الفكر التربوي عند الجاحظ


فئة :  مقالات

الفكر التربوي عند الجاحظ

الفكر التربوي عند الجاحظ:

قراءة تحليلية

 

حسن الطويل

توطئة:

إذا راجعنا تاريخ التلقي الذي تفاعل مع تراث الجاحظ قديما وحديثا، يمكننا أن نسجِّل ملاحظة بارزة، وهي المتعلقة بتعدد الصُّور العلمية التي كوَّنها القراء عن هذا المؤلِّف العربي الرائد؛ فبالنظر إلى تنوع إنتاجاته وثرائها ورصانتها، قيل عنه، في سياق التلقي العربي القديم. إنه بلاغي، ومتكلم، ولغوي، وأديب، وقصَّاص، وصاحب أخبار، وفي جميع هذه الانتماءات العلمية تُسند إليه صفة النبوغ من قِبل قرائه والمتأثرين بفكره ومنهجه في الكتابة[1]. وفي سياق التلقي الحديث، وتحت سطوة التراكم الذي تحقق في نظريات المعرفة الغربية ومناهجها، ذهب باحثون إلى القول إن كتب الجاحظ تتضمن إشارات علمية بالغة الأهمية، وهي الإشارات التي نقف عليها الآن بصورة مفصَّلة (في رأي هذا الفريق من الباحثين) في حقول علمية حديثة، مثل السميائيات، والأسلوبية، ونظرية الأجناس الأدبية[2] ...!

وما نريد قوله من إثارة مسألة التلقي هذه، يتمثل في التنبيه إلى أن الجاحظ لم ينل كلَّ هذا الاحتفاء المذكور صدفة فقط؛ فالواقع أن إنتاجه المتنوع والرصين، يتضمن الكثير من الفوائد التخصصية المشروطة بسياقها الفكري والحضاري. ومن هذه الفوائد ما قدَّمه من ملاحظات تترجم نظرته إلى أساليب تربية الصبيان، وما يتصل بذلك من تصورات بخصوص مؤسسات التعليم والمعلِّم وقيم التربية، وما قدمه، أيضا، في حديثه عن التأديب والمؤدبين، عبر سوقه الأخبار الخاصة بذلك، وعبر تعليقاته الرصينة عن جزئيات الموضوع. فالجاحظ، وهو ينساق وراء غواية الاستطراد ورغبته في تأسيس بيان عربي يشمل سائر الخطابات الإنسانية ذات الفعالية الإبداعية والمجتمعية، وجد نفسه يتحدث في التربية وقضاياها المعروضة على النقاش المعرفي في القرن الهجري الثالث، انطلاقا من أسئلة الفعالية والجدوى.

وفي هذا البحث سنحاول تحقيق هدفين؛ الأول يتمثل في تقديم الجاحظ في صورة المشتغل بقضايا التربية، ولن نهتم في هذا الباب بأسئلة السبق المعرفي، أو عقد المقارنات التفاضلية بين الماضي والحاضر، أو غيرها من الأسئلة القريبة من التناول الإيديولوجي. أما الهدف الثاني، فإنه يتحدَّد في تنظيم، وتنسيق، وتفسير ما قدَّمه الجاحظ من تصورات تعليمية في رسالته المعروفة بـ "رسالة المعلمين"[3]، انطلاقا من خصوصية الفكر العربي القديم، واستفادة من الطفرة التي تعرفُها حقول علم التربية المعاصرة.

وقبل الشروع في تناول التفاصيل المتعلقة بهاذين الهدفين، سنعمل على إيجاد الروابط بين أفكار الجاحظ في التربية وبين تفكيره البلاغي، باعتبار أن الجاحظ يُنسب إلى البلاغة أول ما يُنسب، وهذا ما يفرض علينا أن نبحث في موقع الفكر التربوي داخل الإطار البلاغي الذي يوجِّه تفكيره كما يصرّح هو نفسُه في مناسبات كثيرة؛ ففي مواضعَ عديدة من مؤلفاته الغزيرة، نجده يخبر القراء أنه يصدر عن سياسة بلاغية في التأليف، من ذلك حديثه عن طُرق استدراج القراء إلى متابعة المقروء، وعن المراوحة بين الجد والهزل للمحافظة على نشاط القارئ، وعن انقسام سياسة الإفهام إلى مراتب خاضعة لشروط السياق وطبيعة المخاطَب (المنازِع - المذاكر - المستنصح - التلميذ ...). لهذا الاعتبار إذن، سننطلق من بلاغة الجاحظ لمحاولة الوصول إلى خصوصية فكره التربوي.

1_ البلاغة والتربية: التآلف والانصهار

من كلام الجاحظ عن بلاغة الخطاب؛ أي عن فعالية التواصل الإنساني في المقامات المخصوصة، ما أورده في كتاب "البيان والتبيين":

"مدار الأمر والغاية التي إليها يجري القائل والسامع، إنما الفهم والإفهام؛ فبأي شيء بلغت الإفهام وأوضحت عن المعنى؛ فذلك هو البيان في ذلك الموضع".[4]

"للكلام غاية ولنشاط السامعين نهاية، وما فضُل عن قَدر الاحتمال ودعا إلى الاستثقال والملال، فذلك الفاضل هو الهَذَر، وهو الخطل، وهو الإسهاب الذي سمعت الحكماء يعيبونه".[5]

في هاذين النَّصين يبين الجاحظ أن وظيفة البلاغة (يسميها البيان في مناسبات كثيرة) هي الفهم أولا، ثم إفهام السامع وتوضيح المعاني المقصودة بالعبارة الملائمة ثانيا. وفي النص الثاني تحديدا، يربط الجاحظُ فعاليةَ الخطاب بحال المستمع؛ فلكي يكون الكلام ناجعا ومؤديا وظيفته المنوطة به عليه أن يراعي حال السامع ومتطلباته وخصوصيته. والجاحظ، كما هو معروف، يولي السامع أهمية كبيرة؛ فالخطاب عنده يتلون حسب ميولات السامع، وأهوائه، وتكوينه الشخصي.

وبخصوص تقسيم وظائف البلاغة إلى قسمين كبيرين، هما الفهم والإفهام، نستحضر حديث الباحثين عن رغبة الجاحظ في تأسيس نظرية للبيان تشمل تمثل المعاني والأشياء في الذهن، والقدرة على إبلاغها بطريقة سليمة تحققُ المنفعة[6]. وهذا المشروع الكبير، وإن جاء في صورة كتابة استطرادية[7] تفتقد إلى النظام المعهود في كثير من المؤلفات القديمة[8]، فإنه يقدِّم إضاءات مفيدة بخصوص طرائق التبليغ ضمن مقامات القول وصيغه؛ فقد تحدث الجاحظ عن بلاغات متعددة في مؤلفاته، مثل بلاغة الخطب السياسية، وبلاغة النادرة، وبلاغة الشعر. ففي كل نوع من هذه الأنواع الخِطابية يسلك المتلكمُ مسلكا خاصا لتبليغ قوله إلى المخاطَب، وخلق التفاعل المثمر معه. ولعل الجاحظ، وهو يضع لبنات نظريته البيانية الشاملة هذه، كان يؤسس لبلاغة الخطاب الإنساني في جميع مستوياته الإبداعية والتداولية.

وما هو لافت في تنظير الجاحظ لبلاغة الخطاب، أنه لا يتحدث عن قواعد مطلق الخطاب، بل يحرص على توضيح مقولات الأنواع الخِطابية، انطلاقا من خصوصيتها البنائية والسياقية. وهذا معناه أن البلاغة القريبة من واقع النصوص هي البلاغة المتفاعلة مع التعدد الذي يسم الخطابات، ويجعلها متفردة في بنيتها وأساليبها.

ومن ضمن هذه البلاغات التي تعرض لها الجاحظ، ما يتعلق ببلاغة الخطاب التربوي؛ أي ما يتعلق ببلاغة ذلك الخطاب الناشئ في مقام تعليم الصبيان، والذي تتحدَّد وظيفته في تعليم الصبيان وإكسابهم المهارات المطلوبة، وفي مساعدتهم على الانخراط في الحياة عامة، وفي متابعة التعلم في صنوف العلوم خاصة. وقد تنبه الجاحظ إلى خصوصية هذا الخطاب، انطلاقا من خصوصية المقام التربوي، وعناصر هذا المقام حسب ما استنتجناه من "رسالة المعلمين" هي:

_ الصبي المتعلم (المتلقي المتفاعل): يُوجِّه الجاحظ المعلمين إلى ضرورة الإحاطة بحاجياته وخصوصيته النفسية والعمرية والحركية.[9]

_ هدف التعلم (المقصدية): تتلخص عند الجاحظ في تأهيل المتعلم معرفيا وأخلاقيا من أجل الانخراط الفعال في المجتمع.[10]

_ المعلِّم: يعادل الخطيب في الخُطبة، وقد بيَّن الجاحظ الشروط التي يجب أن تتوفر فيه ضرورة. [11]

_ المعرفة التعليمية: تحدث الجاحظ عن طرق انتقائها وإمكانيات التصرف فيها، لجعلها ملائمة للمتعلمين ولأهداف التربية وسياستها.[12]

انطلاقا من هذه الشروط المكوِّنة لخصوصية الخطاب التربوي، يمكن لنا قراءة مقترحات الجاحظ التربوية وتحليلاته للممارسات التعليمية من منطلق الوصف ووضع الفرضيات وتأسيس القواعد؛ فهو ينظر إلى الممارسة التربوية، بوصفها خطابا بلاغيا تجري عليه شروط بقية الخطابات الأخرى في ما يرتبط بالجدوى، والفعالية، وخلق المناسبة بين القول ومقامه ومتقبِّليه.

وإذا كان الأمر بهذه الصورة، فإن المعلِّم وهو يصوغ خطابه التربوي، عليه أن ينطلق من قواعد البلاغة، مع الانتباه إلى أن البلاغة لا يُقصد بها، في هذا المقام، دلالتها التي استقرت عليها في كتب البلاغيين العرب المتأخرين؛ أي البلاغة بوصفها قواعد مجردة في بناء الأسلوب، بل يُقصد بها تلك المقولات المتفاعلة مع الخطاب البلاغي التربوي. وإذا انطلق المعلِّم من هذه البلاغة، فإنه سينتبه إلى الخصوصيات المقامية للخطاب التربوي، ويعمل على ملاءمة عمله معها، وهذه الخصوصيات متعلقة بالمتعلم، والمقصدية، وطبيعة المعرفة المقدَّمة، ونسقها التطوري؛ أي ما يتعلق بالتدرج في بناء المعرفة التربوية، بناء على حاجيات المتعلم، وخصوصيته، ونمط التعلمات.[13]

وقريب من هذه الفهم الذي يربط البلاغة بحقل التربية، ما يراه أولفيي روبول بخصوص التدخل الذي تسجله البلاغة في الممارسة البيداغوجية؛ إذ يرى أن ما يقوم به المعلِّمون، لا يخرج عن الممارسة البلاغية، يقول: "لا يمكن للتدريس أن يستغني عن البيداغوجيا، وكل بيداغوجيا بلاغة. فالمدرِّس في الواقع، متكلِّم مثله مثل الآخرين، يجب عليه جذب الانتباه والحفاظ عليه، وتيسير الاسترجاع، وتحفيز الجهد"[14].

ينطلق روبول في كلامه عن العلاقة بين التدريس والبلاغة من مفاهيم البلاغة الحجاجية، والتي ترى أن الخطاب الفعال هو الخطاب المؤثر في الجمهور والقادر على إقناعه وجذب اهتمامه، ولذلك كان التدريس في تصوره ممارسة حجاجية تروم إقناع المتعلِّم، وجذب اهتمامه، وإشراكه في الممارسة البيداغوجية بصورة إيجابية.

فإذا كانت البلاغة، في صورتها التحليلية المنفتحة على نجاعة سائر الخطابات الإنسانية، تهتم بالخطاب التربوي، وتقدِّم نظرتها إلى تكوينه ووظائفه وسياقاته، فإن إسهام الجاحظ البلاغي يقدم، هو الآخر، مقترحاته لبناء خطاب تربوي متوافق مع الخصوصية الثقافية للمجتمع العربي القديم.

2_ قيم التربية ومنطلقاتها:

ألَّف الجاحظ "رسالة المعلمين" للردِّ على رجل أساء إلى فئة المعلمين، ووصفهم بأوصاف قبيحة، وتغافل عن وظائفهم الجليلة داخل المجتمع، ورماهم بتهم مسيئة. وحسب الجاحظ، فإن هذا الكلام المسيء، يترجم العلل الذاتية لصاحبه، جاء في صدر الرسالة: "أعانك الله على سَورة الغضب، وعصمك من سَرف الهوى، وصرف ما أعارك من القوة إلى حبِّ الإنصاف، ورجح في قلبك إيثارَ الأناة. فقد استعملت في المعلمين نوك السفهاء، وخطل الجهلاء، ومفاحشة الأبذياء، ومجانبة سبل الحكماء، وتهكُّم المقتدرين، وأمن المغترين".[15]

فنتيجة لكل هذه العلل (الاستسلام للغضب والهوى – البعد عن الإنصاف والأناة - استعمال أساليب الوضعاء في الوصف والتناول وإصدار الأحكام...)، تكلم هذا الرجل بكلام غير دقيق في حق فئة لها أهمية كبيرة في قيام أمر الحياة. وقد تبيَّن للجاحظ أن هذا الكلام يستوجب الرد والإبطال، ولذلك شرع في حشد الحجج التي تعلي قدر المعلمين، وتعيد تصويرهم في سياق تعرضوا فيه للذم والإقصاء.

ولـــمَّا كان الجاحظ يحاجج على هذه الدعوى، لَــمَّح إلى القيم التي يجب أن تؤطر مشروع التربية، وعلى رأسها قيمة تقدير المعلمين؛ ذلك أن نجاح التعليم لا يتأتى في ظل إقصائهم والتغافل عن قيمتهم. وقد استعمل الجاحظ حجة الوصل، ليبيِّن قيمة الوظيفة التي تؤديها هذه الفئة في المجتمع؛ فبعد حديثه عن ضرورة الكتاب في حياة المرء والمجتمع، بيَّن أن الفضل في حفظ الكُتب، ونقلها، ومدارسة ما فيها، وتطويرها، يعود إلى المعلمين: "وليس علينا لأحد في ذلك المنّة بعد الله الذي اخترع ذلك لنا ودلَنا عليه، وأخذَ بنواصينا إليه، ما للمعلمين الذين سخَّرهم لنا، ووصل حاجتهم إلى ما في أيدينا. وهؤلاء هم الذين هجوتهم وشكوتهم وحاججتهم وفحشت عليهم [...]"[16].

انطلاقا من حجة الوصل هذه؛ يصل الجاحظ بين الكِتاب والمعلمين، ويجعل الفضل في تنوير المجتمع وتثقيفه عائدا إليهما معا، ويبيِّن أن وجود المعلمين يعني وجود الكتاب والمعرفة والعلوم. وواضح أن هذه الحجة تتقاطع مع حجة أخرى، هي حجة النتيجة، فلكي يقنع الجاحظ القراء بفضل المعلمين وضَّح ما ينتج عن وجودهم من مصالح عظيمة: "ولو نظرت من جهة النظر علمت أن النعمة فيهم عظيمة سابغة، والشكر عليها لازم واجب".[17]

إن الجاحظ وهو يريد الإقناع بضرورة النظر بإجلال إلى المعلمين، أشار إلى ما يضطلعون به من أدوار إيجابية (حجة النتيجة)، كما أشار إلى صلتهم الوثيقة بالكتاب، بحكم سهرهم على إنشائه، ومدارسته، وشرحه (حجة الوصل). وعقب الإتيان بهاتين الحجتين المهمتين، يجد الجاحظ الفرصة مواتية للانتقال إلى الحديث عن أساليب التربية، أو ما يسميه هو "رياضة الصبي"[18]، عبر أبواب متنوعة وغنية. فالواضح؛ أن الحديث عن قيمة المعلمين داخل المجتمع كان استراتيجية حجاجية، يريد بها التمهيد لرسالته، لكي تحقق انسجامها ووظيفتها التأثيرية؛ فلكي يستقيم الحديث عن التربية وأساليبها لابد من تمهيد، يوضِّح قيمة هذا المعلِّم الساهر على التعليم.

ومن التُّهم التي حاول الجاحظ تبريء المعلمين منها، ما يقوله أولياء الأمور عن تقصير المعلمين إذا رأوا أن الصبِيَّ لا يتقدِّم في التحصيل: "ورثيتَ لآباء الصبيان من إبطاء المعلمين عن تحذيقهم، ولم ترث للمعلمين من إبطاء الصبيان عما يُراد بهم، وبعدهم عن صرف القلوب لما يحفظونه ويدرسونه. والمعلمون أشقى بالصبيان من رعاة الضأن [...]"[19]. ولعلَّ إبعاد التقصير عن المعلمين، والإصرار على فتح مشكلة التباطؤ في التحصيل على فعل التعلم ذاته، وعلى تركيبة الصبي الذهنية والنفسية والحركية، وما تمثله من صعوبات في تفعيل التربية، أمران من شأنهما توسيع النظرة التقويمية إلى الفشل التربوي، والكف عن اختزالها في ممارسات المعلمين.

وقريب من هذه التهمة، أشار الجاحظ إلى مسألة الحكم على أداء المعلمين عامة، انطلاقا من تقصير فئة قليلة: "وحكمتَ على المجتهدين بتفريط المقصرين"[20]. وهذا التعميم يؤكد ضَعف الحجة التي يستند إليها من يذم المعلمين، ويبرِزها في صورة كلام فاقد للموضوعية.

وعقب هذا الحديث عن قيمة تقدير المعلمين، يشير الجاحظ إلى ضرورة تقدير المعرفة العلمية نفسِها، عبر إسناد تدريسها إلى الأكفاء المشهود لهم بالتمكُّن في ميدان اختصاصهم، وعدم التساهل في إسناد تخصُّص معين إلى من لا يُحسنه: "وقد يكون الرجل يحسن الصِّنف والصِّنفين من العلم، فيظن بنفسه عند ذلك أنه لا يحمل عقلَه على أي شيء إلا نفذ به فيه، كالذي اعترى الخليل بن أحمدَ بعد إحسانه في النحو والعروض، أن ادَّعى العلم بالكلام وبأوزان الأغاني، فخرج من الجهل إلى مقدار لا يبلغه أحد إلا بخذلان الله تعالى".[21]

ومن المؤكد أن هذا الحديث عن تقدير المعرفة يمثل قيمة أخرى ينطلق منها التعليم الناجح؛ وقد عمد الجاحظ إلى مناقشة المعرفة وضرورة إسنادها إلى أهلها من خلال قيمة القدوة المعرفية. يقول: "ومن المعلمين ثم من البلغاء المتأدبين: عبد الله بن المقفع، ويُكنى أبا عمرو، وكان يتولى لآل أهتم، وكان مُقدَّما في بلاغة اللسان والقلم والترجمة، واختراع المعاني وابتداع السِّير".[22]

إن الربط هنا بين المعلِّم والقدوة، يقودنا إلى تغيير النظرة الخاطئة إلى التعليم (والتي تقصر ممارسة فعل التعليم على معلمين يحترفون تلقين الحروف والأرقام للصبيان)، والنظر إلى المعلِّم بوصفه عالِما في اختصاصه، غير أن بروز عالِم في تخصص معين، لا يمنحه حق التصدي لتدريس تخصصات أخرى اطلاعُه عليها يسير. فهذا عبد الله بن المقفع، ورغم إشادة الجاحظ به في مجالات البلاغة، إلا أنه انتقده بشدة عندما حاول التأليف في علم الكلام وأدواته في هذا التخصص لم تكتمل بعد. يقول الجاحظ في هذا الصدد: "وكان [عبد الله بن المقفع] ضابطا لحكايات المقالات، ولا يعرف من أين غُرَّ المغترُّ ووثق الواثق"[23].

خلاصة هذا المحور إذن، إن الجاحظ أومأ في "رسالة المعلمين" إلى ثلاث قيَّم تنطلق منها التربية الناجحة، وهي:

- قيمة تقدير المعلمِّين وإجلالهم

- قيمة تقدير المعرفة العلمية بناءً على التخصص والاقتدار

- قيمة بناء القدوة في مجال التربية.

3_ الأساليب الناجعة لتربية الصِّبيان:

أورد الجاحظ في "رسالة المعلمين" عددا من الأساليب التربوية القادرة على تجويد العملية التعليمية، وعلى جذب الصبيان إلى التعلم، وحثِّهم على التفاعل الإيجابي مع المعرفة. وقد ارتأينا تنسيق هذه الأساليب في هذه المحاور:

3_1 "الصبِيُّ عن الصبيِّ أفهم":

يقول الجاحظ: "وقد قالوا: الصبي عن الصبي أفهم، وبه أشكل. وكذلك الغافل والغافل، والأحمق والأحمق، والغبيّ والغبيّ، والمرأةُ والمرأة. قال الله تبارك وتعالى: (وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلاً) [الآية 09، سورة الأنعام]؛ لأن النَّاس عن الناس أفهم، وإليهم أسكن"[24].

يبيِّن الجاحظ في هذا النَّص أن الصبيان يميلون إلى ما يُسمى بالتعلم الأفقي؛ أي إنهم يفضلون التعلم من بعضهم على التعلم من غيرهم، وهم في هذا المذهب، يشبهون جميع الفئات الإنسانية المذكورة في النص؛ ذلك أن الفرد دائما ما يميل إلى التعلم من فرد مماثل له في الخصائص، والله سبحانه وتعالى، حسب ما جاء في النص المنقول، راعى هذه الخاصية في التعلم، واختار أن يرسل إلى الناس رسولا من جنسهم، ولم يرسل إليهم مَلكا من الملائكة.

ولازم هذا المبدأ في التعلم، حسب الجاحظ، أن المعلِّم عليه أن يعمل بالأساليب التي تحقِّق التعلم الأفقي، من ذلك أن يتخلى عن صورته الطبيعية في الحوار وتوجيه الخطاب، ويعوِّضَها بصورة تجعل خِطابه أقرب إلى طبائع الصِّبيان في تبادل القول، وطرق الإعراب عن المعارف. يقول الجاحظ شارحا هذا الأسلوب أكثر: "ألا ترى أن أبلغ الناس لسانا، وأجودهم بيانا وأدقهم فطنة، وأبعدهم روية، لو ناطق طفلا أو ناغى صبيا، لتوخى حكاية مقادير عقول الصبيان، والشبه لمخارج كلامهم، وكان لا يجد بُدا من أن ينصرف عن كل ما فضَّله الله به بالمعرفة الشريفة، والألفاظ الكريمة"[25].

وإلى جانب محاكاة المعلمين للصبيان، يتحقق التعلم الأفقي عبر وسيلة أخرى، تتمثل في حث الصبيان على التعلم من بعضهم: "[على المعلِّم] أن يأخذهم [الصبيان] بالمناقلة، والمناقلة من أسباب المنافسة"[26].

ولعل مقترحات الجاحظ التربوية هذه تتجاوز أسلوب التلقين بوضوح تام، ومن يقول إن التعليم في الثقافة العربية القديمة كان يعتمد على التلقين كليَّة، لا يبدو أنه قد اطَّلع على مثل هذه الإلماعات التربوية الرائدة. فالجاحظ، وهو يلحّ على ضرورة خلق المنافسة الإيجابية بين الصبيان، وعلى محاكاة المعلمين لعقول الصبيان، كان ينطلق من فهم مركَّب للعملية التربوية؛ فقد كان واعيا بخصوصية المتعلم النفسية والذهنية؛ وذلك ما دفعه إلى الحديث عن أساليب تربوية تراعي هذه الخصوصية من جهةٍ (محاكاة عقول الصبيان)، وتستثمرها في تحقيق النجاعة من جهة أخرى (خلق المنافسة).

3_2 الجمع بين الحفظ والاستنباط:

قدَّم الجاحظ في "رسالة المعلمين" رأيه في مسألة الحفظ، وبيَّن أن الاعتماد عليه بشكل مُطلق أمر يعلِّم الاتِّكال، ولا يساعد الصبيان على تنمية مواهبهم وصقلها. وقد استدَّل على ذلك بكلام أهل الحكمة: "وكَرهَت الحكماء الرؤساء، أصحاب الاستنباط والتفكير، جودةَ الحفظ، لمكان الاتِّكال عليه، وإغفال العقل من التمييز، حتى قالوا (الحفظ عِذْقُ الذِّهن). ولأن مستعمل الحفظ لا يكون إلا مُقلِّدا، والاستنباط هو الذي يفضي بصاحبه إلى برد اليقين، وعزّ الثقة"[27].

غير أن الجاحظ يعود ليستدرك على مضمون هذا الاستشهاد، بالقول إن الموازنة بين الحفظ والاستنباط هي الخطة الصحيحة لتعليم جيد؛ فكل واحد منهما يحتاج إلى الآخر، ويطلب دعمَه لتترسخ الأفكار والمواهب في الأذهان: "والقضية الصحيحة والحكم المحمود: أنه متى أدام الحفظ أضرَّ ذلك بالاستنباط، ومتى أدام الاستنباط أَضرَّ ذلك بالحفظ"[28]، ومعنى هذا الكلام أن الحفظ مطلوب في إطار مساعدته على ترسيخ الاستنباط.

وإذا بحثنا عن تفسير ثقافي لتنبيه الجاحظ على سلبيات الاعتماد الكلي على الحفظ، يمكننا العثور عليه في نسق التفكير العقلي الذي تتميز به فرقة المعتزلة[29] عن بقية الفرق الكلامية الأخرى. والجاحظ، كما هو معلوم، يعدُّ رأسا من رؤوس المعتزلة، ودفاعه عن استخدام العقل (الاستنباط) أمر شائع في مؤلفاته الغزيرة؛ فهو دائم التنبيه إلى ضرورة توظيف العقل في فهم نصوص الشرع، وظواهر الحياة عامة.

ولأن الجاحظ أقر بوظيفة الحفظ الداعمة للاستنباط، فقد عرض جملة من السياقات الزمنية الــمُساعدة على حفظ النصوص وقواعد العلوم. يقول: "وأما الساعات فالأسحار دون سائر الأوقات؛ لأن ذلك الوقت قبل وقت الاشتغال، وبعقب تمام الراحة والجمام؛ لأن للجمام مقدارا هو المصلحة، كما أن للكدّ مقدارا هو المصلحة"[30].

تُركِّز هذه المقترحات، كما هو واضح، على اقتناص اللحظات التي يكون فيها البدن في حالة راحة؛ ذلك أن الحفظ أمرٌ يستوجب الجهد والتركيز، ويشترط فراغ القلب له، لكي تعمل آلتُه بجد وجودة.

3_3 "اِحتَل في أن تكون أحبَّ إليه من أُمِّه":

يقول الجاحظ ناصحا المعلمين: "درِّسه العلم ما كان فارغا من أشغال الرجال، ومطالب ذوي الهِمم. واحتل في أن تكون أحبَّ إليه من أمه، ولا تستطيع أن يمحضك المِقَة، ويصفى لك المودَّة مع كراهته لما تحمل إليه من ثِقل التأديب عند من لم يبلغ حال العارف بفضله"[31].

يوجِّه هذا النص المعلمين إلى جملة من الإجراءات القادرة على تحبيب التعلم إلى الصبيان. والأمر الذي يفرض الاهتمام بهذه الإجراءات، أن الاستعداد الذهني للصبيان لا يؤهلهم لمعرفة قيمة العلم، وقيمَة الجلوس إلى المعلمين، والتعلم على أيديهم، وصرف الأذهان إلى ما يشرحون ويفسرون، ومادام واقع المتفاعل مع التعلم بهذه الصفة، فإن المعلِّم عليه أن يفكِّر في "الحيل" التربوية التي تجعل الصبيَّ يحبُّه، ويحب ما ما يدرِّسه من علوم وأدب.

وما يقترحه الجاحظ هنا يدخل ضمن الوسائل التربوية التي تقوّي علاقة المتعلم بمعلِّمه، انطلاقا من مبدأ تربوي قديم يلِّح على إدماج الحب في عملية التربية؛ فالمتأمل "في القولة المأثورة لسقراط (كيف أعلِّمه، وهو لا يحبُّني) يفضي بنا إلى معنى واحد لا اختلاف حوله، وهو أن الحُبَّ أساس التعلم؛ بمعنى أن التعلم ليس مسألة معرفة ذهنية محضة ينقل بموجبها المدرّس معارف جاهزة إلى ذهن متعلّم مُطالَب يإرجاعها عند الطلب، بل هو حضور ذهني وتحفُّز وجداني، هو اندغام صرامة العقل بدفء القلب".[32]

ولعلَّ عبارة الجاحظ "احتلْ في أن تكون أحب إليه من أمِّه" تلخِّص إيمانه بأهمية البعد العاطفي في العملية التربوية، وفي التخفيف من وطأة التأديب على نفوس الصبيان. وبعبارة واضحة، تتحدَّد وظيفة العاطفة في التعلم، حسب الجاحظ، في نقل المعارف من صورتها الذهنية الخالصة إلى وضعية تفاعلية وجدانية، تجعل المتعلِّم يتناسى أنه يتعلَّم القواعد والعلوم الشاقة على الذهن. وقد أكد الجاحظ، كما أوضحنا سابقا، أن هذا الاحتيال العاطفي، مردُّه إلى أن الصبي لم يصل بعد إلى النضج الذهني الذي يدعوه بصورة تلقائية إلى التعلم ومحبة العلم.

وعلى غرار ملاحظتنا السابقة بخصوص "التعلم الأفقي"، نعيد التأكيد هنا أن الجاحظ يسجِّل ملاحظاته حول التعلم وأساليبه، انطلاقا من تأمل دقيق لخصوصية الصبي الذهنية والنفسية. والفرق بين المقاربة التقليدية والمقاربة العلمية لخصوصية الصبي، أن الأولى لا تقِرُّ بهذه الخصوصية بأنها واقع حتمي مفروض، وتحاول عبر آليات العقاب والتوبيخ إخراج الصبي من وضعه المخصوص إلى وضع مَفروض عليه، وهو وضع الإنسان الراشد. أما المقاربة العلمية، ومثالها في الثقافة العربية القديمة نصوص الجاحظ المذكورة، فإنها تتعامل مع الصبي تعاملا مُنطلقا من وضعه الخاص، وتحاول إيجاد الآليات التربوية الملائمة لواقعه.

وبناء على هذا، فإن ما يُعرف عن التعليم العربي التقليدي، من ميل إلى تعنيف الصبيان من أجل حثهم على التعلم والجد، لا يمثل، بأي حال، التفكير التربوي العربي القديم، بل يمثل التهاون في التكفير التربوي السليم، والاستسلام للحلول الجاهزة غير الخاضعة للفحص. ولأن علوم الثقافة العربية تراجعت انطلاقا من القرن الثامن الهجري تقريبا، فإن الصلة انقطعت انقطاعا شبه كلي بين التفكير التربوي والممارسة التربوية، ولذلك سادت المنهجية التقليدية العفوية في المدارس، والتي تقوم في أساسها على الحفظ والاستظهار والعقاب.

4_ المواد الدراسية / المعرفة المُدرَّسة:

كان الجاحظ على وعي بأن المعرفة المدرسية تختلف عن المدرسة العلمية البحتة؛ وذلك ما دفعه إلى التفكير في ما يجب تدريسه (المعرفة الـــمُدرَّسة)[33] للصبيان، بناء على حاجياتهم الدينية والدنيوية، وعلى منهجية التدرج المساعدة على تنظيم الاستيعاب في عقل الصبي. يقول عن المواد والمعارف التي يرى ضرورة تدريسها:

"ووجدنا الأوائل كانوا يتخذون لأبنائهم من يعلِّمهم الكتابة والحساب، ثم لعب الصوالجة، والرَّمى في التنبوك، والمجثَّمة، والطير الخاطف [...] وبعد ذلك الفروسية واللعب بالرماح والسيوف [...] ثم النجوم واللحون والطب والهندسة، وتعلم النَّرد والشطرنج، وضرب الدفوف وضرب الأوتار، والوقع والنفخ وأصناف المزامير.

ويأمرون بتعليم أبناء الرعية الفلاحة والنجارة، والبنيان والصياغة والخياطة [...]"[34].

يُقدِّم الجاحظ بهذا الكلام صورة عامة عن المعارف التي يحتاج المجتمع تعليمها للصبيان من أجل استمرار الحياة، وسد حاجياتها. والمتأمل لأبواب هذه المعارف والمهارات، يلاحظ صلتها الوطيدة بمتطلبات الحياة العامة في مجتمع الجاحظ؛ فإلى جانب الكتابة والحساب، جاء في النص ذكر لمهارات الحرب القديمة، ولأنواع المهن اليدوية، وللطب والهندسة، وللألوان الموسيقية، وللألعاب أيضا، وهذا معناه أن التربية عند الجاحظ لا تنفصل عن بعدها المجتمعي، بل توجَّه إلى خدمته في إطار ما يمكن تسميته بالتعليم الوظيفي.

والحق أن ذكر الألعاب في سياق الحديث عن المهارات التعليمية، يبيِّن الفهم العميق لعملية التربية ووظائفها عند الجاحظ، وعند من نقل عنهم هذه البرامج التربوية الشاملة (ووجدنا الأوائل كانوا يتخذون ...). فاللعب في النص المنقول ليس نشاطا هامشيا، أو نشاطا خارج التعلُّم، يُعاقب الطفل على التفريط فيه، إنما هو التعلُّم ذاته. وإذا ربطنا هذا الكلام بما قاله الجاحظ عن ضرورة محاكاة المعلمين عقولَ الصبيان أثناء التعليم، يمكننا أن نميّز بين حضورين للعب في "رسالة المعلمين":

- التعليم بواسطة اللعب: يتحقق عبر تقليد الأطفال ومجاراتهم في أساليب الحديث والتصرف.

- تعليم اللعب: تصبح الألعاب غاية وليست وسيلة، وفي نص الجاحظ ذكر لمجموعة من الألعاب التي كانت تعلَّم من قِبل المعلمين قديما.

وحين ذكرَ الجاحظ هذه المعارف التعليمية الكثيرة، نصَّ في خاتمة كلامه على أن المجتمع في حاجة إلى تأهيل المعلمين لممارسة هذا التعليم المتعدد والشامل: "ووجدنا للأشياء كلِّها معلمين".[35]

وبخصوص التخصص، يبدو أن الجاحظ يميل إلى تعليم الصبيان في مراحل الاكتساب الأولى أطرافا من العلوم كلها، ثم يتابع من شاء منهم تعليمه في تخصص واحد، وهذه الفكرة نجد أثرها واضحا في ما أورده في رسالته "صناعات القُواد"[36]:

يحكي الجاحظ في هذه الرسالة القصة التي سردها على أمير المؤمنين المعتصم بالله من أجل إقناعه بتعليم أبنائه من كل صنوف الأدب؛ فإنه إن أفردهم بشيء واحد ثم سُئلوا عن غيره لم يحسنوه. ومؤدى هذه القصة أن الجاحظ سأل جماعة من الناس _ حين قدم المعتصم بالله من بلاد الروم _ عن الحرب، كيف كانت هناك؟ فكان كل واحد من هؤلاء يجيب عن السؤال إجابة شخصية، تترجم مهنته أو ما تعلمه من الفنون، مع العلم أن الإجابة واحدة، وهي انتصار جيش المسلمين على الروم في مدة وجيزة. وهذه نماذج الإجابات:

_ "أجاب بختيشوع الطبيب قائلا: "لقيناهم في مقدار صحن البيمارستان، فما كان بقدر ما يختلف الرجل مقعدين حتر تركناهم في أضيق من محقنة، فقتلناهم فلو طرحت مِبضَعا ما سقط إلا على أكْحَل رجل.

وعمل أبياتا في الغزل فكانت:

شَرِبَ الوَصْلُ دَسْتَجَ الهَجْرِ فَاسْتَطْ           لَقَ بَطْنُ الوِصَالِ بالإسْهاِل

[...]"[37].

_ وأجاب جعفر الخياط قائلا: "لقيناهم في مقدار سوق الخُلقان، فما كان ما يخيط الرجل درزا، حتى قتلناهم وتركناهم في أضيق من جربان، فلو طرحت إبرة ما سقطت إلا على رأس رجل.

وعمل أبياتا في الغزل فكانت:

فَتَقْتَ بالهَجْرِ دُروزَ الهَوى          إِذْ وَخَزَتْني إِبْرَةُ الصَّدِّ

[...]"[38].

_ وأجاب إسحاق بن إبراهيم المزارع قائلا: "لقيناهم في مقدار جريبين من الأرض، فما كان بقدر ما يسقى الرجل مَشَارَةً حتى قتلناهم، فتركناهم في أضيق من باب، وكأنهم أنابير سنبل، فلو طرح فدان ما سقط على إلا على ظهر رجل.

وعمل أبياتا في الغزل فكانت:

زَرَعْتُ هَواهُ فِي كَرابٍ مَنَ الصَّفا           وأَسْقَيْتُهُ مَاءَ الدَّوامِ عَلَى العَهْدِ

[...]"[39].

هكذا تتوالى الأجوبة وتختلف صورها الأسلوبية باختلاف المجال المهني الذي يحذقه صاحب الإجابة؛ فالصور البلاغية في الأجوبة أعلاه تؤدي دلالة واحدة، وهي تحقيق الانتصار الكاسح في المدة الوجيزة، غير أنها تختلف من جانب البناء والمفاهيم التي تقوم عليها. فالمعنى العميق واحد وصوره متعددة تبعا لتعدد الأسلوب الشخصي[40]. ومقصد الجاحظ من هذا السرد الأسلوبي متعدد الأصوات، إلفات النظر إلى أن من تعلم فنا واحدا سيظل سجين ما تعلمه، ولن يجيد القول في مجالات الفنون الأخرى. والحكمة العملية المستنبطة من كل ذلك ضرورة دفع الأبناء إلى الأخذ من جميع صنوف العلم.

وفي نهاية الرسالة يبين الجاحظ أن الحكمة المُقدَّمة في القصة حققت مبتغاها العملي، وعرفت طريقها نحو التنفيذ: "فضحك المعتصم حتى استلقى، ثم دعا مؤدِّب ولده فأمره أن يأخذهم بتعليم جميع العلوم"[41].

وعلى الرغم من هذا الميل نحو تعليم جميع الفنون، وتثقيف الصبيان في جميع المجالات، فإن الجاحظ يُلح على أهمية مجالات دون أخرى، نظرا لحاجة الناشئة الشديدة إليها. ومن هذه المجالات ذات الأهمية القصوى، الحِجاجُ وما يساعد الصبيان على إنشاء القول الــمُقنع - الممتع. يقول الجاحظ: "وعلى أننا لا نعلم أن لأحد من جميع أصناف المعلِّمين لجميع هذه الأصناف – كفضيلة المعلِّم من الناس الأحْداثَ المنطقَ المنثور، ككلام الاحتجاج والصفات، والمناقلات من المسائل والجوابات في جميع العلامات [...]"[42].

وقد ذكر الجاحظ ما يتعلق بفروع المعرفة البلاغية المؤدية إلى إكساب المتعلم كفاية الحجاج، والقدرة على إنشاء الأقوال الُــمُحبَّبة إلى النفوس والمؤثِّرة فيها، مثل الميل إلى الاختصار والبعد عن التعقيد والتكلُّف. يقول الجاحظ في هذا الصدد: "ثم خُذه بتعريف حُجج الكُتاب وتخلُّصهم باللفظ السهل القريب المأخذ إلى المعنى الغامض. وأذقْه حلاوة الاختصار، وراحة الكفاية، وحذِّره التكلُّف واستكراه العبارة؛ فإن أكرم ذلك كلِّه ما كان إفهاما للسامع، ولا يُحوِج إلى التأويل والتعقُّب، ويكون مقصورا على معناه لا مُقصِّراً عنه، ولا فاضلا عليه"[43].

الواضح هنا، أن البلاغة بجناحيها الاثنين، الإمتاعي والحجاجي، تحتل أهمية كبرى في تصوُّر الجاحظ التربوي، وذلك اعتبارا لوظيفتها المتمثلة في إقدار الصبيان على خوض المساجلات، وإنشاء الأقوال النافعة. وما ذكره الجاحظ من فروع بلاغية في النص المنقول، لا يَخرج عن آرائه البلاغية في جميع مصنفاته، والتي تنطلق من ضرورة التركيز على السامع؛ ومراعاة إيصال المعنى إليه بأيسر الوسائل، وتجنب ما يمكن أن يتعبه في الوصول إلى المعنى، على غرار التكلُّف واستكراه العبارة.

وفيما يتعلق بالتصرف في المادة المعرفية بناءً على حاجيات الصبي، يتحدث الجاحظ عن الحدود التي يمكنها أن تحدِّد اختيارات المعلمين وأساليبهم أثناء تعليمهم علم النحو للصبيان، يقول: "وأما النحو فلا تشغل قلبَه منه إلا بقدر ما يؤدِّيه إلى السلامة من فاحش اللَّحن، ومن مقدار جهل العوام في كتاب إن كتبه، وشعر إن أنشده، وشيء إن وصفه. وما زاد على ذلك فهو مَشغلة عمَّا هو أولى به"[44].

يرتبط تعليم النحو للصبيان، في تصور الجاحظ، بوظيفة يمكن تصنيفها في المستوى الأول من المعرفة باللغة، وهي السلامة من فاحش اللحن (ليس من اللحن فقط)؛ أي ما يمكِّن الصبي من التواصل بلغة غير معيبة، ولا تكشف عن مستوى متدن من المعرفة بها وبقواعدها. أما المستويات المتقدمة من تعليم النحو، أو ما يسميه الجاحظ بـ"عويص النحو"[45]، فإن الصبي غير معني بها، ومن الخطأ أن يَعمدَ المعلمون إلى تعليمها له؛ لأن الانشغال بها يُلهيه عما هو أولى به من المعارف المناسبة لمرحلته العمرية.

ومن جانب آخر، يرى الجاحظ أن تعليم النحو وغيره من العلوم لفئة الصبيان، الهدفُ منه تأهيل أفراد المجتمع إلى القيام بشؤون حياتهم ومعاملاتهم، أما ما عدا ذلك فيمكن إرجاؤه إلى مستويات تعليمية متقدِّمة. يقول الجاحظ منتقدا تعليم المسائل المعقَّدة من النحو والحساب للصبيان: "وعويص النحو لا يجري في المعاملات ولا يُضطَرُّ إليه شيء. فمن الرأي أن يُعتمد به في حساب العَقد دون حساب الهِند، ودون الهندسة وعويص ما يدخل في المساحة"[46].

وخلاصة ما يمكن قوله عن تصور الجاحظ للمادة الدراسية الــمُعدَّة لتعليم الصبيان، أنه يراعي وظائف التعلُّم المجتمعية، كما يُراعي تفاعل المتلقي (المتعلم) مع المعرفة وخصوصيتها. وفي ما قدَّمه الجاحظ من أفكار في هذا الشأن، والتي استفاد جزءا منها من الممارسات التربوية في فترته التاريخية، دليل ٌواضح على أن التعليم في القرن الثالث على الأقل (توفي الجاحظ سنة 255 هـ)، كان ينتظم ضمن مؤسسة خاضعة للتفكير والتخطيط التربويين، واللذين لم يتوقفا عن التطور انطلاقا من تجدُّد أسئلة المجتمع وتحولاته المطَّردة.

خلاصة:

حاولنا في هذا المقال إبراز آراء الجاحظ حول التربية والتعليم، وذلك ما قادنا، أوَّل الأمر، إلى فحص العلاقة بين المعرفتين البلاغية والتربوية، باعتبار أن الجاحظ يصدُر في كثير مما يقوله عن مرجعية بلاغية، أساسها فهم الخطاب الإنساني ضمن رؤية بيانية موسعة، وكانت نتيجة هذا الفحص أن الخطاب التربوي يمتح هو الآخر قواعده من البلاغة، ويحاول مراعاة شروط السياق في بناء التعلمات ومخاطَبة الصبيان المتعلمين.

ومن الأمور الأخرى التي خلص إليها المقال، أن الجاحظ يلح على ضرورة تأطير العملية التربوية بقيم عليا ترعى فِعْلي التعليم والتعلُّم، وتمنحهما الإطار الأخلاقي المطلوب، وهذه القيم تتمثل في:

- تقدير المعلمِّين وإجلالهم

- تقدير المعرفة العلمية بناءً على التخصص والاقتدار

- بناء القدوة في مجال التربية

أما في ما يتعلقّ بالأساليب التربوية العملية، فإن الجاحظ ينبه إلى أهمية خلق دينامية تعلمية أفقية، وعلى الجمع بين الحفظ والاستنباط، وعلى خلق المحبة المحفزة على التعلُّم. وفي باب انتقاء المادة الدراسية، ينبِّه الجاحظ إلى أهمية الربط بين مادة التعلّم وحاجيات المجتمع، ويلح على تعليم الصبيان المهارات الثقافية واليدوية، ويدعو إلى إيلاء الثقافة الحجاجية أهمية خاصة في السياق التعليمي.

 

المصادر والمراجع:

• باللغة العربية:

-الاستعارة في الخطاب، إيلينا سيمينو. ترجمة: عماد عبد اللطيف - خالد توفيق.المركز القومي للترجمة، ط1، 2013 (القاهرة).

-البصائر والذخائر، أبو حيان التوحيدي، تحقيق: إبراهيم الكيلاني، ج 1، مكتبة أطلس ومطبعة الإنشاء، 1964 (دمشق).

-البلاغة العربية أصولها وامتداداتها، محمد العمري. أفريقيا الشرق، 1999 (الدار البيضاء).

-البلاغة والسرد جدل التصوير والحجاج في أخبار الجاحظ، محمد مشبال، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بتطوان، 2010، جامعة عبد الملك السعدي (المغرب).

-البيان والتبيين، عمرو بن بحر الجاحظ، تحقيق: عبد السلام هارون، مكتبة الخانجي، ط7، 1998 (القاهرة).

-التربية والخطابية، بيرلمان شاييم. ترجمة: الحسين بنوهاشم، مجلة البلاغة وتحليل الخطاب، العدد 03، 2013 (المغرب).

-الدرس البلاغي وسؤال النقل الديداكتيكي بالتعليم الثانوي التأهيلي، حسن عمار، دراسة منشورة ضمن الكتاب الجماعي: "البلاغة في المقام التدريسي". إشراف وتنسيق عبد العزيز الحويدق. مكتبة آفاق، ط1، 2019 (مراكش).

-رسائل الجاحظ، عمرو بن بحر الجاحظ، تحقيق: عبد السلام هارون، مكتبة الخانجي، ط1، 1979 (القاهرة).

-كتاب الصناعتين الكتابة والشعر، أبو هلال العسكري، تحقيق: علي محمد البجاوي – محمد أبو الفضل إبراهيم. المكتبة العصرية، 2013 (بيروت).

-كيف أعلمه وهو لا يحبني (سقراط)، قراءة في منزلة الحب داخل العلاقة التربوية، عبد القادر ملوك، نُشر المقال في مجلة "تربويات" الإلكترونية www.tarbawiyat.net، في تاريخ: 24 – 12- 2017. آخر زيارة: 21 – مارس – 2020، الساعة: 13.05

-النزعة الكلامية في أسلوب الجاحظ، فيكتور شلحت، دار المشرق ش م م، ط2، 1987 (بيروت).

• باللغة الفرنسية:

-         Introduction à LA rhétorique, Olivier Reboul. PUF: 2 ème édition, 2013 

[1] يُعد أبو حيان التوحيدي أحد أهم الكُتاب القدامى المتأثرين بفكر الجاحظ ومنهجه في الكتابة، يقول في أحد كُتبه: "فسبحان من سخر له [الجاحظ] البيان وعلمه، وسلم في يده قصب الرهان وقدَّمه، مع الاتساع العجيب، والاستعارة الصائبة، والكتابة الثابتة، والتصريح المُغني، والتعريض المبني، والمعنى الجيد، واللفظ المفخَّم، والطلاوة الظاهرة، [...] إن جد لم يُسبق، وإن هزل لم يُلحَق، وإن قال لم يُعارَض، وإن سكت لم يُعرَض له". البصائر والذخائر. تحقيق: إبراهيم الكيلاني، ج 1، مكتبة أطلس ومطبعة الإنشاء، 1964 (دمشق)، ص: 233

[2] لن نحاول هنا التعليق على اختلالات هذا الجزء من التلقي الحديث لتراث الجاحظ بخصوص إغفاله أنساق التفكير المتباينة في تناوله التقاطعات الممكنة بين نتائج النظريات الحديثة، وما كتبه أبو عثمان أو غيرُه من العرب القدامى، فهذه المهمة قام بها باحثون أكفاء في مناسبات متفرقة، وبينوا بالتدقيق المطلوب أن المعرفة العربية القديمة لا تصح قراءتها من زاوية المماثلة بينها وبين نتائج المعرفة الغربية الحديثة. ونكتفي في هذا الصدد بالإشارة إلى أن الاختلاف بين المعرفتين العربية القديمة والغربية الحديثة اختلاف زمني في المقام الأول، وليس اختلافا معرفيا يستوجب عقد المقارنات التفاضلية والبحث عن أصول الأفكار.

[3] رسائل الجاحظ، عمرو بن بحر الجاحظ، ج3، تحقيق: عبد السلام هارون، مكتبة الخانجي، ط1، 1979 (القاهرة)، ص: 27-51

[4] البيان والتبيين، عمرو بن بحر الجاحظ، تحقيق: عبد السلام هارون، ج1، مكتبة الخانجي، ط7، 1998 (القاهرة)، ص: 76

[5] نفسه. ص: 99

[6] انظر تفصيل هذه القضية: البلاغة العربية أصولها وامتداداتها، محمد العمري. أفريقيا الشرق، 1999 (الدار البيضاء). ص: 189- 208

[7] بشأن قراءات الباحثين لسمة الاستطراد في مؤلفات الجاحظ، اُنظر: البلاغة والسرد جدل التصوير والحجاج في أخبار الجاحظ، محمد مشبال. منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بتطوان، 2010، جامعة عبد الملك السعدي (المغرب)، ص: 112-117

[8] يرى أبو هلال العسكري أن كتاب "البيان والتبيين"، ورغم أهميته الكبيرة فإن إبانته "عن حدود البلاغة، وأقسام البيان والفصاحة مبثوثة في تضاعيفه [...] لا توجد إلا بالتأمل الطويل، والتصفح الكثير". كتاب الصناعتين الكتابة والشعر. تحقيق: علي محمد البجاوي – محمد أبو الفضل إبراهيم. المكتبة العصرية، 2013 (بيروت)، ص: 10

[9] رسائل الجاحظ، ج3، ص: 37

[10] نفسه. ص: 38-39

[11] نفسه. ص: 50

[12] نفسه. ص: 38-49-50

[13] يماثل التدرج في البيداغوجيا ما يُعرف في البلاغة الحجاجية بالترتيب.

[14] Introduction à LA rhétorique, Olivier Reboul. PUF: 2 ème édition, 2013. p: 113

وقد أشار شاييم برلمان، هو الآخر، إلى العلاقة بين البلاغة (الحجاجية) والتربية عندما أكد أن سعيَ الــمُربّي إلى تكوين عقل المتعلم وشخصيته، يلزمه التطرق إلى "تقنيات الحجاج التي تسعى إلى الدفع إلى قَبول الدعاوى المعروضة على السامعين لتنال موافقتهم" (التربية والخطابية، بيرلمان شاييم. ترجمة: الحسين بنوهاشم. مجلة البلاغة وتحليل الخطاب، العدد 03، 2013 (المغرب)، ص: 152). إن العلاقة هنا بين الحقلين لها وجه آخر؛ فالتربية في تصور بيرلمان، تحتاج إلى تعليم بلاغة الحجاج، نظرا لأهميتها في تكوين عقل سجالي منفتح.

[15] رسائل الجاحظ، ج3، ص: 27

[16] نفسه. ص: 28

[17] نفسه.

[18] نفسه. ص: 38

[19] نفسه.

[20] نفسه.

[21] نفسه. 44

[22] نفسه. ص: 44

[23] نفسه.

[24] نفسه.ص: 37

[25] نفسه.

[26] نفسه. ص: 35

[27] نفسه. ص: 29

[28] نفسه.

[29] يقول فيكتور شلحت إن المعتزلة "رفعوا العقل إلى مرتبة القياس والدليل في أمر العقيدة، واعتبروه حاسة سادسة في اكتساب المعارف". النزعة الكلامية في أسلوب الجاحظ. دار المشرق ش م م، ط2، 1987 (بيروت). ص: 28

[30] رسائل الجاحظ، ج3، ص: 30

[31] نفسه. ص: 50

[32] كيف أعلمه، وهو لا يحبني (سقراط)، قراءة في منزلة الحب داخل العلاقة التربوية. عبد القادر ملوك. نُشر المقال في مجلة "تربويات" الإلكترونية www.tarbawiyat.net، في تاريخ: 24 – 12- 2017. آخر زيارة: 21 مارس  2020. الساعة: 13.05

[33] يقول الباحث حسن عمار عن هذا النمط من المعرفة، إنها "تتأثر في سياق بناء التعلمات بعدة روافد من قبيل: اقتناعات المُدرِّس الشخصية، طبيعة الوسائل التعليمية الموظفة، استعدادات المتعلمين ومكتسباتهم [...]". الدرس البلاغي وسؤال النقل الديداكتيكي بالتعليم الثانوي التأهيلي. منشور ضمن الكتاب الجماعي: "البلاغة في المقام التدريسي". إشراف وتنسيق عبد العزيز الحويدق. مكتبة آفاق، ط1، 2019 (مراكش). ص: 17

[34] رسائل الجاحظ، ج3، ص: 32

[35] نفسه. ص: 33

[36] رسائل الجاحظ، ج1، ص: 379- 393

[37] نفسه. ص: 383

[38] نفسه. ص: 384

[39] نفسه. 385-386

[40] قريب من هذا التوظيف الاستعاري ما قاله كوفيكستش عن فكرة (الاستعارة والمؤلف)؛ إذ يرى "أن اهتماماتنا الفردية، وتجاربنا الذاتية قد تؤدي بنا إلى استخدام شديد الخصوصية للاستعارة، وهذا ينطبق على كبار الكتاب، كما ينطبق على الأفراد العاديين (فمثلا يستخدم الأطباء استعارات لها علاقة بالطب، بينما يستخدم محبو الرحلات البحرية استعارات لها علاقة بالبحر والإبحار).". نقلا عن الاستعارة في الخطاب، إيلينا سيمينو. ترجمة: عماد عبد اللطيف – خالد توفيق.المركز القومي للترجمة، ط1، 2013 (القاهرة)، ص: 138

[41] رسائل الجاحظ. ج1. ص: 393

[42] رسائل الجاحظ، ج3، ص: 34

[43] نفسه. ص: 39

[44] نفسه. ص: 38

[45] نفسه.

[46] نفسه. ص ص: 38-39