤلف لقضية تناظر حولها اثنان من العلماء أحدهما يتبنى الفكر الإصلاحي التجديدي، والآخر يتبنى النظرة التقليدية المحافظة، وهو الشيخ "عيسى منون"[1].

وتأتي قيمة الكتاب في أنه يعرض الوجهة الأصولية المقررة بأدلتها كما عرضها الشيخ منون[2]، ثم ردّ المؤلف عليها، وما كتبه ابن حزم في كتابه "الإحكام في أصول الأحكام" ليقرر المؤلف وجهة نظره في حكم المرتد، ومن ثم يفتح باب التجديد والاجتهاد.

ولقد ضربت هذه القضية أركان المجتمعات الإسلامية في العصر الحديث فترات كثيرة، وشغلت حيز تفكيره بين الحين والحين؛ فمن تكفير طه حسين إلى مقتل "فرج فودة" فرضت القضية نفسها مرارا، وتكررت المحن ذاتها مع نجيب محفوظ ونصر حامد أبو زيد وغيرهم.

بيّن المؤلف خطورة الفكرة المطروحة من قبله، حيث يقول: أتيت فيه باجتهاد ديني خطير، إذ أثبتُ أن: الحرية الدينية في الإسلام عامة في دعوة غير المسلم الذي لم تبلغه دعوة الإسلام، وفي دعوة من بلغته واستجاب له ثم ارتدّ عنه[3].

عرف المؤلف الحرية الدينية، موضحًا الفرق بين التوحيد والوثنية، وكيف كانت دعوة الرّسل إلى الحرية الدينية، وحاجتهم إلى هذه الحرية من أجل تبليغ رسالتهم؟

فالحرية الدينية كما يراها المؤلف: هي أن يكون للإنسان الحق في اختيار ما يؤديه إليه اجتهاده في الدين، فلا يكون لغيره حق في إكراهه على ما يعتقده بوسيلة من وسائل الإكراه، وإنما يكون له حق دعوته إليه بالإقناع بدليل العقل، أو بالترغيب في ثواب الآخرة والتخويف من عقابها، وهذا لا يكون إلا بعد إقامة الدليل على وجود إله قادرٍ عالمٍ ويبعث رسلا يدلون الناس على الخير، وبهذا يدخل في الحرية الدينية: حرية الدعوة إلى العقيدة، وحرية تبليغ رسالته تعالى للناس، ولا تقتصر على حرية اعتقاد المرء في نفسه؛ لأن من يرى رأيا فيه خير للناس في دنياهم وأخراهم له الحق في دعوتهم إليه، بل يكون آثمًا إذا كتمه، ولم يعمل على نشره، فإن كان خيرًا أجابوه، وإن كان شرًا دلوه على ما فيه من شر، دليلا بدليل، وإقناعًا بإقناع، من غير سعي في فتنة أو حربًا بين الناس، تعمل على نشر العداوة وتفريق الكلمة، وإذا كنا قد أعطينا الحق في حرية الاعتقاد، وحرية الدعوة وحرية التبليغ، فإننا نحرم عليه اللجوء في دعوته إلى وسائل الإكراه، بل الاقتصار على وسيلة الإقناع، ومع ذلك نعطيه حق الدفاع عن عقيدته؛ لأن حق الدفاع عن العقيدة كحق الدفاع عن النفس، بل قد يكون أوجب من الدفاع عن النفس[4].

ثم يقرر المؤلف بأن "التوحيد" هو دين الحرية الذي يرفضه الطغاة والمستبدين، و"الوثنية" هي دين الاستبداد والاستعباد، دين طغاة البشر؛ ليمكنهم من استعباد الناس وتطويعهم لاستبدادهم.

ثم أوضح المؤلف كيف كانت دعوة رُّسل الله بالتي هي أحسن، وكيف سلكوا مع أقوامهم مسلك الإقناع، وضرب الأدلة العقلية، والحسية، ومقابلة الإساءة بالإحسان، وعدم تجاوز حدود الإقناع والدليل، وضَرب المثل بأولي العزم من الرُّسل مع أقوامهم.

تناول المؤلف العديد من القضايا الشائكة حول فكرة حرية الدين، فعرض دعوة القرآن للحرية الدينية، ثم عقب برأيه في "إبطال دعوى النسخ في الآيات الواردة في الحرية الدينية"، والتوفيق بين آيات التخيير وآيات القتال، وبيّن أن قبول الجزية إبطال لقاعدة النسخ.

وبين المؤلف أن القرآن الكريم دعا في أكثر من موضع إلى حرية الدين وحق الإنسان في اختيار دينه، وعلى أنه لا سبيل لبعض الناس على بعض في الاعتداء على هذا الحق المقدس، فضرب المثل بالدعوة بالحسنى وعدم مجادلة أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن: "وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ" [سورة العنكبوت، الآية 46].

وبين كذلك أن الله ترك المشيئة المطلقة للإنسان من أجل تقرير دينه واختياره لعقيدته، فقال تعالى: "وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا" [سورة الكهف، الآية 29].

حاول المؤلف أن يُزيل الإشكال في هذه الآية ويرد على دعوى المعترضين بأن الأمر في الآية للتهديد، فبيّن أن الأمر "للتخيير" ومال إلى رأي الزمخشري في هذه الآية فقال: الحق خبر مبتدأ محذوف -أي: هو الحق- والمعنى: جاء الحق، وزاحت العلل، فلم يبق إلا اختياركم لأنفسكم ما شئتم من الأخذ في طريق النجاة أو في طريق الهلاك، وفي هذا الكلام: دليل على أن الإيمان والكفر والطاعة والمعصية كلها مفوضة إلى مشيئة العبد واختياره[5]. كما قال تعالى: "وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى" [سورة فصلت، الآية17].

كما بيّن المؤلف خطأ من قال أن الإسلام انتشر بالسيف، وأن آيات الحرية نسخت بآيات أخرى، مثل قوله تعالى: "لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ" [سورة البقرة، الآية 256] قد نسخت بقوله: "يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ" [سورة التوبة، الآية73] وقوله: "فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ" [سورة التوبة، الآية5] فأورد رأي من قال من العلماء بجواز عدم النسخ في هذه الآيات وغيرها كالجصاص الذي قال: جائز أن يكون حكم هذه الآية ثابتًا في الحال على جميع أهل الكفر؛ لأنه ما من مشرك إلا وهو لو تهود أو تنصر لم يجبر على الإسلام، وأقر على الجزية[6]، ثم عقب هذا الرأي برأي الشيخ محمد عبده وتلميذه رشيد رضا: أن الآية نزلت في رجل من الأنصار من بني سالم بن عوف يقال له الحصيني كان له ابنان نصرانيان، وكان هو مسلمًا فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: "ألا استكرهما فإنهما قد أبيا إلا النصرانية" فأنزل الله فيه ذلك "لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ" وفي رواية أنه حاول اكراهما فاختصموا إلى النبي، فقال: يا رسول الله أيدخل بعضي النار وأنا أنظر[7].

حاول المؤلف أن يقدم حلا وسطًا بين الآيات الواردة في الحرية الدينية وآيات القتال، وذلك من خلال محاولة التوفيق بينهما فقال: علينا أن نعيد النظر في جميع الآيات الواردة في القتال لنوفق بينها وبين الآيات الواردة في الحرية الدينية، ولننظر: هل القتال فيها لإكراه الناس على الإسلام كما ذهب إليه جمهور الفقهاء، أو لأجل حماية الدعوة كما ذهب الشيخ محمد عبده؟[8].

وبعد أن استعرض المؤلف آيات القتال والتخيير وترتيب نزولها وكيف أن القتال إنما كان من أجل حماية الدعوة لقوله: "تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ" [سورة الفتح، الآية 16] فقد يتوهم بعض الناس أن قتالهم من أجل أن يسلموا، والحق أن هؤلاء القوم كانوا مقاتلين للمسلمين، فقتال المسلمين دفاعًا عن أنفسهم، فلا يكون القتال إلجاء لهم على الإسلام، بل حماية للدعوة.

وفي قبول الجزية من الكتابي وغيره دليل على إبطال دعوى النسخ، وإذا كان غير أهل الكتاب من مشركي العرب وغيرهم، سواء في قبول الجزية كما ذهب إلى ذلك مالك والأوزاعي، فإن الآيات الواردة في الحرية الدينية وفي عدم الإكراه تكون باقيةٌ على عمومها، ولا يكون هناك نسخ ولا تخصيص، ولا يحق لأحد أن يمنعنا من أن نأخذ بهذا الرأي، بحجة أن الجمهور على خلافة، خاصة وأنه يأتي مع سماحة الإسلام.

ويرى المؤلف أنه: لا يجوز أخذ الجزية ممن لم يقاتلنا، فلا يصح أن نقاتل من لم يقاتلنا منهم لنأخذ الجزية منه، بل يجب علينا أن نكف عن القتال في حالة موادعتنا كما فعل النبي مع مشركي مكة في صلح الحديبية.

والجزية لا شأن لها بكفرهم –كما يتوهم البعض-، فإنها لم تفرض عليهم لكفرهم بل لحرابهم، فلا يكون فرضها عليهم لحملهم على الإسلام؛ لأن الإسلام أكبر من يغري الناس على دعوته بالمال، يأخذه –أي المال- من غيره باسم الجزية فإذا أسلم لم يأخذه؛ لأنه إذا أسلم أخذ منه الزكاة، وهي ضريبة تصاعدية تبلغ ما لا تبلغه الجزية.

كذلك دعوة الإسلام إلى إيثار السلم -يراها المؤلف- دليلا على إبطال دعوى النسخ، فإيثار السلم والعفو عمن يعتدي علينا، وكف القتال إذا آثروا السلم، وأن نجيبهم إلى ما يطلبوه، دليل على عدم النسخ؛ لأن القتال إذا كان من أجل إكراههم على الإسلام لما وجب علينا كف القتال عند كفهم، بل يجب علينا أن نمضي في قتالهم وهذا على خلاف الآية: "وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا" [سورة الأنفال، الآية 61].

كذلك اشتراط الاختيار في صحة قبول الإسلام دليل على عدم النسخ.

ولم يغفل المؤلف أن يبيّن موقف الأحاديث الداعية إلى القتال، وأنها مقيدة أو مستثناه كما وقع في حديث: "أُمِرْتُ أن أقاتِل الناسَ حتى يَشهدُوا أن لا إله إلا الله"[9] وبيّن أنه يستحيل أن يراد به جميع الناس؛ لأن أهل الكتاب لا يدخلون فيه بالاتفاق، وكذلك رأي مالك والأوزاعي، وحينئذ يجب أن يكون في الحديث حذف للاختصار أو العلم به من نص قرآني، ويكون تقديره: حتى يقولوا لا إله إلا الله أو يقبلوا الجزية، ومع هذا يجب حملها على المقاتلين، للفظ "أمرت" أي: أمرني الله، والأمر لا يكون إلا للمقاتلين لنا كما سبق بيانه[10].

ثم بين المؤلف أن الحرية الدينية ليست دعوة لإباحة الكفر كما يتوهم بعض الجامدين الذين يذهبون إلى انتشار الإسلام بالسيف، ويتوهمون أن تخيير الناس بالإسلام يستلزم إباحة الكفر، والكفر حكمه التحريم لا الإباحة، وهذا لا يتوهمه إلا الجامدون؛ لأن إباحة الكفر معناها: أن لا يكون هناك عقاب في الآخرة ولا في الدنيا، وحينئذ يكون الأمر واضحًا كل الوضوح.

ورد الشيخ منون على المؤلف في جزء الحرية الدينية، في مقال تحت عنوان: الأحكام التي يرتد منكرها، ومتى يجوز الاجتهاد ومتى لا يجوز الاجتهاد؟[11]، فكرر النظرة التقليدية للأحكام الفقهية، وبيّن أن الأحكام اعتقادية وعملية، وبيّن أن الأحكام العملية تنقسم إلى ثلاثة أقسام من حيث ما يجوز الاجتهاد فيه وما لا يجوز؟

فالأول: أحكام يقينية قطعية ثبتت بالتواتر القطعي جيل عن جيل إلى يومنا هذا كحرمة الزنا وقتل النفس، ووجوب الزكاة وغيرها، وهذا النوع لا يجوز الاجتهاد فيه، ومن أنكر حكمًا من هذا الباب يحكم بكفره وارتداده، وتدخل الردة تحت هذا الباب[12].

والثاني: أحكام شرعية أجمع عليها الأئمة، ولكنها مما اختص به العلماء دون سواهم، مثل: استحقاق بنت الابن السدس مع البنت، وهذا النوع لا يجوز لمجتهد أن يأتي بخلافه؛ لأن خرق الإجماع حرام، ولكن من خلافه لا يكفر، إنما يأثم ويفسق؛ لأنه خالف الإجماع.

والثالث: أحكام دقت أدلتها وخفيت، واختلف رأي الفقهاء المجتهدين فيها، وهذا النوع لا حرج من الاختلاف حوله، وأنه لا ضرر منه، بل ضروري لا يمكن التغاضي عنه، بل ووقع في عهد الرسول بين الصحابة وهو الاجتهاد الذي إن أصاب صاحبه له أجران، وإن أخطأ له أجر واحد.

هذا فيما يتعلق بالأحكام العملية، أما الأحكام الاعتقادية -في رأيه- فلا مجال للاجتهاد فيها وأدلتها لا تقبل الاجتهاد والخلاف، ولا بد من اعتقادها بيقين، فلا يكفي الظن، ولا يُعذر المخطئ فيها، بل هو إما كافر أو فاسق.

أما الاجتهاد المطلق، فقد أُغلق بابه وأنه لا مجال له الآن، ولا يسع المجتهد الآن إلا أن يرجح بعض الأقوال على بعض، لأنه لا بد أن يوافق أحد المجتهدين[13].

ويرى الشيخ منون أن هذا ليس من باب الحجر على الفكر وحرية الرأي، بل هو من باب تبين خطأ الأفكار؛ لأنه لا أحد يقبل بتعدي الحدود، وإلا لجاز أن يقول كل واحد ما شاء فيما شاء، ولا شك أن هذه هي الفوضى بعينها[14].

ولقد رد الشيخ عبد المتعال على هذا المقال، فبين أن الشيخ منون ينطلق من مبدأ الفرقة الناجية، وأنها في نظره ونظر من يقلد "الأشاعرة" في كل ما تذهب إليه، ترى أن الأحكام الاعتقادية لا تقبل الاجتهاد، فبيّن المؤلف جواز مخالفة الإجماع الذي يستند على نصٍ؛ لأنه من الجائز أن يأتي مجتهد فيفهم في هذا النص خلاف ما فهمه غيره، فلا يصح أن نحجر عليه بحجة إجماع أو أنه قد سبقه أحد بخلاف فهمه.

ثم رد على ما قاله الشيخ منون: من أنه لا بد أن يوافق في اجتهاده ما سبقه، فلا حاجة إلى اجتهاده إذا إلا من باب الترجيح، وإلا عُد خارقًا للإجماع، وهذا لا يجوز.

وضرب المؤلف مثالا: بأن المجتهدين من الأئمة الأربعة ظهروا بعد جيلين من مجتهدي الصحابة والتابعين، فلم يرووا الحجر على أنفسهم بعد من سبقوهم من المجتهدين من الصحابة والتابعين، ولم يحرموا على أنفسهم مخالفتهم، وكانت كلمتهم المشهورة "هم رجال ونحن رجال" ثم عقب المؤلف بذكر رأي بعض الفقهاء الذين سبقوه بعدم قتل المرتد، وأنه يستتاب أبدًا، ودلل بموقف عمر بن الخطاب حين قَدِمَ عليه رَجُلٌ مِنْ قِبَلِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، فَسَأَلَهُ عَنِ النَّاسِ، فَأَخْبَرَهُ، ثُمَّ قَالَ لَهُ عُمَرُ: "هَلْ كَانَ فِيكُمْ مِنْ مُغَرِّبَةِ خَبَرٍ؟" فَقَالَ: نَعَمْ، رَجُلٌ كَفَرَ بَعْدَ إِسْلَامِهِ "قَالَ: فَمَا فَعَلْتُمْ بِهِ؟ قَالَ: قَرَّبْنَاهُ فَضَرَبْنَا عُنُقَهُ. فَقَالَ عُمَرُ: "أَفَلَا حَبَسْتُمُوهُ ثَلَاثًا وَأَطْعَمْتُمُوهُ كُلَّ يَوْمٍ رَغِيفًا وَاسْتَتَبْتُمُوهُ لَعَلَّهُ يَتُوبُ وَيُرَاجِعُ أَمْرَ اللَّهِ". ثُمَّ قَالَ عُمَرُ: "اللَّهُمَّ إِنِّي لَمْ أَحْضُرْ، وَلَمْ آمُرْ، وَلَمْ أَرْضَ إِذْ بَلَغَنِي"[15].

ثم عقب الشيخ منون بمقال آخر يرد فيه على ما ذهب إليه عبد المتعال الصعيدي تحت عنوان "حكم المرتد في الشريعة الإسلامية"[16]، تناول فيه، خطر مخالفة الإجماع على الدين، ثم تكلم عن الإجماع في قتل المرتد، وحكى قول ثلاثة علماء هم: ابن عبد البر في "التمهيد" وابن قدامة في "المغني" وابن دقيق العيد في "شرح العمدة" من أنهم حكوا الإجماع في قتل المرتد، واختلفوا في المرتدة. ثم حاول تفسير الآراء التي يُشتم منها رائحة الخلاف في قتل المرتد من قول إبراهيم النخعي، وابن حزم في المُحلى، ثم ساق بعض الأدلة الشرعية التي تعتبر سندًا للإجماع، مثل حديث: "مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ"[17] وحديث "لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلا بإحدى ثلاث"[18] ثم ساق بعض الأحاديث التي يُتخيل منها المعارضة لأدلة قتل المرتد مثل: الرجل الذي اعترض على قسمة النبي في "حنين" وقال: هذه قسمة، ما يراد بها وجه الله" وقول الآخر: يَا رَسُولَ اللَّهِ اعْدِلْ[19]. فحاول توجيهها بأنها مخصوصة في بداية الدعوة وأن من وقع منهم هذه الردة كانوا منافقين، وكان النبي يتغاضى عنهم وعما يقع من إيذاء منهم.

وفي نهاية المقال: حاول أن يفند الأدلة التي تُتَخيل في دعوى مخالفة الإجماع، ليؤكد رؤيته بأنه: لا حرية دينية، فإذا كان تارك الصلاة، يعاقب بالقتل أو الحبس، ومانع الزكاة تؤخذ منه قهرًا، والكفار إن كانوا من أهل الكتاب، إما الإسلام وإما الجزية، وإن كانوا من غيرهم كان الإسلام، فأين الحرية الدينية؟[20].

وبعد أن فرغ الشيخ منون من اعتراضاته، قام الشيخ عبد المتعال بالتعقيب والرد عليه فبيّن ضعف الاستناد على الإجماع في قتل المرتد وذلك لأسباب: أن الإجماع لم يُتفق على حجيته، والصحابة اختلف بعضهم على بعض، فالفرد من الصحابة كان يشذ على إجماعهم، والمتأخرين من العلماء أغلقوا باب الإجماع على أصحاب المذاهب الأربعة، ودعوى الإجماع في حكم المرتد مضطربة كل الاضطراب، فكيف لنا أن نُسلم بهذا الكلام، ونرضى لأنفسنا هذا الجمود.

ثم أقر المؤلف الخلاف القائم بين العلماء في قتل المرتد، وأن منهم من قال: باستتابة المرتد أبدًا، وإيداعه السجن، كما صرح بذلك عمر بن الخطاب، ثم هاجم المؤلف من أنكر هذا الرأي الفقهي، أو محاولة التعسف في تأويل هذا الرأي على خلاف الصريح به، وإن كان قد اعترض المؤلف على هذا الرأي أيضًا؛ لأن فيه شبهة الإكراه.

ولم يغفل المؤلف أن يٌفند قول الشيخ بأن ترك الرسول للمنافقين كان في بداية الدعوة، أو أن قتلهم قد نسخ وهو رأي ابن حزم، فرد عليهما فيما يقرب من ستة ردود منها: أن تغاضي النبي عنهم إنما هو دليل على تركهم مع علمه بأكثر المنافقين، ثم بعد أن افتضح أمرهم في غزوة تبوك وظهر كيدهم للإسلام، لم يكن عقابهم إلا بمنع النبي من الاستغفار لهم والصلاة على من مات منهم، وكذلك بمنعهم من الغزو معه، والله لم يذكر عقابًا صريحًا لهم إلا إحباط أعمالهم في الدنيا والآخرة، والمصير إلى النار في الآخرة، ولم يؤثر عن المنافين بالإغراء بقتلهم إلا في موضع واحد "لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا * مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا" [سورة الأحزاب، الآية 60، 61]. فالعقاب هنا ليس لنفاقهم في حد ذاته، بل لموقفهم في غزوة الأحزاب ومولاتهم للكفار، وسعيهم بالفساد في هذا الموقف، فهو من أجل إرجافهم لا من أجل نفاقهم، فهي بمثابة الخيانة العظمى، وجزائها القتل[21].

ومن ثم ثبتت الحرية الدينية للمرتد وهذا هو المذهب الجديد، والذي تفرد به المؤلف وضمن كتابه حيثيات بحثه وأدلته، وعليه فلا يكون هناك فرق في الدعوة بين المرتد ومن لم يسبق له إسلام، وكل منهما يكتفى بدعوته للإسلام مرة واحدة بالتي هي أحسن، ولا يُلزم في المرتد أن يستتاب أبدًا كما ذهب إلى ذلك النخعي، وكذلك يجب على من يُسلم أن يؤخذ إلى الإسلام بالاختيار في الابتداء؛ ليكون إسلامه صحيحًا، وهذا شرط يجب أن يكون على الدوام، ولا يصح لأحد أن يُسلب منه هذا الحق؛ لأن الله هو الذي أعطاه هذا الحق في الدنيا، واستأثر بحسابه في الآخرة، فلا يكون لغيره سلطانًا عليه، ولا يسلبه هذا الحق.

ويرى المؤلف: إن العقاب في الآخرة على اعتقاد الكفر لا ينافي الحرية الدينية، فالعقاب في الآخرة على الكفر فيه تأثير إلى حد ما عند من يؤمن به؛ لأنه قد يحمله على النظر بالتخويف منه، ولكنّ هذا لا يصل إلى حد الإلجاء، وإنما يحمله على النظر فيما يدعي إليه باختياره. وإن قيل: لم لا يعذر في الآخرة من نعطيه الحرية في البقاء على الكفر ولا نعاقبه عليه بشيء في الدنيا؟

قيل: لأن من نعطيه الحرية الدينية في الدنيا ولا نعاقبه على اختياره؛ لأنه إما يعرف الحق ويعاند، وإما أن يكون جاهلا له، فإن كان يعرف الحق ويعاند فعقابه في الآخرة، وإن كان لا يعرف الحق فيكون مقصر؛ لأن الله لم يتركه سُدى بل أرسل له من أوضح الدليل، وأعطاه العقل الذي يمكنه أن يصل به إليه، إذا أخلص النية.


[1]- لمعرفة قصة الكتاب وسبب تأليفه، انظر مقال الباحث على موقع ذوات بعنوان: عبد المتعال الصعيدي.... الأزهري المجدد.

http://www.thewhatnews.net/post-page.php?post_alias=_%D8%B9%D8%A8%D8%AF_%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AA%D8%B9%D8%A7%D9%84_%D8%A7%D9%84%D8%B5%D8%B9%D9%8A%D8%AF%D9%8A_..._%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%B2%D9%87%D8%B1%D9%8A_%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AC%D8%AF%D9%91%D8%AF&category_alias=%D8%B0%D8%A7%D9%83%D8%B1%D8%A9_%D8%A7%D9%84%D8%AA%D9%86%D9%88%D9%8A%D8%B1

[2]- عضو جماعة كبار العلماء، وشيخ كليتي الشريعة والأصول بجامعة الأزهر.

[3]- عبد المتعال الصعيدي: الحرية الدينية في الإسلام، الهيئة المصرية العامة للكتاب، مكتبة الأسرة، 2012م، ص 9

[4]- نفسه، ص 14

[5]- نفسه، ص 29

[6]- نفسه، ص 33

[7]- رواه الطبري في تفسيره، عند تفسير قوله تعالى: "لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ".

[8]- الحرية الدينية في الإسلام، ص 39

[9]- أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الإيمان، باب فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ.

[10]- الحرية الدينية في الإسلام، ص 52

[11]- نشر بمجلة الأزهر، جزء شوال من عام 1374هـ.

[12]- الحرية الدينية في الإسلام، ص 57

[13]- نفسه، ص 59

[14]- نفسه، ص 61

[15]- أخرجه مالك في الموطأ، كتاب الأقضية، باب القضاء فيمن ارتد عن الإسلام.

[16]- نُشر بمجلة الأزهر، جزء شعبان من عام 1374هـ.

[17]- أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم، باب حكم المرتد والمرتدة واستتابتهم.

[18]- أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب: الديات، باب: قوله تعالى: (أن النفس بالنفس). ومسلم في صحيحه، كتاب القسامة- باب ما يباح به دم المسلم.

[19]- أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام.

[20]- الحرية الدينية في الإسلام، ص 81

[21]- المرجع السابق، 127