تَوتُّرَات الهجانة بين الصَّحافة والتَّاريخ


فئة :  مقالات

تَوتُّرَات الهجانة بين الصَّحافة والتَّاريخ

تَوتُّرَات الهجانة بين الصَّحافة والتَّاريخ

خالد طحطح / محمَّد بكور*

تظلُّ إعادة الاعتبار للحدث اليوم، حتى وإن بدت مقنعة، غامضة من بعض وجهات النَّظر؛ فإذا أُخِذَتْ بصورة سطحيَّة ومعزولة ضمن قراءة موجزة ومختزلة، يمكن أن نرى فيها موقفاً من المواقف المختلفة حول الموضوع القديم بتسارع التَّاريخ. فالزَّمن التَّاريخي يمضي أمامنا اليوم، في زمن عصرنة الإعلام، بومْضَةٍ سريعة أكثر من أيّ وقت مضى، إلى درجة أصبحت معها كتابة التَّاريخ تُواجه صعوبة في متابعة زخم الأحداث الكثيفة، وذلك بشكل يضاهي بكثير الصُّعوبة التي عَبَّرَ عنها مُنَظِّرُ التَّاريخ لورنز فون شتاين سنة 1843م. يبدو الأمر أشبه ما يكون بمُمارسة التَّاريخ من فوق عربة متنقِّلة؛ فالمؤرّخ لا يستطيع تسجيل كلّ ما يمرُّ به من أحداث، بسبب التطوُّر الهائل في سرعة انتقال وتبادل المعلومات. كما أنَّه لم يعد وحده في السَّاحة، فقد تصاعد دور المثقّف الإعلامي، وهذا النَّوع من المثقّفين له تأثير حقيقي على الحياة السياسيَّة، في مجتمع يُكَرِّسُ أغلب وقته للإعلام. لكن كيف يقارب الصَّحفي الأحداث؟ وأين يختلف عن المؤرّخ الأكاديمي المحترف؟ وما أبرز مكامن الضَّعف في المعالجة الصَّحفيَّة للحدث التَّاريخي؟ وكيف استطاع الإعلام إبراز مؤرّخين متمرّسين استطاعوا ربح الرّهان الصَّحفي، كما هو الحال مع جان لاكوتير؟ وكيف هوت الصَّحافة بالبعض إلى أسفل سافلين، كما هو الشأن بالنسبة إلى المؤرّخ الإنجليزي هيوغ تريفور روبر؟

تُعدُّ وسائل الإعلام حاليَّاً الفضاء الأمثل لنقل التَّاريخ الآني؛ فهي التي اخترعت - منذ بروز الصَّحافة في القرن التّاسع عشر- النَّبأ الرَّاهن، كما حدَّدت للصَّحفيّين رسالتهم في الإخبار «بما يجري»، أو بالأحرى «لما قد جَرى» و«لِمَا سَيَجْرِي» عمَّا قريب[1]. ومنذ ذلك التَّاريخ، أصبحت وسائل الإعلام فاعلة وشاهدة في الوقت نفسه؛ فقد جعلت الحدث يبدو أكثر جماهيريَّة وديمقراطيَّة. لذلك ربط المؤرّخ الفرنسي بيير نورا (Pierre Nora) بينها وبين الأحداث، فالعلاقة بينهما تبدو قويَّة وشديدة إلى درجة تبدو معها غير قابلة للانفصال.

لا يستطيع المؤرّخ المهتمّ بالزَّمن الرَّاهن مواكبة كلّ ما يمرُّ به من أحداث، بسبب التطوُّر الهائل في سرعة انتقال وتبادل المعلومات[2]. كما أنَّه لم يعد وحده في السَّاحة؛ فقد تصاعد دور المثقّف الإعلامي، وهذا النَّوع من المثقَّفين له تأثير حقيقي في الحياة السياسيَّة في مجتمع يُكَرِّسُ وقته للإعلام أكثر ممَّا يمنحه للتفكير والقراءة، كما أنَّ له دوراً مهمَّاً في تحريك «الخطوط الحمراء» بالنسبة إلى قضايا متعدِّدة، ومن شأن ذلك أن يطوِّر إيجابيَّاً مناخ اشتغال المُؤَرِّخ. وفي هذا السِّياق، يمكن التَّذكير بعامل ساعد على الانتقال من الذَّاكرة إلى المعرفة التحليليَّة للماضي القريب، في بعض التجارب، من خلال التلاقح بين المؤرِّخ وعالم السّياسة، وكذلك بين المؤرِّخ والصَّحفي[3].

على الرغم من أهميَّة الإعلام اليوم في الحياة اليوميَّة للمواطنين في مختلف بقاع العالم، يُتَّهَمُ الصَّحفيون -عكس المؤرّخين- بأنَّهم لا يبحثون عن جذور الظّواهر والأحداث التَّاريخيَّة، وإنَّما يكتفون فقط بسردها سرداً سريعاً وسطحيَّاً. وهنا يكمن الفرق بين مهنة الصَّحفي ومهنة المؤرِّخ؛ فالصَّحفي يتحدَّث فقط عن الحاضر ومشاكله الآنيَّة دون الغوص في تفاصيل وجذور موضوعاته، وبالتَّالي يُعدُّ منظوره قصير النظر. في حين، ينبش المؤرِّخ في أعماق الوقائع؛ فهو لا يكتفي أبداً بما يُعرض على وسائل الإعلام والإنترنت؛ بل يحاول الوصول إلى الوثائق والمستندات الأصليَّة في منابعها، ويحرص على ذلك أشدَّ الحرص. ولذلك، إنَّ تحليلات المؤرِّخين تُقنع وتُشبع في شموليتها القارئ، على عكس التَّقارير الصَّحفية المنجزة بشكل سريع، على الرّغم من أهمِّيتها بالنِّسبة إلى المُشاهد العادي. بطبيعة الحال تختلف أدوات التَّحليل والتفكيك لدى الصَّحفي والباحث التَّاريخي؛ فالمنهجيَّة والخلفيَّة، بالتأكيد، ليست واحدة. وإذا كانت وسائل الإعلام المختلفة تُعطي حيِّزاً واسعاً اليوم للأحداث السياسيَّة، فإنَّ الطَّريقة المفكّكة التي تُعالج بها الوقائع أحياناً لا تمنح أيَّة منهجيَّة أو معقوليَّة تاريخيَّة لهذه الأحداث. وهنا تكمن الخطورة؛ ففي ظلّ افتقاد المشاهد البسيط لأيَّة نظرة شموليَّة للظَّواهر التّاريخيَّة والسّياسيَّة، تقوم وسائل الإعلام، عن وعي أو من دونه، بتجزيئ الصَّيرورات التَّاريخيَّة، إذ لا تُسجّل الوقائع والأحداث ضمن منظور شموليّ.

تختلف بالتأكيد مُقاربة الصَّحفي في معالجته للأحداث عن مقاربة المُؤرِّخ، فالصَّحفي ينحو باتجاه الأحداث والقضايا ذات الاهتمام المجتمعي، وأهمّ ما فيها إثارة الانتباه والتفرُّد بالنَّشر مع السُّرعة المحبوبة في العمل الصَّحفي، وهو ما يُسمَّى «السّبق الإعلاميّ»، وهذا يُشكّل أحد مكامن الضَّعف في المعالجة الصَّحفيَّة للحدث التَّاريخي[4].

إنَّ الصَّحفي مثل «مؤرِّخ اللَّحظة»، إن جاز لنا استخدام هذا المصطلح، يتعامل مع الحدث حين وقوعه؛ فهو يؤرّخ للحاضر، ولكنَّه لا يؤرّخ للتَّاريخ الحاضر؛ فالخبر الصَّحفي يظلُّ غير مكتمل، وغير مفهوم بالشَّكل المطلوب، فهو في الغالب يأتي مفصولاً عن سوابقه ولواحقه، ويبقى في حاجة ماسَّة للزّيادة والإتمام[5]. وهذا من بين الأسباب التي تجعل غالبيَّة المؤرِّخين تتجنَّب تناول التَّاريخ الحاضر؛ فهذا النَّوع من الكتابة التَّاريخيَّة يبقى أفقاً صعب المنال لعوامل ثلاثة: أوَّلها: غياب البُعد التَّاريخي الضَّامن -في نظرهم- للموضوعيَّة التَّاريخيَّة المنشودة عند كلّ مؤرِّخ، وثانيها: قضيَّة المصادر من حيث تنوُّعها، ولاسيما المصادر الشَّفويَّة لشهود العيان، وما يحوم حولها من تشكيك في مصداقيّتها، وثالثها: يكمن في صعوبة تحليل وتأويل الحدث الآني الذي لا نعرف، بعدُ، نهايته ومآله وانعكاساته على مجرى الأحداث. هذا بالإضافة إلى تخوُّفات بعض المؤرّخين من التَّداخل بين التَّاريخ والصَّحافة والعدالة أحياناً[6]؛ فالأحداث السَّاخنة القريبة تثير الكثير من الحساسيَّات، وتتسبَّب في لغط كبير، وتطرح العديد من التساؤلات بالنّسبة إلى ممارسة المؤرِّخين، لوجود الشُّهود من النَّاجين ومن المتسبّبين في الكوارث على قيد الحياة؛ فيتداخل، بذلك، دور المؤرِّخ بشهادة الشُّهود بِدَهْمِ الذّاكرة[7].

الصَّحافة والتَّاريخ - في نظر جان لاكوتير- يتقاطعان ولا يندمجان، وقد وقف هذا الأخير بحكم تخصُّصه مليَّاً عند أهمّ الاختلافات بينهما، ورأى أنَّ أهمَّ فارق بينهما يكمن في الكمِّ وليس في الكيف، فإذا كان الصَّحفي يتصرَّف في قليل من المعطيات، لفقر وثائقه سابقاً، فإنَّ الأمر قد تغيَّر اليوم مع تطوُّر التَّقنيات والاعتماد على الحاسوب الذي ضاعف إمكانيَّات التَّحليل لدى الصَّحفي[8].

واعتباراً للعلاقات الصِّداميَّة التي كثيراً ما تكون بين التَّاريخ والصَّحافة، لا يمكن أن نتوانى في القول إنَّ هذين التَّخصُّصين ما فتئا يتقاربان منذ انتهاء العهد الذي كانت تسيطر عليه «ديانة الأمد الطويل» و«نبذ الوقائع»[9]، فالصَّحفي والمؤرِّخ يقتربان اليوم من بعضهما بعضاً بصورة تدريجيَّة، ويزيدهما صوت جاذبيَّة الحدث الرَّاهن قرباً.

تتداخل مهنة الصَّحفي والمؤرِّخ، فقد أصبح العديد من الشَّخصيات مشهوراً بهذه الازدواجيَّة في الهويَّة، حيث يزاوج بين العمل اليومي السَّريع وبين نفَس البحث والتأليف؛ ففي الولايات المتَّحدة الأمريكيَّة، جاء ألان نِيفينْ مؤسِّس «التَّاريخ الشَّفوي» من الصَّحافة. وفي فرنسا يُعدّ الصَّحفي جان لاكوتير - مراسل جريدة «لوموند» في المغرب سابقاً- هو من أسَّس سلسلة «التَّاريخ الآني» في إحدى كبريات دور النشر. وجاء روني ريمون من علم السّياسة، وهو أوَّل من دعا إلى البحث في الملفَّات الحسَّاسة للقرن العشرين[10]. وفي إنجلترا اقتحم المؤرّخ هوغ تريفور روبر مجال الصَّحافة المحفوف بالمخاطر.

وإذا كان من النادر أن نرى صحفيّين يتحوَّلون إلى مؤرِّخين وينجحون في ذلك، فلم يحصل إلّا نادراً أيضاً أن شاهدنا مؤرّخين تنطبق عليهم صفة الصَّحفيين، وهم يمارسون الصَّحافة. ومن الضَّروري التأكيد أنَّ اتِّهام الصَّحفي بكونه يعمل عملاً سريعاً حكم غير صحيح دائماً، فمن الممكن ولوج صرح التَّاريخ عن طريق الصَّحافة، فتاريخ فرنسا الكبير في ظلّ الاحتلال، لهنري أمورو، عمل رائع من إنجاز صحفي انقلب مؤرّخاً[11]. والأمر نفسه بالنّسبة إلى كتابات جان لاكوتور (Jean Lacouture)، فهذا الصَّحفي ربح رهانات مؤرِّخ بازدواجيته، وفي المقابل هناك من المؤرِّخين من امتطى صهوة الصَّحافة، غير أنَّه هوى إلى الأسفل يجرُّ خيبة سوء طالعه، كما هو حال المؤرِّخ الإنجليزي هوغ تريفور روبر.

1. جان لاكوتير: رهانات مؤرّخ ناجح

وُلد جان لاكوتير سنة 1921 بمدينة بوردو الفرنسيَّة، تابع دراسته الثَّانوية في سانت جوزيف في تيفولي اليسوعيَّة، ثمَّ تحصَّل على الإجازة في القانون، وفي الآداب. استكمل دراسته العليا بمدرسة العلوم السّياسيَّة بباريس، وهو يُعدُّ اليوم من كبار الصَّحفيين ومن الأقلام المتميّزة بجريدة لوموند الشهيرة، ويزاول أيضاً مهمَّة محرِّر صحفي بمجلة لونوفال أوبسرفاتور، وقد عُهِدَ إليه بالتَّدريس في معهد الدّراسات السّياسيَّة بباريس، وفي جامعة فانسيان، وهو أستاذ زائر مشارك في جامعة هارفارد، وعضو نشيط في عدَّة لجان دوليَّة لدعم ضحايا التَّعذيب والعنف السّياسي.

اشتهر بلقب «عملاق الصَّحافة» بفرنسا، وعرف أيضا بـ«صديق زعماء حركات التَّحرُّر في العالم»؛ لأنَّه نسج مع غالبيتهم علاقات قويَّة، كما هو الحال حين كان مراسلاً حربيَّاً في الهند الصّينيَّة، إذ التقى رئيس فيتنام هوشي منه، وصادقه، وجمعته لاحقاً علاقات جيّدة مع الزَّعيم الصيني وقائد الثَّورة فيها ماو تسي تونغ.

بدأ لاكوتير عمله مراسلاً صحفيَّاً لفرانس سوار ولوموند في المغرب العربي، وخلالها تقرَّب من الملك المغربي محمَّد الخامس ومن الزَّعيم التّونسي الحبيب بورقيبة، واشتهر بمناصرته لقضيَّة تحرير الجزائر؛ بل إنَّه كان من المدافعين الشَّرسين عن تصفية الاستعمار، وعُرف بمناهضته الشَّديدة لسياسة الجنرال الفرنسي دوغول.

في سنة 1952م اتَّجه إلى الاستقرار في مصر، وقد جمعته خلالها علاقات متينة مع الزَّعيم جمال عبد النَّاصر، وخلالها واكب التَّحوُّلات الكبرى التي جرت في عهده[12]، ومنها عمليَّة الإصلاح الزّراعي، وتأميم قناة السّويس، وحرب 1956م، وهي الأحداث التي قام بتغطيتها بشكل مباشر، وتقديمها على شكل مقالات للعالم الغربي، قبل أن ينخرط لاحقاً في كتابة سيرة مفصَّلة عن حياة الزَّعيم المصري.[13]

يُعدُّ لاكوتير من المتخصِّصين الذين اشتهروا بكتابة بيوغرافيَّات وتراجم حياة لكبار رجالات السّياسة والأدب في فرنسا[14]. وفي هذا الإطار، يصرِّح قائلاً: «لقد كتبت عن رجال الأدب بالقدر نفسه الذي كتبت عن رجال السياسة‏ (.‏..‏). لقد كتبت ثمانية كتب عن رجالات الأدب وعشرة كتب عن رجالات السّياسة‏.‏ كما كتبت كتاباً عن جريتا جاربو (‏Greta Garbo‏) الممثِّلة الشَّهيرة. كما كتبت أيضاً عن الموسيقى، وتناولت جميع الموضوعات». وقد حصل في هذا السِّياق على العديد من الجوائز التَّقديرية منها: الجائزة الكبرى للأدب، وجائزة جونكور للسّيرة حول كتابه عن فرنسوا مورياك، ومنحته الأكاديميَّة الفرنسيَّة العريقة الجائزة الكبرى للتَّاريخ‏. كما حصل على التَّشريف شخصيَّاً من رئيس جمهوريَّة فرنسا سنة ‏2007‏م، وعلى رتبة الفارس الآمر كوموندور الفنون والآداب.

شاركته في مساره المهني زوجه سيمون لاكوتير المؤرِّخة والصَّحفية الفرنسيَّة التي توفيت في تموز/ يوليو 2011، وقد نشرت إلى جانبه العديد من المؤلّفات، وقّعتها معه بشكل مشترك، من ضمنها كتابهما «المغرب في المحك»، الصادر سنة 1958، وقد كانت تُعدّ، بمعيَّته، اختصاصيَّة في قضايا وشؤون العالم العربي.

رَبِحَ الصَّحفي جان لاكوتير رهانات المؤرِّخ، وهو حاليَّاً بيوغرافي متخصِّص، فقد صرَّح بأنَّ كاتب السّيرة يهيمن على شخصيَّته، وقد استطاع بقوَّة أسلوبه إيصال هذا النَّوع إلى قمّة النَّجاح[15]، فانتماؤه المزدوج إلى الصَّحافة والتَّاريخ جعل أعماله تتَّسم بالغنى والكثرة، فقد كتب بيوغرافيَّة لخمسة زعماء من العالم الثّالث هم: الحبيب بورقيبة، وفرحات عباس، وهوشي منه، ومحمَّد الخامس، وأحمد سيكوتوري[16]. كما أعطت كتاباته الأخرى أبعاداً واسعة للنَّوع البيوغرافي أدبيَّاً وفنِّيَّاً[17]، وقد شارك أيضاً في إنجاز بيوغرافيا لأهمّ الشَّخصيَّات الفرنسيَّة والمغربيَّة للفترة قُبَيْلَ استقلال المغرب[18].

2. هوغ تريفور روبر: حكاية سقوط مؤرخ

نال المؤرّخ الإنجليزي هوغ تريفور روبر (Hugh Trevor-Roper) (1914-2003) اهتماماً ملحوظاً من قِبَلِ كُتَّاب البيوغرافيا، فقد احتوت حياته على جميع عناصر التراجيديا والكوميديا الإغريقيَّة القديمة؛ إذ مرَّت حياته المهنيَّة بلحظات شديدة التَّناقض بين النَّجاح الباهر والإهانة المُخجلة، حدت بالباحث الأمريكي آدم سيسمان إلى أن يُخصِّص لها سيرة ضخمة بعنوان: «شريف إنجليزي: حياة هوغ تريفور روبر»[19].

لقد جمعت سيرته كلَّ ما يمكن أن يروق للقارئ من الإنجازات والمغامرات، فضلاً عن الإحباطات التي شارفت حدّ المآسي والفضائح. كان ذكيَّاً، وبارعاً، ومتمكِّناً، ومتطلِّعاً، وهي صفات صنعت منه أبرع مؤرِّخ بين بني جيله. وإلى حين سقوطه، كان كلُّ شيء يبدو أفضل ممَّا تمنَّاه: جمع ثروة كبيرة، وأنشأ شبكة كثيفة من العلاقات مع نخبة المجتمع الإنجليزي، وحصل على كرسيٍّ ملكيٍّ في جامعة أكسفورد، واشترى منزلاً جميلاً في أرقى أحياء لندن، وتزوَّج من أرستقراطيَّة، بل تحصَّل على لقب لورد أيضاً.

من النادر أن تجد مؤرّخاً نال شهرة عالية وحظوة كبيرة لدى الجمهور ولدى أوساط المجتمعين السّياسي والعلمي في الآن نفسه، لكنَّ المؤرخ هوغ تريفور روبر كان نجم بريطانيا الأبرز، منذ أن أدى دوراً متميّزاً في الاستخبارات العسكريَّة أثناء الحرب العالميَّة الثَّانية، إلى حين سقوطه المدوِّي في بداية الثمانينيَّات من القرن الماضي. كان تريفور مدعوماً بقدرة عقليَّة حادَّة ومخزون معرفي هائل، إضافة إلى قوَّة شخصيَّته التي تصل إلى حدَّ الغطرسة، لكنَّها جميعاً لم تحمِه، بل ربَّما أوردته مهلك السُّقوط في العار الذي لطَّخه في الرُّبع الأخير من حياته.

ولد تريفور روبر في كلانتون في نورثمبرلاند قرب الحدود الاسكتلنديَّة، في أسرة متوسِّطة تنحدر من سلالة عريقة ما زالت تحمل بعض الألقاب النَّبيلة. والده كان طبيباً، وكان شخصاً عبوساً صارماً، فلم يقدِّم له ما كان يحتاج إليه من العاطفة والمحبَّة، وألحقه بمدرسة كنسيَّة، حيث نشأ هناك في بيئة تفتقر إلى دفء الأسرة والمودَّة ودوافع التَّشجيع. ولذلك كتب لاحقاً كيف أنَّه عاش «محروماً من الحنان، بل من الاهتمام أيضاً». أظهر الفتى تريفور في هذه المدرسة نبوغه وذكاءه الحاد، وأتقن بشكل جيّد اللّغتين اللّاتينيَّة واليونانيَّة، وتعلّم الفرنسيَّة والألمانيَّة (التي لم تُعجبه قط)، وتدرَّج في مساره التَّعليمي إلى أن وصل إلى غاية ما كان يطمح إليه أبناء جيله لمَّا التحق بكليَّة «كريست تشيرش» في جامعة أوكسفورد العريقة. تخصَّص بداية في الكلاسيكيَّات قبل أن يتحوَّل إلى الاهتمام بقضايا التَّاريخ الحديث، وانتقل إلى كليَّة «ميرتون» أوكسفورد باحثاً. ثم نشر كتابه الأوَّل سنة 1940م عن الكنيسة الإنجليكانيَّة وعن رئيس أساقفة كانتربري «وليام لود» ودوره في الحرب الأهليَّة الإنجليزيَّة، متحدِّياً التَّصوُّرات السَّائدة آنذاك حول هذه الشَّخصية المثيرة للجدل[20].

في بداية الأربعينيَّات من القرن الماضي، عندما اشتعل أوار الحرب العالميَّة الثانية (1939-1945) استُدْعي تريفور روبر للانضمام إلى الجيش، ونظراً لضعف بصره عمل ضابطاً في جهاز الاستخبارات، وكُلّف باعتراض رسائل المخابرات الألمانيَّة على جهاز الرَّاديو، حيث أثبت جدارته في فكّ أجزاء حيويَّة من شفرتها. وبفضل نجاحاته، أصدر ديك وايت رئيس مكافحة التجسُّس في القطاع البريطاني أمره لتريفور بالتَّحقيق في ظروف وفاة أدولف هتلر زعيم الحزب النَّازي الألماني، وتكذيب الدِّعاية السوفييتيَّة التي أصبحت تروّج على نطاق واسع بأنَّ الفوهرر مازال حيَّاً، وأنَّه يعيش متخفّياً في إحدى البلدان الأوروبيَّة.

عن طريق اسم مستعار «الجنرال أوتون»، أجرى المؤرِّخ الإنجليزي مئات المقابلات مع العديد من الضُّباط البريطانيّين والأمريكيّين والكنديّين، وبعض السيّاسيّين والعسكريّين والموظّفين الألمان الذين كانوا مقرَّبين من هتلر، وممَّن تمكَّنوا من الفرار بجلدهم إلى الغرب. وبعد الاطلاع على مئات الوثائق والمستندات السريَّة، واستجواب الشُّهود الكثر وفحص الأدلّة الماديَّة المتوافرة، قدَّم تريفور استنتاجاته الأساسيَّة: انتحر هتلر مُطلقاً النَّار على نفسه بعد أن أطلق النار قبلها على عشيقته إيفا براون في 30 نيسان/ أبريل عام 1945م، ثمَّ أُحرقت جثتاهما بعد ذلك نتيجة القصف الذي تعرَّض له المبنى الذي وُجِدا فيه.

هذا النَّجاح الذي أحرزه في عالم الاستخبارات حثّه على تركيز اهتمامه في تجميع المعلومات المُهمَّة التي أفادته في إصدار كتابه الأكثر شهرة في عام 1947م بعنوان: «الأيام الأخيرة لهتلر»[21]، وصف فيه الأيام العشرة الأخيرة من حياة الزَّعيم الألماني أدولف هتلر، وبعض مقرَّبيه ومصير بعض كبار المسؤولين النَّازيين المقرَّبين منه. ورغم ظهور بعض النقائص في هذا العمل على ضوء الأدِلّة الجديدة التي ظهرت بعد إفراج السُّوفييت عن السُّجناء الألمان في عام 1950م، فإنَّ لغته الجميلة، وأسلوبه الجامع بين التَّاريخ والتَّحقيق الاستخباراتي والصَّحافة والسُّخرية والتهكُّم، جعلت منه عملاً ناجحاً بكلّ المقاييس الأدبيَّة والماليَّة؛ حتى لقد شُبّه بالكتاب الرَّائع والذائع الصّيت لإدوارد جيبون الموسوم بـ: «اضمحلال الإمبراطوريَّة الرُّومانيَّة وسقوطها»[22].

كانت تلك بداية تريفور بصفته مؤرّخاً محترفاً حظيت إسهاماته في البحث والنَّقد باعتراف أكاديميّ وعلى مستوى عالٍ جِدَّاً. وكان يرفض النَّظر إلى التَّاريخ باعتباره قصَّة للتقدُّم أو التَّراجع المستمرَّين؛ فالأحداث التَّاريخيَّة -في نظره- هي نتيجة لاختيارات قام بها بعض الأشخاص أكثر من كونها نتيجة لحتميَّة التاريخ أو تجسيداً لخطّة متعالية، ولذلك هاجم بقسوة نظريَّة أرنولد توينبي في تفسير التاريخ، واتَّهمه بالتبجُّح وبادعاء كونه «المسيح الكامل». كما اشتهر بانتقاداته اللَّاذعة للمؤرّخين الماركسيين، مثل كريستوفر هيل وإريك هوبسباوم، ونظريتهما حول حتميَّة سقوط «الغرب» الرأسمالي. وخلال الخمسينيَّات حضر تريفور مؤتمراً في برلين للمثقّفين المناهضين للشّيوعيَّة من أمثال سيدني هوك وإينياتسيو سيلونه وآرثر كوستلر وريمون آرون وغيرهم. وتعكس أعماله الأكاديميَّة تأثره الواضح بمدرسة الحوليَّات الفرنسيَّة، في حرصها على دراسة التَّفاعلات بين التيَّارات السيّاسيَّة والفكريَّة والاجتماعيَّة والدينيَّة للمرحلة التَّاريخيَّة المدروسة.

خلال عقود من حياته، تتالت إصداراته وتوزَّعت بين مرحلتين زمنيَّتين فارقتين: مرحلة القرنين السَّادس عشر والسَّابع عشر، المجال الأصلي لتخصُّصه الأكاديمي، ثمَّ مرحلة النَّازيَّة التي استحوذت على اهتمامه بعد تجربته خلال الحرب العالميَّة الثَّانية[23].

إنَّ تعدُّد أعمال تريفور وعمقها يعكسان المؤهِّلات البحثيَّة الهائلة التي كان يملكها، رغم تكريسه قسماً مهماً من جهوده للأعمال الصَّحفيَّة ولإلقاء المحاضرات. وقد كتب في هذا السّياق إلى صديق أمريكي: «المشكلة هي أنَّني مهتمٌّ جدَّاً بأشياء كثيرة جِدَّاً»[24].

كان العالم ما بين 1930م و1980م محكوماً بالاستقطاب الإيديولوجي الحاد، وكان تفسير الوقائع بما فيها المتعلِّقة بالماضي البعيد يخضع لنقاش حاد لصلته الوثيقة بالأحداث المعاصرة مثل صعود الفاشيَّة والشيوعيَّة. وأصبح بعض المؤرِّخين يحظون بشهرة منقطعة النَّظير؛ فكانت وسائل الإعلام المرئيَّة والمسموعة تتسابق لطلب رأيهم في الأحداث المتسارعة آنذاك مثل محاكمات النازيين، أو اغتيال جون كنيدي، أو غيرهما من أحداث وقضايا السَّاعة.

كانت هذه الظّروف مجتمعة، بالإضافة إلى زواجه من السيدة ألكسندرا -ابنة المارشال دوغلاس هيج- الأرستقراطيَّة المبالِغة في طلباتها الخاصَّة[25]، محفِّزات أساسيَّة ليكرِّس تريفور روبر إمكانيَّاته العلميَّة والمعرفيّة لكسب مزيد من المال. فقد كان في أمسِّ الحاجة إليه ليشبع طموحه الأرستقراطي، وليُلبّي نزوات زوجه. ورغم أنَّه عُيِّن أستاذ الكرسيِّ الملكيِّ في التَّاريخ الحديث في جامعة أوكسفورد منذ 1957م براتب يَفْضُلُ كثيراً راتب زملائه، فإنَّ حاجته إلى كسب المزيد من المال جعلته يقبل عرض صحيفة الصَّنداي تايمز ليكتب عن السّياسة الخارجيَّة بمقابل مادّيٍّ مُغْرٍ.

هكذا يحاول سيسمان المتعاطف مع المؤرّخ البحث عمَّا يُمكن أن يُفسِّر به تلك الواقعة الهزليَّة والحزينة عندما أكَّد تريفور صحَّة اليوميَّات المزعومة لأدولف هتلر. كان تريفور قد حمل لقب اللّورد الذي منحته إيَّاه رئيسة الوزراء مارغريت تاتشر منذ 1979م. وكان قد اشترى منزلاً جديداً في لندن، وعُيِّن سنة 1980م عميداً في بيتر هاوس في جامعة كامبردج وسط رفض زملائه. إلَّا أنَّه كان يبدو في مطلع عام 1983م غير سعيدٍ بتاتاً بمهمَّته الجديدة، وكان يشعر بالعزلة القاسية، ويتخوَّف على مصيره عند التَّقاعد، ويخاف بشكل هوسي من أن يعيش ضائقة ماليَّة في أواخر حياته، ما جعل وضعه «مزيجاً قابلاً للانفجار» انتهى به إلى السُّقوط في الهاوية.

بدأت الفضيحة عندما نشرت مجلة «شتيرن» الأسبوعيَّة الألمانيَّة الغربيَّة في 25 نيسان/ أبريل عام 1983م مادَّةً حصريَّةً بعنوان: «تمَّ العثور على مذكّرات أدولف هتلر»، ضمن 62 دفتراً مجلداً قامت المجلّة بشرائها، وكان المُحرِّر جيرد هايدمان يتفاخر خلال المؤتمر الصَّحفي، الذي عقدته المجلة بالتاريخ نفسه، احتفاء بتلك اللّحظة المهمَّة، وهو يعرض بعضاً من تلك الأوراق، ويزعم أنَّها يوميَّات هتلر السِّريَّة. وقد تهافتت المجلَّات والصُّحف الشهيرة للحصول على هذه المذكّرات بأيّ ثمن، فقد عرضت صحيفة «صاندي تايمز» مبلغ 400 ألف دولار للحصول على حقِّ نشرِها في المملكة المتَّحدة ودول الكومنولث، كما أنَّ صحفاً أخرى مثل صحيفة «باري ماتش» الفرنسيَّة وصحيفة «بانوراما» الإيطاليَّة أعْربتا عن الرَّغبة في نشرها. في حين تردَّدت صحف أخرى مثل مجلة «نيوزويك» الأمريكيَّة، إلى أن يتمَّ الحصول على تأكيدات أكثر مصداقيَّة حول صحَّة هذه المعلومات ومدى صدقيَّتها.

كان تريفور يُقدّم نفسه باسم «خبير الفوهرر»، منذ أن حقَّق عمله عن الأيَّام الأخيرة لهتلر النَّجاح الباهر في جميع أنحاء العالم، ولذلك دعته مجلة «الصاندي» للحكم في مدى صِحّة الكُرّاسات المنسوبة إلى هتلر، باعتباره متخصّصاً في تلك الفترة. لكنَّ المؤرخ خضع لضغوط اللّحظة، فاطّلع بسرعة على اليوميَّات وأصدر حكمه عليها بأنَّها حقيقيَّة. وكانت لغته الألمانيَّة قد أصبحت صدئة جدَّاً، كما كان بصره يعوقه عن التَّعامل مع شخبطة محترف استطاع أن يقلد خَطَّ هتلر بمهارة فائقة. وسرعان ما أثيرت شكوك قويَّة حول هذه المذكّرات التي لم يُشِرْ أحد من أقرباء هتلر أو حتَّى من الحلقة الضيّقة المحيطة به إلى وجودها. وتمَّت دعوة الخبراء في علم الخط الذين أكَّدوا، بعد الفحص الدَّقيق، أنَّ المذكّرات المزعومة ليست مزوَّرة فحسب، وإنَّما هي مُزوَّرة بشكل فجٍّ ومفضوح للغاية، وأنَّ الحبر الذي استُخدم في كتابتها يعود إلى زمن ما بعد الحرب العالميَّة الثانية.

تبيَّن أنَّ المؤرّخ وقع ضحيَّة هذه الخديعة الكبرى التي كان بطلها الرَّسام والمُقلِّد الألماني كونراد كونجاو الذي استطاع تقديم رواية محبوكة للمُحرِّر جيرد هايدمان الذي صدَّقها وأقنع رؤساءه في المجلة بدفع تسعة ملايين مارك ثمناً لاقتنائها. لقد كانت أحكام المؤرّخ تريفور متسرِّعة ومغلوطة بشكل صارخ، وأدَّت إلى الإساءة بشكل كبير لتاريخه المهنيّ السَّابق.

وجد تريفور نفسه فجأة في حرج شديد، وقد حاول تبرير موقفه بالتَّأكيدات الكبيرة التي قُدِّمت له حول كيفيَّة وقوع اليوميَّات المزعومة في أيدي مكتشفيها، ولاسيما أنَّ كونراد كونجاو كان قد حبك رواية هوليووديَّة استطاعت إقناع هايدمان، حيث أخبره بأنَّ المذكِّرات وبقيَّة من الأشياء القيِّمة للفوهرر قد تمَّ وضعها في طائرة نهاية شهر نيسان/ أبريل من عام 1945م لنقلها إلى منزله في «بيرشتيسجاد» في جبال الألب البافاريَّة، على أن يركب هتلر طائرة أخرى. لكنَّ الطَّائرة الأولى سقطت بالقرب من مدينة «دريزدن» وبقي هتلر في برلين، ولقي جميع ركَّاب الطائرة مصرعهم إلّا راكباً واحداً تمكَّن أحدُ المزارعين المحليّين من إنقاذه ومعه قسم من تلك الأشياء وضمنها المذكِّرات.

بعد ذلك قضى المؤرخ ما تبقَّى من حياته في منزله يلفّه الصَّمت الإنجليزي العميق. وعندما توفي عام 2003م عن سنٍّ جاوزت التَّاسعة والثَّمانين كان نُعاته كثيرين، ولكنَّهم أبدوا تجاهه قليلاً من الوِدِّ والتَّعاطف، وتمَّ تجاهل إسهاماته المتميِّزة في التَّاريخ، وتسليط الضَّوء الكثيف على لحظة سقوطه ومراهنته بسمعته بتأكيده صحَّة المذكّرات المزعومة. ومع ذلك شكَّلت لحظة وفاته بداية جديدة لإعادة الاعتبار لهذا المؤرّخ المقتدر؛ فقد اهتمَّ جيل جديد من القرَّاء والباحثين بالحيويَّة المذهلة لأعماله التأريخيَّة، وقُدرته على التَّنقيب والكشف عن كنوز ثمينة من الأرشيفات المتفرِّقة، ومَلكته الهائلة في التَّعامل مع لغات مختلفة تربو على ثماني لغات.

ومع ذلك، إنَّ فضيحة تريفور روبر أثارت نقاشاً جادَّاً حول العلاقة بين الصَّحافة والتَّاريخ المحترف؛ فهناك من ذهب إلى القول إنَّ مهمَّتَيْ الصَّحفي والمؤرِّخ هما على طرفي نقيض؛ لأنَّ دور الصَّحفي يقتصر على تسجيل أحداث الحاضر والتَّعليق عليها، وهو محكوم بطلب الجمهور وضغط اللّحظة. وبسبب طبيعة عمل الصَّحفي فإنَّ الوقت في غير صالحه إذا ما أراد التثبُّت من صحَّة الحوادث التي يُسجِّلها، كما أنه لا يمكِّنُه أيضاً من استقراء الحوادث المُتعدِّدة وتقديم نظرة متكاملة حول الموضوع الذي يتناوله. ويعود السَّبب في ذلك إلى أنَّ الحوادث التي يُسجِّلها الصَّحفي لم تُطوَ صفحاتها بعدُ ولم تنتهِ مستجدَّاتها. والأخطر من ذلك أن الصَّحافة تعمل أحياناً على تشويه الحقائق أو التَّرويج لأحداث مغلوطة أو الاهتمام بقضيَّة تتَّسم بالإثارة والتَّشويق، من أجل تحقيق منفعة ماديَّة وجلب اهتمام الجمهور وإقباله، وبالتَّالي زيادة مبيعاتها وتحقيق الرِّبح.

وعلى الجانب الآخر، مهمَّة المؤرِّخ المحترف هي البحث والتَّنقيب عن أحداث الماضي التي مرَّت وانتهت، وهو ما يمنحه سعة من الوقت ووفرة في المصادر، ويجعل عامل الوقت لا يمثل أيَّة مشكلة بالنِّسبة إليه. إنَّ المؤرّخ لا يرى غالباً الحوادث وقت وقوعها، بعكس الصَّحفي الذي يشهد، في معظم الأحيان، الحوادث التي يُسجِّلُها.

لا شكَّ في أنَّ الخيط الرَّفيع الذي يفصل بين التَّاريخ والصَّحافة لا بدَّ من أن يقود إلى مناقشة دور الصَّحفي متى ينتهي، ودور المؤرِّخ متى يبدأ؟ درءاً لتِكرار مثل هذه المأساة الملهاة التي سقط في براثنها تريفور روبر.

 

المراجع المعتمدة:

1. الموساوي العجلاوي، الصَّحافة والتاريخ، من نصّ المداخلة التي ساهم بها في الأيام الوطنيَّة التاسعة عشر للجمعيَّة المغربيَّة للبحث التاريخي في موضوع: المغرب المعاصر (1912-2012) التاريخ والهويَّة والحداثة- دورة بوشتة بوعسريَّة، الرباط بين 1-3 كانون الأول/ ديسمبر 2011، بدعم من المجلس الوطني لحقوق الإنسان.

2. جان لاكوتير، التاريخ الآني، ضمن التَّاريخ الجديد، ترجمة وتقديم: محمَّد الطّاهر المنصوري، مراجعة عبد الحميد هنيَّة، المنظَّمة العربيَّة للترجمة، ط1، 2007

  1. خالد طحطح، السيرة لعبة الكتابة، كتاب العربيَّة، المملكة العربيَّة السعوديَّة، ط1، 2012

4. خالد طحطح، عودة الحدث التاريخي، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، 2014

5. ديل إيكلمان، السّلطة والمعرفة في المغرب... صور من حياة مثقف من البادية في القرن العشرين، ترجمة محمَّد أعفيف، منشورات مركز طارق بن زياد للدراسات والأبحاث، الرباط، ط1، 2000

6. عبد الأحد السبتي، مقتطف من حوار نشرته جريدة الاتحاد الاشتراكي مع المؤرّخ المغربي عبد الأحد السبتي، عدد يوم 11-12-2009

7. عبد الله العروي، مفهوم التاريخ، المركز الثقافي العربي، ط4، 2005

8. فرانسيس بال، الميديا، ترجمة فؤاد شاهين، سلسلة نصوص، دار الكتاب الجديد المتَّحدة، لبنان، ط1، 2008

9. فريد سليمان، مدخل إلى دراسة التَّاريخ، المركز الجامعي، تونس، 2000

10. فرانسوا هارتوغ، تدابير التاريخانيَّة-الحاضريَّة وتجارب الزمان، ترجمة بدر الدين عرودكي، المنظّمة العربيَّة للترجمة، توزيع مركز دراسات الوحدة العربيَّة، لبنان، ط1، 2010

11. Hugh Trevor-Roper, Archbishop Laud 1563-1645, (London: MacMillan, 1962-second edition)

12. Adam Sisman, an Honorable Englishman: The Life of Hugh Trevor-Roper, Random House, 2011.

13. Doug Munro, History as a Blood Sport- the Biography of Hugh Trevor-Roper, journal of Historical Biography 8 (Autumn 2010).

14. Lacouture. Le Maroc à l’épreuve, en collaboration avec Simonne Lacouture, Le Seuil 1958

15. http://www.history.ox.ac.uk/research/project/hugh-trevor-roper/bibliography.html

[1] - فرانسيس بال، الميديا، ترجمة: فؤاد شاهين، سلسلة نصوص، دار الكتاب الجديد المتَّحدة، لبنان، ط1، 2008، ص15

[2] - حول تسارع التاريخ كتب جان نويل جانيني في عام 2001 م: «هل يجري التّاريخ بسرعة؟» فرانسوا هارتوغ، تدابير التاريخانيَّة -الحاضريَّة وتجارب الزمان، ترجمة: بدر الدين عرودكي، المنظّمة العربيَّة للترجمة، توزيع مركز دراسات الوحدة العربيَّة، لبنان، ط1، 2010، ص175/213

[3] - مقتطف من حوار نشرته جريدة الاتحاد الاشتراكي مع المؤرخ المغربي عبد الأحد السبتي، عدد يوم 11-12-2009

[4] ـ الموساوي العجلاوي، الصَّحافة والتاريخ، من نصّ المداخلة التي ساهم بها في الأيام الوطنيَّة التسعة عشر للجمعيَّة المغربيَّة للبحث التاريخي في موضوع: المغرب المعاصر (1912-2012) التاريخ والهويَّة والحداثة- دورة بوشتة بوعسريَّة، الرَّباط بين 1-3 كانون الأول/ ديسمبر 2011، بدعم من المجلس الوطني لحقوق الإنسان.

[5] - عبد الله العروي، مفهوم التاريخ، المركز الثقافي العربي، ط4، 2005، ص72

[6] - فريد سليمان، مدخل إلى دراسة التاريخ، المركز الجامعي، تونس، 2000، ص151

[7] ـ للاطلاع على أمثلة من هذه الوقائع، راجع: خالد طحطح، عودة الحدث التاريخي، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، 2014، من ص 174 إلى ص 176

[8] - جان لاكوتير، التاريخ الآني، ضمن التاريخ الجديد، ترجمة وتقديم محمَّد الطاهر المنصوري، مراجعة عبد الحميد هنيَّة، المنظمة العربيَّة للترجمة، ط1 2007، ص352

[9] - المرجع نفسه، ص353

[10] - مقتطف من حوار نشرته جريدة الاتحاد الاشتراكي مع المؤرّخ عبد الأحد السبتي، عدد يوم 11-12-2009

[11] - راجع: جان تولار، غي تويليه. صناعة المؤرّخ. ترجمة: عادل العوَّا، دار الحصاد للنشر والتوزيع، سورية، ط1، ص15

[12] - قام بتحليل أبعاد التحوُّلات الكبرى التي أحدثتها الثورة المصريَّة عام ‏1952‏، فكتب كتابه الشهير مصر في حركة‏، وجمعته هناك علاقة صداقة مع الكاتب الصحفي الدكتور المصري أحمد يوسف، الذي خصَّ مشوار جان لاكوتير بسيرة موسومة بـ«جان لاكوتير من خلال قمم وكلمات».

[13] - بالرغم من علاقاته الطيبّة بعبد الناصر، لم يخفِ بعض إخفاقات النّظام النَّاصري في كتابه: مصر في حركة، حيث اعترض على رقابة الصُّحف في مصر‏، وقال‏ عنها: ‏ لقد حوَّلت الرقابة الكريهة الصحافة إلى شكل من أشكال العبوديَّة‏.

[14] ـ كتب سيرة شارل دوغول، ومنديس فرانس، والأديب فرنسوا مورياك، والفيلسوف أندريه مالرو، والأديب ستندال، وعالمة الاجتماع جرمين تييون‏، وغيرهم.

[15] - أصدر كتاباً في هذا المجال، انظر:

Jean Lacouture, Profession biographe, Hachette, 2003.

[16] - يُعدّ هذا الكتاب بداية اقتحامه مغامرة كتابة السير.

[17] - بشأن البيوغرافيا وعلاقتها بالتاريخ، يراجع: خالد طحطح، السيرة لعبة الكتابة، كتاب العربيَّة، المملكة العربيَّة السعوديَّة، ط1، 2012

[18] - أنجز إلى جانب (Simonne Lacouture) وصفاً بيوغرافيَّاً لأهمّ الشَّخصيَّات الفرنسيَّة والمغربيَّة للفترة التي أدَّت أحداثها إلى استقلال المغرب. انظر: ديل إيكلمان، السّلطة والمعرفة في المغرب... صور من حياة مثقف من البادية في القرن العشرين، ترجمة: محمَّد أعفيف، منشورات مركز طارق بن زياد للدّراسات والأبحاث، الرباط، ط1، 2000، ص23. وللمزيد، انظر:

Lacouture. Le Maroc à l’épreuve, en collaboration avec Simonne Lacouture, Le Seuil 1958

[19] - Adam Sisman, an Honorable Englishman: The Life of Hugh Trevor-Roper, Random House 2011

[20] - Hugh Trevor-Roper, Archbishop Laud 1563 - 1645, London: MacMillan, 1962 - second edition.

يُعدُّ القس وليام لود من الشَّخصيَّات التي أدت أدواراً مهمَّة في أحداث الثورة الإنجليزيَّة، فقد تمكَّن، بفضل علاقاته، من أن يتولى رئاسة أساقفة كانتربري منذ 1633م، وأن يصبح مستشاراً للملك شارل الأوَّل. كان متشدّداً بشأن الطقوس الكنسيَّة، فعمل على طرد البيوريتان من المناصب الكنسيَّة، واضطهد الطوائف الدينيَّة المخالفة للكنيسة الإنجليكانيَّة. وكانت هذه الإجراءات سبباً في اندلاع الحرب الأهليَّة الإنجليزيَّة. ثمَّ أقرَّ مجلس العموم مشروع قانون يتَّهم لود بالخيانة، فحُكم عليه بالإعدام، وقد أظهر شجاعة نادرة أمام المشنقة، أثّرت في أعدائه.

[21]- Trevor-Roper, Last days of Hitler, New York: Macmillan Co1947.

[22] - صدر كتاب إدوارد جيبون في نهاية القرن الثامن عشر، ومع ذلك ظلَّ حتى يومنا هذا يحتلُّ مكانة رفيعة بين الكتب التاريخيَّة المتفرّدة. فقد أعيد طبعه عشرات المرَّات، ونُقِل إلى أكثر لغات العالم. وتعود شهرة هذا الكتاب إلى إثارته جدلاً كبيراً حين أرجع سقوط الإمبراطوريَّة الرُّومانيَّة إلى هجمات البرابرة وانتصار المسيحيَّة.

[23] - نشر تريفور روبر عشرات المقالات في صحف ومجلّات مختلفة، كما أصدر عدداً كبيراً من الكتب، أهمّها: «أحاديث هتلر حول المائدة» سنة 1953م، وهو كتاب طريف عن الجوانب غير الرَّسميَّة من حياة زعيم النازيَّة. وكتاب «النبلاء ما بين (1540-1640)» سنة 1953م، و«مقالات في التاريخ البريطاني» سنة 1964م، ثم «اتجاهات حرب هتلر (1939-1945)» سنة 1964م، و«صعود أوربا المسيحيَّة» سنة 1965م، و«الدّين والإصلاح والتغيير الاجتماعي» سنة 1967م، و«عصر التوسّع» سنة 1968م. إضافة إلى «حكاية فيلبي: التجسُّس والخيانة وخدمة الاستخبارات السريَّة» الذي نُشِرَ سنة 1968م، و«الحياة الخفيَّة» 1970م، ثمَّ «هوس السَّاحرات بأوربا في القرنين السادس عشر والسابع عشر» سنة 1970م، و«مقالات عن عصر النهضة» الذي نشر سنة 1985م، و«يوميَّات غوبلز» المنشور عام 1987م، وأخيراً «من مكافحة الإصلاح إلى الثورة المجيدة»، الذي نشر في عام 1992م.

لمزيد من التفاصيل انظر: البيبليوغرافيا الكاملة للمؤلف على الرابط التالي:

http://www.history.ox.ac.uk/research/project/hugh-trevor-roper/bibliography.html

[24] - هذه الوضعيَّة جعلته عاجزاً عن إكمال أغلب أعماله الكبرى. ويعتقد (Doug Munro) أنَّ تريفور كان له عائق نفسي يمنعه من إتمام الأعمال التي يبدأها، فانشغالاته الأخرى لا تبرّر هذا العجز، إذ إنَّ الكثير من أقرانه تمكَّنوا من الموازنة بين أعباء البحث ومهامّهم الإداريَّة، دون ذكر الالتزامات العائليَّة. انظر:

Doug Munro,History as a Blood Sport- the Biography of Hugh Trevor-Roper, journal of Historical Biography 8 (Autumn 2010): 62 - 76

[25] - تزوج تريفور روبر بالسيدة ألكسندرا هنريتا لويزا (1907-1997م) الابنة الكبرى للمارشال دوغلاس هيج، قائد القوَّات البريطانيَّة خلال الحرب العالميَّة الأولى. وكانت هذه السيّدة متعوّدة على الحياة الأرستقراطيَّة، فهي ابنة بالمعموديَّة للملكة ألكسندرا قرينة الملك إدوارد السابع. وقد لمزه الكثير من خصومه في هذا الزَّواج الذي تُشمُّ منه رائحة المصلحة، فقد سبق لهذه السيدة أن تزوَّجت من الأميرال كلارنس دينسمور، وخلّفت منه ثلاثة أبناء، في حين لم يخلف منها تريفور أولاداً.