سلطة الإجماع في الفكر الإسلامي


فئة :  قراءات في كتب

سلطة الإجماع في الفكر الإسلامي

"سلطة الإجماع في الفكر الإسلامي" مقاربة تحليلية نقدية من خلال كتاب "الواضح في أصول الفقه" لابن عقيل البغدادي الحنبلي (ت 513هـ)" كتاب للباحث عبد الكريم الدباش صدر في طبعته الأولى سنة 2010 عن مكتبة قرطاج بصفاقس. وهو في الأصل رسالة ماجستير أشرفت عليها وناقشتها لجنة علمية تتكوّن من الأستاذين الجليلين علي صالح ومولى وبسّام الجمل فضلا عن الأستاذ المشرف.

لقد اختار صاحب هذا الكتاب أن ينظر في سلطة الإجماع أصلا ثالثا من أصول الفقه رغم وعيه بكثرة البحوث التي كرّست لهذا الأصل في العربية وفي غيرها من اللغات لذلك راهن على أن تكون إحدى زوايا جدّة بحثه التركيز على كتاب واحد من كتب علم أصول الفقه السنيّة لم تمض فترة طويلة على طبعه في مجلّدات خمسة ولم ينل حظّه من الدراسة المتأنية.

وبالإضافة إلى ذلك راهن الباحث على طرافة اختياره هذا الكتاب لأنّ صاحبه ابن عقيل ذو شخصية فريدة من نوعها إن في مستوى مسيرة حياته وعلمه أو في مستوى عطائه الفكري، وهو ما أهّله ليكون موضع تمجيد علماء كثيرين كابن تيمية. فقد قال فيه في كتابه "درء تعارض العقل والنقل": "ولابن عقيل أنواع من الكلام فإنّه من أذكياء العالم كثير الفكر والنظر في كلام الناس"1.

لقد أوضح الباحث أنّ اختياره هذا الموضوع يعود إلى أثر درس جامعي حضره في إطار دروس الماجستير لكنّه اختار أن يحوّل الإطار الزمني لذلك الدّرس الذي تعلّق ببحث الإجماع في الفكر الإسلامي الحديث ليركّز على الإجماع في الفكر الإسلامي القديم.

وهذا الانتقال الزمني يخبر عن جرأة من الباحث لا يستهان بها لأنّ الإقدام على البحث في النصوص القديمة عامّة مهمّة ليست بالهيّنة فما بالك بالبحث في النصّ الأصولي الفقهي الذي يقتضي زادا معرفيا واصطلاحيا ليس بالقليل.

لقد اختار الباحث عبد الكريم الدبّاش أن يكون موضوع بحثه ذا صبغة عامّة تتعلّق بمباحث الإجماع وقضاياه لا في باب الإجماع فحسب وإنّما في كامل أبواب الكتاب أيضا. ففي غير باب الإجماع مواضع كثيرة بحثت فيها مسائل ذات مساس بالإجماع. وقد تطلّب هذا الاختيار المنهجي أن يقرأ الباحث آلاف الصفحات المكوّنة لمجلّدات كتاب "الواضح" الخمسة. وبهذا يكون الباحث قد التفت إلى أمر مهمّ في البحث الحديث هو الاهتمام بالهامش لذلك فإنّ من مهمّات الباحث في بحثه الأكاديمي بصفة خاصّة أن يقرأ مصدر بحثه أو مصادره ويجمّع مادة بحثه من كافّة أجزاء هذه المصادر فكم من إشارة نلفيها في مبحث يقع على هامش الموضوع المدروس لكنّه يوفّر للدارس معنى طريفا ومعرفة لا تتوفّر في المباحث التقليدية ذات الصلة المباشرة بموضوعه.

وهذا الاهتمام بالهامش يتجلّى لنا في مستوى آخر من خلال ابتعاد الباحث عن اعتماد كتب أصول الفقه المركزيّة والمشهورة كرسالة الشافعي و"مستصفى" الغزالي و"الإحكام في أصول الأحكام" للآمدي.

كما يتبدّى الاحتفاء بالهامش في النأي عن الشخصيات السنية المجمع على قبولها واختيار شخصيّة إشكاليّة هي شخصية ابن عقيل الذي عاش محنة شخصيّة بسبب تأثّره بالفكر الاعتزالي والكلامي فكان خير مثال يوضح محنة حضارة كاملة تصارعت فيها تيارات النّقل والعقل والتقليد والتجديد.

ومن وجوه الاهتمام بالهامش في هذا العمل أنّه لا يركّز على كتاب من الكتب التي ألّفها علماء الأصول الشافعية الذين عرفوا بتأسيس هذا العلم بكثرة التأليف فيه وإنّما ينشغل بكتاب حنبلي ردّا على من يتهمون الحنابلة بأنه ليس لهم تآليف في علم أصول الفقه وأنّ الأساتذة الذين يدرّسون هذا العلم يعتمدون على أصول الشافعية.

بنى الباحث كتابه على ثلاثة أبواب وسم الأوّل منها بالمقدّمات حيث قدّم كتاب "الواضح في أصول الفقه" ببيان أسباب تأليفه وتقديمه ماديا والتطرّق إلى مضمونه ومنهج تأليفه. وخصّص مبحثا ثانيا للتعريف بصاحب كتاب "الواضح" تضمّن ترجمة لابن عقيل وبسطا لمحنته ودلالتها وقيمة إعلانه التوبة وعرضا لأهمّ مؤلّفاته. أمّا المبحث الثالث المندرج ضمن المقدّمات فهو يدور على أهمّ خصائص عصر ابن عقيل السياسية والفكرية والثقافية ويغوص في تطوّر الحركة الفقهية ونتائجه. ويختتم الباحث هذا الباب بمبحث موجز خاص بأهمّ المؤلّفات التي درست مسألة الإجماع قديما وحديثا مصنّفا إيّاها إلى أربعة أنواع في العصر القديم هي مصنّفات جيل الروّاد ومصنّفات جيل التلاميذ الذي ردّوا على منكري الإجماع ومصنّفات جيل آخر من التلاميذ اقتصر عملهم على تلخيص المصنّفات السابقة وشرحها ومصنّفات جيل من التلاميذ تأثّروا بالثقافة العقليّة التي راجت في زمانهم.

وفي الباب الثاني "مسائل الإجماع" خصّص عبد الكريم الدبّاش فصلا أول للتعريف بالإجماع لغة واصطلاحا. وما هو طريف في هذا المجال إنجازه جدولا إحصائيا يجمع أهمّ تعريفات الإجماع في كتب أصول الفقه. ويتجلّى من خلاله أنّ هذا المفهوم ليس محلّ اتّفاق بين الأصوليين فلئن كان الإجماع لدى ابن عقيل هو اتفاق فقهاء العصر على حكم الحادثة خاصة عند علماء آخرين اتفاق العلماء أو اتفاق أمّة محمد أو اتفاق أهل الحلّ والعقد أو اتفاق المجتهدين. ولا شك في أنّ هذه العبارات لا تفيد نفس الدلالة.

والأمر المهمّ الذي تفطّن إليه الباحث أثناء توقّفه عند هذا المفهوم أنّه يخبر عن وعي ابن عقيل بضرورة تجاوز عقبة إيقاف عجلة زمان الإجماع من خلال قصره على زمن الصحابة فحسب. وبذلك تتجلّى رغبته في الانسجام مع واقعه التاريخي في سيرورته وصيرورته ليكون الالتصاق بالواقع وثيقا عند التصدّي لنوازله واستنباط الأحكام المناسبة لها.

أمّا الفصل الثاني فقد بحث فيه صاحب الكتاب حجية الإجماع التي شغلت حيّزا كبيرا في المدوّنة الأصوليّة إن لإثباتها وإن للدفاع عنها أمام من أنكرها. وقد حدّد موضع بحث هذه المسألة وهو الجزء الخامس من كتاب "الواضح" لابن عقيل. ومنذ البداية تجلّى الانتماء السنّي الحنبلي لهذا الأصولي من خلال اعتباره "الإجماع حجة مقطوع بها فإذا اتفق الفقهاء على حكم حادثة، كانت حجة معصومة ودلالة قطعية متّبعة نصّ عليها صاحبنا أحمد بن حنبل"[1].

تطرّق الباحث إثر هذا إلى إثبات حجية الإجماع من السمع قرآنا وسنّة فعلى الصعيد الأوّل استخلص أنّ الآيات التي اعتمد عليها في إثبات الحجية ضعيفة الدلالة عليه عامّة لا تفي بغرض الإثبات صراحة. أما على الصعيد الثاني فقد أورد ابن عقيل ثمانية أحاديث لإثبات حجية الإجماع وأغلبها أحاديث تطرح مشكلا في حدّ ذاتها "لأنّ الإجماع دليل قطعي لا يجوز إثباته بدليل ليس كذلك وهو ما جعل الكثيرين خارج المنظومة السنية ومن داخلها أيضا يرون أنّ خبر الآحاد لا يوجب العلم فكيف به دليلا على أصل عظيم من أصول التشريع وهو الإجماع؟"[2].

انتقل الباحث بعد ذلك إلى مسألة إثبات حجية الإجماع من العقل من خلال كتاب "الواضح في أصول الفقه" وهو ما يعني عصمة الأمة من الخطإ. وهذه العصمة هي التي تجعل الإجماع يكتسب عصمة وحجية. والمقصود بعصمة الأمة عند أغلب الأصوليين ليس كلّ الأمة وإنما قسم منها هو العلماء "ولا يُفهم من عصمة الأمّة عن الخطإ إلاّ عصمة من يُتصوّر منه الإصابة لأهليته"[3]. وقد كان ابن عقيل أكثر وضوحا من الغزالي حين ذكر أنّ "الإجماع دلالة معصومة قطعية وليس الإجماع إلاّ اتفاق أهل الاجتهاد على حكم الحادثة فإذا عُدم المجتهد عُدم الإجماع وأفضى إلى بقاء الأمّة بغير معصوم يخلف النبي المعصوم"[4].

تطرّق الباحث في الفصل الثالث إلى زمن الإجماع ليثير في مستهلّه مسألة إجماع أهل كلّ عصر حجّة مبرزا أنّ ابن عقيل رفض قصر الإجماع على زمن الصحابة معتبرا أنّ العلماء حجّة معصومة في كلّ عصر. يقول: "لا يختصّ الإجماع الذي علّقنا عليه العصمة في الحجّة بأصحاب النبي (ص) بل إجماع أهل كلّ عصر حجة"[5].

وما يجدر التنويه به هنا ما استنتجه الباحث حين ربط هذا الموقف بالواقع التاريخي فقد اعتبر أنّه يشرّع لسلطة الخلف من العلماء ويمنح العلماء سلطة تقارع سلطة الحكام حتى لا يحتكروا السلطة. وهو توجّه تبنّاه –في نظره- الحنابلة بالخصوص منذ خرج إمامهم منتصرا في محنة خلق القرآن حين بذل نفسه لمعاندة السلطة واختياراتها. وهذا الرّأي ربّما يحتاج إلى مزيد الدرس لتأكيده أو نفيه خاصّة أنّ كثيرا من علماء الحنابلة كانوا يشدّدون على ضرورة طاعة الخلفاء ويعتبرون الخروج عليهم فتنة وإثما.

خاض الباحث في الفصل الرابع الموسوم بـ"المجمعون / أهل الإجماع" في مسألة إقصاء العامة عن الإجماع مفصّلا حجج تبنّي ابن عقيل لهذا الإقصاء ويخلص إلى نقد هذا الرّأي. "فكأنّ العامة في اعتبار الأصوليين ليسوا من الأمة التي أنيطت بها مهمّة التبليغ أو لكأنّ الخطاب حيث يشمل العامة يفقد دلالته على خيرية الأمّة وعصمتها ولذلك يتمّ استبعادها من التأويلات الممكنة للنص الديني وفي ذلك تناقض صارخ مع روح الإسلام الذي جاء للناس كافة"[6].

ولئن كان ابن عقيل يقصي العامة من الإجماع فإنه يثبت دور العلماء فيه وهم أساسا الفقهاء السنيون مما يعني إخراج غير الفقهاء وغير السنيين من أهل الإجماع. ويستحضر الباحث في هذا الصدد خلفيّات هذا الموقف التاريخية مركّزا خاصة على صراع أهل الحديث مع المعتزلة زمن محنة خلق القرآن خلال الثلث الأول من القرن الثالث للهجرة.

اختصّ الفصل الخامس في الباب الثاني ببحث مسألة مكان الإجماع. فلئن أقرّ بعض العلماء حجية علماء منطقة من مناطق البلاد الإسلامية فإنّ ابن عقيل تصدّى لهذا الرّأي من خلال نفيه إجماع أهل المدينة لأنّ القرآن لم يقل به صراحة ولأنّ أدلّة الإجماع لا تفضّل مكانا على آخر. ويتساءل الباحث في آخر هذا الفصل "ألا يكون رفض القول بإجماع محلّي من خلال إنكار إجماع أهل المدينة سدّا لذرائع الانفصال عن الحكم المركزي للدولة؟ وهذا التساؤل مشروع لأنّ في الإقرار بسلطة علماء مدينة ما قد يشجع على استقلالها السياسي عن مركز الحكم وعن الخلافة وهو ما يتناقض مع مبدإ وحدة الخلافة التي نظّر لها الفقهاء لمواجهة ما برز في الواقع من دول تمرّدت على الخليفة وأسّست كيانات مستقلّة عنه.

وفي الباب الثالث "وظائف الإجماع" نلفي فصلا أوّل عنونه الباحث بـ"الوظيفة التأصيلية" دالاّ بذلك على أنّ أخطر الوظائف التي اضطلع بها الإجماع تأصيل الأصول الرئيسيّة. وتجلّى ذلك على الصعيد الأوّل في الإجماع على المصحف العثماني وردّ الصحابة المصاحف الأخرى التي انتسبت إلى بعض الصحابة على غرار مصحف ابن مسعود. وهذه المسألة تحتاج إلى مزيد التوسّع والتعمّق بالعودة إلى المصادر المبكّرة وخاصّة كتاب "المصاحف" لابن أبي داود السجستاني.

وبالإضافة إلى ذلك اعتمدت سلطة الإجماع لتأصيل السنة والقياس والأصول الفرعية وهو ما يبرز قيمته العليا في المنظومة الأصولية السنية.

تطرّق الباحث أيضا إلى الوظيفة الفقهية والعقدية للإجماع وقدّم احصائيات تسند استخدام الإجماع في كتب الفقه والفتاوى وكتب العقيدة.

وفي الفصل الثالث نظر الباحث في الوظيفتين السياسية والاجتماعي للإجماع.

وانتهى الباحث في خاتمة عملها إلى جملة من النتائج منها ما آل إليه عمله من اطّلاع على القيمة الكبرى للإجماع في الفكر الإسلامي باعتباره آلية تفاعل مع الواقع المعيش ودليلا على إيمان الإسلام بقيمة العقل البشري من خلال فسح المجال للإنسان ليكون مشاركا في تحديد مصيره بسنّ الأحكام والتشريعات التي تولي مصلحته قدرا كبيرا من الأهمية فتتحقّق بذلك خيرية العالم دون تعارض بين النقل والعقل. لكن هذا لم يمنع الباحث من الوقوف على الانحرافات التي وقع فيها الإجماع. فقد غدا عامل ضعف للأمّة يشرّع لخنوعها لرغبات حكّامها ولتبرير استبدادهم وعنفهم تجاه العامة وتجاه بعض الفرق والمذاهب "لقد كان الإجماع في نطاق الممارسة سببا في حرمان الثقافة الإسلامية من أهمّ عوامل قوّتها وهو الاختلاف بما هو تنوّع في الرأي والثقافة وفهم العقيدة"[7].

يخبر هذا الكتاب عن جهد محمود بذله الباحث وعن خصائص تحلّى بها تغيب في أعمال كثير من الباحثين وفي مقدّمتها البحث الرصين الهادئ وترك مسافة بينه وبين موضوع بحثه وحضور جهد تأليفي ونقدي بارز يخبر القارئ بأنّ هذا البحث ينجز في العصر الحديث الذي تعدّ فيه الموضوعية شرطا لازما للبحوث العلمية ويعدّ النقد سمة أساسيّة تقتضي الاستفادة من المكتسبات المعرفية والمنهجية الحديثة وهو ما سعى صاحب البحث إلى تطبيقه من خلال اعتماده المنهج التاريخي. فبفضل هذا المنهج تجاوز الباحث القراءة الابستمولوجية للنصّ الأصولي وتمكّن من وصل الخطاب الأصولي النظري بخلفيات واقعه التاريخي الموضوعي من جهة وخلفيّات منشئه الذاتية من جهة أخرى.

إنّ هذا الكتاب باكورة إنتاج الباحث الواعد عبد الكريم الدبّاش وهو قادر على تقديم أعمال أخرى أكثر عمقا في المستقبل إن صحّ منه العزم ولم يفتر.


1- ابن تيمية، درء تعارض العقل والنقل، تحقيق محمد رشاد سالم، ط2، المملكة العربية السعودية، إدارة الثقافة والنشر بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، 1991، 8/ 60

[1]- ابن عقيل، الواضح، 5/104

[2]- عبد الكريم الدباش، سلطة الإجماع في الفكر الإسلامي، ص 68

[3]- الغزالي، المستصفى، ص 183

[4]- ابن عقيل، الواضح، 5/422

[5]- المصدر نفسه، 5/130

[6]- الدباش، المرجع المذكور، ص 87

[7]- المرجع نفسه، ص 170