الفضاء العام العربي في مرحلة ما بعد الإسلامية وما بعد العلمانية


فئة :  مقالات

الفضاء العام العربي في مرحلة ما بعد الإسلامية وما بعد العلمانية

ليس هناك شك في أن الدين أصبح يلعب دورا مهما في الحياة العامة في جميع أنحاء العالم. وفي الشرق كما في الغرب ينظر كثير من الباحثين إلى الدين على أنه سمة مؤسسة للمجالات العامة. وخلافا لتوقعات نظرية العلمانية، يظهر الدين في تزايد مستمر، بدلا من أن تتناقص أهميته في الحياة العامة المعاصرة. إن عودة الدين في السياسة تجاوز الأديان والمناطق الجغرافية ومستويات التنمية الاقتصادية، كما يتضح ذلك من انتشار الحركات الدينية السياسية في جميع أنحاء العالم منذ 1970، وهذا ما دفع بيتر بيرغر ـ أحد مفكري الفكر العلماني المعاصرـ أن يؤكد في كتابه The Desecularization of the World: Resurgent Religion and World Politics أن "العالم اليوم أصبح أكثر تدينا من أي وقت مضى، وفي بعض البلاد يتجلى ذلك بدرجة أكبر"، وأن "مجمل أدبيات المؤرخين وعلماء الاجتماع حول "نظرية العلمنة" خاطئة تماما"(2). إن الدين عاد من "المنفى" بشكل جزئي بعد الثورة الإيرانية، وبشكل ملحوظ بعد هجمات الحادي عشر من أيلول، ثم اليوم أثناء الربيع العربي مبشرا بالانحسار التدريجي لنظرية العلمنة وإحياء الحركات الدينية. هذه الاتجاهات المنتشرة في جميع أنحاء العالم، والتي تسعى إلى تعميم الدين "deprivatization" تتحدى توقع تراجع الدين وانسحابه إلى المجال الخاص، ما دفع أحد الباحثين أن يتساءل: "هل هناك من لازال يؤمن بأسطورة العلمانية؟". هذه العودة للدين لا تعني نهاية العلمانية، ولكن تعبير عن تزاوج بين الدين/الإسلام والعلمانية نتيجة عمليتين متداخلتين متكاملتين: دخول الخطاب الإسلامي في مرحلة جديدة، هي مرحلة ما بعد الإسلامية من جهة، ومن جهة أخرى حتم على الخطاب العلماني الدخول في حقبة جديدة، يمكن أن تسمى مرحلة ما بعد العلمانية.

 العالم اليوم أصبح أكثر تدينا من أي وقت مضى، وفي بعض البلاد يتجلى ذلك بدرجة أكبر

يرى كريغ كالهون أن المجال العام البرجوازي الذي نظر له هابرماس، قام بالأخص على الإقصاء، وعدم السماح بالظهور لعدد وافر من الجماهير والجماهير المضادة counterpublics، وأكد أن هؤلاء "المثقفين البرجوازيين والفاعلين السياسيين، كافحوا للفوز بالفضاء الاجتماعي المتحرر من هيمنة الأرستقراطية، ولكن سرعان ما استبعدوا هم أيضا أصوات عامة البروليتارية من المجال العام الذي ساعدوا في خلقه" (309). ما هو أكثر أهمية هنا، هو حقيقة أن أولئك المثقفين والفاعلين السياسيين استلهموا الأيديولوجيات العلمانية والليبرالية التي تقصي الدين من المجال العام. على سبيل المثال، يقول إميل دوركهايم: إن "كل الأديان ولدت عجوزة، أو بالأحرى ميتة". كارل ماركس أيضا اعتبر الدين "أفيون الشعوب"، وأعلن فريدريش نيتشه أن "الله قد مات"؛ لذلك تعامل العلمانيون مع الدين باعتباره من بقايا العصور الوسطى الأوروبية، ومرادف للخرافة والجهل والتفكير الخارق. ما أدى إلى إبعاد الدين من المجال العام وانحساره في الحياة الخاصة. لكن الآن، هناك دلائل منتشرة في كل مكان من تغيير جذري في الذهنيات بسبب الظهور البارز للمقدس، تشير إلى تديين الفضاء العام. وهكذا لم يعد ينظر للدين، باعتباره "شكلا فكريا" من الماضي، أو "معرقلا للنقاش.“conversation-stopper”"

لقد كان المناخ الذي أدى إلى ظهور الفضاء العام علمانيا بامتياز، ما أدى إلى إقصاء الأصوات الدينية، واستمر هذا الوضع حتى أوائل 1980 مع الثورة الإيرانية المستوحاة من العقيدة الدينية، مما نفض عن الدين غبار التاريخ، وحصل تعميمه في المجال العالمي. إن هابرماس قضى معظم حياته يحتفي بالطبيعة العلمانية للمجال العام وضد استخدام "الحجة الأخلاقية المؤسسة دينيا" ضمنه، لكن في الآونة الأخيرة عدل جذريا عن تفكيره. في دراسته "ملاحظات حول مجتمع ما بعد العلمانية"، يؤكد هابرماس أنه خلال "العلمنة، لم يختف الدين بشكل كلي، بل اختفى ببساطة من المجال العام، وصار مسألة خاصة. اليوم يعود الدين إلى المجال العام، يمكنني تحديد هذه العودة للدين في المجال العام بأنها "ما بعد العلمانية". بالإضافة إلى تسليط الضوء على "حدود العقل العلماني"، يرى هابرمس أن "الدين لم يكسب نفوذا في جميع أنحاء العالم فحسب، بل أيضا في المجال العام الغربي. وفي مقاله "الدين في الفضاء العام" يدين هابرماس كل أولئك الذين يحاولون حصر الخطاب الديني في ساحة عامة لإسكاته، وتصفيته نهائيا". الملفت للنظر هو تأكيده على ضرورة وأحقية الخطاب الديني في المجال العام، وانتقاده العقل العلماني في المجال العام بسبب رفضه المطلق منح صلاحية للمنظور الديني. وهكذا يقتنع هابرماس بأهمية التسامح المتبادل بين مسار العلمانية والدين في المجال العام. و يعترف أن المنطق العلماني وحده لا يمكن أن يحوز الحقيقة، وأن المنطق الديني يمتلك بعضها، ولذلك، يجب أن تتم استعادة المنطق الديني إلى الساحة العامة.

تعامل العلمانيون مع الدين باعتباره من بقايا العصور الوسطى الأوروبية، ومرادف للخرافة والجهل والتفكير الخارق

إن المجال العام العربي تأثر أيضا بالتحولات الآنفة الذكر التي شهدها المجال العام العالمي. كانت الحكومات العلمانية العربية المستقلة حديثا، والناشئة تحت نير الاستعمار الأوروبي تعتبر الدين والإسلام على وجه الخصوص مكونا ثقافيا يعمل على سحب الشعب إلى الوراء. على هذا النحو، كان الإسلام في عيونهم يؤدي إلى تقليل فرص مجتمعاتهم من بناء تلك الدولة الحديثة. على هذا الأساس، اكتفوا بالإسلام دين الدولة ومصدر تشريعاتها في الأحوال الشخصية. ومع ذلك، فإن أية علاقة للإسلام بالمجال العام، يتم رفضها و قمعها من طرف الدولة، حيث أدى ذلك إلى فشل الدول العربية في الحفاظ على المجال العام الذي من خلاله يمكن أن يحدث الحوار بين الجماعات ومختلف قطاعات المجتمع. بدلا من ذلك، تصرفت الدولة في المجتمع كمجموعة من بين مجموعات أخرى، وتوفير المجال العام فقط لنخبة الدولة، مما أدى بالنخب المعارضة للبحث عن مجالات أخرى التي يمكن من خلالها الانخراط في السياسة.
وفي هذا السياق، يمكننا أن نفهم قوانين الطوارئ التي سنت من قبل الأنظمة العربية التي حظرت التجمعات العامة في المجال العام، ومنع النقاش الداخلي، ما عدا بين النخبة الموالية لها. الأهم من ذلك، كانت أجهزة النظام العربي تخترق المجال العام، وقد استخدمت الأنظمة العربية سلطتها لاستيعاب المجالات العامة التي تقدم لها الولاء وتسخرها ضد أعدائها.

 يدين هابرماس كل أولئك الذين يحاولون حصر الخطاب الديني في ساحة عامة لإسكاته، وتصفيته نهائيا

إن تدخل الدولة في المجال العام قد قلل من شرعية وفعالية المجال العام، مما دفع النقاد إلى الزعم بأن العالم العربي لا يوجد لديه المجال العام. استمر هذا الوضع حتى ظهور الثورات العربية التي أعادت تشكيل وإعادة تعريف النموذج التقليدي للمجال العام الذي نظّر له هابرماس.

يبدو لافتا أن الرموز والتعبيرات الدينية قد عمت المجال العام العربي، وخاصة بعد الربيع العربي؛ فقد أظهرت الثورات العربية أنه بدلا من إلقاء اللوم على الدين، فالدين ينبغي أن ينظر إليه كقوة رمزية تعبوية يمكن استخدامها لصالح تعزيز قيم الحرية والديمقراطية والعدالة. وكانت المساجد في الثورات العربية المراكز الرئيسة لتعبئة وحشد المحتجين، وأحيانا للحصول على المساعدات والاحتماء من بطش السلطات، ووفرت في بعض البلدان النافذة الوحيدة للاحتجاج. صحيح أن الثورات العربية لم تحمل شعارات دينية، ولم تتبن مطالب دينية، مثل تطبيق الشريعة وتشكيل دولة إسلامية، دون أن تنسحب بالنظر إليها كممثل للجماهير المضادة “subaltern counterpublics”.

الرموز والتعبيرات الدينية عمت المجال العام العربي، وخاصة بعد الربيع العربي؛


كانت الحركات الإسلامية تستخدم كفزاعة ضد الغرب من قبل النخبة العلمانية الحاكمة، لكي يتم رفضهم واستبعادهم من"المجال العام المهيمن"، مما جعلهم يلجؤون إلى بناء "مؤسساتهم كأماكن للجوء" والعمل "في عصر السرية". وهكذا، لم تنسحب الحركات والأحزاب الإسلامية تماما من المجال العام، ولكنهم اعتمدوا أداء المراقبة والحضور performance of surveillance and presence خلال التسعينيات، لكن مع انهيار المعسكر الاشتراكي وانحسار الجهاز الأيديولوجي لليسار العربي أعطى فرصة للإسلاميين لملء الفراغ. ومع ذلك، عندما وصل الإسلاميون إلى السلطة في السودان وإيران وأفغانستان، فشلوا إلى حد كبير في تقديم نموذج بديل للتنمية الاجتماعية والاقتصادية. وقد أدى هذا الفشل للإسلام السياسي إلى ظهور اتجاه جديد من داخل الحركات الإسلامية وصل نضجه أثناء وبعد الثورات العربية. ويسمى هذا الاتجاه الجديد "ما بعد الإسلاموية". إن مصطلح ما بعد الإسلامية ليست فكرة جديدة، فقد صاغها من قبل المفكر الإيراني آصف بيات في أواخر التسعينيات لوصف التحولات في تجربة الإسلاميين في السياق الإيراني في دراسته المعنونة بـ "قدوم المجتمع ما بعد الإسلامي"، ثم لاحقا في سياق أوسع في كتابه "الإسلام ديمقراطيا: الحركات الاجتماعية والتحول الما بعد الإسلامي". يحدد بيّات ما بعد الإسلامية post-Islamism كمشروع، ومحاولة واعية لوضع تصور منطقي واستراتيجي وطرائق أساسية لتجاوز الحركات الإسلامية التقليدية في المجالات الاجتماعية والسياسية والفكرية. ما بعد الإسلاموية ليست معادية للإسلام ولا غير إسلامية أو علمانية، بل هو تيار يسعى لدمج التدين والحقوق والحرية في الإسلام. ومحاولة أيضا لتحويل المبادئ الكامنة وراء الحركات الإسلامية التقليدية رأسا على عقب عبر التأكيد على الحقوق بدلا من الواجبات والتعددية بدلا من الصوت الرسمي الفردي، والتاريخية بدلا من الكتب المقدسة الثابتة، والمستقبل بدلا من الماضي. إن مشروع ما بعد الإسلامي يريد أن يزاوج الإسلام مع الاختيار الفردي والحرية، مع الديمقراطية والحداثة، لتحقيق ما دعاه البعض بـ "الحداثة البديلة". باختصار، "إذا كان الإسلام الحركي مزج بين الدين و الواجبات، فان مشروع ما بعد الإسلامي يؤكد على التدين والحقوق". الملاحظ هنا هو أن ما يجمع ما بعد الإسلامية وما بعد العلمانية تحركهم نحو سياسات الليبرالية المتسامحة مع الدين.

إن ما يمكن استنتاجه هنا هو حقيقة أن الربيع العربي أدى إلى إعادة تعريف المجال العام العربي بعد فشل كل المشاريع العلمانية والإسلامية؛ فمن الضروري أن نؤكد أن ما بعد الإسلامية ليست نهاية الإسلامية. بل هو أحد التيارات المنشقة من الإسلام الحركي الذي من شأنه أن يميز المجال السياسي العربي للعقدين المقبلين. صحيح أن خطاب الحركات والأحزاب الإسلامية كانت متنوعة ومجزأة، ولكنها جميعا اتفقت على إنشاء دولة إسلامية. لكن خلال وبعد الربيع العربي تحولت معظم تلك الأصوات المتعطشة لتأسيس الدولة الإسلامية إلى مدافعين أوفياء لإقامة دولة مدنية.

 مصطلح ما بعد الإسلامية ليست فكرة جديدة، فقد صاغها من قبل المفكر الإيراني آصف بيات في أواخر التسعينيات لوصف التحولات في تجربة الإسلاميين في السياق الإيراني


ونتيجة لهذا التحول الأيديولوجي، يؤكد آصف بيات أن العديد من الانتفاضات العربية هي "revolutions" (خليط من الإصلاح والثورة) ما بعد الإسلامية التي تجاوزت سياسة الحركات الإسلامية من حيث رفضهم لكل من الدولة الإسلامية السلطانية والدولة العلمانية المستبدة. على سبيل المثال، صرحت نادية ياسين، ابنة الراحل عبد السلام ياسين مؤسس جماعة العدل والإحسان في المغرب لوكالة فرانس برس أنه "يمكن القول بصوت عال و واضح أن حركة العدل والإحسان لا تدعو إلى تأسيس الدولة الدينية، بل تدعو إلى إنشاء الدولة المدنية، وهذه هي المرة الأولى الذي نقول هذا الكلام بطريقة واضحة، لأن السياق ظهور حركة 20 فبراير يتطلب ذلك". واليوم يظهر أن برلمانيي حزب العدالة والتنمية يقللون من شأن المواضيع الدينية والمسائل المتصلة بالإيمان الديني لصالح المسائل السياسية أكثر. وهذا يقودني إلى القول إنه في سياق الربيع العربي، بدأت البراغماتية السياسية تعطى لها الأولوية على حساب الإيديولوجيات الحزبية. وفي السياق نفسه، في مقالته "لن تكون هناك ثورة إسلامية" (2013) يجادل أوليفييه روي "بأن هناك تباينا متزايدا بين المراجع الأيديولوجية والممارسات الحقيقية". وبالتالي، فإن مرحلة ما بعد الإسلاميين تتسم بما يسميه غفار حسين "الهوس بالواقع".

 المجال العام العربي منذ الربيع يبدو أكثر شمولية، ويستوعب جميع الفئات الاجتماعية من أجل النقاش العقلاني، والإسلاميون في هذه المرحلة لا يتمتعون باحتكار الدين في المجال العام

وعلى النقيض من المجال العام البرجوازي الذي تحدث عنه هابرماس، فإن المجال العام العربي منذ الربيع يبدو أكثر شمولية، ويستوعب جميع الفئات الاجتماعية من أجل النقاش العقلاني، وحتى الإسلاميون في هذه المرحلة لا يتمتعون باحتكار الدين في المجال العام. هناك حركات أخرى، مثل الحركات الصوفية والسلفية والجهادية..الخ. وهذا يعني أن تأثير الدين في المجال العام يزداد تعقيدا؛ لأن الناس يمكن أن تستعمله لأغراض متعددة، وهو بطبيعته متعدد الأبعاد والأصوات في المجال العام. وبإيجاز، فإن الربيع العربي أعاد تشكيل و تحرير المجال العام العربي من تصنيفات وقيود المجال العام التقليدي، كما أوضح سابقا هابرماس. المجال العام العربي الآن في طريقه إلى أن يصبح مفتوحا لجميع الإيديولوجيات والفئات الاجتماعية.
في الختام، لقد كان الدين في المجال العام على المستوى العالمي خفيا وسريا. ولكن مع عودة الدين إلى قلب الثقافة والسياسة، أصبح المجال العام يعيد تعريف نفسه دون تهميش الدين. وبفضل الربيع العربي نزعم أن المجال العام يستوعب دينمايتين تتطوران باطراد، هما: ما بعد الإسلامية وما بعد العلمانية، وهما اللتان تعيدان تشكيل العالم العربي من جديد؛ لذلك فإننا نشهد بوادر بزوغ فجر ليبرالية عربية جديدة، تستأنف مسيرة الليبراليين العرب الأوائل منذ القرن الثامن العشر، كما بيّن ألبرت حوراني في عمله الرائد "الفكر العربي في العصر الليبرالي" 1798-1939.