علاقة الإسلام مع الأديان الأخرى في الأندلس


فئة :  مقالات

علاقة الإسلام مع الأديان الأخرى في الأندلس

دخل الإسلام بلاد الأندلس في رحلة دينية كبرى، كانت دعوة سلام هدفها نشر هذا الدين، وشرح هذه العقيدة لتكون واضحةً جليةً أمام كل الناس؛ فمن شاء منهم دخل في دين الله وله كافة حقوق المسلمين، ومن شاء منهم البقاء على دينه بقي عليه، كما يؤكد القرآن في أكثر من آية يقول تعالى: ﴿لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ﴾ (البقرة: 256)، ويقول تعالى: ﴿وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾ (الكهف: 29). لذا دخلت الحضارة الإسلامية بلاد الأندلس، وعاشت هناك ثمانية قرون، استطاعت خلالها أن تنشر نور العلم والدين والهداية في كلّ أوروبا، وصارت الأندلس بكاملها مدرسةً للعلم والفكر والثقافة، نهل منها الأوروبيون، وتشكلت مدارس لها خصائصها في الفنون والعلوم والآداب ومختلف ألوان الحضارة بوجهيها المادي والمعنوي، وكانت ـ بلا جدال ـ أساس النهضة الأوروبية الحديثة. منذ بدايات الفتح العربي للأندلس، اتسمت معاملة المسلمين لغيرهم من أهل البلاد المفتوحة بالتسامح التام. نلمس سياسة التسامح لهذه الأقليات في احترام الحكّام المسلمين للنصارى وغيرهم في المعاملات والمجاملات؛ فلم يتدخّل الحكّام في شيء من عقائدهم، وتُرك لهم يعيشون عيشتهم. ولقد تبنّى غير المسلمين ـ نتيجة لهذه السياسة ـ العادات الإسلامية واللغة العربية، ونبغ منهم أدباء وعلماء، ومنهم من وصل إلى أعلى مناصب الدولة. تتناول هذه الدراسة "علاقة الإسلام مع الأديان الأخرى في الأندلس"،سنرى من خلال البحث مظاهر التسامح من قِبَل الحكام المسلمين تجاه العناصر المستعربة، وماذا أدّت هذه السياسة من نتائج.

1ـ بقاء الكنائس والحرية في إقامة الشعائر الدينية :

منذ بدايات الفتح العربي للأندلس، اتسمت معاملة المسلمين لغيرهم من أهل البلاد المفتوحة بالتسامح التام الذي أشاد به غير المسلمين، وكثير من المؤرخين الأوربيين. تدلّنا على ذلك الأفواج التي دخلت الدين الإسلامي تباعاً برضا واختيار. والحقيقة أنّ المسلمين الأوّلين كانوا يجرون على تسامح كريم صادر عن إدراك فطري أنّ هذه السياسة المثلى لاجتذاب الناس إلى الإسلام وإقناعهم بعدالة الدولة الإسلامية. نلمس سياسة التسامح لهذه الأقليات في احترام الحكّام المسلمين للنصارى وغيرهم في المعاملات والمجاملات. ومن الواضح أنّ الحكّام لم يحاولوا إرغام الناس على دخول الإسلام؛ لأن هذا كان أسلوب العرب الذي جروا عليه في نشر الإسلام في كل بلد دخلوه؛ فلم يتدخّل الحكّام في شيء من عقائدهم، وتُرك لهم يعيشون عيشتهم. ويتمثل مظهر التسامح في بقاء اليهود والنصارى على دينهم آمنين مسرورين متمتعين بأقصى ما يمكن أن يحلموا به من الحقوق العامة لو كانوا مقيمين في مجتمع خاضع إلى مثل دينهم. فقد بقي بعضهم على دينه القديم وعاشوا بين المسلمين؛ حيث وجدوا كل ما يأملون من حرية وتسامح يفوق ما نجده في أي مجتمع معاصر اليوم، ولقد تبنّى غير المسلمين ـ نتيجة لهذه السياسة ـ العادات الإسلامية واللغة العربية. ولما هاجر بعض المسيحيين إلى فرنسا ليعيشوا في ظلال حكم مسيحي لم يصيروا أحسن حالاً من إخوانِهم النصارى بالأندلس.[1] كانت معاملة المسلمين لسكان الأندلس الأصليين معاملة كريمة، بأن أبقوا عليهم كنائسهم وأديرتِهم، ثم كفلت لهم الدولة حرية العقيدة، وحرية تأدية الطقوس والشعائر الدينية حسبما تقتضيه القواعد الكهنوتية،وكانوا يسمحون لأساقفتهم أن يَعْقِدوا مؤتمراتِهم الدينية، كمؤتمر أشْبيليَّة النصراني الذي عُقِد في سنة 782م، ومؤتمر قرطبة النصراني الذي عُقِد في سنة 852م؛ فكان لهذا أثر عميق في نفوسهم.[2] لم يكن حال النصارى في ظل المسلمين شديد الوطأة إذا هو قورن بما كانوا عليه من قبل، زد على ذلك أنّ العرب كانوا شديدي التسامح؛ فلم يضيقوا الخناق قط على أحد ما في الناحية الدينية، ولم يجحد النصارى جميلهم هذا، فكانوا راضين عنهم لتسامحهم واعتدالهم، وآثروا حكمهم على حكم القبائل الجرمانية والفرنجة؛ فانعدمت الثورات أو كادت طوال القرن الثامن للميلاد.[3] إن خير ما يمثل ذلك المجتمع السكني الخالي من الحدود بين الأقليات هو بقاء الكنائس داخل أسوار المدينة، بل في مركزها أيضاً، كما تشهد على ذلك كنيسة الملك المجاورة للمسجد الجامع في مدينة طليطلة.[4] ولقد كان حول قرطبة وحدها في فترة ما من أيام الحكم الإسلامي في الأندلس أكثر من خمسة عشر ديراً؛ فقد أبقى المسلمون جميع أماكن العبادة لغيرهم التي كانت قبل مجيئهم، ولم يُهدم منها إلاّ ما كان في المناطق التي دخل كافة أهلها في الإسلام، بل سمحوا لهم ببناء كنائس جديدة، وما يريدون من الأديرة، وكانوا يقرعون نواقيسهم.[5]

وتُعدُّ كنائس النصارى الكثيرة التي بَنَوْها أيام الحكم العربي من الأدلّة على احترام العرب لمعتقدات الأمم التي خضعت لسلطانِهم.[6] لقد تجمعت جاليات المستعربين في الأندلس حول الكنائس، وانضوت تحت إدارة أسقف لغرض مزاولة حياتها الدينية، وكانت في طليطلة إبان الحكم الإسلامي ست أبرشيات، في أقل تقدير، داخل أسوار المدينة، وأخريات مثلها في قرطبة في القرن التاسع الميلادي.[7] فكان لنصارى قرطبة أكثر من كنيسة يؤدون فيها شعائر دينهم، كما كان لهم في ظاهرها أديرة من أهمها دير أرملاط على طريق طليطلة، وكانت الأديرة والكنائس مما يروق للشعراء ارتيادها.[8] ظل النصارى أحراراً في إقامة شعائرهم الدينية، وبنوا عدّة أديرة جديدة، ولم تكن المناصب المسيحية الدينية سبباً في حرمان بعض المسيحيين من مناصبهم المدنية والاستعاضة عنهم بالمسلمين.

2ـ تقاضي النصارى بقانونِهم وتنظيمهم أنفسهم :

لما أزال العرب أمر القوط، أقاموا على أهل الذمة والنصارى رئيساً منهم، ولقبوه بقومس الأندلس أو زعيم نصارى الذمة؛ فصار القمامسة من أهل البلاد، فكأنّ الفتح الإسلامي ردّ إليهم اعتبارهم من هذه الناحية. وكان يدير أمور الجماعات المسيحية الكبيرة في المدن والأرياف رجال من نصارى عجم الأندلس يسمون بالقمامسة، وواحدهم قومسcomes ، وهو لقب كبير كان مقصورا،ً مثل ذلك على القوط. جعله العرب مسؤولاً أمامهم عن كل ما يتصل برعاياهم من النصارى، وأحاطوه بما يليق به من الاحترام. وكان أول القمامسة هو أرطباس. حقيقة أنّ هذا اللقب لم يظهر في النصوص إلا أيام عبد الرحمن الداخل، ولكن صورة الخبر الذي يتضمن هذا اللقب عند ابن القوطية تدل على أنّ الوظيفة كانت قديمة والجديد هو اللقب، وستستمرّ الوظيفة بهذا اللقب بعد ذلك.[9] تُركت للنصارى الحرية الواسعة في قضائهم الخاص؛ فكان لهم قاض يعرف بقاضي النصارى أو العجم. فقد ترك الحكّام نصارى الأندلس أحراراً ينظمون أمورهم على النحو الذي أرادوه، ما داموا على الطاعة يؤدّون ما عليهم من الأموال، فظلّوا يفصلون في أقضيتهم وفقاً للقانون القوطي القديم، وهو نظام مدني وإداري أيضاً؛ أي أنّ القائمين بأمره كانوا مسؤولين عن كل ما يتّصل بأمور رعاياهم فيما بين أنفسهم، كانوا يجمعون ضرائبهم، ويؤدونها إلى بيت المال نيابة عنهم، وظلّت علاقاتهم بكنائسهم وقساوستهم على ما كانت عليه قبل الفتح؛ فكانوا يشرفون على كنائسهم ويتولّون أمور قساوستها؛ أي أنّه وجد من أول الأمر نظامان إداريان جنباً إلى جنب: واحد للمسلمين وواحد للنصارى. أما في القضايا التي تقع بين المسلمين وغير المسلمين، فكان ينظر فيها قضاة المسلمين، ويحكمون فيها بشريعة الإسلام.[10] ثمة حقيقة مهمة تمكننا من تحليل ديمومة أقليات المستعربين في الأندلس، ودرجة التعايش المختلط فيها هي الصفة السياسية التي منحها الحكام المسلمون إلى المستعربين، والتي استطاع هؤلاء بفضلها الاحتفاظ بقوانينهم القوطية الغربية (El Fuero Juzgo) في المجال المدني، وبشرائع وطقوس الكنيسة الإسبانية القديمة في المجال المدني، كما تمتعت جالياتهم بحكم ذاتي كامل دون أن يتصادم ذلك مع القضاء الإسلامي.[11] فقد أمّن الحكّام المسلمون ـ من بقي على دينه من مسيحيين أو يهود ـ على أرواحهم وأملاكهم، ومنحوهم حرية العقيدة وإقامة الشعائر الدينية، كما تُركت للنصارى الحرية الواسعة في قضائهم الخاص، وتنظيم أنفسهم. وكانوا يعانون الخسف والظلم الاجتماعي ويصادرون في حرياتِهم ومعتقداتِهم وأموالهم...

شعر الأسبان بالفرق بين حكم العرب وحكم القوط، ورأوا من تسامح العرب وتفانيهم في نشر العدل بين الناس ما يثلج الفؤاد؛ فأحب الأسبان العرب محبة خالصة، ورأوا البون الشاسع بين الحضارة التي يحملها المسلمون، وما كان للقوط من الثقافة المتأخرة، وكانت أقرب إلى الهمجيّة. ولم يمض قرن حتى أخضعت القرى وكثرت المزارع، واتصل العمران، وتزاحم الناس على سكنى المدن، وأمست قرطبة عاصمة الخلافة الأندلسية كعواصم أوروبا اليوم، وأصبحت عاصمة علم وصناعة وفن وتجارة.[12] ونتيجة لهذه السياسة الحكيمة ساد الاستقرار ربوع هذه البلاد، وانتشر العدل، وبدأ الأهالي من العرب وغير العرب يستغلون خصوبة الأرض في الزراعة وقربها من شمال إفريقيا في التجارة. وإنّ قسماً كبيراً من الأهالي دخل الإسلام، واندرج في عداد أسر المولّدين الكبيرة في بلاد الأندلس. ونتيجة لهذا التسامح المثالي، وبكافة الأبعاد، اتخذ هؤلاء المسيحيون أو أكثرهم (وكذلك اليهود) العربية لغة لهم، وأتقنوها وجعلوا يكتبون بها أفضل مما يفعلون مع لغتهم اللاتينية، ودرسوا العلوم الإسلامية.كما أنّهم اتخذوا العادات الإسلامية، ومارسوا أفكار المسلمين وتقاليدهم في ملابِسهم ومطاعمهم ومشاربهم، وتسمّى كثير منهم بأسماء عربية، وأصبح يطلق عليهم اسم ((المُسْتَعْربين))، ونبغ منهم أدباء وعلماء، ومنهم من وصل إلى أعلى مناصب الدولة. كانت الأندلس عطاء صادقاً لقرون من التعايش والتسامح، مما جعلها نموذجاً لحوار الحضارات وتعايشها. ولقد رأينا من خلال هذه الدراسة علاقة الإسلام مع الأديان الأخرى في الأندلس.رأينا روح التسامح الذي كان سائداً من قبل المسلمين الفاتحين للأقليات النصرانية، والذين سمّوا بالمستعربين، منذ بدايات الفتح الإسلامي للأندلس، وأثر الثقافة العربية الإسلامية في الأقليات النصرانية. إذا كان الاستعراب يمثّل تأثير الثقافة العربية في غير المسلمين من الإسبان، فإنّ استمرار وجود هذه الأقلية المسيحية وسط المجتمع الإسلامي يدلّ على الطابع التعدّدي لهذا المجتمع دينياً واجتماعياً. وإنّ هذه التعددية دليل على تسامح الإسلام وقدرته على تمثل الديانات المختلفة، وإعادة إفرازها في مشروع حضاري هو الثقافة الأندلسية الإسلامية. أسأل الله تعالى أن يعيد للعرب والمسلمين سابق مجدهم وعزهم وسبقهم، إنّه على كل شيء قدير .


[1] الحجي، عبد الرحمن علي. (1389ه/ 1969م). أندلسيات (ط.1، ج. 2، ص. 24). بيروت: دار الإرشاد ـهاشم، زكريا. (1970م). فضل الحضارة الإسلامية والعربية على العالم (ص. 315). القاهرة: دار نَهضة مصر للنشر.

[2] هاشم (مرجع سابق). فضل الحضارة الإسلامية والعربية على العالم (ص. 397- 398) ــ

لوبون، غوستاف. (1384ه/ 1964م). حضارة العرب (ط. 4، ص 276-277). ترجمة عادل زُعَيْر. القاهرة: مطبعة عيسى البابي الحلبي وشركاه.

[3] دوزي، رينهارت. (1998م). المسلمون في الأندلس 1ج، »المسيحيون والمولدون« (ج. 1، ص 48). ترجمة وتعليق د. حسن حبشي. القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب.

[4] غوميز، مارغريتا لوبيز. (1999م). المستعربون: نقلة الحضارة الإسلامية في الأندلس، في سلمى الخضراء الجيوسي (محرر)، الحضارة العربية الإسلامية في الأندلس (ط. 2، ج. 1، ص 269). بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية.

[5]الحجي (مرجع سابق). أندلسيات (ج. 2، ص. 24-25- 26).

[6] لوبون (مرجع سابق). حضارة العرب (ص. 277).

[7] غوميز (مرجع سابق). المستعربون: نقلة الحضارة الإسلامية في الأندلس، في سلمى الخضراء الجيوسي (محرر)، الحضارة العربية الإسلامية في الأندلس (ج. 1، ص 270).

[8] عبد البديع، لطفي. (1958م). الإسلام في إسبانيا (ط. 1، ص 27). القاهرة: مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر.

[9] مؤنس، حسين. (1959م). فجر الأندلس (ص.447- 459-460).القاهرة: الشركة العربية للطباعة والنشر.

[10]المرجع السابق. ص 447.

[11] غوميز (مرجع سابق). المستعربون: نقلة الحضارة الإسلامية في الأندلس، في سلمى الخضراء الجيوسي (محرر)، الحضارة العربية الإسلامية في الأندلس (ج. 1، ص 270).

[12] محمد كرد علي: الإسلام والحضارة العربية، ج1، ص256.