سيميولوجيا "الإرهاب" في المشهد التشكيليّ والبصريّ المعاصر


فئة :  مقالات

سيميولوجيا "الإرهاب" في المشهد التشكيليّ والبصريّ المعاصر

سيميولوجيا "الإرهاب" في المشهد التشكيليّ والبصريّ المعاصر(1)

يحتلُّ مفهوما "الإرهاب"، و"رُهاب الإسلام"، محورين أساسيَّين في الاستراتيجيَّة الخِطابيَّة الغربيَّة تجاه العالمين العربيّ والإسلاميّ عموما، خاصَّة في القرن الحادي والعشرين، الذي تمَّ تدشينه بـ "جريمة إرهابيَّة" كبرى بكل المقاييس، تدور كثيرٌ من الشكوك حول دوافعها الحقيقيَّة، ومن يقف خلفها، وآليَّات تنفيذها، لجهة اعتبارها أكبر "جريمة مفتعلة" في التاريخ المعاصر، الماثلة فيما يُعرف عالميَّا باسم "هجمات الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول" عام (2001)، كما يؤكد كثيرٌ من الدراسات. منها دراسة الصحفيّ والناشط السياسيّ الفرنسيّ تيري ميسان (Thierry Meyssan)، المعنونة بـ "9\11: الكذبة الكبرى" (9\11: The Big Lie). والدراسات الكيميائيَّة والفيزيائيَّة التي قدّمها الباحث في الكيمياء والفيزياء الدنماركي نيلز هاريت (Niels Harrit)، وغيرها الكثير من الدراسات التي قامت بها مجموعة "معماريّون ومهندسون من أجل حقيقة 11\9" (Architects & Engineers for 9/11 Truth)، التي تثبت، وبشكل لا يترك مجالا للشك، أنَّ "الرواية الرسميَّة" التي تمَّ تقديمها حول الحادثة، تتنافى مع الوقائع، والأدلّة الماديَّة، بكلّ المعايير الموضوعيَّة والعقليَّة والعلميَّة.

وبغض النظر عن مدى نجاح تلك الدراسات في تفنيد "الرواية الرسميَّة" عن تلك الجريمة، فإنّ هذا الحادث المروّع دشَّن "الإرهاب" و"رهاب الإسلام" كمفهومين مرتبطين بالمسألة الثقافيَّة العميقة، أكثر من ارتباطهما بالحادثة نفسها، أو بالمسألة الأيديولوجيَّة والفكريَّة الحديثة والمعاصرة، المتَّصلة بالفكر السياسيّ الغربيّ الحديث والمعاصر، الذي طالما سخَّر "الإرهاب" لخدمة أغراضه السياسيَّة، في إطار الصراع على مناطق النفوذ السياسيّ للقوى العظمى، وإثبات ما لها من ثقل عالميّ؛ سياسيّ واقتصاديّ وثقافيّ، باعتبارها حالة أصيلة في الأيديولوجيا الغربيَّة الحديثة والمعاصرة، أفرزها الفكر الغربيّ، وتبنَّاها وروَّج لها، وأدرجها في أدبيَّات قاموسه السياسيّ، منذ ولادة مفهوم "الدولة القوميَّة" الحديثة، واتساع نفوذها العالميّ.

بذلك حوَّلت هذه الحادثة "القتل الجماعيّ" بدوافع ثقافيَّة محضة، من جريمة مُدانة بكل الشرائع والقوانين السماويَّة والأرضيَّة، إلى ممارسة ثقافيَّة بامتياز، محاولة إكسابها "شرعيَّة أخلاقيَّة" بطريقة خفيَّة، تمَّ تمريرها من أمام أعين الناس، بسهولة ويسر، كفعل فوق "القانون"، يقتضي الردَّ بالمثل، معطية الضوء الأخضر لاجتياح وتدمير أكثر من منطقة في العالم، كفعل انتقاميّ، دون رقيب أو حسيب، بحجَّة "مكافحة الإرهاب".

صورة جويَّة لهجمات 11\9\ 2001

كما أفسحت هذه "الجريمة" المجال لنشوء تنظيمات إرهابيَّة، بالاستناد إلى مفاهيم وتصوّرات ثقافيَّة وذهنيَّة مشوّهة، كـ "داعش"، وأخواتها، فضلا عن نجاحها في إسقاط الأبعاد الجنائيَّة الموضوعيَّة والماديَّة الجُرميَّة لـ "الجرائم الإرهابيَّة"، من (زمان، ومكان، ومجرم، وضحيَّة، وأداة جريمة)، وهي أبعاد تستلزم فعلا استقصائيَّا وجنائيَّا، يستند إلى جمع الأدلَّة الفيزيائيَّة والكيميائيَّة والبيولوجيَّة، لتحديد أبعادها وظروفها، وفق المنطلقات والأصول المتَّبعة، التي لا تترك مجالا للشكّ في صدقيَّتها، مختزلة إيَّاها في ممارسة عنصريَّة مرتبطة بمجموعة من التصوُّرات الثقافيَّة النمطيَّة المسبقة عن ثقافة بعينها، هي "الثقافة العربيَّة الإسلاميَّة"، وهي حالة أسهمت الفنون التشكيليَّة بشكل خاصّ، والفنون البصريَّة بشكل عام، في رفدها وتأكيدها، ورسم ملامحها بدرجة كبيرة، وإنتاجها ثقافيَّا، وعلى نطاق عالميّ، لدرجة تدعو للدهشة، لحجم المواد البصريَّة والأعمال التشكيليَّة التي تماهت مع هذا التوجّه الجديد في الثقافة الغربيَّة، بعد عام (2001)، هذا ناهيك عن إسهام تلك المواد البصريَّة والأعمال التشكيليَّة في شحن "الجريمة الإرهابيَّة" بأبعاد من "الرمزيَّة" الثقافيَّة، المرتبطة حصرا بـ "الثقافة العربيَّة الإسلاميَّة"، التي لا تترك مجالا للشك في طبيعتها الخِطابيَّة والأيديولوجيَّة العنصريَّة المستترة والموجّهة.

إنَّ توظيف مفهوميّ "الإرهاب" و"رهاب الإسلام"، في الفنّ التشكيليّ والبصريّ المعاصر، يأتي في سياق محاولة "شيطنة" العربيّ والمسلم

هكذا أصبحت ثقافة بأكملها، لها جذورها الضاربة في التاريخ، ولها حضورها العالميّ والكونيّ، مثلما لها حضورها الثقافيّ الأصيل، وتقاليدها المتوارثة عبر الأجيال في القارات الثلاث (آسيا، إفريقيا، أوروبا)، ثقافة أثَّرت في مسار التاريخ العالميّ منذ أربعة عشرة قرنا، متهمة ببساطة مطلقة وبشكل مسبق بـ "الإرهاب"، بوصفها صفة أصيلة فيها، وليس صفة تخصّ مجموعة محدودة من المهووسين بالقتل الجماعيّ، لا تربطهم بهذه الثقافة رابط سوى الاسم، أو الملامح الشكليَّة، التي أضفت أبعادا "عنصريَّة" على آليَّة التأطير الخِطابيّ لـ "الرواية الرسميَّة" حول تلك الجريمة، التي وَجَدت بدورها ردَّات فعل "عنصريَّة"، في أكثر من مكان وتوقيت في العالم، كان آخرها في نيوزيلندا عام (2019).

هذه التهمة لم يُقصد منها تشويه صورة هذه الثقافة فحسب، بقدر ما كان المقصود منها هو نزع "الشرعيَّة" عنها، وعن كل تمثّلاتها التاريخيَّة والثقافيَّة والسياسيَّة والاجتماعيَّة، في المجتمعات الحديثة والمعاصرة خاصَّة، داخل الوطن العربيّ والعالم الإسلاميّ وخارجهما، وهي غاية أنيطت بالفن التشكيليّ بشكل خاص، والفنون البصريَّة بشكل عام، مهمَّة التمهيد والترويج لها، وتأكيدها، وتأكيد رمزيَّتها، أو بتعبير آخر، تحقيقها رمزيَّا وثقافيَّا على المستوى العالميّ، عبر استغلال مقدرة الفنّ التشكيليّ، والفنون البصريَّة عامَّة، على الشحن الرمزيّ لكل ما يتم تناوله فنيَّا. خاصَّة وأنَّ الدعاية الأمريكيَّة والعالميَّة، أو بتعبير أكثر حرفيَّة، طريقة تغطية هذا الحدث إعلاميَّا، نجحت في تحويله من جريمة إرهابيَّة وجنائيَّة محدودة بمكان وزمان وأدوات معيَّنة، نفَّذتها مجموعة مارقة من القتلة، الذين تمتَّعوا في السابق بدعم غربيّ، إلى "جريمة أبديَّة"، كتصور جديد لـ "الجريمة الأبديَّة"، الذي تمَّ استدعاؤه قسراً من التصوّر الدينيّ المسيحيَّ (جريمة "قتل" السيد "المسيح" وصلبه هي "الجريمة الأبدية"، في حين أنَّ السيد "المسيح" هو "الضحيَّة الأبديَّة" في الفكر المسيحيّ التقليديّ). كما تمَّ استدعاؤه من التصوُّر الصهيونيّ لـ "الجريمة الأبديَّة" ("الهولوكوست" هي "الجريمة الأبديَّة"، و"اليهود" هم ضحاياها الأبديّين)، وهو أمر يعني عمليَّا إنتاج "مجرم أبديّ" جديد لهذه "الجريمة الأبديَّة" الجديدة، أصبح بعد 11 من سبتمبر (أيلول) عام (2001) "العربيّ والمسلم"، كبديل عن "المجرم الأبديّ" التقليديّ بحق الفكرة المسيحيَّة؛ أي "اليهوديّ"، وعن "المجرم الأبديّ" بحق الفكرة "اليهوديَّة" الصهيونيَّة؛ أي "النازيّ".

هكذا نجحت هذه التغطية الإعلاميَّة في تدشين مفهوم مفتعل جديد، لحرب ثقافيَّة كونيَّة "أبديَّة" جديدة شاملة، بالمعنى العميق للكلمة، وصراع ثقافيّ "أبديّ" جديد بين "العالم الحرّ" الديمقراطيّ المتمدّن، وبين ثقافة "متخلّفة" و"إرهابيَّة" في جوهرها، كما يُروّج عنها. خلافا لطرح صامويل هنتنغتون (Samuel P. Huntington) (1927 – 2008) المضلّل، في تفسيره لما يُسمَّى "صراع الحضارات"، الذي صوّر العمليَّة كأنَّها "صدام" ثقافيّ بين طرفين متكافئين، يمتلكان الدوافع ذاتها، والأدوات ذاتها. في الوقت الذي لا يعدو الأمر كونه ممارسة عنصريَّة استعلائيَّة استعماريّة جديدة مفبركة، من ثقافة غازية مستبدَّة، تجاه ثقافة أخرى، لها أصالتها التاريخيَّة، وشرعيَّتها الثقافيَّة، في محاولة بائسة لإبادتها.

كما أسهمت التغطيَّة الإعلاميَّة لهذا الحدث، في تحويل هذه الجريمة إلى حدث ثقافيّ بصبغة "هوليوديَّة" متقنة تدمج الواقعَ بالخيال السينمائيّ، خاصَّة إذا ما تمَّ مراجعة الأرشيف الإعلاميّ حولها اليوم، لتبدو أقرب إلى الأعمال الخياليَّة المُعدَّة بإحكام، المستوحاة من مسلسلات "تلفاز الواقع"، التي ظهرت في الأساس نهايات القرن العشرين، تمَّ تسجيلها بزوايا تصوير سينمائيَّة بارعة وحرفيَّة مفاجئة في حينها، من الجو والأرض، وعبر كاميرات ثابتة ومتحرّكة ومرتجّة، لدرجة تدعو للدهشة من استعمال بعض التقنيّات التي باتت شائعة اليوم، أكسبت الحدث أبعادا تشويقيَّة، لا تخلو من جماليَّة مشهديَّة، وإبهار و"إغواء" بصريّ، خاصَّة في التأليف البصريّ للمشاهد، وطريقة تصويرها، والحرص على إظهار "عمق الميدان" في اللقطات كافَّة، واعتماد "المقطع الذهبيَّ" في تصوير أغلب اللّقطات، بشكل يتناقض مع تلقائيَّة الحدث، وعنفه وعشوائيَّته وعدوانيَّته المفترضة. بينما منحت بعض اللّقطات في تأليفها منحى أيقونيّا دينيّا مركزيّا، لجهة تبنيها "التأليف المركزيّ"، باللّغة التشكيليَّة، الذي عادة ما يُنفَّذ في الأعمال الكنسيَّة والدينيّة. وجميعها وضعيَّات هدفت إلى إكساب الحدث رمزيَّة ومركزيَّة ثقافيَّة ودينيَّة، بأبعاد سرديَّة "أبديَّة".

صورة لحظة ارتطام الطائرة الثانية بالبرج الثاني

كما خدمت بعض التقنيَّات المستخدمة في إحداث أكبر قدر من التأثير، وإثارة الرعب والهلع، وبإيقاع مشهديّ سمعيّ وبصريّ تسارعيّ دراماتيكيّ مُحكم، من شتَّى الزوايا والمساقط، خاصَّة زوايا التصوير الحادَّة، من الأسفل إلى الأعلى، ومن الأعلى إلى الأسفل، فضلا عن اللّقطات الجويَّة، والواسعة جدّا، وهي من أكثر المساقط "إرهابا" في النفوس، عبر موضعة الكاميرات تارة على مقربة من مركز التجارة العالميّ، بداعي عمل تقرير مصوَّر عن الحدث، بوصفه حدثا عرضيَّا محدودا، الجميع يتفاجأ بتحوّله إلى حدث كونيّ، لم يسلم شبر من كوكب الأرض من تداعياته العميقة. وتارة أخرى، عبر تثبيت كاميرات احترافيَّة عالية الجودة، على أسطح ناطحات السحاب المحيطة بالواقعة، في أكثر من نقطة وارتفاع، وباستخدام أكثر من نوع من الكاميرات الجويَّة والأرضيَّة، بزوايا سفليَّة وأماميَّة واسعة وضيّقة، لم يُأبه خلالها بعامليّ الزمان والمكان، المقصود تغييبهما، في تسجيل حدث بهذا الهول، وبهذه الكثافة التصويريَّة منقطعة النظير.

قبيل ارتطام الطائرة الثانية بالبرج الثاني

طريقة التصوير تظهر محوريَّة البرجين في وسط الصورة، مع الاحتفاظ بمساحة سماويَّة أعلى البرجين. هذا التأليف الهرميّ المركزيّ، المرتكز على قاعدته، يوحي بالعظمة، وهي طريقة مُتَّبعة في رسم الأيقونات الدينيَّة المسيحيَّة.

إنَّ هذه التقنيَّات عالية التأثير ليست عفويَّة، بل تستند إلى دراية واسعة في علوم التصوير، والنظريَّات السيميائيَّة حول "المشهديَّة"، و"سيمياء الصورة السينمائيَّة"، التي تحاول النفاذ إلى وسائل تحليل الصورة السينمائيَّة والمسرحيَّة مشهديَّا؛ أي في تفاعلها مع الزمان والمكان، والمؤثرات السمعيَّة والبصريَّة والحركيَّة المساعدة، بغية تحليل طرق التأثير في ردّات فعل المشاهد تجاه مشهديَّة الصورة في حركيّتها، وصولا إلى محاولة فك شيفرتها الخِطابيَّة، وتاليا توجيهها لخدمة أهداف أيديولوجيَّة معيَّنة.

مشهد من فيلم "كينغ كونغ" (1933)، وتظهر أعلى البرج الغوريلا العملاقة، وفي اليمين أربع طائرات صغيرة

إنَّ التقنيَّات التي استُخدمت في تغطية الحدث إعلاميَّا، هي عادة ما تُستخدم في الأفلام الأمريكيَّة والغربيَّة والعالميَّة ذات التأثير الجماهيريّ الواسع، خاصَّة أفلام الإثارة والرعب، فيلم كينغ كونغ مثالا، كما ألمحت بعض المقاربات الساخرة من الحادثة([2])، حيث تظهر التفاصيل على حساب المشهد العام والعكس؛ أي يتحوّل المشهد إلى صورة واسعة لمقاطع من الانهيارات الكبرى الكليَّة والشاملة، ذات المضمون الواسع المتعدّد الأبعاد؛ ثقافيَّا، وسياسيَّا، واجتماعيَّا، واقتصاديَّا، وإنسانيَّا. والأهم هو الانهيار بالمعنى الأخلاقيّ، التهمة التي تم إلصاقها قسرا بـ "الثقافة العربيَّة الإسلاميَّة"، التي برَّرت، كل الجرائم التي اقتُرفت بحق المدنيّين العزَّل، بحجة "مكافحة الإرهاب الإسلامويّ"، والقضاء على منابعه، ليس الماديَّة فحسب، بل والثقافيَّة أيضا. وهذا هو التصوّر العنصريّ الأخطر، حيال تداعيات هذه الجريمة ثقافيَّا.

صورة ملتقطة لمركز التجارة العالميّ أثناء الهجوم، اتجاه الصورة من الأسفل إلى الأعلى

تمَّ توزيع عناصر الصورة على القاعدة الذهبيَّة، حيث تتوزع مناطق الفراغ حول النقطة المركزيَّة للحدث بتوازن بصريّ عالٍ، ينمُّ عن وعي تصويريّ دقيق.

إضافة إلى ما سبق، فقد تمَّ توظيف أحد أهمّ التقنيَّات السرديَّة الغربيَّة الشائعة في الأعمال الأدبيَّة والسينمائيَّة والفنيَّة، في التغطية الإعلاميَّة لهذا الحدث، وهي تقنيَّة "التضاد والتناقض"، بهدف تحويله إلى حدث "سرديّ" ثقافيّ بامتياز، يقترب في تأثيره من "السرديَّات الكبرى" الدينيَّة والوطنيَّة والأيديولوجيَّة، التي ترتبط بالأمم والشعوب، وتوجّه خياراتها لمئات السنين، وهي تقنيَّة تهدف إلى إحداث أكبر قدر من "المركزيَّة" العاطفيَّة في ذهن المشاهد، وصولا إلى "مشهد قطع الأنفاس"، كما هو شائع تسميته باللغة السينمائيَّة، وهي تقنيَّة سرديَّة غير شائعة في الثقافة العربيَّة الخطيَّة، لكنها شائعة في الروايات "الوطنيَّة" الغربيَّة، تم توظيفها بشكل واسع، في أغلب الأعمال الهوليوديَّة الكبرى، كما في تغطية جريمة سبتمبر/ أيلول عام (2001)، بهدف بث الإيقاع الدرامي للكارثة في أقصاه العاطفيّ، وتثبيتها في الأذهان عاطفيَّا، خاصَّة عبر سوق "التضاد والتناقض"، بالتركيز إعلاميَّا على سلميَّة وعملانيَّة والروح البنّاءة والطامحة للازدهار، التي تمّ حصرها في الإنسان الغربيّ، وبين تخلّف وهمجيَّة ودمويَّة و"إرهابيَّة" مجموعة من "العرب والمسلمين"، وهي صفات تمَّ تعميمها عبر وسائر الإعلام الغربيَّة، وبعض وسائل الإعلام العربيَّة، لتطال كل عربيّ ومسلم فيما بعد.

صورة مأخوذة من الروبورتاج الذي يُظهر الرئيس الأمريكيّ جورج بوش الابن قبيل ثوانٍ من إبلاغه بالخبر

لعب الرئيس الأمريكيّ جورج بوش الابن (George W. Bush)، دورا أساسيَّا في تصعيد الحدث دراميَّا وعاطفيَّا، عبر توظيف تقنيَّة "التضاد والتناقض" المرتبطة بوضعيَّته ووظيفته كرئيس "دولة"، ومسؤوليّته تجاه مواطنيه، خاصّة بين انهماكه في متابعة درس في اللّغة الإنجليزيَّة لمجموعة من الطلبة الصغار من الصف الثاني الابتدائيّ، في إحدى مدارس فلوريدا ذات الأغلبيَّة الزنجيَّة، وبين ضخامة وقذارة العمل الإجراميّ وهوله. كما تجلّت تقنيّة "التضاد والتناقض"، في المفارقة التي ظهرت في بعض اللّقطات بين وداعة وحرفيَّة وصرامة "مراسل" القناة التلفزيونيَّة، المكلّفة بعمل روبورتاج مصوَّر عن الحادثة، من أمام مركز التجارة العالمي في مدينة نيويورك، وبين هول وعشوائيَّة وتدميريَّة الحدث العالية، التي تتناقض مع صرامة النظام الذي تنساب فيه. في حين تُكسب المدينة التي حدثت فيها هذه الجريمة بُعدا ثقافيَّا كونيَّا وعالميَّا، كما تستحضر شكلا عميقا من "التضاد والتناقض" الثقافيّ الصادم. فمدينة نيويورك لا تُعتبر مركزا للاقتصاد العالميّ فحسب، بل تعتبر مركزا جديدا للثقافة العالميَّة، انتزعت من باريس أهميَّتها، في حقبة ما بعد الحرب العالميَّة الثانية، فضلا عن كونها محطَّة أساسيَّة للفكر اليساريّ الأمريكيّ الكلاسيكيّ والجديد، ومركزا فكريَّا وثقافيَّا لاقت فيه أطروحات "مناهضة الاستشراق"، و"مناهضة الاستعمار"، ودراسات "ما بعد الاستعماريَّة"، و"مناهضة العنصريَّة"، و"مناهضة الصهيونيَّة"، ومناصري حقوق "المثليّين"، و"النسويّين"، وغيرها من الحركات اليساريَّة الجديدة، والطليعيَّة الفنيَّة والفكريَّة، رواجا كبيرا، كما عمل في جامعاتها ومراكزها البحثيَّة الرائدة، مجموعة من أهم النقاد "اليساريّين" الجدد في العالم. كذلك يسوق هذا الحدث أشكالا أخرى من "التناقض والتضاد" بين هشاشة "المنظومة الأمنيَّة" التي تحيط بهذا المركز الاقتصاديّ والثقافيّ والسياسيّ العالميّ، وبين طبيعة هذا المركز الاستراتيجيَّة المحكمة أمنيَّا واقتصاديَّا وثقافيَّا وسياسيَّا، كما يعتقد أغلب الناس، وهو أمر يوحي عاطفيَّا بالثقة وحسن النيَّة، كما يبدو للوهلة الأولى.

صورة توثق الحادثة بعد لحظات من ارتطام الطائرة الثانية بالبرج الثاني

كما تم توظيف كاميرات بزوايا حادَّة جدا، بين كاميرا عين الطائر، وبين اللّقطات "الواسعة" جدًّا، التي تُستعمل في إخراج "المبالغات السينمائيَّة"، التي تحمل دلالات كارثيَّة كونيَّة كبرى، يُراد منها الإيحاء بالتأثير العالميّ والكونيّ للحدث. أمّا الكاميرا المحمولة على الكتف، التي تُظهر صورة مرتجَّة متحرّكة، فقد استعملت في بعض اللّقطات الأساسيَّة، وجميعها تقنيَّات إخراجيَّة اعتادت السينما الأمريكيّة توظيفها في أفلامها، للإيحاء بمركزيَّة المدينة الأمريكيَّة وتأثيرها العالميّ؛ فالكارثة في المدينة الأمريكيَّة هي كارثة عالميَّة، في خط سرديّ بصريّ وخِطابيّ، يبدو أقرب ما يكون إلى الخيال منه إلى الواقع، للوصول بالمشاهد لحظة المشاهدة إلى أقصى درجات الارتياب والشكّ والتشكُّك، الذي يخدم بشكل أساسيّ في ترويج فكرة "لا معقوليَّة" الحدث، كجزء من محاولة إطالة مداه الزمني، تكريسا لديمومة "خِطاب" الكراهيَّة واسع التأثير. مع السماح بنشر قصص تهكميَّة تشكّك بموضوعيَّة الحدث من الأصل، كوسيلة تضليل، تضفي طابعا سينمائيَّا خياليَّا تشويقيَّا على هذا الحدث، (كما برز في مقال نُشر في أحد أعداد مجلة "التايمز" الأمريكيَّة، يؤكد على الشبه بين مجريات الحادثة وبين أحداث فيلم كينغ غونغ بطريقة ساخرة)([3])، الذي سعى إلى خلق صورة مشوهة لـ "الآخر"، كقصَّة وجريمة إرهابيَّة، بفعل هجوم إرهابيّ خارجيّ، على أحد معاقل الاقتصاد والثقافة والسياسة العالميّة، مفتتحة بذلك عصر "عولمة ميديا الإرهاب"، والتسجيلات السينمائيَّة للجريمة الإرهابيَّة، حيث يتحوّل الخوف والفزع إلى أداة ساديَّة للتلذذ بهدم القيم الأخلاقيَّة، والنواميس الطبيعيَّة للإنسان السويّ.

صورة مأخوذة من أحد الريبورتاجات، تُظهر فرار الناس بعيدا عن البرجين

لقد ظهر هذا الاتجاه التصويريّ الاحترافي في الجريمة الإرهابيَّة فيما بعد، خاصَّة في الأفلام التسجيليَّة واللّقطات المرعبة التي بثّتها الجماعات الإرهابيَّة لجرائمها الوحشيَّة. وأخيرا في جريمة نيوزيلندا، عبر استخدام الكاميرا المثبتة على البندقيَّة. وفي جميع تلك الحالات، تم توظيف مجموعة من أكثر التقنيَّات السينمائيَّة والتسجيليَّة إدهاشا وإرعابا، ومن أكثرها إثارة لـ "عاصفة الأدرينالين"، التي تهدف في الأساس إلى إفقاد المشاهد توازنه العقليّ والنفسيّ، خاصَّة إذا ما أدرك المُشاهد أنَّ المَشاهد المبثوثة حقيقيّة وواقعيَّة.

صورة مأخوذة من الشريط المصور لجريمة نيوزيلندا عام (2019)، الذي تمَّ بثّه على مواقع التواصل الاجتماعيّ، حيث تظهر بندقيَّة المجرم، وهو يتقدم باتجاه مدخل أحد المسجدين، قبل لحظات من بداية اقتراف الجريمة.

وعلى الرغم من أنَّ صورتي "الإرهابيّ"، و"الإرهاب" الدينيّ عموما، تم إنتاجهما سينمائيَّا قبل أن يُولدا واقعا وممارسة على الأرض بعقود عديدة، إلا أنَّ هذه الجريمة كانت حدثا مفتاحيَّا مؤسّسا في سياسات "الرأسماليَّة المتوحشة" في العالم، في عصر "عولمة الإرهاب"، المستند أساسا على توظيف "الفنّ المعاصر"، ذي الصبغة العالميَّة، من سينما، وفيديو، وتصوير، وتجهيز، وسواها من التقنيَّات السينمائيَّة والمسرحيَّة، التي غزت بدورها حقل "الفنّ التشكيليّ" المعاصر، بغية الإسهام في انتشارها وترويجها وترسيخها في الأذهان رمزيَّا، مستفيدة ممّا يوفره "الفنّ المعاصر" من إمكانيَّة شحن الحدث، أو المادة البصريّة، أو الموضوع الذي يمّ تناوله فنيَّا بأبعاد رمزيَّة. فضلا عن مقدرته على "مسرحة الحدث"([4])؛ أي تحويله إلى واقع سيميائيّ "سياقيّ" و"تداوليّ" حيّ، قابل للتمييز الدلاليّ والمفهوميّ؛ فضلا عن تهيئته لعمليَّة "التلقي" المباشر بدون وسيط، خاصَّة إذا ما تمّ إرفاق المواد العينيَّة المعروضة، بتقنيَّات صوتيَّة وحركيَّة وبصريَّة ذات تأثير عاطفيّ ورمزيّ عالٍ، وهي مواد باتت متوفّرة، وفي متناول اليد وبأثمان مقبولة، تمكّنها من محاكاة ومداعبة خيال المشاهد أو "المُتلقّي". وبالتالي، فـ"التلاعب" والتحكّم سيميائيَّا بـ "الحقل الدلاليّ"، أو "منظومة التمثّلات"، بتعبير الفيلسوف الفرنسي لويس ألتوسير (Louis Althusser)([5])، التي تنتظم فيها وتحكمها وتوجّهها، وتنساب فيها دلالات المواد المستخدمة في العروض التشكيليَّة، كما ينساب الدم في العروق، في ما يُعرف باسم "سيرورة إنتاج العلامة"، بالمصطلح التقنيّ البيرسيّ، التي لا تقتصر على "اللغة" فحسب. وما يترتب عليها من "سيرورة إنتاج الدلالة"، بمصطلح الباحث في السيميائيَّات المغربيّ سعيد بنكراد، كفعل تابع([6]).

بذلك تدخل "دلالة" تلك المواد في سلسلة من التحويرات المتتالية، متجاوزة دلالتها الأصليَّة، المرتبطة بحالتها الوظيفيَّة الأولى، في السياق السياسيّ والثقافيّ والاجتماعيّ والتاريخيّ الذي أنتجها، محوّلة إيَّاها من مستوى خِطابيّ أوليّ ظاهر، إلى مستوى خِطابيّ ثانٍ وثالث مستتر، بحسب نجاح تلك المواد في صنع أشكال متفاوتة من "التضاد والتناقض" مع حالتها الأصليَّة، عبر الانتقال من حالة الالتحام والانكشاف على الرموز الحياتيَّة التي ترتبط بها؛ من النواحي التاريخيَّة والثقافيَّة والاجتماعيَّة والسياسيَّة والاقتصاديَّة والأخلاقيَّة والقيميَّة العامَّة، إلى حالة من "التنافر الدلاليّ" مع ماضيها الدلاليّ، وصولا إلى حالة "الانفصال الدلاليّ" الكليّ، الذي يُنتج أشكالا مختلفة من "التشوّه الدلاليّ"، الكامل للعلامات المختلفة، التي تُحدث بدورها أشكالا من التشوّه في التصوّرات الذهنيَّة والفكريَّة والأخلاقيَّة، على مستوى التلقّي الاجتماعيّ، خاصَّة وأنَّ المواد المعروضة تشكيليَّا مستلَّة من الواقع، وتستحضر بمجرد مشاهدتها تاريخها الدلاليّ السابق، في "تضاد وتناقض" مع دلالتها الجديدة، الذي يسبّبه واقعها التشكيليّ والبصريّ والوظيفيّ الجديد، الذي يشحنها رمزيَّا بدلالة جديدة. وهي مواد عادة ما يتم توظيفها تداوليَّا في إطار وظيفيّ ورمزيّ جديد.

إنَّ هذه الحالة تمكّننا من الحديث عن خلق مفهوم ومصطلح، بل و"حقل" نظريّ وبحثيّ تشكيليّ جديد، سيطلق عليه كاتب هذه السطور مصطلح "سيميولوجيا الإرهاب" (Semiology of Terrorism, fr.: Sémiologie du Terrorisme)، في المشهد التشكيليّ العربيّ والإسلاميّ والعالميّ المعاصر، معنيٌّ بتفكيك الآليَّات السيميائيَّة التي هدفت إلى بناء وإنتاج مجموعة من التصوُّرات، والصور الذهنيَّة والثقافيَّة والعاطفيَّة النمطيَّة المشوَّهة عن "الثقافة العربيَّة الإسلاميَّة"، عملت على ربطها بمفهوميّ "الإرهاب"، و"رهاب الإسلام"، بشكل أصبح من العسير تفكيكها، بوصفه حقلا جديدا يحتاج إلى مزيد من البحث للكشف عن خباياه، وما يستتر منه عن أعيننا.

إنَّ توظيف مفهوميّ "الإرهاب" و"رهاب الإسلام"، في الفنّ التشكيليّ والبصريّ المعاصر، بكل ما يحملانه من أبعاد تضليليَّة وأيديولوجيَّة "عنصريَّة"، واضحة المعالم، يأتي في سياق محاولة "شيطنة" العربيّ والمسلم، بغية خلق "نقيض داخليّ"، أو "آخريَّة داخليَّة" في المجتمعات الغربيَّة عموما، وفي مجتمعات "الرأسماليَّة المتوحشة" بشكل خاص، وذلك من خلال شحن هذا "النقيض الداخليّ" بدلالات من "الهجنة الثقافيَّة" العدوانيَّة، (كغوريلا كينغ غونغ الهجينة)، التي يتم فيها تشويه صورة ذلك "النقيض الداخليّ"، إلى أقصى درجة، بأدوات "الرأسماليَّة المتوحشة" و"الإمبرياليَّة الثقافيَّة" نفسها، خاصَّة وأنَّها تُعدُّ سوقاً كونيَّة مزدهرة لما يُسمَّى باسم "السلع الرمزيَّة"([7])، بحسب الفيلسوف الفرنسي بيير بورديو (Pierre Bourdieu)، وسوقا لـ "السلع الثقافيَّة" بشكل عام، وهي نفس الأدوات التي تم توظيفها سابقا، لترويض مستعمراتها السابقة؛ أي "نقيضها الخارجي"، الذي خلقته في الحقبة الاستعماريَّة، لتحشيد جبهتها الداخليَّة، ومنها أداة "الفنّ التشكيليّ المعاصر"، الذي طالما كان مجالا واسعا لتحقير وشيطنة كل ثقافة تخرج عن النطاق الثقافيّ للحضارة الغربيَّة الحديثة والمعاصرة.

لقطة من فيلم كينغ غونغ، يُلاحظ تركّز الأنظار إلى الأعلى، بينما الناس في حالة ترقب وقلق

إنَّ هذه الصورة المضلّلة وعالية التشويه لـ "النقيض" أو لـ "الآخر"، الذي أراد الغرب، بالاستناد إليها، تحديد الهويَّة الجديدة "المعولمة" للإنسان "المعاصر"، التي لا علامة فارقة تميّزها، سوى (أن يكون معنا)، بتعبير جورج بوش الابن، تبقى مجالات اشتغالها، أرضيَّة خصبة للتستُّر خلف ركام من "الخِطابات" المضلّلة، التي ما فتئت المؤسَّسات الغربيَّة، والعربيَّة المدعومة من الغرب، في ترويجها عن العربيّ والمسلم، خاصَّة في حقل "الفنّ التشكيليّ" في الوطن العربيّ والعالم الاسلاميّ، الذي يزخر بأعمالٍ تواطأت إلى حد كبير مع مفهوميّ "الإرهاب" و"رهاب الإسلام"، بقصد أو دون قصد، معطية مشروعيَّة لأشكال مختلفة من التحوير الدلاليّ لـ "العلامة التشكيليَّة" في الفنّ المعاصر، التي عادة ما تُستقى بشكل مباشر من الموروث الثقافيّ العربيّ والإسلاميّ، ما يسمح للفنَّان بتشويه دلالتها. وبالتالي استخدامها كأدوات ترهيب ثقافيّ متحركة وتلقائيَّة ويوميَّة لتغذية "العنصريَّة" الثقافيَّة الغربيَّة بكافة أشكالها، ابتداء من الحجاب الشائع اجتماعيَّا في المجتمعات العربيّة، وصولا إلى الخطّ، والحنّاء والوشم وفنون الجسد عامَّة، وكل ما يمكن أن يُوظّف تشكيليَّا من الناحية الدلاليَّة والرمزيَّة، بما فيها الأفكار والتوجهات الإيمانيَّة والقيميَّة العامَّة، لتشكّل مدخلا لتشويه "الحقل الدلاليّ" الذي تنساب فيه رموز ومظاهر الثقافة العربيَّة والإسلاميَّة الاجتماعيّة الحديثة برمّتها.

شيرين نشأت، من مجموعة (Facing History)، متحف هيرشورن، واشنطن

كل تلك الأدوات السيميائيَّة والخِطابيَّة تم توظيفها لتغذية هذه النزعة الجديدة للعنصريَّة الغربيَّة الثقافيَّة المعولمة، كما تمَّ توظيفها لتغذية كل طرح عنصريّ يرفد هذا الاتجاه، بعدد لا نهائي من التصوُّرات المشوَّهة، التي باتت سائدة في المجتمعات العربيَّة، وغدت مظاهرها بارزة للعيان في أقاصي الأرض شرقا وغرابا، خاصّة في المجتمعات التي تحتوي أقليّات إسلاميَّة.

رائد إبراهيم، "الحياة الآخرة"، تجهيز، النمسا، (2010)

يُعتبر العبث بـ "الحقل الدلاليّ" السيميائيّ للثقافة العربيَّة الإسلاميَّة هو الأساس في رسم ملامح "سيميولوجيا الإرهاب" و"رهاب الإسلام

إنَّ المتفحص للمشهد التشكيليّ في الوطن العربيّ، يكاد يتلمَّس ملامح استراتيجيَّة خِطابيَّة خفيَّة، تخفيها أعمال الفنان العربيّ والمسلم عموما، من الإيرانيَّة شيرين نشأت، إلى اللبنانيّ أكرم زعتري، وصولا للفلسطينيّ الأردنيّ رائد إبراهيم، وغيرهم الكثير، لجهة صعود ملامح من الموروث العربيّ والإسلاميّ في الأعمال المعاصرة، سواء ما تعلّق منها بجماليَّات هذا الموروث، ومظاهر بهجيته وتميُّزه، أو بمناخاته الخِطابيَّة، التي أصبحت منهلا لكل من يحاول تشويه صورة العرب والإسلام، خاصّة تلك التي وُظفت إنشائيَّا في تعارض مع طبيعتها ودلالتها الأصليَّة، فضلا عن التعارض مع "حالتها الوظيفيَّة" الأساسيَّة، التي خدمت المجتمع، وأكسبته بعض مظاهر فرادته، على المستويات الاجتماعيّة والثقافيّة والسياسيَّة العامَّة، محدثة إرباكا في "الحقل الدلاليّ"، الذي يسبح فيه ذلك الموروث.

أكرم زعتري، "سكريبت"، مركز "أكسفورد الفن الحديث"، لندن، 2019

وعليه، فقد أصبح "الحقل الدلاليّ" الذي تسبح فيه تلك الموروثات، التي تحوّلت بدورها إلى "علامات" تشكيليَّة، تعاني ما تعانيه العلامات الأخرى من "سيرورة إنتاج العلامة"، مجالا خصبا للتشويش و"التشويه الدلاليّ" للموروث الثقافيّ العربيّ والإسلاميّ، من خلال أطروحات الفنّ التشكيليّ المعاصر في العالمين العربيّ والإسلاميّ، وهو حقل تنساب فيه ومن خلاله إلى وجدان كل عربيّ ومسلم كثير من القيم وأخلاقيَّات "الخِطاب" الإسلاميّ الإنسانيّ في عمقه.

على مستوى سياسيّ آخر، فقد أسهم في تشويه "الحقل الدلاليّ" لـ "الثقافة العربية الإسلاميَّة"، صعود "الخِطاب الإسلامويّ"، و"خطاب الإسلام السياسيّ" في العالم العربيّ، العابر للقوميَّات والكيانات والدول الوطنيَّة، خاصّة أعقاب هزيمة يونيو (حزيران) عام (1967)، الذي شُحن بدوره بمظاهر مختلفة من النزعة الثقافيَّة الغربيَّة العنصريَّة الحديثة، التي طالما سعت إلى شيطنة وتشويه ثقافة الآخر، وما رافقها من طرح لبعض المظاهر السطحيَّة لـ "الإسلام" الحنيف، وترويجها كـ "حلّ" وحيد لمشاكل "الأمَّة" الإسلاميَّة، وللعالم أجمع، في حقبة "ما بعد الحداثة"، في تجاوز لكثير من العقبات الموضوعيَّة والماديَّة. فضلا عن تجاهل الخصوصيَّات الوطنيَّة، وما تفرضها "الدولة الوطنيَّة" العربيَّة، التي حاولت صهر تناقضاتها في خِطاب ثقافيّ وحدويّ. مسهمة في انهيار الأيديولوجيّات، وتعاظم النزعات التفتيتيَّة الداخليَّة في المجتمعات كافَّة، لتنساب في حالة من الصراع الداخليّ، بين الشيء ونقيضة، وبين الفكرة ونقيضها، في حالة من تعايش "الأضداد"، تصبح هي الحالة المحركة للسوق الثقافيّة، التي تغذيها منتجات ثقافيّة عنصريَّة متطرفة، لا تخفي تحيزها وتناقضها الداخليّ، وجدت في الفنّ التشكيليّ المعاصر ضالتها.

هكذا تكوَّن "حقل دلاليّ" إسلامويّ، يتغذّى على مفهوميّ "الإرهاب" و"رهاب الإسلام"، استُعمل داخليَّا لتشويه كل قيمة جمالية وأخلاقيَّة حاول الإسلام ترسيخها كرسالة إنسانيَّة، تحمل مظاهر التسامح العالميّ. فضلا عن استعماله كوسيلة لتثوير كثير من التناقضات التي حاولت الدولة الوطنيَّة في العالم العربيّ تطويعها بالترهيب والترغيب. وتاليا استُعمل ذلك "الحقل" في تمييع الحدود الفاصلة بين الواقعيّ والمتخيَّل، وبين الماضي الغابر والواقع المأزوم، دكَّا لركائز حضاريَّة وثقافيَّة واجتماعيَّة حاول الإسلام ترسيخها، خاصَّة تلك التي وظّفتها "الدولة الوطنيَّة" الحديثة في العالم العربي، في محاولة لترسيخ عوامل ثباتها ووحدتها الأيديولوجيَّة، ردًّا على ارتفاع وتيرة حضور "الخِطاب الإسلامويّ"، في تعارض مع كلا الخِطابين العروبيّ والوطنيّ، في تجليهما الثقافيّ والسياسيّ والاجتماعيّ والتاريخيّ. وإلا كيف يمكن إقناع "انتحاريّ" بتفجير نفسه في سوق يرتاده الفقراء أمثاله، دون تشويه لهذا "الحقل الدلاليّ"، الذي طالما أمدَّ الحضارة العربيَّة الإسلاميَّة، بل والبشريّة جمعاء، بكثير من جمالياتها وعوامل خلودها واستمراريّتها؟

من هذا المنطلق، يُعتبر العبث بـ "الحقل الدلاليّ" السيميائيّ للثقافة العربيَّة الإسلاميَّة، الذي أصبح جزءا من "الجينات" الثقافيَّة لكل عربيّ ومسلم، ابتداء من لغته التي طالما اعتبرت مصدرا لقداسة ثقافته، وحقلا إعجازيَّا لنبوُّته ونبوءته الحضاريَّة، وصولا إلى المتخيل الدينيّ و"القرآني"، الذي تحوّل إلى حقل لشيطنة كل مسلم وعربيّ في المشهد التشكيليّ العربيّ الراهن، هو الأساس في رسم ملامح "سيميولوجيا الإرهاب"، و"رهاب الإسلام"، الذي تمّ العمل على تطويره وإنتاجه في دوائر ثقافيَّة غربيَّة، وبعقول وأيدي عربيَّة في الغالب، في موجة "الاستشراق الجديد"، الذي أصبح الفنّ التشكيليّ المعاصر في الوطن العربيّ أحد المداخل الأساسيَّة له.

إنَّ هذه المقدمة الأساسيَّة التي أدعو فيها إلى إنشاء "حقل" نظريّ تقنيّ جديد باسم "سيميولوجيا الإرهاب"، هي ضرورة نظريّة وبحثيَّة أساسيَّة، لاستيعاب ما يجري حولنا، وكمدخل لفهم كثير من الأعمال التشكيليَّة والفنيَّة المعاصرة في الوطن العربيَّ وخارجه، التي علا شأن أصحابها، دون أن نعرف المبرر الإبداعيّ الحقيقيّ الخِطابي لهذا العلو، ليس بوصفها منجزات "إبداعيَّة" تستلزم كل هذا التبجيل، كما هو رائج في مجتمعاتنا، وفي الأسواق الفنيَّة الناشئة فيها للمنتجات التشكيليَّة الحديثة والمعاصرة، ولكن بوصفها "خِطابات"، تتحمل بدورها جانبا أساسيَّا من مآلات الوضع العربيّ والإسلاميّ الراهن، لجهة تواطؤها المقصود وغير المقصود مع "الخِطاب" الثقافيّ والسياسيّ الغربيّ التحريضيّ، الذي تحوّل عبره العربيّ والمسلم إلى "إرهابيّ"، لمجرد دخوله مسجدا للصلاة، أو ارتداء فتياته الحجاب، أو عدم السلام باليد، وغيرها من الممارسات الدينيَّة والثقافيَّة والاجتماعيَّة العربيَّة والإسلاميَّة، التي يجب أن يُنظر إليها في إطار الخصوصيَّة الثقافيَّة التي يتبناها المجتمع الإسلاميّ، خارج الانحياز العنصريّ الثقافيّ ضدّها.


[1] نشر هذا المقال في مجلة ذوات الصادرة عن مؤسسة مؤمنون بلا حدود، عدد 57

[2] فيديو ساخر بعنوان: "9\11 كينغ كونغ والطائرات" (9/11 - KING KONG AND THE AIRPLANES)، مدة الفيديو 5: 29 د.، تم التحميل على موقع اليوتيوب بواسطة قناة (berlinausdermatrix)، تاريخ النشر: 12‏/10‏/2013، تاريخ الزيارة: 3\4\2019، الساعة 16: 45 بتوقيت عمَّان.

[3] Paul Moakley: article titled “The Story Behind TIME's Original 9/11 Cover”, Times Magazine, link: http://time.com/4484978/911-september-11-time-cover/, originally published in 10\9\2016. Date of visit: 3\4\2019, 17: 05 in Amman timing>

[4] Patrice Pavis: Dictionary of the theatre: terms, concepts, and analysis, University of Toronto Press, 1998, Toronto, p. 394

[5] لويس ألتوسير: مقالة بعنوان "الأيديولوجيا واللاشعور"، ترجمة مجلة "الكلمة"، موقع مجلة "الكلمة" الإلكتروني، منتدى "الكلمة للدراسات والأبحاث، قبرص، الرابط: http://www.kalema.net/v1/?rpt=604&art، تاريخ النشر: 2005، تاريخ الزيارة: 7\10\2017، الساعة 12: 05 بتوقيت بيروت.

[6] سعيد بنكراد: مقال بعنوان "السميوزيس والقراءة والتأويل"، موقع سعيد بنكراد، الرابط: http://saidbengrad.free.fr/ar/semiolec.htm، تاريخ النشر: غير محدد، تاريخ الزيارة: 21\3\2019، الساعة 22: 30 بالتوقيت المحلي لمدينة عمَّان.

[7] بيير بورديو: قواعد الفن، ترجمة إبراهيم فتحي، الهيئة المصريَّة العامة للكتاب، القاهرة، الطبعة الأولى، 2013، ص. 199