الماضي ونوره الأبيض


فئة :  قراءات في كتب

الماضي ونوره الأبيض

الماضي ونوره الأبيض:

قراءة في كتاب (الذاكرة، التاريخ، النسيان) لبول ريكور*

بقلم: إيمانويل ماكرون

ترجمة: الزواوي بغوره**

 

العلاقات بين التاريخ والذاكرة، في الأصل، علاقات دقيقة وحميمة، ويبدو أن مسألة الأصل يعاد طرحها بقوة في عصر الاحتفاء و(واجب الذاكرة)، بينما التاريخ يحتلّ مكاناً متميّزاً في العلوم الإنسانية، ويتضاعف بأشكال تبسيطية تجعله في متناول الجميع. والحال أنه من غير المجدي زعم تقديم إجابة فاصلة؛ ذلك أنه من المؤكد، إذا كان التاريخ علماً إنسانياً (بمميزاته العلمية) يعمل على ركائز سياسية واقتصادية وثقافية واجتماعية، وأن الذاكرة تنتمي إلى النفسي والانطباعي، وإلى كل ممارسة يمكن أن تكون فردية، أو جماعية. سيكون ذلك، بالفعل، بلا جدوى، ومن دون شكّ هو أمر خاطئ. إن العلاقات بين الذاكرة والتاريخ ما فتئت تكشف عن تعقدها، وتثير رهانات سجالية حيّة، ولا سيّما أثناء المحاكمات التاريخية الكبرى خلال السنين الخمسين الأخيرة، كالجرائم ضد الإنسانية غير القابلة للتقادم، التي سمحت، بالفعل، بمثول بعض الضحايا وفاعلي الحروب والمجازر في هذا القرن (أمام المحاكم)، ومواجهتهم بالشهود، وبكلّ أولئك الذين أودعوا ذكرياتهم المصابة، أو غير المبالية (في مذكراتهم)، وبذلك أعطوا مكانة لمؤرّخي العصر الحاضر.

وهذه العلاقات بين الذاكرة والتاريخ تحديداً هي التي حلّلها بول ريكور في كتابه (الذاكرة، التاريخ، النسيان). يعمّق هذا الكتاب هذين المفهومين، بعد أن رسم في (الزمان والسرد)[1] تحليلاً للخطاب والسرد التاريخي. ولكن الذاكرة في هذا الكتاب ليست في حالة تقابل مع التاريخ؛ لأن النسيان، وهو الوجه السلبي للذاكرة، يظهر في العنوان، ويكشف أنّ الأمر لا يتعلق بزوجين إنّما بثلاثية؛ ذلك أن التداخلات بين الخطاب التاريخي وخطاب الذاكرة تطرح مشكلات عديدة. تعدُّ الذاكرة أساس وقاعدة التاريخ، لكن حضورها الدائم يمكن أن يجعل من التحليل التاريخي أمراً صعباً، كما أن غيابها، في بعض الأحيان، يكون قاسياً، ومن ثم يسود النسيان بشكل يبدو غير عادل. وغالباً، إن عمل وخطاب الذاكرة يؤثران في، ويوجّهان؛ العمل التاريخي.

فما العلاقات التي تُنسج بين التاريخ والذاكرة، وبين هذه العلاقات والماضي، والتي من خلالها يطفو النسيان بين السطور؟ للإجابة عن هذا السؤال، اتّبع بول ريكور طريقة بحثية غير مسبوقة؛ حلّل الذاكرة قبل التاريخ، في حين لم يدرس النسيان إلا في نهاية الكتاب. ولم يدرس الذاكرة نفسها في علاقتها بالزمن (كما فعل ذلك أوغسطين (Augustin))، إنّما قاربها من زاوية الأيقونة (eikon) (كلمة يونانية تترجم غالباً بالصورة (image)) الأفلاطونية. وعلى هذا الأساس، إن (الذاكرة، التاريخ، النسيان) يبدأ بتلخيص فينومينولوجيا الذاكرة (القسم الأول) قبل أن يدرس إبستمولوجيا التاريخ (القسم الثاني)، وفي الأخير عالج «الوضع التاريخي» (القسم الثالث)، وفيه عرض تحليلاً خاصّاً للنسيان. وفي نهاية هذا العمل، نقرأ خاتمة حول (الصفح الصعب)[2]، وفيه نَظَر في قضية الخطأ والخطيئة وعلاقتهما بالماضي (لقد ترك بول ريكور هذه القضية سابقاً بشكل إرادي، وفي قراءتنا الحالية لن نثيرها إلا جزئياً)، ومن ثمّ استأنف إعادة القراءة للكتاب على ضوء هذا الأفق. إذاً، لقد عرض (الذاكرة، التاريخ، النسيان) بشكل منفصل، ثم بَيَّن التشابك الذي يُوحدها. وأدّت قراءته للأفكار الفلسفية الأخرى (من أرسطو إلى برغسون (Bergson) مروراً بأوغسطين، ومارين (Marin) أو دريدا (Derrida)...)، والمؤرّخين (سارتو (Certeau)، لو غوف (Le Goff)، نورا (Nora)...)، وعلماء الاجتماع (هلبواشز (Halbwachs)، موس (Mauss)...)، وكذلك الباحثين في علم الأعصاب، إلى تفكير أصيل يُعقِّد ويشبك مستويات التحليل الفلسفي. لم ينغلق أبداً بول ريكور في الإبستمولوجيا، أو الفينومينولوجيا، أو الأنطولوجيا، فكل واحد من هذه المجالات يغتني ويتضح بحضور الآخر. ومجمل هذا الترتيب، وحججه الخاصة، يَقْلِبُ شيئاً فشيئاً الأفكار السهلة والمكرّرة والمتفق عليها. ألم يكتب باسكال (Pascal) قائلاً: «لا تقولوا لي إنني لم أقل أيّ جديد، إن ترتيب المواد جديد، وعندما نلعب لعبة الطراحة (paume)[3]، فإن الكرة هي نفسها التي يلعب بها هذا أو ذاك، ولكن أحدهما يضعها في موضع أفضل من الآخر»؟

والحال أن هذا البناء المعماري المفهومي الدقيق لـ (الذاكرة، والتاريخ، والنسيان) لم يدرس بشكل تعاقبي، إنّما من خلال إشكالية بنائية تجتازه، وتعبره، وتبدو في شكل سؤال محوري للكتاب هو: ما تصوير/ تمثيل شيء ماضٍ؟ هل هذا التمثيل حقيقي ووفَيٌّ ومخلص للماضي؟ إن لغز التمثيل، الذي ظهر مع الصورة عند أفلاطون، هو الذي يقود كلّ تأملات هذا المسار، ويجلي قضية الثقة. فمن طموح الذاكرة بالوفاء إلى المنظور الحقيقي للتاريخ، مروراً بالإقرار بالشهادة، يظهر مجال الثقة في الواقع، وفي أدلة المعرفة (الذاكرية والتاريخية) الذي نمتلكه. وعلى هذا النحو، إن لغز التمثيل المقدّم لشيء غائب يحمل، بشكل غير مفصول، مسألة الإقرار/ الشهادة التي سبق لبول ريكور أن عرضها في كتابه (الذات عينها كآخر)[4]. ومسألة ما تبقى من الصورة تطرح إحراجات/ استعصاءات خاصّة بالذاكرة، كما هو الحال بالنسبة إلى التاريخ، ولا تكفي الأجوبة المقدّمة من قبل الأولى للثاني.

تمثيل الماضي في الذاكرة: «الذكرى والصورة»

تطرح الذاكرة مسألة تمثيل الماضي، وكذلك فينومينولوجيا الذاكرة، بوصفها دراسةً مدققةً لوظيفتها الظاهرة، تسمح بتحديد وتعيين الاستعصاءات والحلول، وإن كانت جزئية وغير مؤكدة، وترسمها الذاكرة.

يتمركز لغز تمثيل الماضي في الذاكرة في السؤال عن موضوع الذاكرة نفسها: ما الذي نتذكره؟ إننا نتذكر صورة، سواء كانت وجهاً، أم منظراً، أم اسماً؛ بمعنى أحرفاً مكتوبة في جزء من أجزاء الدماغ. وفي الأخير نتذكر كتابات وتسجيلات محفوظة ظهرت بوساطة البحث في الذاكرة (الاستذكار) (anamnèse)[5]، أو من خلال مصادفة التذكر غير المنتظر. وسؤال (ما) الخاص بالتذكّر هو بالفعل الصورة عند أفلاطون. وعليه، لم يتم تحليل الذاكرة قبل كلّ شيء، وبشكل حصري، في علاقتها بالزمن، إنّما في ارتباطها الطبيعي بالصور التي تشكل مضمونها، وهذه هي التي تظهر وتطرح إشكالية الزمن؛ ذلك أنّ الصورة هي لغز، بما أنها تُعطَى وتقدَّم، في الوقت نفسه، على أنها صورة حاضرة للفكر وصورة لشيء غائب. يتمثّل لغز الذاكرة في الحضور الغائب للصورة.

تحمل هذه الصورة العلامة الزمنية في نفسها: «الذاكرة هي من الزمن»[6]، هذا ما كتبه أرسطو في (الطبيعيات الصغرى) (Parva naturalia)، مدللاً بذلك على أنّ التذكر- الصورة الخاص بالذاكرة مسكون كله بالسابق والآنف، وبشيء سبق له أن وُجد وطُبع في روحي. ووُجود هذا السابق هو الذي يميّز الذاكرة على الخيال. والذكرى هي تمثيل لشيء قد وقع، ولشيء «كان قد حدث»، وليس توهّماً أو إنتاجاً عفوياً للفكر. إذاً، إنه الماضي الحاضر في الذكرى–الصورة، التي تدوِّن وتنقش نفسها في الزمن؛ ذكرى حاضرة، لها دائماً شيء من الماضي. كتب برغسون في كتابه (المادة والذاكرة) (Matière et Mémoire)، الذي استشهد به بول ريكور، وحلّله مطوّلاً، أن الذكرى هي: «في الوقت نفسه حالة حاضرة، وشيء يفصل مع الحاضر»، ويسمح بالتعرّف إليه من أجل ذكرى ما. والذاكرة هي من الزمن؛ لأن الذكرى-الصورة تحيا في الزمن دائماً.

لغز تمثيل الماضي في الذاكرة نابع، إذاً، من واقعة أننا نتذكّر «من دون الأشياء» و«مع الزمن» (القسم I، الفصل 1). لهذا السبب، وكما كتب أرسطو، إنّ الصورة «هي نفسها، وهي كذلك تصوير لشيء آخر»؛ هنالك دائماً جزء من الغيرية في الصورة- الذكرى، وشيء يبتعد عن البصمة الأصلية المتروكة، التي تقدّم نفسها إليَّ بشكل مستقل. هذا الآخر في الصورة هو بالتحديد الفاصل بين الإحالة الأولى وشبيهها (ذلك أن الذكرى هي دائماً محاكاة لأصل معروف ومحفوظ)، وهذه هي المسافة التي تقيس إخفاق وفاء أو إخلاص الذاكرة.

هذا اللغز واستعصاءاته المرتبطة به لا يمنع حدوث «المعجزة الصغرى» المتمثلة في التعرّف والاعتراف. وكما كتب بول ريكور: «الاعتراف هو فعل تذكُّري بامتياز» (القسم I، الفصل 1) يأتي لكي يتوّج العمل البحثي للتذكّر، أو اللقاءات الطارئة مع الماضي (الاستذكار)؛ ذلك أنني عندما أتذكر، فإنني أعترف بهذه الأسبقية، وبهذا الحدث الذي حدث ووقع، والذي دوَّنته ذاكرتي. يتأكد التعرّف من خلال التعجب: «إنه هو! هو هذا!»، وفي هذه اللحظة، إن الشخص الذي يتذكر يستطيع أن يُقدِّر تطابق صورة الذاكرة مع التجربة الأولى والأصلية. ويعترف بما سبق أن رآه، وبما سبق أن عايشه. إن التعرّف هو «انتعاش الصور» الذي تحدَّث عنه برغسون، وهو، في الوقت نفسه، علامة على تطابق الذكرى–الصورة مع الانفعال والتجربة الأولى.

وحينئذٍ ينكشف فعل الثقة الذي تقوم عليه الذاكرة؛ لا شيء يثبت لي مطلقاً أن هذا التعرف هو التجربة الأولى التي وقعت؛ ولكن، كما كتب بول ريكور: «ليس لدينا أفضل من الصورة-الذكرى في لحظة التعرف» (محاضرة مارك بلوخ، نص سيظهر في العدد القادم من مجلة: الحوليات: (Annales))[7]. من الممكن أننا نخطئ غالباً، ولكن هذه هي المخاطرة التي يتضمنها عمل الذاكرة بوساطة الذكرى التي هي ليست شيئاً آخر غير صورة تشبه التجربة الأولى، والانطباع الأوّلي. إن طريق التشابه الملازم للذكرى، وهذا الغموض الأصلي، هو الذي يترك المجال مفتوحاً لإمكانية التوهّم والخيال؛ إذ من الممكن أن نخطئ عندما نعتقد أننا تعرفنا. مع أننا: «لا نستمر في قياس استخفافنا وخيبتنا بالعلامات التي جاءتنا من التعرّف الراسخ؟» (القسم I، الفصل 1).

يطرح تمثيل الماضي في الذاكرة استعصاءات ملتفّة أو متحايلة في جزء منها: الإحالة إلى سابق ما وإلى شيء قد مضى وترك بصمته فينا، والتعرّف إلى الذكرى-الصورة كتأكيد وتطابق مع التجربة الأولى هي حلول هشّة تسمح بأن يرضي ويلبي طموح ورغبة الوفاء أو الإخلاص في الذاكرة.

الآثار: من بصمات الذاكرة إلى وثائق التاريخ

تمثيل الماضي غير ممكن، إلا إذا وُجِدت في الذاكرة آثار، وهذه الآثار هي البصمات التي تركتها الانفعالات والعواطف والتجارب المُعاشة، والتي نُقشت في الروح. وهذه الآثار هي أصل حضور الغياب؛ إنها الأثر لما جرى وحدث ولم يعد قائماً.

 

إن أهمية الأثر بارزة منذ التأملات الأفلاطونية حول الذاكرة التي قدّمها في محاورة (ثياتيتوس) (Théétète). والاستعارة الخاصة بقطعة الشمع تُظهر انطباع الأثر في الذاكرة: «وكما نحفر، كتوقيع، سمتنا على خاتمنا، كذلك نحن، حين تقع قطعة الشمع هذه تحت إمرة أحاسيسنا وأفكارنا، نطبع عليها ما نريد أن نتذكره»[8].

تأتي الذكرى، إذن، صورة الذكرى، من هذا الأثر (السمة/ البصمة (typos) عند أفلاطون)، وانطلاقاً منها يصبح فعل التذكر نفسه ممكناً. والتعرّف، إذاً، هو تعرف مطابق بين التدوين والتقييد (الصورة المشكَّلة بوساطة عمل الذاكرة) والبصمة الأصلية التي تركها الانفعال الأول. ويظهر الخطأ في العلاقة بالأثر: أن تخطئ يعني أن تختار بصمة سيئة. وعلى هذا الأساس، مهما كان عمل الذاكرة وطبيعة الذكرى، إنهما يصدران، أو ينبثقان، من الأثر المتروك في الروح (في الدماغ كما يقول الباحثون في علوم الأعصاب).

والحال أن الأثر، الذي منه يتشكّل تمثيل الماضي، هو أثر متعدّد. لهذا السبب، إن الأثر يشكل إشكالية دائمة للذاكرة بالنسبة إلى التاريخ. وبالفعل، ثمة آثار، وهي آثار مُخية (دماغية) ونفسية ومادية في النهاية. وثلاثية الآثار هذه، التي وصفها بول ريكور، تسمح بدراسة إشكاليات الذاكرة والتاريخ.

لم يتناول بول ريكور الآثار المخيّة (أو الذاكرية mnésiques) إلا في نهاية القسم الثالث من الكتاب، وفي الفصل المتعلق بالنسيان. وهذه الآثار تُكثِّف إشكالية دلالة الصورة-الذكرى مع تلك المتعلقة بـ «مادية الأثر». وهذه الآثار هي، مثلها مثل جميع الآثار، آثار في الحاضر، وهي منذئذٍ علامة–أثر-علامة لقضية غائبة. ويتم تعيين وموضعة هذه الآثار في الدماغ بألفاظ الأسطح، والدارات، والأنساق التي تربط التنظيمات والوظائف. وتُرسم جغرافية دماغية (تصف الأسطح التي يحتلّها هذا الأثر، أو ذلك التنظيم...) وتُصنَّف وظيفياً (تعيين الوظائف ومختلف أشكال الذاكرة)، وبذلك يواصل بول ريكو حواراً بدأه مع جان بيير شانجو (Jean-Pierre Changeux)، واغتنى بقراءات أ. بيرتوز (A.Berthoz)، وب. بوزيه (P.Buser). ولا يمكننا، هنا، استعادة التحاليل الدقيقة المقدمة في هذا الموضوع، التي تُبيِّن الأهمية الخاصة لمادية ووضعية الأثر. ولا تأتي هذه الدراسة، إلا إذا تفحّصنا النسيان؛ ذلك لأن «الدماغ لا يسهم مباشرة في الفهم الذاتي (autocompréhension) إلا في حالة الخلل الوظيفي» (القسم III الفصل 3). وهذه الآثار الدماغية موجودة في الفكر، إلا أنها تنمحي وتضيع.

وأمّا الآثار النفسية، فمختلفة؛ إنها تلك الآثار التي سبق أن تحدثنا عنها سابقاً مع أفلاطون. إنها عبارة عن تسجيل لانفعالات أولية «استمرارية الانطباعات الأولية كنوع من السلبية حدثٌ أصابنا وأثَّر فينا، وعلامة الأثر لا تزال باقية في فكرنا» (القسم III الفصل3). إذن، يُقال الأثر النفسي بألفاظ البقايا والمدة. وتسمح هذه الآثار، التي تبقى في حالة الكمون في الدماغ، حيث لا يضيع ما سبق رؤيته، وشعر به، وتمّت معايشته. وهذه هي الآثار التي تسمح بحدوث «المعجزة الصغرى» للتعرّف. يرتبط التعرّف حصرياً بهذه الآثار النفسية، وهو ما سماه برغسون «بقاء الصور».

ولكنه أيضاً الأثر الذي يرسم لوحة الإشكاليات المشتركة للذاكرة والتاريخ؛ لأن الأثر يمكن أن يكون أثراً مادياً. والوثائق والشهادات والرسومات الصخرية، والأشياء اليومية الصغيرة... وكلّ أطلال الماضي، تمثل آثاراً يتعين على المؤرخ أن يعالجها معالجةً علميةً. وهذه الآثار المادية هي التي تسمح بمعرفة وتمثيل الماضي تاريخياً. وأخيراً، إنّ هذه الآثار هي التي تجعل من المستحيل قيام تعرف/ اعتراف في التاريخ؛ إنها ليست شيئاً آخر غير بصمة أفراد وممارسات ومؤسسات، ولا يمكن للمؤرّخ، أو للإنسان الحاضر، أن يعرفها إلا من خلالها، وحده الأثر يمكن معرفته بوصفه مؤشراً إلى ماضٍ لم يُعَشْ، ولحظات لم يُشعر بها. إذاً، هنالك استحالة التعرف في التاريخ: وهذا يثبت أن الحلول المقدمة من قبل الذاكرة لا يمكن تقديمها إلى التاريخ كيفما اتفق، أو بلا تبصّر.

الآثار هي المادة الأولية للذاكرة والتاريخ على حدٍّ سواء. وتشكّل شرط إمكانية تمثيل الماضي، وفي الوقت نفسه مبدأ الاستعصاءات التي تُعارض بعضها بعضاً.

تمثيل الماضي في التاريخ: التمثيل الفعلي (représentance)[9]

أدّت الآثار إلى انبثاق التاريخ جنباً إلى جنب مع الذاكرة. وسواء تعلق الأمر بالتاريخ أم بالذاكرة، إنّ لغز تمثيل الماضي يبقى مطروحاً. وإزاء الوفاء الذي تأمله الذاكرة، إن التاريخ يستجيب لطموح بلوغ الحقيقة. غير أن المعرفة التاريخية تبقى متميزة ومستقلة بالنسبة إلى ظاهرة التذكّر: تلك هي فرضية إبستمولوجيا متسقة للتاريخ بوصفه فرعاً أدبيّاً وعلميّاً.

إن القطيعة بين الذاكرة والتاريخ قد أُنجزت هنا بوساطة الكتابة، ثم إنّ بول ريكور يمهّد لإبستمولوجيته في التاريخ بأسطورة اختراع الكتابة بوصفه دواء (pharmakon)، كما ذُكِر في محاورة (فيدروس) (Phèdre). وكلمة الدواء ملتبسة؛ لأنها تشير إلى العلاج والسمّ في الوقت نفسه. وتعدُّ الكتابة علاجاً؛ لأنها تساعد الذاكرة، وتسمح لها بمواجهة النسيان؛ وذلك من خلال سلسلة من البصمات الخارجية التي بها يتمكّن الناس من التذكّر. وهي سمّ، وذلك بالنظر إلى أن فنّ الكتابة هذا «يحدث النسيان في نَفْسِ كل من تعلمها؛ لأنه بذلك سيكف عن استعمال ذاكرته»[10]، ولأن هذه الآثار مكتوبة وخارجية، وتحلّ محل الآثار الحميمية للذاكرة. إذاً، إن الكتابة تقطع التاريخ عن الذاكرة، وتطرح إشكاليات جديدة. وهذه الآثار الخارجية، التي يواجهها الكاتب، تتميز دائماً بالمسافة الأصلية، وبهذا الابتعاد والفارق الذي يجعل عملية التعرف مستحيلة. يبقى الأثر في التاريخ خارجياً دائماً؛ وليس العمل التاريخي إلا إعادة بناء للماضي انطلاقاً من الآثار المتاحة بفضل الكتابة. إذن، تسكن الكتابة التاريخ، وذلك قياساً إلى أنها تعدُّ بمثابة الكلمة الأولى والنهائية. الآثار في التاريخ هي الكتابة - وهي رسم بشكل أساسي (يربط أفلاطون في محاورة فيدروس بين هذه وتلك)- في حين أن التاريخ يميل أكثر نحو كتابة وتمثيل الماضي. ويبلغ العمل التاريخي معناه الكامل باعتباره كتابةً تاريخيةً. ويقدم التاريخ، إجمالاً، تمثيلاً للماضي يختلف عن ذلك الذي تقدمه الذاكرة. ولا يتوجّه التاريخ المكتوب إلى أيّ أحد بعينه، وهو منشور ومعروض على الجميع، لكنّه يبقى (مستودعاً ميتاً)، في حين أن الذاكرة تتميّز بكونها حيّةً دائماً. إلا أنه، من أجل تحديد خصوصية تمثيل الماضي في التاريخ، يجب فهم تلك الكلية التي سمّاها بول ريكور، بعد ميشيل دو سارتو، «عملية كتابة التاريخ». وتغطّي هذه العملية ثلاث مراحل، وثلاثة مستويات من العمل التاريخي متداخلة فيما بينها من غير نظام أو تعاقب؛ وهي: استعمال الأرشيف، والتفسير/ الفهم، والتصوير التاريخي.

يبدأ استعمال الأرشيف، أو المرحلة الوثائقية من تصريحات شهود العيان، واكتشاف الآثار المادية (أدوات منزلية، كتابات، رسومات...) إلى تكوين الأرشيف. ويقتضي عمل المؤرّخ تحويل هذا المعطى التكويني، الذي أصبح تأويلاً، والمتمثل في الحجة الوثائقية، انطلاقاً من الوثيقة والأثر المستعمل والمؤرشف، وبه يمكن بناء الماضي، وتمثيله من قبل المؤرّخ. ويُبيِّن هذا المستوى إلى أيّة درجة تكون الوثائق مبنيّة ومدروسة؛ وذلك من خلال إقامة ما سمّاه كارلو غينزبورغ (Carlo Ginzburg) النموذج المؤشري (paradigm indiciaire)، الذي يشكل قاعدة المعرفة التاريخية. ومنذ هذه اللحظة، يتشكّل الرهان المتمثل في حقيقة التاريخ، حيث تعتمد المعرفة التاريخية على موثوقية الشهادات، وأصالة الآثار، وعلمية استعمال الأرشيف، ثمّ إن الحجَّة المُشكَّلة تنتمي إلى منطق احتمالي يرتبط بـ «بنية الشهادة وموثوقيتها» (القسم II، الفصل 1)، التي يجب أن تكون مأخوذة ضمن أحابيل الحجاج ونقد الشهادة والوثيقة.

انطلاقاً من هذه الوثائق المدوّنة، يبنى التفسير/ الفهم[11]. ولقد سبق لهذا الزوج أن حضر في صوغ الوثيقة ذاتها، التي اقتضت طرح السؤال «لماذا» على أشياء الماضي التي نمتلك عنها آثاراً. وللقيام بذلك، إن للمؤرخ وسائل متعددة، تبدأ من السببية الميكانيكية/ الآلية (المستعملة في التاريخ الاقتصادي)، إلى التفسير وفقاً للدوافع (بالنسبة إلى التاريخ السياسي على سبيل المثال). وفي هذا الصدد، إن من الموضوعات المميزة في التاريخ موضوع التمثيل نفسه. وتاريخ التمثلات، الذي سُمّي تاريخ العقليات/ الذهنيات، يعني دراسة المعتقدات والاتفاقات والمعايير التي تشكل رمزياً الروابط الاجتماعية وتكوين الهويات. والتحليل الذي قام به بول ريكور لهذا التاريخ يُستعمل من أجل توضيح عمل التفسير/الفهم الدقيق هنا، وفي الوقت نفسه يؤدي إلى لبس إضافي بين التمثيل بوصفه عملية متعلقة بعمل المؤرّخ، والتمثيل بوصفه موضوعاً للفهم هنا. ومن خلال التفسير/الفهم، إن التمثيل الموضوعي للماضي قد اتضح، ومن ثمّ إن الذاكرة نفسها تعدُّ تمثيلاً خاصّاً وعامّاً للماضي. وبذلك تكون مرحلة التفسير/الفهم قد أظهرت الآليات، أو الميكانيزمات، المرتبطة بأحداث الماضي، وبيَّنت مكانة هذه الأحداث، أو هذه الأشياء، الماضية بالنسبة إلى معاصريها.

ومع ذلك، إنّ عملية الكتابة التاريخيّة لا تجد اكتمالها إلا في إعادة البناء الأدبي للماضي، وفي «كتابة التاريخ»[12]، التي يشكّلها تمثيل الماضي. إنّ هذا البعد السردي والأدبي للتصوير التاريخي لا يُعدّ نهايةً للعمل التاريخي، وإنما يصاحب كل مرحلة من مراحل الكتابة التاريخية؛ ذلك لأن التصوير التاريخي هو المستوى الذي يسمح بتقدير الطبيعة النصية للتاريخ، والنظر في الكتابة من حيث مقروئيتها ومرئيتها في النص التاريخي الذي ينتظره القارئ. وفي هذه اللحظة بالذات، تترابط وتتشابك استعصاءات التاريخ المختلفة، تلك الاستعصاءات التي ظهرت في المراحل الأخرى وتحوّلت الآن، بينما ستظهر استعصاءات أخرى من جديد. كما أنه في هذه اللحظة، أيضاً، تطرح مسألة ميثاق الحقيقة في التاريخ، والتوجه نحو الحقيقة في تمثيل الماضي من خلال الكتابة، وأشكالها التاريخية السردية والخطابية المدرجة في الانتقال من الإحالة التاريخية إلى خطاب بدرجات ومستويات من القراءة تصبح بدورها درجات ومستويات في الكتابة، وتدخل كثافتها الخاصة في مرجعية الخطاب التاريخي. وهنا، يتابع بول ريكور تحليله للاستعارات والصور التي بدأها في كتابه (الزمان والسرد)؛ وذلك في إطار الإشكالية الخاصة بالكتابة التاريخية. ولقد كشف عن دقائق الخطاب، وكذلك عن «روعة الصورة» المرئية والمروية (إذا استعملنا عبارة لويس مارين (Louis Marin)، التي علَّق عليها مطولاً)، وبذلك يفكّ الانسجام والتلاحم السردي القائم في الكتابة والربط السببي (الذي ينتمي إلى التفسير/الفهم)، ومن ثمّ يعمل الفيلسوف على إبطال محاولات الخلل الوظيفي بين التوهّم، أو التخيل، والتاريخ[13]. وتشكل صور الخطاب والفكر هذه البنية الحميمية لـ «المخيال التاريخي» بحسب هيدن وايت (Hayden White)؛ لأن التمثيل التاريخي لا يجعل الأحداث والأشياء الماضية مقروءة فحسب؛ وذلك من خلال الانسجام، أو التلاحم، السردي الذي يكسوها، إنّما يعطيها وسيلة لكي تظهر على المسرح، ومن ثم إخراجها في شكل صور الماضي، حيث يجد التصوير اكتماله في المشروع التاريخي الذي يبلورها. بالإضافة إلى الاعتراف بإسهامات «نظرية الأسلوب»، والتحليلات الخاصة بالبنية العميقة للمخيال التي طوّرها هيدن وايت (التي تتقارب مع تحليلات بول فين (Paul Veyne)، وميشيل فوكو (Michel Foucault) المُشار إليها). إنّ بول ريكور يؤكد أنّه «يجب إحداث تمفصل بين أنماط التصوير والتفسير/الفهم، ومن خلالها على اللحظة التوثيقية ومضمونها الحقيقي المفترض والمتمثل في الشهادة» (القسم II، الفصل 3). ويعدُّ هذا «العمل التركيبي للخطاب التاريخي»، والغائب عند هيدن وايت، هو وحده الذي يأخذ في الاعتبار تعقّد عملية الكتابة التاريخية.

ولكن التصوير التاريخي للماضي يتضمن كذلك في ذاته قصدية المعرفة التاريخية، وهذا ما يحدد التمثيل الفعلي (representance). وهذا هو الذي يكثف كل التطلعات المرتبطة بالمعرفة التاريخية، ولاسيّما الميثاق الخاص الذي يجمع بين المؤرّخ والقارئ، والذي من خلاله يَعِدُ الأول الثاني بالحقيقة التاريخية التي يكتبها. ففي التمثيل الفعلي تتحدّد الاستعصاءات المطروحة على مستوى الذاكرة؛ يمثل التاريخ الماضي ببنيات (مخيالية، وخطابية، وسردية) تعمل على «إقامة حلقة مع نفسها» (القسم II، الفصل3). وبذلك تبتعد عن الإحالة، وتُظهر صور الخطاب التاريخي كما لو أنها شاشات تتوسط الماضي الغائب وصورته الحاضرة. وهكذا تُضاف إلى استعصاءات الصورة الأفلاطونية الشكوك الخاصة بكتابة التاريخ، وتقديمها في شكل صورة. وبذلك يُطرح السؤال: أليس ما يرويه المؤرّخ مجرد سراب، وأن الماضي الذي يمثله على أنه حقيقي هو شيء آخر؟ وهنا تُطرح من جديد مسألة الثقة؛ الثقة في الشهادات وفي الآثار. ولكن استحالة التعرّف تفتح المجال أمام الشك العلمي والنقدي، الذي يؤدي إلى الآثار، ويعيد النظر في التفسيرات، ويكشف عن غيرها. وهذا النقد الدؤوب، والمرتبط باستحالة التعرّف، هو الذي يشكل وصم وختم التصوير، الذي يطرح مشكلة الثقة والشهادة في قلب عملية الكتابة التاريخية (التي تجتازها بدءاً من الشهادة إلى غاية كتابة التاريخ)، وينفتح هذا النقد على نقاشات لا حدّ لها تعمل على الاقتراب من حقيقة التاريخ.

وهكذا، يكتسب لغز تمثيل الماضي درجته العالية من الأشكلة في التاريخ؛ حيث توجد هنا الاستعصاءات المرتبطة بالصورة والآثار في حالة تقاطع مع تحليل الذاكرة، كما تظهر مشكلات جديدة، كمشكلة عرض الماضي في الخطاب التاريخي الذي يخلط الأوراق من جديد بين التاريخ والوهم، أو التخيل، ولاسيّما أنه من باب الاستحالة في التاريخ التقدم بالحل المؤقت الذي يسمح به التعرف في الذاكرة؛ لأن التاريخ يبقى دائماً رهين تلك المسافة مع آثاره الخاصة، ومع مضمونه الخاص، مسافة تشبه الدواء الذي تحوّل إلى سُمّ...

إسناد تصورات الماضي: مسألة الذوات

أظهر تحليل الذاكرة والتاريخ «ذواتاً» مختلفةً؛ وذلك لأن التمحيص خلف سؤال «ما» يظهر سؤالاً آخر هو «مَن». وهذه الذوات تتشابك وتتقاطع، وتُضاف إلى إشكالية الماضي. ونظريات الإسناد (الخاصة بالذاكرة، والمسؤولية...)، التي رسمها بول ريكور بعمق، تطرح مسألة «مَن» باعتبارها مسألةً أساسيةً؛ لأن العلاقات مع الماضي تُنسَج من خلال الأدوار التي يقوم بها كلّ واحد.

وبالفعل، إنّ الذاكرة ليست دائماً ذاكرتـ(ي)؛ فثمة إسناد إلى الذاكرة يخص ثلاثة أنواع من الذوات: الأنا، الأقربين، الآخرين. ويسمح هذا الإسناد المتعدد بتحديد إشكالية الذاكرة في استمرارها، وانتقالها من الذاكرة الفردية إلى الذاكرة الجماعية. وعلى هذا الأساس، يمكن تحديد المسافة القائمة بين هذا الشكل الأخير من الذاكرة وبين التاريخ نفسه. أمّا التاريخ، فليس له من ذات إلا الذات التي تكتبه، والمتمثلة في المؤرّخ. يقوم هذا المؤرّخ بدور علمي مثبت؛ وذلك وفقاً لما تسمح به مراحل الكتابة التاريخية من تفسير. وأمّا الذات القارئة للتاريخ، فتبقى ذاتاً غير معروفة؛ وهذا القارئ هو ما ينتظره التاريخ المكتوب عبر الأجيال، الذي يجعل من طابعه الغفل (anonyme) إمكانية لطموح صادق؛ لأن هذا لا يجري داخل علاقات مخصوصة، أو محصورة، في ذات معيّنة، أو جماعة خاصّة بتلقيه.

ولكن إشكالية هذه الإسنادات الخاصة بتمثيل الماضي تختلط وتتداخل عندما يُظهر التحليل مقولات جديدة، كمقولة المواطن، أو مقولة القاضي.

تؤدي ممارسة الذاكرة، ولا سيّما الذاكرة الجماعية، إلى التساؤل عن ذاكرة المواطن، هذا الفرد الذي لا يوجد إلا عندما ينتمي إلى جماعة سياسية تتجاوزه، ولها ماضيها الخاص. ومعه تطرح صورة «واجب الذاكرة». وشرط الذاكرة هذا هو وصية مقدمة للمواطن؛ «في الأصل، وحيث لا يوجد سوى الحرص على النسب، وضمن مسار الأجيال الطويل، ستحكي أو تروي لابنك» (محاضرات مارك- بلوخ في طور النشر). ولا يكتسب هذا الأمر معناه إلا بالنسبة إلى الصعوبة التي تواجهها إقامة الذاكرة. وشرط المستقبل يضاد الطبيعة العميقة للذاكرة، التي لا يمكن لها إلا أن تكون تمريناً صعباً في الأغلب، وتذكراً واسترجاعاً يجري في الحاضر باتجاه الماضي. وتأتي هذه المفارقة النحوية من شرط العدالة، التي «تُحوِّل الذاكرة إلى مشروع» (القسم I، الفصل 2). ويرتبط، أخيراً، هذا الشرط الخاص بالعدالة بالأولوية الأخلاقية المعطاة للضحايا في إطار واجب الذاكرة الأساسي. ومع ذلك، من المناسب في ظلّ شرعية واجب الذاكرة المُعترف به هكذا، التساؤل عن وجود تجاوزات وانحرافات، وهو ما نجده في استعمال واجب الذاكرة كتعويذة أو تميمة. وبالاعتماد على أعمال هنري روسو (Henry Rousso) حول العلاقات بين الذاكرة والرضات، أو الصدمات التي تعرض لها الفرنسيون في سنوات (1940-1945)، بَيَّن بول ريكور أنّه «بقدر ما يظلّ الإعلان عن واجب الذاكرة أسير أعراض تسلّط الوسواس، يظلّ يتردّد بين الاستعمال الجيد، وبين إساءة الاستعمال» (القسم I، الفصل 2). وتشكل الاحتفالات الحادة، بدورها، انحرافاً عن واجب الذاكرة؛ لأنها أصبحت ذاكرة مفروضة، وبعيدة عن شرطها المتمثل في العدالة. وهكذا يمكن أن يكون واجب الذاكرة أنموذجاً للاستعمال الجيد، كما يمكن أن يكون أنموذجاً للتجاوز في ممارسة الذاكرة. وبسبب الطابع المفارق لشرط واجب الذاكرة، فضل بول ريكور صيغة «عمل الذاكرة»، حيث يمكن استبعاد خطر الدوران في الحلقة المفرغة من قبل الذاكرة، وانغلاق ذاكرة هذه الجماعة أو تلك «على مأساتها الفردية».

ولكن صورة المواطن لم يتمّ استبعادها، وذلك بحكم أنّ المواطن يبلور في نفسه إشكاليات الذاكرة والتاريخ، باعتبارها تمثيلاً لماضٍ جماعيّ يشكّل هو جزءاً منه. كما أنه يسكن في قلب ميراث الماضي الممثل من قبل التاريخ، وعليه أن يحكم بين الذاكرة والتاريخ، حيث تتشارك عملية القراءة والتذكّر. إن المحاكمات الكبرى في التاريخ قد قادت المؤرّخين إلى أن يمثلوا أمام القضاء، وأن يبلوروا هذه العلاقة الخاصة. ولقد أصبح للقاضي والمؤرّخ مهمة تحليل الماضي. ولكن إذا كان الثاني يبني تصوراً أدبياً قائماً على بنى تكون موضوع مناقشة بين هذا وذاك، فإن على الأول أن يفصل في الحاضر في وضعية حدثت في الماضي، حتى تتمكن الضحايا من أن تحيا حياتها، ومن المحتمل أن تصفح. وفي اختلاف تحليلهما تكمن حساسية متمثلة في تحديد مسؤولية المجرم، وذلك بحكم أن الخطاب القضائي يركز على المسؤولية الفردية، بينما يتميز الخطاب التاريخي بطابعه المتعدد؛ لأنه يأخذ في الاعتبار البنى والتنظيمات والسياق، كاشفاً عن عناصر جماعية في المسؤولية. للقاضي والمؤرخ وضعية وممارسة متقاربة؛ كلّ واحد منهما يعمل على آثار مادية تركها الماضي كدلائل على حدث (و«النموذج المؤشري» في التاريخ الذي حلّله س. غينزبورغ يأخذ هنا دلالته الكاملة)، وكل واحد منهما يقوده طموح إلى إعادة البناء، ولكن إعادة بناء الماضي (بالنسبة إلى المؤرخ) تكون بهدف تعيين الحقيقة.

إذن، يلتقي القاضي والمؤرّخ في العلاقة بالماضي؛ لأن كل واحد منهما يبحث عن تفسير للمأساة، ومن الممكن الوصول إلى الصفح. ولكن، إذا كان القاضي يصدر حكماً فاصلاً (لا يتطلب إلا وقتاً محدوداً) فإن الخلاف بين المؤرخين لا ينتهي، ويُسمح في الخطاب التاريخي، وفي المجال القضائي والعام، بحدوث انشقاقات ونقاشات دائمة، ويُمكِّن من أرضية مفتوحة دوماً لعمل الذاكرة والتاريخ.

«الوضع التاريخي»: الوجود الذي نحن عليه من ذاكرة وتاريخ

تمثيل الماضي في الذاكرة كما هو في التاريخ غير ممكن؛ لأن كل واحد منا كائن تاريخي. والوضع التاريخي الذي دُرس في الجزء الثالث والأخير من الكتاب يظهر وكأنه فرضية وجودية، سواء بالنسبة إلى الخطاب التاريخي، أم بالنسبة إلى الظواهر التذكرية. إنّنا لا نمثل الماضي إلا لأننا نوجد في الزمن، ولأن أجدادنا وأسلافنا وجدوا في الزمن. إذاً، إن الوضع التاريخي هو سجننا، وفي الوقت نفسه يمثل شرط الإمكانية الأنطولوجية لكلّ تمثيل للماضي. وكما كتب بول ريكور: «نصنع التاريخ لأننا كائنات تاريخية» (القسم III، الفصل 1).

وعليه، إن الزمنية تأخذ كل أهميتها ضمن مسار الفلسفة الهايدغرية في (الكينونة والزمان). والفكرة المركزية لهذا الكتاب، الذي سبق أن درسه ريكور بعمق وتدقيق في الجزء الأول من كتابه (الزمان والسرد)، قد تبناها، وهي تقول: «إن الزمانية تشكل ميزة أساسية للوجود الذي هو نحن؛ بل هي الميزة قبل أيّة ميزة أخرى، تُشير إلى العلاقة بين هذا الوجود وبين الوجود بما هو وجود». تنتمي هذه الفرضية كليةً إلى مشروع مقاربة (التزم بها ريكور) حول الكائن، باعتباره فعلاً وقوةً داخل أنطولوجيا فلسفية[14]. ولا تختزل العلاقة مع الزمن كما هو الحال في تحليل علاقة الذاكرة والتاريخ بالماضي. وإذا كان هذا التجريد يدور حول المستقبل، فإن المستقبل يلقى مكانةً أساسية في دراسة الزمانية، ولا سيّما في فكر هايدغر، حيث التركيز الرئيس على المستقبل؛ وذلك من خلال الكينونة نحو الموت والمنزلة المعطاة للاهتمام، أو الرعاية. تعدُّ الزمانية في تعيينها للحاضر والماضي والمستقبل بمثابة الشرط الوجودي لصناعة التاريخ وتفكير التاريخ، وتستند الأحداث المنصرمة والحاضرة والقادمة، وكذلك الخطابات حول هذه الأحداث، على ظرفنا التاريخي.

قاد بول ريكور تحليلاً نقدياً للزمانية عند مارتن هايدغر، وأعطاها مقابلاً نقدياً يوضّح بشكل خاص الكائن التاريخي الذي نحن عليه. وبالفعل، إنّ هايدغر يضع المستقبلية، ذات الأهمية القصوى في تحليله للزمانية، تحت علامة الكائن من أجل الموت، وبذلك يخضع زمن التاريخ والطبيعة للتناهي. وهذا الكائن من أجل الموت هو الذي يسمح بقيام حوار بين الفلسفة الهايدغرية والمؤرّخ؛ ذلك لأن المؤرخ يكتب دائماً عن الموتى، عن الغائبين في التاريخ. «الكتابة قبر»، لكنّ المؤرّخ يعطي الموت جسدية ومادية تُركت على جانب من قبل الفيلسوف. ويظهر المؤرّخ، في تمثيله للموتى وأفعالهم، مقولة أساسية، أو جوهرية، للكائن التاريخي، ألا وهي: الكائن - في- الدَّين (l’être -en- dette). يضمن هذا المفهوم العلاقة بين المستقبلية والماضوية؛ وذلك بما يقدمه من علاقة مادية أو رمزية بين الأجيال. ومن هذه الوجهة، إن الدَّيْن، مفهوماً من دون إيحاءات أخلاقية، يعدُّ شرط الإمكان الوجودي للتمثيل الفعلي، وبذلك يتقدم «لقد كان» على «المنصرم»، ويبقى الماضي قائماً في الحاضر، وفي التمثيل وما يتضمنه بوصفه ماضياً للمستقبل.

ومنذئذٍ، يمكن للذاكرة والتاريخ أن يواجه بعضهما بعضاً بوصفهما ممارستين وعلاقتين بماضي الكائن التاريخي. وكلّ واحد منهما يدَّعي «الهيمنة على المجال المغلق للاستعادة»؛ يحاول التاريخ أن يختزل الذاكرة في موضوع من بين الموضوعات الأخرى، ويجسّد تاريخ التمثلات هذا المسعى. أمّا الذاكرة، بما هي ذاكرة شعب وجماعة، فإنها تعمل على امتلاك بعض الموضوعات وتأويلها. ولهذا، يخلص بول ريكور إلى عدم البتّ في هذه «الخصومة الخاصة بالأولوية».

تدعي الذاكرة الوفاء والإخلاص، ولا ينفصل هذا المطلب والاعتراف، منذ الأصل، عن لغز التمثيل. ومع ذلك، من الممكن للذاكرة أن تتعرّف وتربط الذكرى-الصورة بالأثر والتجربة الأولى المعيشة، حيث تصبح العلاقة مع الماضي علاقة حميمية وداخلية وحيّة. لهذا، إن التلاقي مع هذا الماضي يمكن أن يكون سعيداً وممتلئاً بهذه «المعجزة الصغيرة للتعرّف»، وبهذه السعادة الفائقة لانتعاش ما سبق أن عايشناه وأحببناه. لذا، إن أفق الذاكرة هو أفق ذاكرة سعيدة. و«الوضوح أمام ذات النفس» للتعرّف هو المعيار والمقياس الذي يسمح بالفصل بين ما هو سابق ومتقدّم وما هو مخيالي، والذي على أساسه تقوم الثقة. والأكثر من هذا أن الذاكرة مفهومة بعد التحليل الأقصى للصفح الذي قاده بول ريكور، والذي يظهر كامل ثرائه وغناه. إن حركة الصفح التي تربطني وتفصلني عن الماضي الذي يجري في الذاكرة من خلال التذكر-الصورة، حيث أُقدِّر عن بعد سلسلة الأشياء الماضية، وأجعلها أشيائي. إن عملية الوصل والفصل تؤدي إلى ذاكرة سعيدة، وذاكرة هادئة، حيث تمتلك ذكرياتها الخاصة بعد أن وضعتها على مسافة؛ إنها الذاكرة المتصالحة، التي تجد في الصفح أفقها.

أمّا التاريخ بدوره، فإنه يرد على مطلب الوفاء الخاص بالذاكرة بـ «مشروع الحقيقة»، لكن التعرف في التاريخ مستحيل؛ لأن المؤرخ يقيم علاقة خارجية مع الآثار، ولأن هذه الآثار تشكل مواده؛ وبمعنى ما، إنها ليست إلا مواد مكتوبة سلفاً، ولا سيّما أن التاريخ، بما هو مؤسسة كتابة، يُقوِّي هذه المسافة مع موضوع إحالته. وعليه، إنّ الشك لا يمكن تجاوزه، وتعدّ المناقشات والخصومات اللامتناهية تعبيراً عن ذلك. إن هذا المسار يمكن أن يكون «تاريخاً شقيّاً»، ونوعاً من «الغرابة المقلقة في التاريخ».

إن العلاقات بين التاريخ والذاكرة تُنسج انطلاقاً من قطيعة الكتابة هذه واختلافاتها. تغذي الذاكرة التاريخ دائماً؛ ذاكرة الشاهد الذي يقول «لقد كنت»، وهو ما يسمح للمؤرّخ بأن يشكل وثيقة. لذلك، تبقى الذاكرة هي الحارس على الجدلية التكوينية للماضي ما بين «لم يعد» و«بعد أن كان»، ولاسيّما أنها تؤسس لعلاقة أصيلة وكلية بالماضي.

أمّا التاريخ، فإنه يضع مسافة مع الذاكرة في عملية إنفاذه، وذلك ابتداءً من المرحلة التوثيقية، حيث تصبح الشهادة الشفوية للذاكرة وثيقة مكتوبة، ووثيقة غارقة بين الوثائق الأخرى، التي يكون أغلبها ليس ذكريات مروية؛ بل أشياء وأطلالاً وآثاراً مادية. إن حقل التاريخ واسع مقارنةً بحقل الذاكرة، «ويبحث في الزمن بطريقة مغايرة»؛ وهندسات المعنى ووسائل التفسير غنية جداً مقارنةً بما تملكه الذاكرة. إذن، تضع الكتابة في التاريخ مسافة مع التجربة الحيّة للذكرى والحضور الغائب للماضي. ويبقى التاريخ تحديداً على مسافة مع الماضي، كما أنه غير مشخص (بما أنه يتوجه نحو قارئ غير محدّد)، ولكن للتاريخ إمكانية أن يكون عادلاً، ومن ثمّ يمكن للإنصاف في التاريخ أن يلطف بالفعل من الذكريات الخاصّة؛ وذلك بإعطائه الأحداث مكانها المناسب من خلال عملية توضيح العلاقات العاطفية والحيّة لماضي بعض الذكريات، واستخراج الأحداث من النسيان. وبذلك، يمكن للتاريخ أن يثري الذاكرة، وأن يصحّحها، من خلال إقامة علاقة منصفة مع الماضي.

إذن، إن التاريخ والذاكرة يكونان في علاقة فصل ووصل. وتتشكل العلاقة مع ماضي الكائن التاريخي من خلال هذه الامتزاجات والإحراجات التي تظهر وتنبثق من التحليل المنفصل، ثم المتقاطع والمتشابك مع هذا وذاك.

النسيان: الغرفة السوداء

لا يمكن التفكير في الذاكرة، ولا في التاريخ، من دون فهم للنسيان. والنسيان علامة على هشاشة الوضع الإنساني، وتحدٍّ يواجه طموح الذاكرة إلى الوفاء والحقيقة في التاريخ.

يمثل النسيان، أوّلاً وقبل كل شيء، الوجه السلبي للذاكرة والتاريخ؛ لأنه عبارة عن ضياع للآثار التي تركها الماضي. وهذا النسيان يُعدُّ نسياناً عميقاً، وفقداناً للذاكرة، التي تعني امّحاء الآثار على مستوى الدماغ. ويتناسب هذا النسيان مع ضياع الوثائق في التاريخ، أو احتراق مكتبة، أو تدمير مَعْلم أو نُصب... وهو صورة للذي لا رجعة فيه؛ فالآثار الممحوة تعني لا وجود للذاكرة ولتاريخ ممكن. إن الفراغ الذي يفتحه النسيان يبقى فراغاً مفتوحاً.

ولكن، ثمة شكل آخر من النسيان يعدُّ شرط إمكانية الذاكرة نفسها، ألا وهو النسيان الاحتياطي. ويتمثل هذا النسيان في حالة الكمون الذي يبقي الذكريات محفوظة، أو تظهرها المصادفة. ويسمح النسيان الاحتياطي بعمل الذاكرة الذي به لا نتمكن من تذكّر كل شيء في كل وقت. ويشكّل هذا الوجود «اللاشعوري» للذاكرة، وللآثار النفسية، نسياناً انعكاسيّاً، وتفعيلاً لحفظ الذكرى في الذاكرة. لم يضع الأثر، إنّما هو غير متاح فحسب. كتب بول ريكور يقول: «ضد النسيان المدمر هنالك النسيان الاحتياطي». وبناءً على هذا الأساس، تمّ توضيح جزء من اللغز الذي كان موضوع المناقشة منذ البداية. فإذا قلنا عن الماضي إنه لم يعد قائماً، إنّما كان، فلأنه أصبح غائباً، ولأنه لم يعد تحت تصرفنا، أو في متناولنا، حتى إن دلَّت أسبقيته على حفظه. إن مفارقة حضور الماضي في الذكرى تنبثق هكذا من هذا النسيان الذي «يفضل (ما كان) على (ما لم يعد)» (القسم III، الفصل 3). النسيان الاحتياطي هو الذي يجعل الذاكرة ممكنة، وكذلك الحال بالنسبة إلى الاعتراف أو التعرّف.

ذاك هو المسار الذي خاضه بول ريكور في (الذاكرة، التاريخ، النسيان) حول العلاقات بالزمن والماضي والكائن التاريخي الذي هو نحن. وإذا كانت العلاقات بين الذاكرة والتاريخ لا تزال معقّدة، فإن الروابط الحميمة بين هذه وذاك قد تمّ استكشافها؛ الإنسان قادر على التذكر، وعلى أن يصوّر لنفسه ولغيره الماضي المنظور إليه، في الوقت نفسه، على أنه ذاكرة، وتاريخ، ونسيان. ولم تُعطَ الأولوية إلى أيّ واحد من هذه الألفاظ الثلاثة المتميزة (وحده القارئ، و«منه المواطن»، يمكن له أن يفصل في الأمر) ذلك لأن وجودنا في الزمن هو هذا كلّه في الوقت نفسه.

ويظهر من خلال الفينومينولوجيا، والإبستمولوجيا، والتأويلية، والأنطولوجيا، فلسفة في الحياة دقيقة، لكنّها أساسية، فلسفة الكائن أو الموجود في الزمن الذي يمضي ويبحث عن تمثيل للماضي. وبذلك، ينهي الفيلسوف كتابه بالقول: «تحت مسمّى التاريخ هنالك الذاكرة والنسيان. وتحت مسمّى الذاكرة والنسيان هنالك الحياة، غير أن لكتابة الحياة قصة أخرى (تاريخاً آخر). اللا إنجاز».

يتمثل تفكير بول ريكور في هذا المنشور الذي وضع فيه علاقتنا بالزمن، والذي يهشم ويفكّك نور الماضي إلى حزم متميّزة هي الذاكرة، والتاريخ، والنسيان، مع وصف هوامشها وظواهرها الحميمة، ولكن النور الأبيض للماضي يظهر دائماً من جديد؛ هذا النور الذي نحيا فيه، ونفكر فيه، ولكنه ما عاد يبهرنا إلا قليلاً.

[1] انظر الترجمة العربية: ريكور، بول، الزمان والسرد، الجزء الأول: الحبكة والسرد التاريخي، ترجمة سعيد الغانمي وفلاح رحيم، والجزء الثاني: التصوير في السرد التاريخي، ترجمة فلاح رحيم، والجزء الثالث: الزمان المروي، ترجمة سعيد الغانمي. وراجع الأجزاء الثلاثة عن الفرنسية، جورج زيناتي، دار الكتاب الجديد المتحدة، بيروت - لبنان، 2006. (م).

[2] فضّلنا استعمال كلمة الصفح بدلاً من كلمة الغفران التي اعتمدها جورج زيناتي في ترجمته كتاب ريكور؛ وذلك بالنظر إلى إيحاءاتها الدينية الظاهرة. (م).

[3] لعبة شبيهة بلعبة كرة المضرب. (م).

[4] انظر: ريكور، بول، الذات عينها كآخر، ترجمة جورج زيناتي، المنظمة العرية للترجمة، بيروت – لبنان، 2005. (م).

[5] حول هذا اللفظ وغيره من الألفاظ والمصطلحات اليونانية والفينومينولوجية، انظر: ريكور، بول، الذاكرة، التاريخ، النسيان، مصدر سابق، ص 32. (م).

[6] بالعودة إلى كتاب ريكور، إن عبارة أرسطو المُستشهد بها، التي يقول عنها بول ريكور إنها "الجملة المفتاح التي تصاحب كل بحثي"، هذه الجملة هي: "الذاكرة هي من الماضي"، وليس من الزمن (temps) كما هو في نص إيمانويل ماكرون؟ انظر: ص 47. (م).

[7] تؤكّد هذه الإحالة، وغيرها من الإحالات الواردة في النص، أن إيمانويل ماكرون كان في هذا الوقت بالفعل مساعداً ومتابعاً لأعمال بول ريكور. (م).

 

[8]  Platon, Théétète, texte etabli et traduit par Michel Narcy, Paris, GF-Flammarion, 1995, 191d.

انظر كذلك الترجمة العربية لكتاب (الذاكرة، التاريخ، النسيان)، ص 38. وكذلك: أفلاطون، محاورة ثياتيتوس، ترجمة عزت قرني، مجلس النشر العلمي، جامعة الكويت، الكويت، 2001، ص 239، وفيه تعديل واضح في صياغة الفكرة "كشأن بصمات الأختام التي نطبعها على الشمع. وما يكون قد انطبع هكذا، فإننا نحفظه في الذاكرة، ونصبح عارفين له طالما بقيت صورته". (م).

 

[9] صاغ بول ريكور هذا المفهوم في كتابه (الزمان والسرد)، واستعاده وطورَّه في الفصل الثالث من القسم الثاني الخاص بإبستمولوجيا التاريخ. وحدّد هذا المفهوم على النحو الآتي: "إن كلمة التصوير/ التمثيل (الفعلي) تختزن في ذاتها كل التوقعات، وكل الالتزامات، وكل الاستعصاءات المرتبطة بما نسميه القصد أو القصدية التاريخية؛ وتعني الانتظار/ التطلعات المرتبط(ة) بالمعرفة التاريخية للبناءات المكونة لإعادة بناء مجرى أحداث الماضي".

هذا ونشير إلى أن ريكور اشتقّ من كلمة (representation) كلمة فرنسية جديدة هي (representance)، ليميّز بين تصور/ تمثل الغائب والتمثل الفعلي لهذا الغائب الذي يأتي نيابةً عنه، والقيام مقامه بالفعل. انظر: ص 356. (م).

[10]  Platon, Phèdre, texte traduit par Luc Brisson, Paris, GF-Flammarion, 1989, 1997, 275a.

جاء في الترجمة العربية ما نصه: "ذلك لأن هذا الاختراع سينتهي بمن يستعملونه إلى ضعف التذكر؛ لأنهم سيتوقفون عن تمرين ذاكرتهم حين يعتمدون على الكتابة". انظر: أفلاطون، فايدروس أو عن الجمال، ترجمة وتقديم أميرة حلمي مطر، دار المعارف، القاهرة-مصر، (د.ت)، ص 124. (م).

[11]  تبنّى بول ريكور هذه الصيغة "التفسير/الفهم" من أجل رفض التعارض بين المفهومين (هذا التعارض الذي تبلور في فكر دلتاي، والذي حلّله المؤلّف كثيراً). وحده هذا العنوان المزدوج يسمح بتعيين الأسباب التاريخية بمختلف تعقيداتها.

 

[12]  حتى نستعيد عنوان أحد أعمال ميشيل دو سارتو.

[13]  في مناقشته الدقيقة لفكر فلهلم دلتاي (Wilhelm Dilthey)، حلَّل بول ريكور مفهوم (التلاحم/الانسجام السردي) الذي ميزه، من جهة، عن (الارتباط السببي أو الغائي)، ومن جهة أخرى عن (تماسك الحياة). يتجذر التلاحم السردي في الثانية؛ أي في الحياة، ويتمفصل مع الأولى؛ أي في الارتباط السببي أو الغائي. (القسم II، الفصل 3).

 

[14]  أو كما قال: "إني أملك أسباباً عديدة للقول بهذه الفكرة، ولاسيما أنني أعتبر مفهوم الوجود، فعلاً وقوةً، هو على خير ما يكون من التوافق مع أنثروبولوجيا فلسفية للإنسان القادر". انظر: ص 511. (م).