تجديد النظر في الإجماع أصلا من أصول الفقه في الفكر الإسلامي الحديث


فئة :  مقالات

تجديد النظر في الإجماع أصلا من أصول الفقه في الفكر الإسلامي الحديث

مقدّمة

لا شكّ في أنّ أيّ بحث في تجديد العلوم وقضاياها يستهوي طائفة من الدّارسين المعاصرين أكثر من أيّ نوع من أنواع البحوث الأخرى؛ ذلك أنّ من السمات الحضاريّة الحديثة البحث عن الجديد في كل تجلّيات الحياة المادية والمعنويّة. وكأنّ الدرس الحديث يتنكّر بذلك لعادة الوفاء للسّلف وللماضي التي حرص عليها العلماء القدامى، ولم يشذّ عنها إلا نزر يسير منهم رموا بالإلحاد والزندقة والمروق عن الجماعة. نستحضر في هذا السياق، ما يقوله الفقيه الشافعي السمعاني (ت489هـ): "فعلى الطريقة التي ذكرتها ينبغي أن يتكلّم المسلم ويعتمد عليه، ولا يغترّ بزخارف القول، وليتّبع طريقة السلف الصالح والأئمة المرضية من الصحابة ومنهج التابعين بإحسان، لينال السعادة العظمى ويصل إلى الطريقة المثلى"[1].

وقد يكون من الضروري لمن يدرس قضيّة من قضايا تجديد العلوم العربيّة الإسلاميّة أن يبيّن مفهومه الخاصّ للتجديد؛ فمن الواضح أنّ مواقف المجدّدين تكيّفت وفق ما يفهمونه من مصطلح التجديد. وقد تأثر هذا الفهم بخلفيّات الدّارسين الإيديولوجيّة. لذلك، توضع تحت لافتة التجديد والمجددّين أسماء متناقضة المشارب بين من يدعو إلى تجديد خارجي شكلي للعلوم ومن ينادي بتجديد جزئيّ توفيقي يكتفي بإدخال بعض عناصر الحداثة ضمن العناصر القديمة ومن يسعى إلى التخلّص من المنظومة القديمة، ليبني على أنقاضها منظومة جديدة متفاعلة مع العصر الحديث ولا يكون التجديد في نظرنا تجديدا، إلاّ إذا كان قطعا مع معارف أو مناهج أو مسلّمات قديمة وإحلالا لمعارف أو تصوّرات غير معهودة محلّها. وهذا القطع قد يكون جزئيّا وقد يكون جذريّا.

ولا يعدّ التأكيد على معنى القطع باعتباره معنى مركزيّا في مفهوم التجديد بدعا من القول، فقد بيّن اللغوي الكوفي ابن فارس (ت395هـ) منذ القرن الرابع للهجرة في معجمه "مقاييس اللغة" أن "الجيم والدال (في مادة جد) أصول ثلاثة : الأول العظمة، والثاني الحظ، والثالث القطع... يقال : جددت الشيء جدّا، وهو مجدود وجديد أي مقطوع"[2].

وبناء على هذا المعنى، قيل إنّ الثوب جديد بمعنى مجدود يراد به أن الحائك جدّه أي قطعه.

وعلى هذا الأساس، نظرنا في اتجاهات دارسي الإجماع منذ عصر النهضة، فوجدنا تيارين أساسيين يمكن أن ندرجهما ضمن تيارات التجديد الذي يتماهى والقطع: أوّلهما تيّار التجديد أو القطع الجزئي ويمثّله محمد عبده ورشيد رضا ومحمد الطاهر ابن عاشور وغيرهم. أمّا التيّار الثاني، فهو تيّار التجديد الجذري والقطع الكلّي مع نظريّة الإجماع القديم ويمثّله محمّد توفيق صدقي وعبد الحميد الزهراوي.

I- مفهوم الإجماع لدى تيّار التجديد الجزئي

اختار أصحاب هذا الاتجاه مقاربة المفهوم الأصولي التقليدي للإجماع بعين ناقدة ترنو إلى إصلاحه ومراجعته من الداخل دون أن تجرؤ على الثورة عليه وتجاوزه. وهكذا نلفي محمد رشيد رضا يؤسّس نقده لمفهوم الإجماع على أفكار رئيسة أهمّها :

1- نقد الطابع النخبوي الذي ينصّ عليه مفهوم الإجماع في المدوّنة الأصوليّة؛ ذلك أنّه يقرّ مشاركة المجتهدين في الإجماع مقابل إقصاء العوامّ والمجتهدين غير السنيّين. يقول رضا عن المفهوم التقليدي للإجماع: "فلا عبرة فيه باتفاق بعض المجتهدين ولا باتّفاق المقلّدين (العوام) ولا باتّفاق غير المسلمين كالذين يكفّرون ببدعتهم، والذين يجعلون الإسلام جنسيّة لهم لا دينا"[3].

2- وفي مستوى ثان، ينقد رشيد رضا شروط المجمعين التي ينصّ عليها مفهوم الإجماع عند الأصوليّين معتبرا أنّها لا تتوافق مع العصر. يقول: "وظاهر أنّ تعريف جمهور الأصوليّين للإجماع وتخصيصه بالمجتهدين المعرفين بما ذكر[4] لا يتّفق مع قول القائلين إنّهم أهل الحلّ والعقد ولا على المصلحة العامّة، فإنّ العالمين بما ذكروه من شروط المجتهد لا يعرفون مصالح الأمّة والدولة في الأمور العامّة كمسائل الأمن والخوف والسلم والحرب والأموال والإدارة والسياسة، بل لا يوثق بعلمهم الذي اشترطوه في أحكام القضاء في هذا العصر الذي تجدّد للناس فيه من طرق المعاملات ما لم يكن له نظير في العصور الأولى فيقيسوه به"[5].

يقوم نقد رشيد رضا من خلال هذا الشاهد على مستندين؛ أحدهما مرجعيّته قديمة يتمثّل في تناقض تعريف الإجماع الذي يقتصر على المجتهدين مع تعريفات أخرى لعلماء أصول فقه آخرين ينصّون على المماهاة بين أهل الإجماع وأهل الحلّ والعقد. وهذه العبارة أكثر اتّساعا من عبارة المجتهدين، كما يمكن أن تنفتح على كلّ أصحاب السلطة بمختلف أنواعها.

أمّا المستند الآخر لهذا النقد، فمرجعيّته حديثة لأنّه يقيم مفهوم الإجماع الأصولي على أساس مبدإ حديث هو المصلحة العامّة؛ فلئن كان المفهوم الأصولي يراعي في المجمع أو المجتهد معطيات ذاتية وعلميّة بالأساس، فإنّ التغييرات الجذريّة التي برزت في العصر الحديث تفرض إلماما بالواقع في مختلف أبعاده السياسية والاجتماعيّة والاقتصادية. وهكذا، فإن رشيد رضا يتفطّن إلى فكرة محوريّة في نقد شروط الاجتهاد القديم، وهي غياب شرط معرفة الواقع والعصر ومصلحة الناس.

3- نقد فكرة عصمة المجتهدين

يقول رضا: "ثمّ إن ما ذكروه في تعريف الاجتهاد والمجتهد لا يقتضي أن يكون المجتهدون معصومين في اتفاقهم على الأمر الذي يسمّى إجماعا، ولا سيّما قول الجمهور الذين يجيزون إجماع العدد القليل كالاثنين والثلاثة. وغلا بعض أهل الأصول، فقالوا إنّ عصمتهم كعصمة النبي"[6]. وهكذا ينفي رشيد رضا مرتكزا جوهريّا لنظريّة الإجماع السنيّة هو عصمة المجتهدين وعصمة الإجماع. ويترتّب على هذا النقد، إبطال قواعد كثيرة في نظريّة الإجماع على غرار مخالفة إجماع العصور المنقضية وحظر نسخ إجماع لاحق لإجماع سابق، وهي بعض القواعد التي حكمت على الحياة الفقهية القديمة بالجمود وعدم التجدّد. ويخلص رضا في نهاية المطاف إلى استحالة الإجماع بالشكل الذي عرّفه به الأصوليّون[7]. ومع ذلك، فهو لا يدعو إلى هدمه، وإنّما يقترح تطعيمه بمحتوى حديث مستلهم من النظام السياسي التمثيلي الغربي.

لهذا يضحي الإجماع عنده إجماع ممثلي الأمة، وهم أولو الأمر لا إجماع العلماء والفقهاء والمجتهدين. وتضحي طاعة ممثّلي الأمة مبرّرة بالمصلحة لا بالعصمة التي قرّرها الأصوليّون. ومبدأ المصلحة هو الذي يجيز من خلاله رضا إمكانيّة إبطال الإجماع المنعقد في الماضي. وهذا الموقف يتخذه رضا بكلّ وعي وإدراك لمخالفته مقرّرات السلف. يقول: "وللمتأخرين منهم أن ينقضوا ما أجمع عليه من قبلهم، بل وما أجمعوا هم عليه إذا رأوا المصلحة في غيره، فإن وجوب طاعتهم لأجل المصلحة لا لأجل العصمة كما قيل في الأصول "[8]. وفي هذا مخالفة صريحة للسلف الذين حظروا مخالفة الإجماع، وإن كان هو يبرّر موقفه بأنه غير ما حظره السلف من مخالفة الإجماع الذي كانوا يعنون به ما جرى عليه الصحابة وكذا التابعون من هدي الدين بغير خلاف يصح عن أحد من علمائهم.

إنّ مقاربة رشيد رضا النقدية لمفهوم الإجماع، وإن لم تصل إلى حدّ القطع الكليّ مع المصطلح ومع بعض من أبعاده، فإنّها تعدّ أحد أبرز المواقف الناقدة للإجماع لقدمها أوّلا، ولأنّها نقد صادر من داخل المؤسسة الدينيّة ثانيا.

ولعلّ هذا ما مهّد الطّريق لبروز اتجاه أكثر جذريّة وأشدّ جرأة في دراسة الإجماع، يمكن أن ننظر في أحد ممثّليه المغمورين القريبين من رشيد رضا، وهو عبد الحميد الزهراوي.

تيار القطع الكلّي مع الإجماع: عبد الحميد الزهراوي[9] أنموذجا

يستهلّ الزّهراوي (ت 1916م) وقفته الخاصّة بالإجماع أصلا من أصول الفقه بإعلان عبثيّة اعتباره أحد مصادر الأحكام. ويستعيد في هذا الشأن، بعض التّبريرات القديمة المألوفة عند منكري حجيّة الإجماع من قبيل ترجيح عدم وقوعه واستحالة اتّفاق المعتدّ بإجماعهم لتفرّقهم في البلاد بعد موت الرّسول. يقول: "وأمّا الإجماع، فالغالب أنّه لم يقع، ولذلك لا جدوى من تقريره أو جعله مأخذا، وبرهاني أنّ الذين يُعتدّ بإجماعهم كانوا بُعيد وفاة النّبي متفرّقين في البلاد"[10]. ويتساءل تساؤلا إنكاريّا يتحدّى من خلاله السّلفيّين المتشبّثين بحجيّة الإجماع مفاده مطالبتهم بتقديم واقعة واحدة وقعت في زمن معيّن جمع فيه العلماء وسئلوا عن رأيهم في مسألة أو نازلة نزلت بالمسلمين وأجابوا بما يتّفق وموقف أغلب العلماء. يقول: "فمتى رؤي أنّهم سئلوا عن المسائل التي يزعم النّاس فيها الإجماع فأجابوا بما وافق كلام الجمهور"[11].

ويرد إثر هذا على الأصوليّين الذين اعتمدوا حجّة إجماع الصّحابة على خلافة أبي بكر لتبرير مشروعيّة الإجماع، فهي في نظره "حادثة منقضية في وقتها، وليست ممّا يترتّب عليها حكم"[12]. وهذا الموقف في رأينا، غير مقنع ذلك أنّه لا يشرح أسباب عدم اعتبار تلك الحادثة من الأحداث التي لا يترتّب عليها حكم. ولعلّ ما يبرّر غياب التّفسير هنا اعتماد الزّهراوي التّقيّة ممّا جعله ينأى عن القول بعدم حصول إجماع تامّ بين كبار الصّحابة على مبايعة أبي بكر ويسكت عن موقف سعد بن عبادة زعيم الأنصار الذي تمسّك بموقف الامتناع عن مبايعة أبي بكر إلى وفاته[13]. ولا يتطرّق إلى موقفي علي وفاطمة من خلافة أبي بكر. ولئن غابت هذه المواقف التاريخيّة التّفصيليّة الصّادمة، فإنّ الموقف المجمل الذي عبّر عنه الزّهراوي يشي بأنّ الخلفيّة التي تحرّك موقفه من الإجماع هي منهج النّقد التاريخي. يقول: "ومن زاول التاريخ وأخبار الأمّة يؤمن بالذي قلته، ولا يجحده إلاّ من أوقفهم التقليد في موقف واحد فهم عنه لا يبرحون"[14].

ومن الواضح أنّ هذه القراءة التاريخيّة هي التي أوصلت الزّهراوي إلى موقف إنكار الإجماع، فقد نظر في إجماع التّابعين ومن بعدهم، فاستخلص عبثيّة حصول الإجماع في زمنهم واستحالة إثبات ذلك. يقول: "وأمّا إجماع من بعدهم من التّابعين وتابعي التابعين، فهيهات هيهات. ذلك أحزن سبيلا وأبعد منالا من إجماع من قبلهم، وإثباته أصعب من إثبات رمضان الذي يمهّدوه من أجله في المحاكم الشرعيّة دعوى ويلفّقون تصويرها"[15].

ويضيف الزهراوي أنه "إذا تجاوزنا هذه الحقبة لاحظنا انقسام المسلمين إلى فرق متحاربة يكفّر بعضها بعضا اختلف ممثّلوها في القراءات وتعارضوا في الروايات وتناقضت أحكامهم وتأويلاتهم للنّصوص، فأدّى ذلك إلى بروز عقائد متباينة وعبادات مختلفة وأقضية مضطربة وضمائر متباغضة فأين الإجماع؟"[16].

إنّ وضع الاختلاف والشّقاق الذي عاشه المسلمون إذن، هو ما دفع الزّهراوي إلى أن يتساءل عن مدى واقعيّة تحقّق الإجماع في التاريخ الإسلامي، فكيف يجمع قوم حالهم ما ذكره آنفا؟

وكان الزهراوي يعتبر إضافة إلى ذلك أنّ معنى الإجماع عصيّ على أفهام كثير من المسلمين من غير العلماء وغير العرب. يقول: "وأيّ المسلمين مطالبون أن يفهموا معنى ذلك الإجماع؟ أأعرابهم الضّاربون في بطون الأودية وظهور الجبال، أم أمصارهم المؤلّفة من أبناء الرّوم والفرس والقبط وقليل من أبناء الأحبار؟[17]. ولا تقتصر هذه النخبويّة على فهم الإجماع فحسب، وإنّما تشمل مفهومه أيضا، فهو يختصّ بالمجتهدين، لذلك ينقده الزّهراوي مبيّنا أنّ حصول العلم بخبر كلّ مجتهد مستحيل ومضيفا أنّ اكتفاء الأصوليّين بعدد قليل من المجتهدين لا يتناسب مع ضخامة شأن الإجماع. يقول: "ولئن قالوا نحن، إنّما نخصّصه بإجماع المجتهدين، فنحن سائلوهم: متى أحطتم خبرا بكلّ مجتهد؟ ووقفتم على مذاهب الجميع؟ وهل اكتفاؤكم باتّفاق ثلاثة أو أربعة أو خمسة يقوم حجّة في إثبات تلك الدّعوى العظيمة؟"[18]

ويرفض إثر ذلك تبنّي بعض الأصوليّين مشروعيّة الإجماع السّكوتي مبرّرا ذلك بجواز السّكوت لأسباب وأسرار منها الخوف من بطش أصحاب الحكم. يقول: "وقد قيل لابن عبّاس ما منعك أن تخبر عمر بقولك في العول؟ فقال دِرّته"[19].

ويتعجّب الزّهراوي من مواقف بعض المذاهب التي ناقضت المعنى الواسع للإجماع وجعلته مختصّا بعدد قليل من العلماء خضوعا لدوافع التعصّب للمذهب أو المدينة. يقول: "ثمّ يا عجبا للذين خصّوا الإجماع بإجماع عترة الرّسول أو بإجماع أهل المدينة على أنّ بعضهم (يقصد الشّيعة) لم يجعل الإجماع من أصله حجّة"[20]. ويجدر بنا توضيح هذا الموقف، ذلك أنّ الشّيعة اختلف علماؤها في حجيّة الإجماع بين مثبت له مدافع عنه ومنكر له رافض لمستنداته، إلاّ أنّ موقف الإثبات عندهم له خصوصيّة تتمثّل في اشتراط دخول الإمام المعصوم بين المجمعين.[21]

ولم يكتف الزهراوي بنقد المسائل الأصولية المثارة في كتب أصول الفقه، وإنّما نظر أيضا في بعض المصنّفات التي كتبت من منطلق تمجيدي لإثبات حصول الإجماع في التاريخ، فضمّت كثيرا من المواقف المجمع عليها في مختلف مجالات العبادات والمعاملات، على غرار كتاب "الإجماع" لابن المنذر (ت 318هـ). وقد بيّن الزّهراوي أنّه لم يجد في أيّة مسألة ممّا ادّعوا فيها الإجماع اتّفاقا بين العلماء، وإنّما الغالب اختلافهم في هذه المسائل. ويفسّر هذا بعدم معرفة أصحاب تلك المؤلّفات الآراء المخالفة أو بالسّكوت عنها. ويعتمد في هذا الصّدد النّقد الدّاخلي، إذ ينقد الإجماع من خلال موقف أحد أعلام المنظومة السنيّة المدافعة عن الإجماع، وهو ابن تيميّة (ت728هـ) فهو يقول: "والإجماع المدّعى في الغالب، إنّما هو عدم المعرفة بالمخالف، وقد وجدنا من أعيان العلماء من صاروا إلى القول بأشياء متمسّكهم فيها عدم العلم بالمخالف مع أنّ ظاهر الأدلّة عندهم تقتضي خلاف ذلك"[22].

ويشدّد الزّهراوي في مرحلة أخيرة من مراحل بحثه الخاصّ بالإجماع أصلا من أصول الفقه على نقد من ذهبوا إلى تكفير من يخالف الإجماع معتبرا أنّه تجوز مخالفة المجمعين، لأنّهم غير معصومين. يقول: "فكأنّ الكفر عندهم عبارة عن مخالفة هؤلاء الأشخاص الذين ليسوا بمعصومين، وإن كان المخالف مؤمنا بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر قلبا ولسانا ومتّبعا النبيّ علما وعملا"[23].

ويعضد الزّهراوي رأيه بموقف الغزالي (ت 505 هـ) الّذي خصّص فصلا في كتابه "فيصل التّفرقة بين الإسلام والزندقة" للردّ على من يكفّر مخالف الإجماع. وقد ختمه بالدّعوة إلى تهميش مواقف مكفّري من يخرج عن الإجماع، لأنّ تحقّق الإجماع بشروطه المعروفة مسألة غامضة، ومعرفة أصحاب هذه المواقف محدودة تقتصر على الفقه. يقول: "فإذا رأيت الفقيه الذي بضاعته مجرّد الفقه يخوض في التكفير والتضليل، فأعرض عنه ولا تشغل به قلبك ولسانك، فإنّ التحدّي بالعلوم غريزة في الطّبع. ولا يصبر عنه الجهّال ولأجله كثر الخلاف بين النّاس، ولو سكت من لا يدري لقلّ الخلاف بين الخلق"[24].

ويبدي الزهراوي إعجابه بهذا الكلام معتبرا أنّه يجب نقشه في لوح الذّاكرة من غير أن يضيع منه حرف.

لقد دعانا موقف الزهراوي المنكر للإجماع أصلا من أصول الأحكام إلى البحث في ما كتبه من رسائل عن مدى انسجامه مع هذا الموقف من الأصل الثالث من أصول التشريع عند أهل السنّة. فاطّلعنا أولا على كتابه "خديجة أمّ المؤمنين"[25] ، ومنه استخلصنا جملة من مواقف الزّهراوي ذات صلة بالخروج عن الإجماع السّائد من ذلك أنّه يقطع في هذا الكتاب مع سنّة في الكتابة يكاد يجمع عليها المؤرّخون القدامى، وهي إهمال سير النّساء لذلك نراه يشكو إعراض المؤرّخين عن ذلك مع أنّ الفرق في نظره "ليس بكبير في الفطرة بين الرّجل والمرأة وليست المرأة بمحرومة من المزايا التي يعلو بها قدر المتحلّي بمثلها من الرّجال؛ ذلك أنّنا نرى لهنّ عقولا سليمة وقلوبا كريمة وهمما عظيمة"[26].

وتطرّق الزّهراوي في هذا الكتاب إلى عرب ما قبل الإسلام، فخالف الرّأي المجمع عليه المستهين بهم والمقلّل من شأنهم، وبيّن أنّه كانت لهم قبل الإسلام حضارة، وكانت لهم ملوك وممالك مثل ملوك اليمن وغسّان وكندة. واشتهروا بالحرص على وحدتهم القوميّة، لذلك كانوا يواجهون الغريب بتوحّدهم اللغوي وبوحدة النّسب وبمبدإ العصبيّة. ولئن ذمّ عقائد العرب الوثنيّة أثناء عرضه لها، فإنّه ما لبث أن أثنى على عقولهم التي أضاءت لهم السّبل فعرفوا بها الأخلاق الصّالحة والفاسدة. ولم يكن يعوزهم إلاّ أن يقوم فيهم مرشد يهديهم للّتي هي أقوم من طرائق الاعتقاد بالله. وهذه الأفكار التي عبّر عنها الزّهراوي سنة 1908 سيستعيدها طه حسين ويطوّرها في سنوات لاحقة في كتابه الذي نشر في البداية تحت عنوان. "في الشعر الجاهلي".

وقد خرج الزهراوي في كتابه الخاصّ بخديجة عن الموقف السّائد الذي يكرّس المرتبة الدّونيّة للمرأة، فقدّم صورة مشرّفة للمرأة العربيّة في المجتمع القرشي. ولعلّه يبتغي من ذلك توظيفها في المطالبة بحقوق المرأة في مجتمعه. يقول: "كان لنسائهم (المجتمع القرشي) كثير من الحقوق ولهنّ أن يواجهن الرّجال، ويبرزن أمامهم حاسرات، ويمكن أن يقال بالإجمال إنّ حريّة الرّجال والنّساء كانت تامّة، وأنّ العرب كافّة وقريش خاصّة يُعِزّون المرأة ولا يهينونها... ولم ينسوا أنّ المرأة كالرّجل، هي إنسان يحمل دماغا فيه إدراك..."[27]. ويبدو أنّ وضعيّة المرأة المتخلفة في عصره دفعته إلى استحضار هذه المعطيات القديمة وتضخيمها حتّى تكون ملهما لأبناء عصره للنسج على منوال أسلافهم.

ولئن انعقد الإجماع منذ القديم على احترام العادات والتقاليد إلى حدّ تقديسها واعتبار الخروج عنها انسلاخا من المجتمع، فإنّ الزّهراوي رأى فيها عاملا سلبيّا، إن في مستوى الفرد أو الجماعة. يقول: "أفّ ثمّ أفّ للعادات، فهي قاطعة الطّريق على نتائج العقول، تزجّ بها في مهاوي العدم أو تذرها في سجن أقفر ممنوع عنها كلّ من يربّها[28]، ويا عجبا لبني آدم الذين يضعون العادة في هذا المكان من الحكم على نفوسهم والقضاء على عقولهم وقلوبهم... أليس لهم ما يبصّرهم بأنّ العادة يجب أن تكون تابعة لا متبوعة ومنقادة لا قائدة"[29].

ولئن أورد الزهراوي هذه الأفكار في سياق إشادته بخديجة التي تجاوزت سلطة التقاليد وتقدّمت لخطبة محمّد مخالفة عادات مجتمعها، فإنّ مبتغاه يتجاوز هذه الحادثة ذلك أنّه يؤمن بضرورة الابتعاد عن التقليد وممارسة الاجتهاد والنظر العقلي في كلّ المجالات.

ونظرنا بعد ذلك في كتاب الزهراوي "الفقه والتصوّف"، وهو عبارة عن ثلاث مقالات يدعو فيها إلى الإصلاح في نطاق الدّين وعلومه مركّزا على تمجيد الاجتهاد ونبذ التّقليد ونقد الفقه والفقهاء نقدا داخليّا؛ أي انطلاقا من معرفته المدقّقة بمكوّنات هذا العلم وثغراته وخاصّة ما آل إليه من استغراق في الجزئيّات والشكليّات والفرضيّات.

وممّا له علاقة بالإجماع في هذا الكتاب نقده للقاعدة الأصوليّة التي تعتبر إجماع العلماء في عصر ما ملزما لأهل العصر اللاحق، فهو ينكر أن يكون ما قرّر أو كتب في عصور سالفة صالحا لكلّ زمان ومكان، ويرفض أن يكون مستمدّا من الدّين. ويؤسّس رأيه هذا على قاعدة تغيّر الأحكام بتغيّر الأزمان التي نادى بها عدد قليل من الفقهاء منهم ابن قيّم الجوزية (ت751هـ). وحمل في هذا السّياق، حملة عنيفة على خلافات الفقهاء والقضاة، لأنّه رأى أنّ سببها إنّما هو منافع القضاة أو من في حكمهم، ورأى أنّ علم الفروع غدا في حال من التشويش لا يستقيم بها أمر أحد.

ويخالف الزهراوي الإجماع أيضا حين ينقد ولع النّاس بالقديم ونسبتهم البركة والتقديس إلى الأقدم فالأقدم. لذلك، لا يجد غضاضة في نقد المحاكم الشرعيّة. يقول: "ونرى أيضا ناسا يمدحون هذه المحاكم المسمّاة بالشّرعيّة، وهي محاكم نعرفها حقّ اليقين فما علمناها إلاّ ميدان حيل وحلبة تلفيق وسوق تزوير فيها يجوز بيع البلد بما فيه بفلس واحد"[30]. ويعبّر هذا الرّأي عن الهوّة العميقة التي تفصل واقع القضاء الشّرعي في عصر الزّهراوي وفي مجتمعه عن مبادئ العدل الّتي اشترطت فيه في تنظيرات الفقهاء.

ويشذّ الزّهراوي عن الإجماع السّائد أيضا من خلال نقده الشّديد للمتصوّفة، فقد كانوا يمثّلون في أواخر الدّولة العثمانيّة عائقا أمام الإصلاح فضلا عن أنّهم كانوا في حالة بطالة يرتزقون من مال النّاس، وكانوا مخالفين لسيرة الرسول بابتداعهم الرهبانيّة.

وينقد الزّهراوي في رسالة وسمها بـ"نظام الحبّ والبغض" مفهوم عصمة الأمّة الذي يشيّد عليه الأصوليّون نظريّة الإجماع. ويأتي هذا الموقف في أثناء تحذير قومه من تقليد الأوروبيّين بشكل أعمى. يقول: "إنّه لا عصمة لأمّة من الخطإ ولا يستحقّ أحد أن يقلّد تقليدا محضا، بل علينا أن نستعمل التّفكير ونستهدي التجارب..."[31].

وهكذا يستثمر الزّهراوي مفهوما نشأ في إطار أصولي ديني ليوظّفه في مجال دنيوي، لأنّ المنطلق هو نفسه في المجالين، وهو تأكيد قابليّة خطإ الأمّة في شؤون الدّين والدّنيا معا. ومن شأن هذا الرّأي تنسيب الموقف الدّاعي إلى التقليد المطلق لعلماء الدّين واجتهاداتهم أو لمجتمعات وحضارات أخرى.

وقد تولّد عن هذا الموقف رأي آخر فيه خروج واضح عن إجماع قديم ساد لدى الفقهاء، تمثّل في رؤيتهم المتوتّرة للعالم وتقسيمهم له إلى دار إسلام وسلام مقابلة لدار شرك وحرب. يقول: "يومئذ تنقسم الأرض الطبيعيّة غير هذا الانقسام الصناعي، ويصافح المشرقي المغربي والشمالي الجنوبي على أنّهم إخوان متعاونون في العلوم متقاسمون للأعمال في دار واحدة فسيحة، يحكم بينهم منتخبون منهم، متعدّدون بنسبة التقسيم ومتّحدون بنسبة التنظيم، لا يحارب بعضهم بعضا باسم القوميّات ولا باسم الأديان ولا باسم الدّيار والأقاليم"[32].

والظاهر من هذا الشّاهد وممّا سبق إيراده من أقواله، أنّ من العوامل الأساسيّة القادحة لهذه الآراء تشبّع صاحبها بالقيم الحديثة التي برزت انطلاقا من عصر الأنوار في أوروبا. فنظريّة الإجماع، إن درست في ضوء هذه القيم تتكشّف غربتها عنها. فهي قد غيّبت أغلب فئات المجتمع من أيّ دور في الإجماع وفي الحياة الدينيّة والسّياسيّة لمجتمعاتهم، وهذا مخالف لما ساد في العصر الحديث من الإقرار بأهميّة دور كلّ فئات المجتمع، خاصّتهم وعامّتهم، في كافّة مناحي الحياة. وبناء على هذا أقرّ الزّهراوي بأنّ كلّ فرد من الأمّة له دور محوريّ في حياتها. يقول: "كلّ أمّة إنّما تقوم بنيتها على أسس، ولا تكون تلك الأسس راسخة ما لم يكن كلّ فرد من الأمّة عضوا أساسيّا فيها"[33].

والأمّة في نظر الزّهراوي مصدر السّيادة، فهي التي تنصّب الحاكم، وهذا التّنصيب لا تقوم به فئة دون أخرى، بل تشارك فيه كلّ الفئات فكلّ فرد من الأمّة متى كان عضوا أساسيّا فيها كان بالطّبع شريكا في نصب الحكومة. وهذا الرّأي يخالف نظريّة الحقّ الإلهي التي حكم بمقتضاها الخلفاء المسلمون، ليبرّروا عدم مشروعيّة مساءلتهم وقد ساعدتهم التنظيرات الفقهيّة على إسباغ القداسة الدينيّة على حكمهم طمعا في المناصب والأموال. وهكذا قام الفقهاء بدور سلبيّ يكرّس الاستبداد بدل السّعي إلى إزالته. ولعلّ هذا أحد العوامل الأساسيّة التي تفسّر موقف الزّهراوي من الإجماع. فقد احتكر هذا الأصل من طائفة من علماء الدّين يتّخذونه سلاحا إيديولوجيا لمواجهة خصومهم من المذاهب الأخرى وللدّفاع عن أصحاب السلطة القائمة. وتستند هذه الملاحظة إلى ما قامت به السلطة العثمانيّة في عصر الزّهراوي، فقد استغلّت الدين الإسلامي وبخاصّة الفقه والتصوّف وحرفتهما عن وظيفتهما فأصبحا في خدمتها. لذلك، فإنّ نقد الإجماع هو في الآن نفسه دعوة إلى مراجعة منزلته الأصوليّة التي فقدت أركانها في العصر الحديث ومواجهة للسلطة العثمانيّة كذلك.[34] وبهذا يكون الزهراوي قد دفع الأفكار النقديّة الخاصّة بالإجماع في مدرسة الأفغاني وعبده ورشيد رضا إلى أقصاها، فتجرّأ على إنكاره في الوقت الذي تهيّبوا فيه ذلك. وهذا الموقف يتّسق مع شخصيّته التي كانت تمتاز بالجرأة والصداميّة والبعد عن الحلول الوسطيّة. وهذا ما لاحظناه في مواقفه السّياسيّة المبدئيّة التي أدّت به إلى حبل المشنقة.

ويبدو في نظرنا أنّ أفكار الزهراوي النّاقدة للإجماع يجدر أن تدرس في إطار مقارنتها بآراء تيّار القرآنيّين، فهل كان الزّهراوي متأثّرا بهم؟ يمكن أن نجيب بشكل موجز أنّه تأثّر بهم إلى حدّ ما، فهو يضخّم مثلهم منزلة القرآن ويعتبره الحجّة العظمى والعروة الوثقى. وينقد في هذا المستوى آراء من يوجبون تقليد الكتب دون القرآن. يقول: "فما بالهم يوجبون على النّاس أن يضاهوهم ويقلّدوهم، وما بال كلّ فريق منهم جعلوا لكتبهم من الاعتبار أكثر ممّا له إذ قالوا إنّ مفاهيم الكتب حجّة عندنا دون مفهوم القرآن"[35].

ويتجلّى من هذا الموقف المنزع النّقدي عند الزّهراوي، فهو في مستوى أوّل يرفض سلطة السّلف من خلال رفض احتكار علماء السّلف عمليّة فهم النصّ التّأسيسي الأوّل في الإسلام، وهو في مستوى ثان يرفض هيمنة المؤسّسة الدينيّة التي جعلت تقليد كتب ممثّليها أمرا واجبا مهمّشة النصّ القرآني، فكأنّه ينقد هذه الوساطة التي فرضتها المؤسّسة الدينيّة بين الله والعباد، وهو الأمر الذي جرّ الويلات للدّين المسيحي. وانطلاقا من هذا، يدعو الزهراوي إلى التّعامل المباشر مع النصّ القرآني. وهذه الدّعوة في نظرنا تعكس صدى أفكار الأفغاني وعبده ورشيد رضا في تفكير الزّهراوي.

ولعلّ ما يرجّح فرضيّة تأثّر هذا الكاتب السّوري بالقرآنيّين أنّه عندما يبحث موضوع السنّة أصلا للتّشريع لا يتطرّق إلى حجّيتها ومنزلتها الأصوليّة، لكنّه يقاربها بوصفها من أصعب العلوم مراسا اختصّ بكتب مدوّنة وعلماء عرفوا به، ويركّز في هذا الإطار على الإشكاليّات التي حدثت في تاريخ السنّة وأولاها الوضع والتوظيف المذهبي للحديث. يقول: "ولقد أتت على الأمّة عصور عمّتهم فيها البغضاء وأعمتهم عندها الأهواء، وأيّد كلّ منهم مذهبه بالنّقل ودعا إلى نحلته كلّ فاضل ونذل"[36]. وثاني هذه الإشكاليّات صعوبة التّمييز بين الأحاديث؛ أي بين غثّها وسمينها. ويذكر في هذا الصدد أنموذج الغزالي الذي أورد في كتابه "إحياء علوم الدّين" أحاديث انتقدها عليه العلماء، ويورد أيضا مثال البيضاوي (ت691هـ) الذي ختم كلّ سورة بفضائلها، من ذلك الحديث المشهور الموضوع.

ولم يسلم صحيح البخاري من هذا الدّاء، ففيه جماعة جرحهم بعض المتقدّمين كعكرمة وإسماعيل بن أبي أويس وعاصم بن علي، وثالث هذه الإشكاليّات اضطراب مقاييس الجرح والتعديل وعدم تجانسها. يقول: "فارجع إلى كتب هذا العلم تر شأنا عجبا، تجد من يعدّل هذا ويجرّحه ذلك حتّى تكاد أن لا تجد سالما من جرح"[37]. أمّا الإشكال الرّابع، فهو يتعلّق بكتابة الحديث. يقول: "ثمّ تأتيك شبهات النُسّاخ كانوا لا يُعجمون الحروف، فتشتبه الباء مثلا بالتاء والثاء والنون والياء..."[38].

ويبدو من خلال هذا النّقد التاريخي أنّ الزهراوي لم يكن همّه إثبات حجيّة السنّة بقدر ما كان إثارة المشاكل التي تحول دون اعتبارها مصدرا للتشريع.

وعلى خلاف هذا أبدى الزهراوي تأييده للقياس ناقدا موقف منكريه. ولعلّ ما يفسّر هذا مماهاته بين القياس والاجتهاد ممّا يعني أنّ موقفه الإيجابي من هذا الأصل التشريعي يفهم بكونه يدعم الدعوة إلى الاجتهاد وإعمال العقل. ويفسّر هذا الموقف أيضا بتأثّر صاحبه بموقف رائد القرآنيّين في مصر محمد توفيق صدقي؛ فقد عثرنا على قولة له في أحد أشهر مقالاته: "وخلاصة القول في هذا الموضوع أنّنا يجب علينا الاقتصار على كتاب الله تعالى مع استعمال العقل والتصرّف أو بعبارة أخرى الكتاب والقياس"[39].

خاتمة

لا ندّعي من خلال عملنا هذا، أنّنا فتحنا بابا جديدا في البحث؛ فالإجماع في الفكر الإسلامي المعاصر درس بمناهج مختلفة تمجيدية حينا ونقدية حينا آخر[40]، وهو شاغل محوري من شواغل الفكر الإصلاحي[41]. لذلك، قلّما خلا فكر المصلحين من التطرق إلى الإجماع. وممّا لا شكّ فيه أنّ التفكير في هذا المبحث قد تلوّن باتجاهات الفكر الإسلامي الحديث والمعاصر، سواء كانت تقليدية محافظة سلفية أو نقدية تجديدية؛ إلاّ أنّ المشترك بين كلّ الاتّجاهات تقريبا أن النظر الحديث في الإجماع لم يعد مطلقا مماثلا لنظر القدامى. فقد ترك العصر الحديث بكلّ قيمه ورؤاه غير المعهودة في الماضي أثرا جليا في كلّ التيّارات الفكرية الحديثة حتّى ما كان منها في غاية الانغلاق والتشدّد.

ولعلّ اللافت للنظر أكثر من غيره أنّ أغلب الباحثين في الإجماع يعلنون رغبتهم في مراجعته؛ ممّا يعني أنّهم يؤمنون بأنّه أصل بشري اجتهادي لا يمكن أن ينغلق باب مساءلته وإعادة النظر في مرتكزاته وقضاياه ورهاناته. ولمّا كان كذلك اعتبر اجتهاد القدامى فيه نسبيا محكوما بسياق عصرهم. وما كان لهذا الرأي أن يبرز لولا الوعي بالتاريخ الذي ترسّخ في العصر الحديث، وأدّى إلى اعتماد المنهج التاريخي في مقاربة القضايا الإنسانية والاجتماعية والدينية.

وهذا الوعي هو الذي ولّد قلق الإنسان الحديث الذي يدرك نسبية المعرفة الإنسانية ويحرص على تنزيل الأفكار في سياقها التاريخي.

وممّا يجدر التنبيه عليه أيضا، أن تجديد النظر في الإجماع في العصر الحديث قد قام به في كثير من الأحيان مفكّرون ينتمون إلى المؤسسات الدينية التقليدية على غرار جامعي الأزهر والزيتونة. فقد درسوا الإجماع دراسة نقدية وسعوا إلى إصلاحه من الداخل دون القضاء عليه. ومن أهمّ الأمثلة على هذا الرأي موقف الشيخ محمود شلتوت شيخ جامع الأزهر سابقا، إذ يقول في سياق نقده للإجماع بصيغته التقليدية: "لا أكاد أعرف شيئا اشتهر بين الناس على أنّه أصل من أصول الشريعة في الإسلام، ثم تناولته الآراء واختلفت فيه المذاهب كهذا الأصل الذي يسمّونه الإجماع"[42]. ولا شكّ في أنّ هذه الجرأة من نتائج الآراء النقدية التي دشّنها أعلام الإصلاح والنهضة في الفكر الإسلامي الحديث كمحمد عبده ورشيد رضا ومحمد الطاهر ابن عاشور.

وتخبر هذه الجرأة أنّ المنظومة الأصولية برمّتها لا الإجماع فحسب، قد اهتزّت مكانتها في العصر الحديث، وأضحى البحث عن مواءمتها مع القيم الحديثة هاجسا للمفكرين المعتدلين، وإن كان فريق آخر من الباحثين رأى في ذلك عملا لا طائل منه؛ لأنّه لا يتسنّى تنقيح نظرية ما دون تشويهها، ذلك أن تخليص الإجماع من المفاهيم والقيم التي تتناقض مع العصر الحديث سيفرغه من محتواه، ويجعله مجرّد مفهوم شكلي موروث من الماضي لا أثر له في العصر الحديث إلاّ بشكل محدود. ولعلّ أحد أهمّ أسباب وضع الإجماع هذا أنّه لم يتطوّر، ليصبح سلطة تشريعية جماعية دائمة تحلّ محلّ الاجتهادات الفردية التي جزّأت المسلمين وفرقتهم؛ وذلك بسبب الاعتقاد الذي سيطر على الأذهان، وهو أن الشريعة الإسلامية حرّمت كلّ تشريع غير ما شرّع الله ورسوله[43].


[1]- السمعاني، قواطع الأدلّة، تحقيق محمد حسن محمد حسن إسماعيل الشافعي، ط1، دار الكتب العلمية، بيروت، 1418هـ-1997، 2/ 348

[2]- ابن فارس، مقاييس اللغة، تحقيق شهاب الدين أبو عمرو، ط1، دار الفكر، بيروت، 1415هـ /1994م، ص ص 194-195.

[3]- رشيد رضا، تفسير المنار، ط2، دار الفكر، بيروت، 1393هـ-1973م، 5/203

[4]- ذكر رشيد رضا في موضع سابق خلاصة ما في كتاب "جمع الجوامع" وهو أن المجمع عندهم هو الفقيه، ويشترط في تحقق الاجتهاد أن يكون المجتهد بالغا، عاقلا، ذا ملكة يدرك بها المعلوم، فقيه النفس، عارفا بالدليل العقلي، ذا درجة وسطى في اللغة العربيّة وفنونها (من النحو والصرف والبلاغة) والأصول والكتاب والسنّة. وصرّح رضا بأنّه يكفي في هذا الزمن الرجوع إلى أئمّة الحديث أي إلى مصنّفاتهم في الجرح والتعديل وما يصحّ وما لا يصح، وبأنّه لا يشترط علم الكلام ولا الذكورة ولا الحرية فيجوز أن يتألّف المجتهدون وأهل الإجماع من النساء والعبيد" المصدر المذكور، 5/204

[5]- المصدر نفسه، 5/205

[6]- رشيد رضا، تفسير المنار، 5/205

[7]- يقول: "إن حصر المجتهدين بالمعنى الذي ذكروه لا يمكن والعلم باتفاقهم على تفرقهم لا يمكن. ولهذا قال بعض العلماء إن هذا الإجماع الأصولي غير ممكن، وإذا أمكن فالعلم به غير ممكن"، تفسير المنار، الصفحة نفسها.

[8]- رشيد رضا، المصدر نفسه، 5/208

[9]- يعدّ عبد الحميد الزهراوي من زعماء النهضة الفكريّة والسياسيّة في سورية. وقد كان معارضا للخلافة العثمانيّة قبل صدور الدستور العثماني من خلال نشاطه الصحفي والحزبي. ترك عددا من المؤلفات منها رسالة "الفقه والتصوّف" وكتاب "خديجة أمّ المؤمنين". وقد تمّ إعدامه سنة 1916. راجع ترجمته لدى خير الدين الزركلي، الأعلام، ط8، بيروت، 1989، 4/57، وانظر يحيى زيدو، الديني والسياسي في الفكر العربي الحديث، عبد الحميد الزهراوي نموذجا، دار التكوين، دمشق، 2006

[10]- عبد الحميد الزهراوي، الأعمال الكاملة، تحقيق عبد الإله نبهان، منشورات وزارة الثقافة، دمشق، 1995، ص 279

[11]- المصدر نفسه، الصفحة نفسها.

[12]- الزهراوي، المصدر نفسه، الصفحة نفسها.

[13]- راجع في هذا الشّأن كتابنا "جدل الأصول والواقع"، ط1، دار المدار الإسلامي، بيروت، 2009، ص602

[14]- الزهراوي، المصدر المذكور، ص 279

[15]- الزهراوي، المصدر المذكور، ص 279

[16]- المصدر نفسه، ص 264

[17]- المصدر نفسه، 2/264

[18]- عبد الحميد الزهراوي، الأعمال الكاملة، 2/279

[19]- المصدر نفسه، 2/280

[20]- المصدر نفسه، الصفحة نفسها.

[21]- انظر على سبيل المثال قول الشيخ المفيد: "وليس في إجماع الأمة حجة من حيث كان إجماعا ولكن من حيث كان فيها الإمام المعصوم"، مختصر التذكرة بأصول الفقه، ضمن كنز الفوائد للكراجكي، تحقيق عبد الله نعمة، دار الأضواء، بيروت، 1985، 2/15

[22]- ابن تيميّة، رفع الملام عن الأئمّة الأعلام، وكالة الطباعة والترجمة، الرياض، 1412 هـ، ص ص31-32

[23]- الزهراوي، المصدر نفسه، 2/281

[24]- الغزالي، فيصل التفرقة، تحقيق سميح دغيم، ، ط1، دار الفكر اللبناني، بيروت، 1993، صص78ـ 79

[25]- أصدرت مجلّة المنار التي أسّسها رشيد رضا هذا الكتاب بين سنتي 1908 و1910 ثمّ نشر مستقلا عن مطبعة المنار سنة 1910

[26]- الزهراوي، خديجة أمّ المؤمنين، ص82

[27]- الزهراوي، خديجة أمّ المؤمنين، ص116

[28]- يربّها: يصلحها.

[29]- الزهراوي، خديجة أمّ المؤمنين، ص176

[30]- الزهراوي، الفقه والتصوف، 2/273

[31]- م ن، ص399

[32]- الزهراوي، الفقه والتصوف، الصفحة نفسها.

[33]- الزهراوي، الأعمال الكاملة، ص 345

[34]- نخالف بهذا رأي الباحث يحيى زيدو في كتابه "الديني والسياسي في الفكر العربي الحديث"، المرجع المذكور. ص 121 ـ 126

[35]- الزهراوي، الفقه والتصوّف، 2/284

[36]- الزهراوي، الفقه والتصوّف، 2/282

[37]- الزهراوي، الفقه والتصوّف، 2/283

[38]- المصدر نفسه، الصفحة نفسها.

[39]- محمد توفيق صدقي، مجلّة المنار، المجلّد 9، الجزء 7، 1906، ص 522

[40]- انظر مثلا الدراسة المهمّة لكميل منصور Camille Mansour, l’autorité dans la pensée musulmane, le concept d’Ijmâ (consensus) et la problématique de l’autorité , Paris,1975

[41]- راجع: Louis Gardet, l’islam, religion et communauté, Paris, 1976, p. 186.

[42]- محمود شلتوت، الإسلام عقيدة وشريعة، دار الشروق، بيروت، 1400هـ/1980م، ص65.

[43]- إبراهيم فوزي، تدوين السنة، ط2، لندن، 1995، ص ص 116-117