المؤمن الصادق أفكار حول طبيعة الحركات الجماهيرية


فئة :  قراءات في كتب

المؤمن الصادق أفكار حول طبيعة الحركات الجماهيرية

المؤمن الصادق

أفكار حول طبيعة الحركات الجماهيرية

تأليف: إيريك هوفر، ترجمة: غازي بن عبد الرحمن القصيبي


"قد يكون التحرك الشعبي الحقيقي عملية نهضوية تحديثية، عندما تترك الحكومات لتموت موتًا طبيعيًا بطيئًا، فإن النتيجة عادة هي الجمود والتفسخ، على نحو قد لا يمكن علاجه. وبالنظر إلى أن رجال الكلمة يؤدون دورًا كبيرًا في قيام الحركة الجماهيرية،فإن وجود أقلية متعلمة تستطيع التعبير عن نفسها، أمر ضروري لاستمرار الحيوية في المجتمع."

هكذا يرى إيريك هوفر الكاتب الأمريكي الشهير، نمط الحركات الجماهيرية؛ فقد أشار في كتابه هذا محل العرض "المؤمن الصادق، أفكار حول طبيعة الحركات الجماهيرية" أنها عامل مهم في نهضة المجتمع الجامد وتحديثه، بالرغم من أنه لا يمكن الجزم بأن الحركات الجماهيرية هي الوسيلة الوحيدة لإحياء المجتمع، وأنه قد يكون من الصحيح في المجتمعات الكبيرة غير المتجانسة، مثل روسيا والهند والصين، في أن عملية الإحياء تعتمد على وجود (حماسة) متدفقة بين أفراد المجتمع قد لا تتوافر في غياب الحركة الجماهيرية...

هنا نعود إلى الفرد مكون الجماعة، ووحدة البناء الأولى للحركات الجماهيرية، والكتاب هنا يناقش الأفكار المولدة لهذا الكيان، وحول اعتقاد (إيريك هوفر) بأن الحركات الجماهيرية مجرد تطور طبيعي، وأنها في الأصل قد تتطور إلى مرحلة متقدمة في اتجاه المأسسة وتحولها لمؤسسات عاملة.

يعد كتاب المؤمن الصادق مدخلًا للجواب عن طبيعة الحركات الجماهيرية، وبالتبعية ماهية الحركات الثورية بمختلف أنواعها وانتماءاتها، سواء أكانت دينية، عرقية، أم سياسية.

تولد كل الحركات الجماهيرية في نفوس أتباعها استعدادًا للموت، وحماسة لكل ما تتضمنه الحركة من أفكار بعينها، تولد حالة من التطرف في الانتماء، حتى وإن كانت كراهية وعدم تسامح، حيث إن جميعها قادرة على تفجير طاقات قوية في هؤلاء الأفراد، نتيجة للإيمان والولاء المطلقين.

الأمر تأتيه في البداية حالة الإحباط، والذي يشكل المصابون به غالبية الحركات الجماهيرية، وقد ينضمون إليها بكامل إرادتهم، ولهذه الحركات الجماهيرية أساليب دعوية وتبشيرية، عملت على تطويرها حتى يجد العقل الجماعي المحبط ضالته فيها، ومن خلاله تحقق أهدافها. والكاتب قد افترض أن الحركات الجماهيرية كلها تحتوي على خصائص مشتركة.

قسم الكتاب أفكاره إلى أربعة أقسام رئيسة تضمن كل قسم عدة فصول:

القسم الأول: وهو جاذبية الحركات الجماهيرية، تضمن ثلاثة فصول، هي:

1- الرغبة في التغيير

2- الرغبة في بدائل

3- التبادلية بين الحركات الجماهيرية

تناول إيريك هوفر في هذا الفصل الرغبة في التغيير كمبحث أول في كتابه، حيث وصف الحركات الثورية بأنها أداة واضحة من أدوات التغيير، وكذلك الحال بالنسبة إلى الحركات الدينية والقومية هي الأخرى؛ فجميعهم ينشدون التغيير. فعلى سبيل المثال، يفند الكاتب حالة الحركات الدينية بوصفها كانت وسائل واضحة للتغيير في الماضي، وقد جاءت ككسر لحالة الجمود التي لازمت دينا يسبقه أو حركة دينية قديمة، فكان هدف الحركات الوليدة الدعوة إلى التغيير الشامل، والانفتاح على الآراء الأخرى.

فوصف إيريك الإسلام كحركة تنظيمية وتحديثية صاعدة، كذلك دور المسيحية كحركة ناشئة داخل مجتمعات أوروبا، وتواجد مسيرة الحروب الصليبية كحالة كسرت الجمود المتغلغل في العالم الغربي وقتها، وجعلته ينفتح على الشرق وما فيه. كذلك الحركة البروتستانتية 1517م التي كسرت جمود الفكر في العالم الأوروبي، ونادت بالإصلاح والتغيير داخل الكنيسة على يد (مارتن لوثر).

الأمر كذلك من حيث التغيير في الثورتين الفرنسية والروسية، واللتان كانتا من منبع قومي، أصبح هو المصدر الرئيس لإيجاد الحماسة الجماهيرية، وحالة الفوران القومي، ويدلل الكاتب على ذلك في مثال نجاح اليابان في العصر الحديث، هذا النجاح الأسطوري وترؤسها على قمة الدول الأكثر تقدمًا، والذي نبع من خلال الصحوة القومية اليابانية. وأيضًا تركيا وحركة مصطفى كمال أتاتورك سنة 1920م كحركة قومية تركية كانت سببا من أسباب نجاح وتقدم تركيا إلى حد كبير، ويعلل الكاتب ركود حالة التحديث أو بالأحرى بطئه كما حال دولة كمصر، لأنها لم تتعرض لمثل هذه الحركات الجماهيرية.

إن الرغبة في التغيير والتحديث، تتولد من خلال نزعة البحث خارج إطار النفس، وماهية العوامل التي تصوغ حياتنا. حالة الإحباط وعدم الرضا –وحده- لا يخلق الرغبة في التغيير؛ فثمة عوامل أخرى تساعده على القيام بذلك، فالرجال كي يندفعوا في مغامرة تستهدف التغيير، لابد من أن يشعروا بالتذمر من غير أن يكونوا فقراء وفي حاجة، وأنه لكي يشعروا بأنه من خلال اعتناق العقيدة الصحيحة أو الأساليب الجديدة في العمل الثوري، سيصبحون قوة لا تقهر، وربما يدفعهم كل هذا إلى الرغبة في البحث عن بدائل. الفرق بين المنظمات العملية والحركات الجماهيرية هو أن الأولى تدفع، بل وتقدم لأصحابها عامل الجذب في تحقيق الذات والمصلحة، ونقيضها الحركات الجماهيرية، والتي تبحث عمن قد توغل الإحباط داخله، ويود التخلص من ذاته، فالمحبط يجد في الحركة الجماهيرية بدائل عن وضعه الغارق في الأزمة، ويضرب إيريك هوفر المثال بمقولة (هتلر): "كلما زادت الوظائف والمناصب التي تقدمها الحركة كلما انخفض مستوى الأتباع الذين ينضمون إليها وفي النهاية سيكون السياسيون الانتهازيون من الكثرة، حيث لا يستطيع المجاهد القديم النزيه أن يتعرف على حركته القديمة، وعندما يحدث هذا، فإن رسالة هذه الحركة تكون قد انتهت".

فالإنسان حينما يتعرض للإحباط ويفقد الإيمان بنفسه، أصبح الإيمان بقضية أو الانتماء إلى حركة جماهيرية محاولة للتعويض عما فقده من الإيمان بذاته، وهنا تكمن الرغبة في إنقاذ أنفسنا من الغرق حينما نهيىء لأنفسنا واجبا مقدسا تجاه الآخرين في انتشالهم. فالحركات الجماعية تقدم المعوض عن خيبة الأمل الفردي، وهنا نجد قاعدة الحركات الجماهيرية الأولى ألا وهي الإيمان بالنفس محدودة. أما الإيمان بأمة أو دين أو عرق هي القضية الأقدس في حياة الفرد، ولن تكون إلا من خلال الحركة والجماعة.

يحدث بين الحركات الجماهيرية - على الرغم من اختلافها وربما خلافها - حالة تبادلية تنتزع الفرد المنتمي من إحداهن لتدخله الأخرى، فبوسع كل حركة أن تتحول إلى الأخرى بسهولة، فالحركة الدينية سهل عليها أن تتحول إلى ثورة اجتماعية وحراك قومي، وكذلك الأمر بالنسبة إلى الثورة الاجتماعية بإمكانها التحول إلى ثورة قومية أو حراك ديني.

فمثال ذلك حركة الإصلاح البروتستانتي التي كانت ذات جانب ثوري عبر عن نفسه في حركات تمرد الفلاحين، وجانب قومي عبر عنه لوثر حين قال: "نحن الألمان في نظر الإيطاليين مجرد خنازير، وهم يستغلوننا عن طريق الاحتيال، ويمتصون خيرات بلادنا حتى النخاع، استيقظي يا ألمانيا".

يرى الكاتب أن كل حركة جماهيرية، هي على نحو أو آخر، "هجرة" تنطلق إما إلى كيان جديد أو أرض جديدة، كما حدث مع الجماعات البروتستانتية وكذلك الحركة الصهيونية.

فند الكاتب الأمريكي إيريك هوفر في كتابه "المؤمن الصادق،أفكار حول الحركات الجماهيرية" أصناف الأتباع الباحثة حولهم وعنهم هذه الحركات في القسم الثاني من كتابه.

القسم الثاني: الأتباع المتوقعون وقد صنفهم كالتالي:

1-دور المنبوذين في الشئون الإنسانية

2-الفقراء

3-العاجزون عن التأقلم

4-الأنانيون أنانية مفرطة

5-الطموحون الذين يواجهون فرصًا غير محدودة

6-الأقليات

7-الملولون

8-مرتكبو المعاصي

إن مسرحية التاريخ يمثلها عادة طرفان، الصفوة من جانب، والغوغاء من جانب آخر، دون مبالاة بالأغلبية التي تقع في الوسط، هكذا يرى الكاتب أن السبب الذي يجعل الغوغاء مقابل الصفوة في أنهم يعتبرون حياتهم فاسدة بدون أمل ولا علاج لها، ويتوقون إلى صهر أنفسهم والانخراط داخل صورة أو هجرة جماعية، أو حركة جماهيرية وبذلك يتغير وجه التاريخ، حينما تصبح للغوغاء كتلة قوية مقابلة للصفوة.

جرت العادة أنه ليس كل فقير محبط أو فاقد للأمل، بل هناك من يصنفهم الكاتب داخل إطار محدثي الفقر، والذين لا يطول على فقرهم مدة طويلة، فيشعرون بالإحباط، وتتولد لديهم الرغبة في الانضمام إلى أية حركة جماهيرية صاعدة. ومثل الكاتب ذلك بثورة الملاك الإنجليز، حينما طردوا الفلاحين المرتبطين بالتربة والزراعة، فما كان من هؤلاء الفلاحين الذين لم يعتادوا على الفقر بهذه الصورة إلا أن يثوروا على الملاك.

البؤس لا يقود تلقائيًا إلى التذمر، كما أن درجة التذمر غير مرتبطة بدرجة البؤس، فالتذمر يبلغ أعلى درجاته حين يكون البؤس محتملًا، حينما تتحسن الأوضاع على نحو يسمح بالاعتقاد في الأمل وتحسن الأوضاع. فالحرية تمنح بعض الحركات الجماهيرية القوة في التواجد، حيث إن أكثر البيئات صلاحية لنمو الحركات الجماهيرية هي المجتمعات التي تتمتع بقدر من الحرية، في حين افتقارها إلى ما يزيل الإحباط، لنقل كما ذكر الكاتب أن الثورة في روسيا لم تكن لتندلع لو لم يصبح الفلاحون الروس ملاكًا خلال جيل أو أكثر قبل قيام الثورة، وهو الأمر الذي مكنهم من تذوق طعم الملكية الفردية.

يجد الكاتب أن الحركات الجماهيرية الصاعدة عليها أن تلجأ إلى تحطيم كل الروابط بين الجماعات، إذا أرادت أن يزداد أتباعها، فالوضع الأمثل هو الانضواء تحت لواء الحركة، فأغلب الحركات الجماهيرية أبدت عداء تجاه الأسرة وقامت بتفكيكها من أجل لواء الحركة، من خلال إضعاف وخلخلة السلطة الأبوية، كما حدث في المسيحية في بداية عهدها وما قاله المسيح من أنه جاء ليحرض الابن على أبيه، وزوجة الابن على أم زوجها ...إلى آخره، كنوع من حماية حركة المسيح وتجنبها أي صراع أسري سيحدث من خلال التبشير بدعوته.

من الواضح أنه، إذا كان على الحركة الجماهيرية أن تنجح، فلابد لها من تطوير تنظيم جماعي متماسك، يستطيع اجتذاب القادمين وصهرهم داخله صهرًا كاملًا. ويدلل الكاتب على هذه النقطة، بجزء قوي من تاريخ ألمانيا في العصر الحديث، حول العلاقة بين الرابطة الجماعية القوية والاستجابة للحركات الجماهيرية، فجمهورية "وايمار" أي النظام الديمقراطي الجديد الذي وجد بعد الثورة، لم يجدوا فيه ما اعتادوه من أوامر عليا وسلطة فوقية، بل كان نظاما ديمقراطيا حرا، أدى بهم إلى التسيب والفوضى.

وينشأ هنا أفراد عاجزون عن التأقلم، وأولئك الذين لا يستطيعون تقبل العلاج، وتحقيق ما صبا إليه كيانهم لتحقيقه، وهم من يتحولون إلى انفصاليين، ولا يجدون غرضهم إلا في الرابطة الجماعية الصلبة التي تخلقها الحركة الجماهيرية، وعندما يكرسون جهودهم لخدمة القضية التي تنشأ لأجلها الحركة، يستطيعون الإفلات من جهدهم الفردي، فنجد أشد المتطرفين إحباطًا بين العاجزين عن التأقلم، وهم الأكثر خدمة وتمسكا بالقضية والأشد عنفًا وتطرفا في سبيلها، وهم أكثر الأشخاص أنانية، أنانية مفرطة، ويحتمل أن يصبحوا فيما بعد أبطالا للدعوة والحركة، وعندهم دومًا استعداد تام للتضحية والعمل الجماعي!!!

لعله لا يوجد مؤشر على نضج مجتمع ما للحركة الجماهيرية أدق من انتشار الملل الذي لا يجدي معه علاج، ونجد الحركة الصاعدة من المتعاطفين والمتحمسين بين الملولين أكثر مما تجده بين ضحايا الاستغلال والظلم. والملل هنا كان له دور قوي في حركة هتلر النازية مستخدمًا إياه لدى السيدات اللائي مللن من العنوسة أو الرتابة، فيعرضهن للمغامرة من خلال الترحيب بالجديد القادم مع هتلر وحركته.

كذلك الوطنية المحمومة، أو الحماسة الدينية دافعًا للخلاص، ومهربًا من تعذيب الضمير لدى مرتكبي المعاصي، الذين يدفعهم التواجد داخل الحركة الجماهيرية، والتضحية في سبيل قضيتها، تعبير عن الندم وعذاب النفس. والمجرم الذي ينخرط في قضية مقدسة، يصبح أكثر استعدادًا للتضحية بحياته والقيام بأعمال عنيفة...

أما القسم الثالث: العمل الجماعي والتضحية بالنفس، فقد شمل:

1-عوامل تشجع على التضحية بالنفس

2-عوامل تشجع على العمل الجماعي

تستمد الحركة الجماهيرية قوتها من خلال وحدة مترابطة واستعداد تام للتضحية؛ فالقدرة على العمل الجماعي تمشي،عادة، يدا بيد مع القدرة على التضحية بالنفس، وعندما نسمع عن جماعة لا تخاف الموت، فعلينا أن نستنتج أن هذه الجماعة مترابطة ترابط قوي، وموحد تمامًا.

آلية غرس الاستعداد للتضحية، والقتال تتكون من فصل الفرد عن نفسه، وعن شخصه. وعليه أن يذوب داخل المجموعة الموحدة. وعليه يتم شحن الفرد داخل الجماعة بالعواطف المتفجرة، على نحو يجعله لا يستطيع العيش دون الجماعة. ويتم تهيئته للتضحية بنفسه، من خلال سلخه عن هويته الذاتية، وعندما نسأله عن كينونته، يكون جوابه دينيا أو قوميا من خلال أنه مسلم أو مسيحي أو يهودي، روسي أو ياباني أو ألماني.

فالموت والقتل لأجل الجماعة، يصبح أسهل حينما يصبح جزءا متأصلا داخل طقس درامي، يمر به التابع، وعليه لا بد من كثرة الخيال وتنميته، من خلال طمس القائد داخل الحركة الجماهيرية لحقيقة الموت، ويخلق في نفوس أتباعه الوهم. ويتضح هذا جليًا داخل المؤسسة العسكرية، في ملابسهم وشعاراتهم واستعراضاتهم العسكرية. فحينما يضعف الإيمان بالمبدإ، وتختفي القدرة على الإقناع يظل الخيال باقيًا وقويًا في ذهن المنتمي إلى الحركة الجماهيرية. إن الوعي بالتاريخ والتأمل في رحاب الماضي وخيالاته يعطي الفرد انطباعًا بالاستمرارية، وأنه جزء من الخلود، مما يجعله يحتقر الحاضر؛ فالثوري والرجعي طبقًا لقول الكاتب، يحقران من شأن الحاضر، ومستعدان للهجوم عليه بقسوة وطيش، فالثوري يرى أن الإنسان بوسعه تغيير بيئته وتطويرها للأفضل مما هو عليه، على عكس الرجعي الذي يعتقد أن طبيعة الإنسان لا ينبغي تطويرها، وأن عليه أن يقبع في ظلال الماضي بتحفظاته.

وهنا نجد أن فاعلية عقيدة ما لا تقاس بعمقها أو سموها أو صدق الحقائق التي تنطوي عليها، بل بقدرتها على حجب الشخص عن نفسه وعن العالم، كما هو عليه بالفعل. فليس من الضروري كي تصبح العقيدة فاعلة أن يفهمها المرء، ولكن من الضروري أن يؤمن بها.

تستطيع الحركات الجماهيرية، من خلال إثارة المشاعر الملتهبة في قلوب أتباعها، أن تحطم التوازن النفسي، كما أنها تقوم بانتهاج طرق لضمان اغتراب الفرد عن ذاته، وتحويله لحالة التطرف، حيث إن المتطرف يؤمن بالقضية التي اعتنقها قناعة تامة، وأنها مثالية وأبدية،كصخرة صامدة على مر العصور. ومن المستبعد والصعب أن يهجر المتطرف قضيته المقدسة، أو ينفرد بذاته، بدون قضية تذكر، فالأغلب أنه سيصبح باحثًا عن قضية أخرى، شأنه شأن المسافر المفلس الذي ينتظر مرور سيارة تقله إلى جماعة حركية أخرى.

وأوجه الشبه كثيرة بين الحركات الجماهيرية والجيوش، كونها تنظيمات جماعية تلغي كينونة الفرد، وتؤكد على دمجه وصهره داخل بوتقة التنظيم وأهدافه وقضيته التي يعتنقها،على الرغم من أن الجيش عبارة عن نظام قائم أو أداة لتوسعه، سواء كان النظام قديما أو حديثا، لكن الحركة الجماهيرية ذات هدف ثابت لا يتغير، وتعد نفسها منظمة أبدية، والأعضاء المنضمون إليها ينضمون مدى الحياة.

ويتأتى لنا القسم الرابع: البداية والنهاية، في أربعة فصول.

1-رجال الكلمة

2-المتطرفون

3-الرجال العمليون

4-الحركات الجماهيرية النافعة والضارة

يرى الكاتب أن نشوء الحركة الجماهيرية وبقاءها، أمر يعتمد على القوة، فصعود الحركة لا يتم إلا بعد تعرية النظام القائم، ويكون ذلك من خلال عمل منظم ومتعمد، يتعامل به رجال الكلمة.

فغاندي وتروتسكي، مثلا، رجال كلمة لكن لا تأثير لهم، إلا في وقت لاحق، حيث أظهرا قدرة استثنائية على القيادة والإدارة، وهنا يرى الكاتب أن تهيئة التربة لحركة جماهيرية تؤدي إلى أفضل وجه على يد رجال، موهبتهم الأساسية استخدام الكلمة المسموعة. وهناك لحظة ما، في حياة كل رجل من رجال الكلمة، يمكن فيها اجتذابه إلى صف النظام عن طريق مبادرة سلام وتقديره يقوم بها الحاكمين...كمثال على الإمبراطورية الرومانية التي ظلت زمنا طويلا، حين حدث تحالف بين الحكام الرومان ورجال الكلمة اليونانيين.

لطالما كانت الريادة في قيام حركات جماهيرية معاصرة، سواء كانت اجتماعية أو قومية، تعود دومًا إلى الشعراء والمؤرخين والباحثين والفلاسفة. فالمثقفون الألمان قد صاغوا فكرة القومية الألمانية، كما صاغ المثقفون اليهود فكرة الصهيونية.

ويولد المثقف هذه الحركات الجماهيرية من خلال انتقاص المذاهب والمؤسسات القائمة وزعزعة شرعيتها وغيرها من العوامل.

وهنالك حركات جماهيرية ضارة وأخرى نافعة، فعندما تحتفظ الحركات الجماهيرية عبر عدة أجيال بالطابع الذي صاغته المرحلة الديناميكية، فإن النتيجة هي ظهور مدة من الجمود وبداية عصر مظلم. والمرحلة الديناميكية تكون فقيرة في الإبداع. فعندما تفتح الحركة آفاقًا بعيدة للحروب والموت، تستنزف بذلك القدرة الإبداعية لديها، وعندما تظهر الحركة الجماهيرية أي نوع من أنواع الابتكار، فهو عادة، ابتكار في التطبيق أو في الكم. وحينما تظهر كحركة ضد الطغيان أو الظلم، من الطبيعي أن تنتهي بانتهاء هذا الطغيان مع نهاية الصراع.

في النهاية، كتاب "المؤمن الصادق،أفكار حول طبيعة الحركات الجماهيرية" للكاتب الأمريكي العصامي إيريك هوفر، كان رؤية ومفتاحا لتبيان وفك الدوائر المحيطة بالحركات الجماهيرية، من حيث فكرة تأسيسها وطبيعة الأفراد المنتمين إليها، وتبيان مدى تأثيرها داخل دوائر المجتمع، ومن هم منسقو تواجدها أحيانًا، كرجال الكلمة من المثقفين والأدباء، والمعروفين مثل القادة العسكريين وغيرهم من رجال الدين...

جاء الكتاب مترجمًا في 242 صفحة، قام بترجمته الأديب والدبلوماسي الراحل غازي بن عبد الرحمن القصيبي، ونشرته هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث (كلمة) تحت رعاية مؤسسة الانتشار العربي في طبعته الأولى عام 2010، وقد تم نشر نسخته الأصلية المكتوبة بالإنجليزية من تأليف إيريك هوفر في خمسينيات القرن الماضي.