المسيح ومخطوطات البحر الميت


فئة :  مقالات

المسيح ومخطوطات البحر الميت

المسيح ومخطوطات البحر الميت

لقد برهن البحث التاريخي على العلاقة بين يسوع المسيح كمصلح اجتماعي وقائد تاريخي معارض للسلطة الرومانية، في دوره الرسالي، ليكون البحث عنه في المصادر التاريخية، ذلك المسيح الموصوف في العهد الجديد، مما جعل فهمنا لحياته الشخصية عبر مخطوطات البحر الميت يعمّق فهمنا للحياة الروحانية لليهودية، ولشخصية يسوع المسيح من خلال أوجه التشابه بينه وبين تاريخ مخطوطات البحر الميت؛ تشابه في المعتقدات والطقوس والممارسات الواردة في أدبيات قُمران، وما قام به الآباء الأوائل في عصر المسيحية الأول، وما تلاه من استدلال واضح، وبخطٍّ تاريخيٍّ منسجم، بين العقيدة الدينية للمسيح وتاريخه الشخصي؛ إذ أعطتنا لفائف البحر الميت فكرة عن دور يسوع المسيح، والتعرف عليه خارج عوالم الروحانيات المغلقة، حتى فهمناه كقائد لا علاقة له بالسماء، ولا بالثالوث المعروف كنَسِيًّا في العالم المسيحي.

شكّلت مخطوطات البحر الميت أساس العقيدة اللاهوتية للمعتقدات اليهودية بعد انهيار وحدة القومية اليهودية داخل الإمبراطورية الرومانية؛ إذ انقسمت إلى طوائف دينية وأحزاب شكّلت المحور اللاهوتي، حتى تناحرت تلك الأحزاب في تصدّر الفكر اللاهوتي، فلكل طائفة اتجاه وطقوس خاصة بها. ومع تدمير الهيكل عام 70 ميلادي، لم يتمكن من الصمود أمام انهيار الكيان اليهودي سوى طائفة الفريسيين.

لقد كشفت لنا مخطوطات قُمران (مخطوطات البحر الميت) تحوّلًا في النهج العقائدي اليهودي، من دين تعبّدي لاهوتي إلى يهودية الحاخامات، إلى تقاليد وعادات وجدت صداها الجديد في المجتمع اليهودي، وهي اليهودية المُحدثة، كما أشار تاريخها الجديد في العهد الجديد عن ظهور المسيحية على يد يسوع المسيح والرسول بولس؛ إذ وضع بولس، وإن خرج بالمسيحية بمعتقدات وثنية، الشكل اللاهوتي لليهودية بعيدًا عن مسارها الجوهري.

صار الشكل الاعتقادي لليهودية شكلاً موصوفًا لرسم العقيدة الجديدة، كما هو واضح في أدبيات قُمران، تلك التي سعى إلى نهجها الآباء الأوائل. لقد تم تقسيم الطوائف إلى اثنتي عشرة قبيلة، كل قبيلة يرأسها رسول، وهم يشكّلون أسباط إسرائيل الاثني عشر، حتى امتزجت أدبيات قُمران بتعاليم المسيحية الباكرة، وصارت مخطوطات قُمران التاريخ العقائدي الذي خرجت من خلاله العقيدة المسيحية.

تم اكتشاف لفائف البحر الميت داخل مغارات بمحاذاة شواطئ البحر الميت عام 1947، وقد احتوت على العديد من المخطوطات، كُتبت على ورق البردي، حتى إنّ تاريخ بعضها يعود إلى القرن الثاني قبل الميلاد. شكّلت هذه المخطوطات أسفار العهد القديم، واحتوت بعض أجزائها على الترجمة السبعينية للعهد القديم، كما احتوت على معلومات عن المجتمع القُمراني.

إنّ العديد من هذه المخطوطات محفوظ بشكل جيد، وأخرى على شكل قصاصات صغيرة فقط.(1) مما فتح عهدًا جديدًا لفهم المسيحية وتاريخها الغامض في العالم القديم؛ فتلك اللفائف أماطت اللثام عن الكثير من الحقائق التاريخية. وإن لم يُذكر فيها يسوع الناصري بشخصه، فإنها تضمّ قرائن أسهمت وأشارت بشكل فعّال إلى دوره الهام في الثورة ضد الحكم التسلّطي للإمبراطورية الرومانية. "لعل رجوع المسيحيين الأوائل دائمًا إلى الأسفار المقدسة... ثم تحوّلت، ابتداءً من القرن الرابع، إلى مجلّدات من الرقوق الجلدية...الخلاصة أن الأسفار الأصلية كانت على شكل لفائف أو مجلّدات من البردي."(2)

وهذا ما أشار إلى اعتماد الآباء الأوائل للمسيحية في رجوعهم إلى تلك اللفائف التي كانت في قُمران، بتعاليمها وأدبياتها الجديدة التي أفرزت مسيحية جديدة تختلف عن أدبيات العصر الرسالي في العهد القديم.

بحسب عالم اللغات السامية أندريه دوبون-سومر (André Dupont-Sommer، 1900–1983)، المتخصص في علم اللغة السامية وتاريخ اليهودية في بداية العصر الميلادي، وخاصة في مخطوطات البحر الميت، والذي كان أستاذًا للغة الآرامية والعبرية "لقد وضع جل اهتمامه بمخطوطات البحر الميت وقد اكد على صلة الاسينيين بمخطوطات البحر الميت اذ ارجع اصل المسيحية للطائفة الاسينية فلقد قدمت كتاباته الفهم الافضل لتلك المخطوطات".(3)

إن ما يُسقِط الشكل الروحاني للمسيحية وتعلّقها بالطائفة الأسينية هو وجود عدّة مؤشّرات أثبتت واقع علاقة يسوع المسيح بهذه الطائفة المتشددة في طقوسها، والتي كانت تنتظر مجيء "المسيح الموعود" بحسب الأسفار غير القانونية، التي اعتمدت على الوعود المسيانية، وعلى خيال النبوءات الاعتقادية، وكانت الطائفة الأسينية قد انغلقت ذاتيًّا في انتظار يسوع المسيح؛ فهؤلاء "الأسينيون جماعة غامضة يكتنفها الغموض، هم جماعة دينية تشبه الرهبان، تعيش في عزلة أشبه بعالم الوحوش. استدلت بعض الافتراضات التاريخية أن يسوع ربما درس معهم أو على الأقل زارهم. ظهرت مخطوطات البحر الميت وقد ارتبطت هذه المخطوطات بطريقة ما بالأسينيين والقمران... كانت هناك أيضًا دلائل تشير إلى أن المسيحية لم تنشأ بشكل كامل مع يسوع، بل كانت بداياتها في عادات ومعتقدات الأسينيين"(4)

لقد ازداد اهتمام علماء الكتاب المقدس، منذ اكتشاف مخطوطات البحر الميت، بدراسة العلاقة بين يسوع المسيح والأسينيين. وقد أشار سيمون ج. جوزف (Simon J. Joseph)، الحاصل على درجة الدكتوراه من جامعة كاليفورنيا، في كتاب "العهد الجديد"، وقد ألّف خمسة كتب، أهمها يسوع والأسينيون وأصول المسيحية.

فلقد قدّم عرضًا موجزًا للأدلّة المتعلقة بعلاقة يسوع المسيح بالأسينيين، وأبرز أهمية تأثير الأسينيين على الحركة المسيحية الباكرة، حيث توجد الكثير من التشابهات بين الطرفين، وقد ثبت تأثّر يسوع بالأسينيين، حيث اعتنق الأسينيون نظاماً حياتيا صارماً، فنادوا بضبط النفس ورفضوا الزواج، وانعزالهم عن المجتمع وأن امتلاك الثروة أمر مكروه، ويرفضون النساء، وهذا ما كان يفعله المسيح حتى في علاقته بأمه كان يتعامل معها بنظرة استعلاء ”مالي ولك يا امرأة لم تأت ساعتي بعد”(5). فهذه الاستدلالات أظهرت بوضوح تأثر يسوع بالأسينيين، حتى حركته كانت قريبة أيديولوجيا من معتقدات الأسينيين. اتّجه المسلك الروائي لتبعية النص من خلال استدراج العقيدة الدينية للنص الأقدم، كما لو أنّه حالة إلهية لاهوتية، يقتضي بالضرورة من المؤمن بروحانية القائد الديني أن يعتبرها حقيقة كونية تتبع سياقًا إيمانيًّا. فالنصوص الجديدة تمثّل واجهة لمعتقد أقدم، لكنه تحوّل من صفة إلهية روحانية إلى حالة شخصية تخص القائد الديني بصفته المقصود في النص التوراتي، وهو أسلوب متوازٍ هدفه تحقيق تكامل بين النص القديم والجديد، للحصول على آلية اعتقادية تصنع من عقيدة اللاهوت التوراتي تبريرًا عقائديًا للإيمان بشخص المسيح.

فكلّ هذا، يُقصد به أن تصبح حجة التبعية الأدبية أقوى، خاصّة عندما تكون موضوعية لا شكلية؛ إذ إنّ هذه الحجة، حين تكون شكلية فقط، تكون ضعيفة في استدلالاتها، كما ورد في النص "روح السيد الرب عليّ لأن الرب مسحني لأبشر المساكين أرسلني لأعصب منكسري القلب لأنادي بالمأسورين بالعتق وللمسدّدين بالإطلاق"(6) فهذا استلهام للنص الديني في متى: ”اذْهَبَا وَأَخْبِرَا يُوحَنَّا بِمَا رَأَيْتُمَا وَسَمِعْتُمَا: إِنَّ َلْعُمْيُ يُبْصِرُونَ، وَالْعُرْجُ يَمْشُونَ، وَالْبُرْصُ يُطَهَّرُونَ، وَالصُّمُّ يَسْمَعُونَ، وَالْمَوْتَى يَقُومُونَ، وَالْمَسَاكِينُ يُبَشَّرُونَ. وَطُوبَى لِمَنْ لاَ يَعْثُرُ فِيَّ”(7) فهذا النص قد تكرر في متى، مما يشير إلى التبعية العاطفية لنقل النص بغير اختبار ويقين شخصي للحالة اللاهوتية أو للمعتقد الشخصي بالمسيح، "اذْهَبَا وَأَخْبِرَا يُوحَنَّا بِمَا تَسْمَعَانِ وَتَنْظُرَانِ: اَلْعُمْيُ يُبْصِرُونَ، وَالْعُرْجُ يَمْشُونَ، وَالْبُرْصُ يُطَهَّرُونَ، وَالصُّمُّ يَسْمَعُونَ، وَالْمَوْتَى يَقُومُونَ، وَالْمَسَاكِينُ يُبَشَّرُونَ. وَطُوبَى لِمَنْ لاَ يَعْثُرُ فِيَّ".(8) فهذا اقتباس حرفي للنص، فالتبعية الأدبية في استخدام إشعياء 61 للنصوص الواردة في إنجيل متى وإنجيل لوقا، لم يُوجد ما يربط النصوص اليهودية من فترة الهيكل الثاني بما ورد في نص إشعياء بالقيامة.

لقد امتدت فترة الهيكل الثاني في تاريخ اليهود من عام 516 قبل الميلاد إلى عام 70 ميلادية، وهي الفترة التي ظهر فيها الأسينيون، وانتهت بتدمير الرومان للقدس والهيكل.

ومن الواضح من تلك النصوص وجود تبعية أدبية لا علاقة لها بلاهوت التوراة في تبرير قيام العقيدة المسيحية كنص إلهي، بل كان التأثير أسينيًّا بشكل مطلق، مما جعل النصوص الأدبية في أسفار العهد الجديد تفقد لاهوتها العقائدي وتصبح مجرّد صياغة أدبية لا غير. بحسب Stephen L. Harris أستاذ العلوم الإنسانية والدراسات الدينية في جامعة كاليفورنيا، انتمى يوحنا المعمدان إلى فرقة الأسينيين، وهي طائفة متشددة في زهدها تنتظر قدوم المسيح بحسب مواصفاته اللاهوتية في العقيدة اليهودية، وقد مارسوا طقوس المعمودية(9) حتى استخدم يوحنا المعمودية رمزاً لتراث الحركة المسيانية المتمثلة في الإيمان بقدوم المسيح ليكون ملكاً يهوديًّا من سلالة داود ومخلصاً للشعب اليهودي من محنتهم وبؤسهم في انهيار كيانهم وتمزق شملهم، ليعيد لهم مجدهم الضائع. عمّد يوحنا يسوع حتى إن العديد من أتباع يسوع كانوا أتباعاً ليوحنا. لم ينتم يسوع إلى سلالة داود، وقد أنهى متى نسب يسوع بيوسف النجار حتى إن مرقس ويوحنا لم يعترضا على هذا النسب. إننا أمام تلاميذ كانوا شهود إثبات لميلاد يسوع المسيح البشري، هكذا أقر الجميع سلسلة نسب يسوع حتى كانت "تتهاوى كبيت من ورق عندما ينهيها متى بخاتمة تنسفها من حيث الأصل ... وصولاً إلى نهايتها المنطقية التي يجب أن تكون" ويعقوب أنجب يوسف، ويوسف أنجب يسوع "وهذا ما يتناقض مع فكرة الحمل العذري من الروح القدس"(10) لم يكن الأسينيون جماعة جديدة في زمن يسوع، فقد كانوا موجودين هم أيضاً منذ مئة عام في ذلك الوقت. ولكن يبدو أن عهد هيرودس، وربما أكثر من ذلك، عهد أبنائه والولاة الرومان، قد حفّز على قيام مرحلة جديدة من حياة جماعة الأسينيين، فقد برزت كاحتجاج متزايد على الحكم الروماني ودنيوية الهيكل "أظهرت لنا مخطوطات البحر الميت الكثير عن معتقدات الأسينيين. عادةً ما نظن أن لغة الملكوت القادم تعكس إيماناً بنهاية العالم ...بأنها ستحل عليهم أو علينا قريباً، استخدموا عبارات مثل "النهاية" أو "الأيام الأخيرة"، بما أطلق عليه هذه اللغة نهاية "علم الآخرة"... أي التفكير في النهاية"(11) وهذا ما درج عليه المعتقد المسيحي بقرب نهاية نظام الكون "لِلْوَقْتِ بَعْدَ ضِيقِ تِلْكَ الأَيَّامِ تُظْلِمُ الشَّمْسُ، وَالْقَمَرُ لاَ يُعْطِي ضَوْءَهُ، وَالنُّجُومُ تَسْقُطُ مِنَ السَّمَاءِ، وَقُوَّاتُ السَّمَاوَاتِ تَتَزَعْزَعُ ... الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: لاَ يَمْضِي هذَا الْجِيلُ حَتَّى يَكُونَ هذَا كُلُّهُ"(12) فعقيدة نهاية الكون وأيامه الأخيرة، كانت أساس الأيديولوجية اللاهوتية لعقيدة الأسينيين. لكن في علم نهاية العالم اليهودي في تلك الفترة، يبدو أنهم تحدثوا عادة عن نهاية عصر شرير حالي وعصر مجيد جديد قادم، مملكة جديدة. لقد أثبت التاريخ الديني علاقة يسوع بالأسينيين من خلال التركيز على ذلك التاريخ بين المجتمع القمراني ويسوع التاريخي داخل الحياة اليهودية في القرن الأول، حيث جرى التركيز على المعتقد والممارسة المتمثلة بهوية العهد، المسيانية، علم الآخرة والتطبيقات القانونية، لقد عاصر يسوع المسيح مرحلة ازدهار الأسينيين في التسلسل الزمني واللاهوتي الرابط بين المسيح والأسينيين؛ فتعاليم يسوع التاريخية وتوسعها في المنهج الأخلاقي أظهر بوضوح علاقتها بالأسينية، وهي علاقة لم تنفصم بينهما إلا بعد صلب يسوع ونجاته من الصلب. "لعل أهم ما يربط يسوع المسيح بالأسينيين موروثه التاريخي في الحركة التي تأسست على يد رئيس كهنة يهودي أطلق عليه لقب معلم البر، وقد وصفه البعض بأنه الكاهن الكاذب، ولم يكن فقط زعيم الأسينيين في قمران فحسب، بل مطابقاً للشخصية المسيانية الأصلية قبل 150 سنة من وقت الأناجيل، وهو النموذج الأولي ليسوع؛ فكلاهما تحدثا عن العهد الجديد، وكان كل منهما يعتبر مخلصا وفاديا، وقد أدين كل منهما وأعدم من قبل الفصائل الرجعية".(13)

صحيح لم يُـذكر يسوع صراحة في مخطوطات البحر الميت، في المراجع والنصوص الأسينية، لكن استنتاجات تعاليم تلك المخطوطات اللاهوتية وتاريخ الأسينيين العقائدي قد اقترن تماماً بيسوع التاريخي، وهي قرائن تنطبق بشكل كامل على تعاليم، أفعال ولاهوت يسوع.

 

المصادر ومراجع البحث:

1 - "The Digital Dead Sea Scrolls: Nature and Significance". Israel Museum Jerusalem. مؤرشف من الأصل في 2023-06-09. اطلع عليه بتاريخ 2023-11-04

2 - دائرة المعارف الكتابية، حرف خ، ص1496، ”مخطوطات العهد الجديد”

3 - https://en.wikipedia.org/wiki/André_Dupont–sommer

4 - Jesus and the Essenes, By Dolores Cannon, united kingdom, 1992, reprinted 1993

5 - سفر يوحنا 2 : 4

6 -سفر اشعياء اصحاح 61

- 7 سفر متي 11 : 4

8 - سفر لوقا 7 : 22

9 - Harris, Stephen L. (1985) Understanding the Bible. Palo Alto: Mayfield. p.382

10 - فراس السواح، الوجه الآخر للمسيح، ص 23

11 - The Essenes and the Dead Sea Scrolls, what does the discovery of these scrolls reveal about first century Judaism and the roots of Christianity? L. Michael White. PAGANISM IN THE ANCIENT WORLD.

12 - سفر متي 24 34 -29 :

13 - Bratton, Fred Gladstone. 1967. A History of the Bible. Boston: Beacon Press, 79-80


مقالات ذات صلة

المزيد