النص والنص المضاد: دراسة في إشكالية الاستلاب الثقافي والديني عند المفكر أبي القاسم حاج حمد


فئة :  مقالات

النص والنص المضاد: دراسة في إشكالية الاستلاب الثقافي والديني عند المفكر أبي القاسم حاج حمد

النص والنص المضاد*:

دراسة في إشكالية الاستلاب الثقافي والديني عند المفكر أبي القاسم حاج حمد


هل يصبح النص التراثي شكلا من الإعاقة الثقافية ومصدرا من مصادر القلق المعرفي؟ هل أضحى النص الشرعي مدخلا منهجيا للارتباك والاضطراب المنهجي في ظل قتامة المشهد النهضوي في البلاد العربية؟ أم إن العقل المسلم أضحى عاجزا عن مواكبة كونية النص المتجددة في آفاق "أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها"، حيث انقلب من حال التوهج والتجديد والقراءة الواعية وخلق نقاط مركزية للاستيعاب والاستناد إلى حال العقل المأزوم، عقل سيتمخض في نهاية المطاف عن هوامش فكرية وشظايا معرفية لا رابط بينها، وفي أحسن الأحوال تناصات مفككة بتعبير المسيري، وفي دركها الإيديولوجي استلابات معرفية بتعبير حاج حمد، أو لصوصية فكرية بتعبير جبران في كتابه "لصوص الله"؟

ينطلق حاج حمد في مقاربته النقدية: "جدلية الإنسان والغيب والطبيعة قراءة في العالمية الإسلامية الثانية"، من محاولة إعادة قراءة نصوص التراث الإسلامي من منطلق جدلي، يكون فيه القرآن مصدرا لاستيعاب التفاعل الجدلي بين العناصر الثلاثة، وهو ما يعني أن العلاقة بالقرآن مؤسسة على أنه كتاب مطلق؛ أي أنه المعادل الموضوعي للوعي بالوجود الكوني وحركته، وهو ما يعني تجاوز القواعد التقليدية المعمول بها في الحقل التراثي...القواعد المنطلقة من شروطها العقلية وأوضاعها الاجتماعية والتاريخية: عبادات، معاملات، عظات، عبر....

الأساس هنا كما يقول حاج حمد منهجي، سيتولد منه نظامه المعرفي والكوني...وهنا يرى حاج حمد أنه بصدد تدشين عهد معرفي جديد لا ينزل فيه النص على الواقع كما هو متداول ومعتاد في أدبيات الفقه والأصول والقراءات التقليدية؛ وإنما أن ترتفع بالواقع إلى النص عبر منهجية القرآن المعرفية الضابطة لمعنى النص. فليس المراد هنا التأويل أو التفسير أو القراءات القرآنية المباشرة، بقدر ما يتعلق الأمر باستخراج القانون المنهجي الذي يؤسس له القرآن الكريم معرفيا وكونيا...

عندما يتم توظيف التناص أو النص المضاد تصاعديا بمدلول الارتفاع من الواقع إلى النص، تكون هذه الحركة محكومة بخبرات الواقع، وهي خبرات لا تستلب الإنسان ولا تستلب الطبيعة؛ فالقرآن بمنهجيته المعرفية يحيط بخبرات الواقع عبر استيعابها وتجاوزها.

إشكالية الاستيعاب والاستلاب:

ينطلق حاج حمد من أرضية مفهومين أساسين؛ أولهما: الاستيعاب، وثانيهما الاستلاب، حيث يعتبر الثاني نتيجة لتراكمات سالفة، فعدم استيعاب الواقع بحيثياته السننية وقوانينه الكونية، تجعل من الباحث أو المفسر عنوانا للاستيلاب... أو لصا معرفيا بتعبير جبران في كتابه: "لصوص الله،" فبدون أن تتظافر في الباحث قدرات الفهم المعرفي والمنهجي لقضايا الواقع كما يقول، فلن يكون لديه ما يطرحه على القرآن أصلا. أما إذا أدرك الباحث ما في الواقع من صيرورة وتحولات جدلية ومتغيرات نوعية وضوابط فكر منهجي...فيمكن للباحث أن يكتشف في القرآن منهجا معرفيا مقابلا، ليس مكافئا فقط لمنهجه ولكن مستوعبا ومتجاوزا أيضا...

بذلك فقط يتم التحقق من القول "إن القرآن معادل موضوعي بالوعي للوجود الكوني وحركته" بمعنى آخر: لا يكفي النظر في القرآن دون وعي منهجي لنكتشف فيه منهجا، ولا يكفي النظر في القرآن دون وعي معرفي، لنكتشف فيه نسقا أو نظاما معرفيا محددا، فأن نفهم القرآن بالواقع وأن نفهم الواقع بالقرآن، فإن ذلك يتطلب رؤية أو وعيا منهجيا ومعرفيا لكليهما، وهو ما يوحي أن حاج حمد بهذا الطرح يحاول تجاوز المفهوم التقليدي للجمع بين القراءتين، ويقصد به محاولات البعض إقحام نص الوحي في تناصات واستلابات محلها الظن وما تهوى الأنفس.. ." الإفراط في إقحام البعد التجريبي والعلمي في أبواب الإعجاز العلمي".

يأتي الحديث عن إشكالية الاستلاب الديني عند حاج حمد أثناء عرضه معضلة الاستدلال النصي كنقطة استناد جوهرية في عملية بناء مشاريع النهوض الكبرى ضمن ما يسميه بالعالمية الإسلامية الثانية؛ فالنص عملية جوهرية في البحث والتجديد أو بالأحرى نقطة استناد واستمداد أساسية في جدلية الإنسان والغيب والطبيعة، وبما أن الأمة عرفت أزمة انزلاق فكري عميق جدا، أضحى النص حيالها في غيبوبة تامة، وبات العقل يتحرك في حدود التناصات أو الاستلابات الدينية بتعبير حاج حمد أو النصوص المضادة، بتعبيرنا، حيث أصبحت عملية التنزيل النصي على الواقع مجرد تبريرات نفسية واهية تجرى من خلالها عمليات قيصرية على خارطة النص الشرعي، تفرض من خلالها المذهبية والخصوصية،حيث غابت فيها المعرفة وحضرت الإيديولوجيا بكل قبائحها وأزماتها...

إذن، بدل تنزيل النص على الواقع، فلندع النص في محله ومرتقاه العالي، فلنرتفع بدلا من ذلك بالواقع عبر مدارج الوعي المعرفي اجتماعيا ونفسيا وإنسانيا؛ فالارتفاع بالواقع ينطلق من استعادة الدور الإنساني في معادلة الوعي التاريخي الغيبي؛ أي استرجاع القيمة الإنسانية الكونية، وذلك من خلال نقطتين جوهريتين:

1.نقد الفكر الغربي الذي استلب الوعي البشري باسم المادة.

2.نقد الفكر اللاهوتي الذي استلب الوعي الإنساني باسم الدين.

الأبعاد المختلفة لإشكالية الاستلاب الديني:

اكتشف حاج حمد أنه قد سرقت من الأمة الإسلامية طيلة قرون خلت الوثائق الأصلية أو النسخ التي تبقي على شرعيتها التاريخية، السارق هنا، أو لصوص الله بتعبير جبران، ينحو المنطق الاستبدالي، عندما يقحم الذات بدلا عن الذات الإلهية السامية، بمعنى آخر أننا بصدد نصوص مضادة تحجب الرؤية، عن قصد أو عن غير قصد، تحجب نور الشمس... وتبعد العقل الإنساني عن ممارسة دوره الطبيعي والفطري في عملية التدبر والكشف: "وفي الأرض آيات للموقنين وفي أنفسكم أفلا تبصرون" (الذاريات: 20-21)

كان الشاطبي في كتابه "الموافقات" يرى أن استدعاء النص الشرعي عملية دقيقة جدا، تخضع لجراحات نفسية وذهنية واجتماعية غاية في الخطورة، وهو ما جعله يصل إلى فكرة دمج المعرفة الإنسانية بالتجارب الواقعية عبر نسق جدلي أعلنه في قاعدته المشهورة: إنما يكون الاستدلال بنصوص الشريعة صحيحا، فقط إذا كان جاريا مجرى الافتقار لا مجرى الاستظهار".

لكن حاج حمد يرى أن سكة الباحثين قد حادت عن محجة أبي إسحاق الشاطبي، عندما أضحى الاستظهار بالنص الشرعي عنوانا رئيسا للفرق والمذاهب والملل والنحل والأفراد أيضا...وفي سياق بيانه لمواطن الاستلاب الديني، يفصل حاج حمد مظاهر المشكلة الفكرية من خلال مناقشته نماذج وأمثلة داخل التراث التفسيري، وذلك بطرح بعض الأصول الشرعية المعتمدة تراثيا للنقاش وإعادة النظر: أقصد بذلك علوم القرآن كالمكي والمدني والناسخ والمنسوخ وأسباب النزول... أو بعض أصول الاستدلال والاستمداد التراثي كالإسرائيليات والروايات الحديثية والشروح والاجتهادات الفقهية...

ويمكن إجمال مختلف مظاهر الاستلاب الديني كما يراها حاج حمد في نزعات نفسية ذاتية أو تماهي مع ذوات ثقافية أخرى، - إسرائيليات - في النقط الأساسية التالية بشكل مختصر:

1 - استلاب ديني يلغي الذات ومكتسبات الإنسان الحقة كالحرية مثلا، باسم فهوم أساسها الظن والتشهي، كحال من قرأ قوله تعالى: "وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون" فاستنبط مدلول العبيدية المترسخ أساسا في قاموس الاستعباد والنخاسة، بدل مدلول العبادية الذي يجسد صفة الإنسانية الحرة والكريمة.

2 - استلاب النزوع العلمي؛ أي الحق في الاجتهاد والبحث والنظر، فقد عرفت الفترات المتأخرة من حياة الأمة نزوعا واضحا نحو التخلي عن مكتسبات العقل، وميلا صارخا نحو الاكتفاء بما فات، على اعتبار أنه أحسن في الوجود من كل موجود... إذ ليس في الإمكان أحسن مما كان...

3 - استلاب حق الإنسان في ممارسة أدنى مستويات السيادة والتشريع بمنطق ما تفسر به الحاكمية الإلهية "وأن احكم بينهم بما أنزل الله".

4 - استلاب الوجود الإنساني للمرأة ككيان ثقافي ومكون اجتماعي. والمفكر حاج حمد يميز في هذا الصدد بين المرأة ككيان فقهي مورس عليه كثير من الاقصاء والتهميش.. وبين السياق الأخلاقي والتاريخي الذي جسد المستوى الرفيع لتكريم المرأة وإبراز سيادتها واستقلاليتها وإنسانيتها..

5 - استلاب الفعل الحضاري وقوة العمل، باعتبارها تحقيقا للذات الإنسانية، بما يصرف عن التعلق بالنزعة الأخروية: فما الدنيا إلا دنية، وليست سوى دار عبور، فلا يكون ضروريا فيها إلا ما يقيم الحاجة؛ ففي هذا السياق يتم تأويل قوله تعالى: "زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المئاب".

وحين يعلو صوت الكفار بما لديهم من مال ودنيا، تستدعى آية أخرى بفهم معين "فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون".

6 - استلاب كثير من الفضائل...وبخاصة ما يتعلق منها بالجوانب الغريزية، لا ينظر إليها في ذاتها، وإنما يتم التعاطي معها من خلال الزواجر والنواهي كمحاولة نفسية للسيطرة على الأحاسيس، ثم في الآن نفسه يتم إطلاق العنان لهذه الغرائز، لتمارس إشباعا غريزيا فيما يتعلق بالمنظور الحسي لمدلولات الجنة مثلا، كالتعاطي موضعيا مع قوله تعالى: "أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى ولهم فيها من كل الثمرات ومغفرة من ربهم كمن هو خالد في النار وسقوا ماء حميما فقطع أمعاءهم"، قراءة تفضي إلى معنى مشبع للحواس والغرائز، حيث يطلق عنانها بلا حدود وبلا تكليف، كتعويض عن الحرمان من ذات الشيء في الدنيا، فلا يكتسب هذا الحرمان معنى الفضيلة الأخلاقية في ذاتها ما دام أن أصلها الأخروي يقوم على الإباحة....وذلك عندما يطغى التصوير الحسي والغرائزي للجنة على المعنى الجمالي.

7 - الفهم الاستلابي للإرادة الإلهية في علاقتها مع الإنسان والكون.، حيث يقرأ قوله تعالى: "له مقاليد السماوات والأرض يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إنه بكل شيء عليم" قراءة نفسية مدلولها الاستظهار بحقيقة أن الكل مقهور، فلا يعود ثمة حاجة لدراسة قوانين تراكم الثروات وتفعيلها اقتصاديا...

والمفكر حاج حمد يبرز في هذا الصدد أثر القراءات القرآنية الضيقة أو المنحازة مذهبيا في الحكم على قضايا الإنسان والمجتمع، على أساس أن إشكالية الفهم والاستيعاب لمضامين الآيات: هل ينطلق من النص القرآني المقروء أم من حيثيات الذات القارئة؟ بمعنى هل تكون القراءة على قاعدة الافتقار والاحتياج والتماس المعرفة الخالصة؟ أم يتعلق الأمر بقراءة ذاتية مستظهرة على النص القرآني نفسه؟

8 - استلاب الإنسانية المحضة في فهم البعد الجزائي في الشريعة، حيث يتم تضخيم البعد الجنائي وتقديمه على سائر أقسام الدين بشكل عام، مع فك الارتباط قيصريا بالأبعاد العقدية والأخلاقية والتربوية... وهكذا يصبح النص الشرعي بعد تجريده من أصوله وقواعده مجرد فصول قانونية وبنود جزائية تبث في نوازل وحادثات عرضية دون أن يحكمها نسق الإسلام الكلي...

9 - استلاب النص قيمته الكلية ومدلوله الشمولي، من خلال اجتزاء معانيه، وإقرار تأويلات موضعية أساسها الاستظهار بدل الافتقار، من مثل تكريس المذهبية والاختلاف والتمزق من خلال توظيف سيء لمعاني قوله تعالى: "ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة و لايزالون مختلفين إلا من رحم ربك".

الاستيعاب والاستلاب... والخطاب العربي المعاصر:

يرى بعض المنظرين في علم الاجتماع والتاريخ أن العربي اندفع إلى خارج الصحراء وهيمن على موروث الحضارات التقليدية، إلا أنه لم يستطع أن يواصل البناء الحضاري، كما لم يستطع أن يفجر طاقاته الكامنة في إبداع حضاري متماسك...

وهنا كثيرا ما يثار السؤال التالي: لماذا لم تقم الثورة الصناعية في العصر العباسي، وقد توافرت وقتها كل شروطها الموضوعية؟

يشير حاج حمد إلى أن هذه الأسئلة تفيد أن نظريات التاريخ والاجتماع عادة ما تمضي في طريق التأكيد على السيكولوجية الفردية للإنسان العربي ونزعته الآنية في إحساسه بالزمن، وكثيرا ما يرجع البعض ساخرا إلى بعض أقوال عبد الرحمن بن خلدون: "إذا عربت خربت"...

إن معظم المؤرخين والمنظرين تطغى عليهم آفاق الانحطاط الراهن للإنسان العربي وشخصيته المهزومة، ويؤكد حاج حمد أن معظم التحليلات التي صدرت عن خصائص الشخصية العربية، سواء أكانت بتأليف عربي أو عربي غربي... إنما جاءت ضمن ملابسات الهزائم العربية المستمرة في وجه إسرائيل، كما أن معظمها قد جاء في إطار الثورة على التخلف الاجتماعي والفكري... من مثل دراسات صادق جلال العظم ونديم البيطار... أي أنها قد جاءت كلها ضمن آفاق الفشل والانحطاط.

ويشير حاج حمد إلى أن هذه الدراسات لم تستوعب التاريخ العربي والإسلامي استيعابا صحيحا؛ فهي من ناحية تغافلت عن الجهد الحضاري الذي بذل في المراحل السابقة، ولم تعطه وزنه التاريخي الحقيقي، ثم تغافلت عن الإطار التاريخي لذلك الجهد والكيفية التي تطور ضمنها...

ويتساءل حاج حمد: كيف لنا أن نعمق البحث والدراسة في تلك التجارب والإنجازات التاريخية، بينما معظم إنتاجات تلك الحقبة لا زالت مخطوطات متراكمة، لم يتم بعد تحقيقها؟

هي إذن... نظريات تستند في تحليلها للتاريخ على بدايات خاطئة؛ فهي في محاسبتها الإنسان المسلم على عدم التواصل الحضاري بالطريقة التي تواصلت بها أوربا مثلا...

لذلك لم تفهم منذ البدء علاقة العربي بالعوامل الدافعة والمحركة لتكوينه تاريخيا، إذ افترضت أن العربي في اندفاعه الحضاري قد تحرك بجدلية ذاتية، كان يجب أن يستمر سياقها لتوليد حضاري متراكم وكامل.

ثمة سوء فهم ذريع عند المنظرين الاجتماعيين والتاريخيين لطبيعة محرك الخروج ومنهجه الغيبي الاقتضائي - وهذا ما يصر عليه حاج حمد بشدة - فعندما خرج العربي حاملا القرآن إلى حوض الحضارات، لم يكن خروجه خروجا ذاتيا، بل كان محمولا بقدرة إلهية تفوق قدراته الذاتية، كما كان يحمل كتابا يفوق وعيه الذاتي...

فعلاقة العربي بالقرآن ومنهجيته هي علاقة "تبني" وليس علاقة "توليد"، كما أن علاقته بالخروج هي علاقة "دفع غيبي" وليس "استعلاء ذاتي"، وقد كانت المهمة التاريخية تكمن في استيعاب حوض الحضارات باللسان العربي، وطرح القرآن أمامها كفكر إلهي بديل يدعو إلى السلام في الأرض..."

ويقر حاج حمد بأن نجاح المهمة خلال القرن الهجري الأول، لا يعني الاستمرارية على النهج ذاته والصيرورة نفسها، لذلك نجده يضع لهذه الصيرورة محددين حاسمين في الموضوع:

-الاستمرار بالمدى الذي استوعب به العربي المنهجية القرآنية في شموليتها الحضارية الكونية.

-المدى الذي تتفاعل به قوى الحضارات في ذلك الحوض مع البديل الحضاري الإسلامي الجديد.

ويجيب حاج حمد عن السؤال الجوهري السابق في كون الإنسان العربي المسلم كان قد أعطى لهذه الحضارات بالمدى الذي استوعب به هو المنهج الذي يحمله على أكتافه، ولم يكن ذلك الاستيعاب ليخرج عن إمكانيات العربي الذاتية وظرفه التاريخي وتكونه في مرحلة التحول القرآني، فقد كانت استعدادات العربي من قبل، استعدادات غير متكافئة والمجال الحضاري الجديد الذي وجد نفسه فيه...بمعنى أن الإنسان العربي اقتحم يومها المجال الحضاري العالمي بأقصى ما أعطته مرحلة التحول القرآني في ربع قرن من مزايا سلوكية جديدة، وهي بطبيعتها ليست مزايا منهجية كاملة، وإن أخذت عن ذلك المنهج وعبر التدريب الإلهي الشاق معاني السلوك وتفادي الفردية والاستعلاء على الآخرين..."

هكذا يمضي حاج حمد إلى التأكيد على أن ربع قرن من التحول بالقرآن، قد حمل العربي من أقصى مطلقه الفردي إلى جماعة تأليفية في ظل الإسلام، ولم يكن الله تعالى يطلب منهم الوعي بكامل المنهج والتدريب عليه في فترة وجيزة، لأجل إحداث تحول ضخم في الحياة والوجود، بل لخص مهمتهم في الخروج إلى الناس لوضع حد بين أمرين واضحين: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفي إطار "تؤمنون بالله ".. هنا بالتحديد حكمة الاقتضاء الإلهي. (ص 453)

إذن ثمة علاقة تبادلية أو جدلية بين الإنسان والبناء الحضاري، كلاهما يولد من جديد في الآخر، وكلاهما يتطور ضمن كلية تفاعلية واحدة..."

ويؤكد حاج حمد على سننية هذا المنطق، باعتباره ينطبق على كل الحضارات الوضعية؛ فالشعوب قد ولدت عبر بنائها للحضارة، وعبر تجاربها مع قوى الطبيعة، وتطورت فكريا بمدى انعكاسات التجارب المختلفة على بنائها الفعلي...

ذلك أن الحضارة الغربية أعادت بناء إنسانها خلال سبعة قرون لتصل إلى النتائج الحضارية المماثلة، وقد حكمت الشخصية الأوربية من خلال صيرورة المعاناة ضد الطبيعة وضد الإنسان، وولدت قسريا في معظم الأحوال، مما طبع فكرها وسلوكها، وأعطاها هذا التواصل والتوسع المليء بالثغرات والجراح والمعاناة.

ويشير حاج حمد إلى أن نهج البناء الحضاري الإسلامي كان قد جاء مختلفا تماما؛ فقد خرجت أقوام وشعوب ما كان لها أن تتوحد، ثم ما كان لها أن تخرج، ولم تأت علاقاتها بالطبيعة وبالإنسان عبر القهر والصراع، وما يؤدي إليه من قهر طبقي وتراكم للثروات وتوظيف للخبرات العلمية، فقد ظلت علاقات الإنتاج وأشكال الإنتاج محكومة بما يفتت الثروة، وذلك عبر تطبيق السلطة الشرعية لتشريعات الزكاة، كما وقف الإسلام حائلا دون القهر الطبقي، فلم يمنح طبقة محددة - شبيهة بتلك الرأسمالية التجارية ثم الصناعية في الغرب - مميزات تكثيف المال وقوة العمل وفائض القيمة، ذلك حتى لا يتم تركيز عمليات نهب اجتماعي تدخل بها مراحل الثورة الصناعية".

ويشير حاج حمد في سياق المقارنة نفسها، إلى أن النظام الإسلامي الذي طبق منذ أول يوم على كل المناطق التي أسلمت بشكل عادل ومتوازن، حيث كان قد حفظ لهذه المناطق ثرواتها وخيراتها، ولم يصادر من ذلك شيئا كما فعلت أوربا إزاء مستعمراتها وملحقاتها...

وفي هذا يقول:

"إن ثروات الشعوب التي استعبدتها روما قد أعطت روما ملاعبها الضخمة ومعابدها الفخمة وقصورها المكدسة في تلالها، وجعلت في كل زاوية منها تمثالا ضخما، وجاءت أوربا من بعد، ففعلت الشيء نفسه...وتكفينا مقدمة "البيان الشيوعي" الذي أصدره ماركس ورفاقه عام 1847م، لنعرف المدى الذي نهبت به ثروات الهند والصين لتشمخ عواصم أوربا... " (ص 462)

ويضيف رحمه الله في السياق نفسه: "إن كل متر من أنفاق لندن وراءه قصة أسرة من جامايكا دفن بعضها حيا داخله، وكل عمود من قصورها من ورائه جراحات على مدى الإمبراطورية.. الإمبراطورية التي لم تكن تغيب عنها الشمس...

في مقابل ذلك - يقول - بقيت حال يثرب كما هي مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم المتواضعة البناءات عند سفح جبل أحد، وبقيت مكة أم القرى وموطن الحرم، وليس بها سوى حجارة الكعبة القديمة...حتى إن الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز رفض كساءها، وقال لمن اقترح عليه أن يكسو الكعبة المشرفة: "إن البطون الجوعى أولى"، بل لم يرسل الولاة المسلمون شيئا من عائدات الزكاة إلى خارج مناطقهم، تقيدا بالقاعدة الإسلامية الأصيلة التي تقضي بصرف أموال الزكاة على فقراء المنطقة نفسها أيا كانت ملتهم وأيا كان دينهم..."

فبمثل هؤلاء فتح الإسلام حوض الحضارات - يضيف حاج حمد - وبمثل هؤلاء حكم، فلم يحدث ذلك التطور القسري الذي انتهجته الحضارة الغربية في تشييد هياكلها من عرق المستعمرات...حيث لم يبن عمرو بن العاص رضي الله عنه في مصر هرما يخلده الناس كمعجزة رابعة إلى جانب هرم خوفو، بعد أن يسحق تحته قهرا وظلما الآلاف من المستعبدين والمستضعفين، ولم يشيد الخليفة العباسي هارون الرشيد رحمه الله برجا يظاهر به برج بابل أو ينافس به برج إيفل.. . ولم يفكر أحدهم في مثل حماقة "تاج محل"..." (ص 463)

يمكن أن نخلص مع المفكر السوداني حاج حمد إلى أن ما قد يقال على سبيل النقد التاريخي من أن الحضارة الإسلامية لم تستطع أن تبلور سياقا عاما لإنتاج التغيير الاجتماعي وإفراز معطيات الثورة الصناعية، وخلق آفاق جديدة لولادة وسائل إنتاج وثقافة إنتاج قادرتين على ترجمة الثقافة الإسلامية المنطلقة في الآفاق، إلى حقيقة وضعية يحدث في سياقها التحول السياسي والاقتصادي والفكري...نهاية بولادة الدولة القومية على الشاكلة الأوربية...

وما قد يقال أيضا على أن الحضارة الإسلامية لم تستطع أن تخلق تواصلا جدليا شبيها بذلك الذي حققته الحضارة الغربية... وأن المسلمين لم يقدروا في هذا على المحافظة على وتيرة الانطلاقة الفكرية والعلمية التي ميزت القرون الأولى من الانبعاث الإسلامي وانتشاره في حوض الحضارات بتلك القوة والحيوية الفريدة... كل ذلك - كما يقول الدكتور حاج حمد - فيه جهل مطبق بالمركب العقائدي والثقافي التي كان من وراء كلا الحضارتين وكلا الثقافتين، إذ ثمة فارق جوهري كبير بين الفكر الإسلامي والفكر الغربي...

لقد جاءت الحضارة الإسلامية إنسانية الاتجاه وكونية القبلة... جاءت بحكم محتواها القرآني، فأبقت نفسها في حدود التطور الطبيعي - غير القسري - لقواعدها الحضارية على مستوى الإنجازات العلمية والتطور الزراعي والصناعي...

هكذا، فإن دعوى المماثلة أو المقايسة غير السليمة ولا المنطقية بين الحدود التاريخية والنفسية والإنسانية للثقافتين والحضارتين الإسلامية والغربية، يعبر بواقعية أليمة عن أزمة الاستلاب العميقة التي طالت بنية الخطاب العربي المعاصر وخلاصاته الاستنتاجية وقراءاته المختلفة لتاريخ الأمة الإسلامية وسياقاته الفكرية والعلمية، وهي الأزمة التي شكلتها أبعاد الإسقاط النفسي لمكون الهزائم السياسية والعسكرية والثقافية التي واكبت إنتاج هذا الخطاب.

عموما، يتجه أبو قاسم حاج حمد إلى أن ثمة إطارا معرفيا سيكولوجيا كان وراء هذه السلوب، حيث أدى تراكم تداعياته إلى مثل هذه الإفرازات... إطار يرتبط بمنظومة ذهنية وسلوكية، بداية من استلاب الإنسان بالعبودية ومعنى الطاعة، فيتم إقصاء مدلولات الحرية ومعانيها من قاموس الفكر تدريجيا... إلى تفريغ شحنات وعيه ونزوعه العلمي، ثم تجريده من أي شكل من أشكال تقرير سيادته بمنطق الحاكمية الإلهية مع دونية الآخر الذمي وتدنيس المرأة واستلاب الفعل الحضاري وقوة العمل وإعطاء معنى تحقيري للحياة ودمغها بأزلية التفاوت الاجتماعي والانقسام الديني...

كيف يمكن تجاوز الوضع المأزوم بسلوباته وتشظياته الفكرية؟

من غير شك، فالتأمل البسيط يوحي بأن منهجية القرآن المعرفية في قوله تعالى: "كن فيكون" توحي بوجود توسطات جدلية للفعل الإلهي، يمكن إدراكها واستيعاب بعض من جزئياتها، باقتحام عقبة المكسب التاريخي كمنهج معرفي وتراكم إنساني، وذلك ضمن قاعدة التصور الكوني الواسع... التصور الذي يحضر فيه العقل ضمن عالميته الإسلامية الثانية، والتي هي مكسب من مكاسب الافتقار والعبودية لله تعالى... العبودية التي تجسدها الآية الجليلة: "وعباد الرحمان الذين يمشون على الأرض هونا".

ولعمري، فهذا موضوع آخر وأطروحة أخرى من بحر مدارك الفيلسوف محمد أبي القاسم حاج حمد... أطروحة تحتاج إلى سفينة أخرى تشرع للإبحار في محيطه الواسع...[1]


*- نص المداخلة الذي ألقي في اليوم العلمي الذي نظمته مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث تحت عنوان:"الدراسات القرآنية المعاصرة وسؤال المنهج: أبو القاسم حاج حمد ومحمد شحرور نموذجا"، بتاريخ 28 شتنبر 2013، الرباط، المغرب.

[1]- نصوص هذه المقالة مقتبسة في مجملها من مصدر النقاش الأصلي: "جدلية الغيب والإنسان والطبيعة: العالمية الإسلامية الثانية" للمفكر السوداني الدكتور محمد أبو القاسم حاج حمد، الطبعة الأولى 2004م – 1425هـ، دار الهادي - بيروت، سلسلة دراسات فلسفة الدين وعلم الكلام.