تربية الذوق وإنماء الكفاية الجمالية


فئة :  مقالات

تربية الذوق وإنماء الكفاية الجمالية

تربية الذوق وإنماء الكفاية الجمالية[1]

أبعد أفلاطون الشعراء عن مدينته الفاضلة، لكونهم يهيجون انفعالات الناس بدل عقولهم، والفنانون أيضا يحسبون على هذا القبيل، غير أنه وضع تحديدات واستثناءات في التعاطي مع الفن تربويا، بالتركيز على أهمية التربية على الفن الجميل الراقي الموصل إلى مستوى الكمال وليس أي نوع من الفن، حيث كان "يتوخى الصعود الروحي من المحسوس إلى المعقول ليبدو -الفن - وكأنه وسيلة تطهير للنفس من أدرانها ورذائلها، والصعود بها إلى مثال الجمال في عالم المثل، وجدير بالذكر أن هذا الصعود النفسي والروحي لا يمثل أي عنصر شخصي، لأن المثل الأعلى موضوعي، ونموذج يتسم بالثبات والخلود، والوحدة المتكاملة المعقولة كما تشارك فيه جميع المحسوسات، مما يشير إلى الاتجاه الموضوعي المثالي الذي سلكه أفلاطون، وهو اتجاه في فلسفة الفن توخاه العديد من فلاسفة الفن المعاصرين"[2]. إن التربية على الفن كيفما كان نوعها؛ مسرحا، تشكيلا، موسيقى …كلها تعمل على تنمية الإبداع وترقية الذوق الجمالي، كما ترفع من مستوى الإحساس بالجمال، بالإضافة إلى تنمية حاجات المتعلمين وميولهم النفسية والاجتماعية والبدنية وغيرها من مظاهر النمو، فهي مظهر من متطلبات الحياة.

ولا بد من التأكيد على أهمية بناء الكفاية الجمالية في ارتباطها بالتربية الفنية في شموليتها؛ ذلك أن هذه الكفاية في حد ذاتها تشمل كل مناحي الخبرة الجمالية، وهي التي تضفي الوحدة والاتساق على الأفعال والأحاسيس والأفكار المبعثرة، لأنه في كل خبرة عقلية أو عمل من الأعمال التي يقوم بها الإنسان، جانب جمالي يرجع إلى الإنسان نفسه والنظام الذي يسير عليه. وحسب جون ديوي "هناك استمرار بين الخبرة الجمالية وغيرها من الخبرات الأخرى، وأن الخبرات غير الجمالية تتضمن صفة جمالية كما تتضمن الخبرات الجمالية فكراً أو نشاطاً، ومما يؤكد صفة الخبرة سواء أكانت جمالية أم عقلية أم عملية هو سيطرة صفة من هذه الصفات دون إبعاد الصفات الأخرى إبعاداً تاماً"[3].

حسب طرح ديوي هناك حاجة ماسة إلى تنمية الإحساس الجمالي والتذوق الفني للإنسان، فضلا عن إكسابه المعايير في مجال الحكم الجمالي، وهذه التعلمات هي ما ينمي الكفاية الفنية الجمالية التي يمكن اعتبارها كفاية مستعرضة تخص التذوق والحساسية تجاه مختلف أشكال التعبير، والإدراك البصري والسمعي والحسي، وتملك المناولة الأداتية والتقنية، وآليات الإبداع، وتحليل وبنينة المعارف لتصبح قابلة للنقل والتحويل…

إن استمرارية الكفاية الجمالية والفنية واستعراضيتها وامتداداتها على مستوى مختلف الأنشطة الأخرى يؤكده طرح جون ديوي، وكذلك العديد ممن اشتغلوا على موضوع العلاقة بين الفن والتربية وتكوين الإنسان بصفة عامة، ومع الأسف فإن منظومتنا التعليمية لا زالت تفتقد إلى حد ما، الاهتمام بهذه الكفاية وبالخصوص على مستوى الممارسة داخل المؤسسات التعليمية، إن ندرة الاهتمام بالدراسات الجمالية عامة، وخصوصا في جانبها التربوي بـشكل خاص، كرس غياب الذوق والحس الجمالي، وهذا السلوك ملحوظ في حياتنا اليومية، وأثره واضح أيضا على مستوى البحث العلمي، وهو من الأمور التي تحاول هذه الدراسـة إلقاء الضوء عليها.

يرى برتراند رسل Russel أن "التربية الجمالية لا تشمل فقط كل ما نعمله لأنفسنا، أو ما يعمله الآخرون لنا بقصد تنشئتنا وتقريبنا من درجة الكمال بقدر المستطاع، ولكنها فوق ذلك تشمل الآثار غير المباشرة التي تؤثر في أخلاقنا وطباعنا ومواهبنا الإنسانية، وكل ما يساعد على صقل الشخصية الإنسانية ويخرجها بالشكل الذي ينسجم والقيم الجمالية"[4].

لقد أثار موضوع الكفاية الجمالية لدى الإنسان أو ما يسمى الخبرة الجمالية، أو أحيانا التجربة الجمالية، نقاشا فلسفيا كبيرا واستأثر باهتمام فلاسفة كبار، وما طرحنا لهذا الموضوع إلا من أجل تعميق الفهم والنقاش تمهيدا وتأطيرا لجانب الممارسة البيداغوجية والديداكتيكية، التي نسعى دائما إلى أن تكون ممارسة واعية ومستوعبة لثقافة فنية أوسع وأعمق.

يعتبر الاهتمام بالفنون وبعلم الجمال على وجه الخصوص، مسألة مرتبطة بالتقليد الغربي منذ فجر النهضة الأوروبية، كما أن أنساقا فلسفية كبرى تناولت الإشكالية الجمالية واعتبرتها من أساسيات المباحث القيمية والفكرية. وبالنسبة إلينا في المغرب كان الاهتمام مقتصرا على فنون الأدب؛ القصة والشعر وإلى حد ما المسرح مع شبه غياب للحديث عن الجماليات التشكيلية والموسيقية…بمعنى انحصار الجمالي فقط في الأدب، وغالبية الكتاب والنقاد الذين اشتغلوا على هذا الموضوع؛ فتخصصاتهم كانت ذات مشارب أدبية.

في سياق التعاطي الفلسفي العميق مع الموضوع الجمالي يقول هيغل: "إن الجوهري لفكرة الجمال يجب أن يكون موضوعا حسيا، أي شـيئا موجودا بالفعل أمام الحواس، كالتمثال أو المعمار أو الأصوات الموسيقية الجميلـة، أو يكون تصويرا ذهنيا لموضوع حسي كما هي الحال في الشعر، ولابد أن يكون شيئا عيانيا، إذ لا يمكن أن يكون تجريدا، فالموضوع الجميل يتجه إذن إلى الحواس لكنه يتجه أيضا إلى العقل أو الروح، لأن الوجود الحسي المحض - بما هو كذلك - ليس جميلا، لكنه يصبح جميلا حين يدرك العقل تألق الفكرة من خلاله، ومادامت الفكرة هي الحقيقة المطلقة، فإنه ينتج من ذلك اتحاد الحق والجمال، لأن كلا منهما هو الفكـرة، لكنهمـا متمايزان أيضا، فالجمال – فيما يرى هيغل - هو الفكرة حين تدرك في إطار حـسي وحين تدرك بالحواس، سواء أكان في الفن أم الطبيعة. أما الحقيقة، فهي الفكرة حين تدرك في ذاتها؛ أي بوصفها فكرة خالصة، وهي لا تدرك بما هي كذلك عن طريق الحواس، بل عن طريق الفكر الخالص أي عن طريق الفلسفة".[5]

لقد بين هيغل ارتباط المفكر فيه بالمحسوس لتحقق الجمال، وأكد ارتباط الفن والدين والفلسفة حين نظر إليها جميعاً على أنها مظهر للروح المطلق، فأعلن أن الروح المطلق تعي نفسها من خلال هذه النظم الفكرية الثلاثية. وأهمية الفن تكمن في العلاقة الجدلية بين الفكرة وتحققها على مستوى المادة وعلى مستوى العياني المحسوس. الفن عند هيجل مرتبط بالمدرك الظاهر، فالمظهر دال على الجوهر، والحقيقة لا تكون ما لم تظهر فى وعي معين، والفن الذي يحاكى الطبيعة لا ينتج آثارا فنية ذات قيمة، وإنما ينتج صنعة ومهارة.

إن الفن يقدم للإنسان أرقى مستوى من الرضى عن الذات حين يشبع حاجته إلى فهم العالم، وفهم وجوده المادي ووجوده لذاته حين يجعل من نفسه موضوعاُ لتأمله، ليصل عن طريق الفن إلى مستوى تحقيق الروح بوعيه لذاته بالتأمل الداخلي، وأيضا بواسطة الأشياء الخارجية الحسية، لأنه يعرف نفسه بالنظر إلى الخارج وما يستطيع أن يؤثر به على هذه الاشياء.

إن هذه الأهمية والقيمة التي منحتها الفلسفة للفن في الإنتاج الفكري والثقافي للإنسانية، لها دلالة قاطعة على موقع التأمل في الفن كمظهر من مظاهر الحياة الإنسانية. وما أحوجنا كتربويين للوعي بهذه القيمة الفلسفية والفكرية لتجويد ممارستنا البيداغوجية.

أكدت العديد من التجارب في التدريس والتكوين، على ميل الكثير من المتعلمين والطلبة إلى التعبيرات الفنية والتفاعل معها كانت سمعية أو بصرية، حيث إن الحصص الفنية يغمرها نشاط فائض بالمقارنة مع المواد الأخرى، وهذا ليس بالغريب على الظاهرة الإنسانية بحكم ميلها الطبيعي إلى السلوك الفني المعبر والرمزي. وقد أبانت بعض الدراسات أن الطرائق التربوية التقليدية قد تقمع وتكبح هذا الميل الطبيعي للفنون لدى المتعلمين. وبطبيعة تعدد اختصاصاتها واعتمادها على طرائق تفسيرية لفهم الظاهرة وبفضل الملاحظة والمشاركة، استطاعت أن تحلل وتبرز بعض أسباب العلاقة المتوترة بين الميل الطبيعي لدى البشر للفن والطرائق التربوية التقليدية. من بينها عدم تملك المدرسين لتقنيات وطرائق الاشتغال الفني، وغياب التكوين والتأطير في المجال الفني، وحضور تمثلات سلبية حول الفنون واعتبار الحاجة الجمالية من قبيل الشيء الزائد وغير الأساسي.

لقد أكدت دراسة كل من جون ديوي 1934، وايفلاند EFLAND 2002، وإيزنر EISNER1994، باعتماد نتائج الأبحاث العصبية، والسيكولوجية، على ما تقدمه الفنون من تطوير للجانب الإدراكي والمعرفي…كما تشبع الحاجات العاطفية والاجتماعية على أساس اعتمادها على خلق التوازن الرمزي والتعبيري.

بناء على هذا، فإن الوعي بحاجتنا إلى إنماء الكفاية الجمالية من شأنه الارتقاء بالتفكير، وبالحس، وتطوير المخيلة، وبالوعي بجمال الحياة وإدراك معايير وعناصر الحكم والتقييم السليم، وهذا بلا شك له أهميته على مستوى التنشئة الاجتماعية للفرد والانعكاس الإيجابي على نموه الشخصي السليم.

على مستوى تنزيل هذا التصور الفلسفي إلى المجال التدريسي تبقى مادة التربية الفنية هي الحامل الأساس للمكونات الفنية والجمالية، وبطبيعة العلاقة بين الفني والجمالي والتي عرفت نقاشا فلسفيا مستفيضا، فإن الاهتمام بهذه المادة يبقى سبيلا لبناء وإنماء الكفاية الجمالية لدى إنسان الغد. وهذا يتطلب من مجتمعنا تغييرا حقيقيا في تمثله للفن والتربية الجمالية. وما يمكن رصده بهذا الصدد في أشكال العلاقة بين الجمال والتربية والفن والمجتمع، هو التداخل بين هذه المفاهيم، التي لا تستقيم إلا بترابطها وتمازجها لتكوين إنسان ذي بعد تكاملي ومتوازن، سواء على المستوى الشخصي السيكولوجي أو على المستوى الاجتماعي العلائقي. فمجتمعنا بحاجة لإنماء الكفايات الجمالية، والتي ترتبط بالحس الرفيع، وبالفكر الإبداعي الخلاق، وبالقيم الراقية.

[1] ذوات العدد37

[2] عباس عبد المنعم راوية، القيم الجمالية، دار المعرفة الجامعية، الاسكندرية، 1987، ص 54

[3] النجيحي، محمد لبيب: التربية وأصولها الفلسفية والنظرية، مكتبة الأنجلو المصرية. القاهرة، 1984 - ص674

[4] Russell, B (1932) Education and the Social Order (London, George Allen and Unwin, P55, 1977)

[5] ولتر ستيس، فلسفة هيجل، ترجمة د. إمام عبد الفتاح إمام، الجزء الثاني: فلسفة الروح، ، دار التنوير للطباعة والنشر والتوزيع بيروت لبنان, الطبعة الثالثة 2005، ص.131