فـي الانتصار لحرية الفكر


فئة :  مقالات

فـي الانتصار لحرية الفكر

عندما يتأمل المرء درجة سمك التقليد في المجتمعات العربية، يدرك جوانب من صعوبات المواجهات االنهضة العربية لمتواصلة منذ عقود من الزمن، بين دعاة الحرية والتحرر وحُماة التقليد والانكفاء. وفي المعارك التي تتواصل بأشكال عديدة في الحاضر العربي، ما يؤكد حدَّة الممانعة التي تمتلكها قوى التقليد في مجتمعنا، ويدعو القوى المتحررة إلى مزيد من البحث والمساهمة في بناء الدعائم المجتمعية والثقافية، القادرة على إسناد مجتمع الحريات المأمول، مجتمع المعرفة والتقدم.

بدأت المعركة مع التقليد في المجتمعات العربية منذ منتصف القرن 19، وساهم رواد النهضة العربية في فتح أبواب المستقبل أمام المجتمعات العربية، بانفتاحهم على المكاسب الفكرية، والسياسية التي تبلورت في الأزمنة الحديثة، وسعيهم لتمثلها وتوطين مبادئها داخل مجتمعاتنا.

إنّ الأدوار الرائدة التي دشّنتها منابر النهضويين العرب بروحها الموسوعية وأفقها المستقبلي، في نهاية القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، من قبيل المقتطف والجامعة والهلال على سبيل المثال لا الحصر، مَكَّنت الفكر العربي من الاقتراب من عوالم جديدة، وأتاحت له في الآن نفسه مراجعة قناعات مغلقة سائدة. إلاّ أنّ نمط تغلغل التقليد والتقاليد في تلافيف بنيات المجتمع والثقافة، لم يسمح بكسر أنماط الفكر العتيق وقوالبه السائدة، وذلك رغم صور المواجهة التي اتخذت في فكرنا المعاصر صورة معارك معبّرة عن حدّة الاصطدام الحاصل بين ثقافة الحداثة وبنيات التقليد الراسخة، من قبيل معركة شبلي الشميل مع النخب التي رفضت مبادرته المتعلقة بترجمة مقالات بوخنر في فلسفة النشوء والارتقاء. ومعركة فرح أنطون مع محمد عبده في موضوع الاضطهاد في الإسلام والمسيحية، وهي المعركة التي دارت على صفحات مجلّتي الجامعة والمنار في مطلع القرن العشرين. فقد فجّرت المعارك المذكورة قضايا متعدّدة، ووضعت الثقافة العربيّة أمام سؤال حرّيّة الفكر.

شكّلت المعطيات المترتّبة عن المعارك المشار إليها، ما يمكن إدراجه في باب البحث عن إيجاد طريق ملائم يضع مجتمعاتنا في قلب المكاسب التي بنتها التحولات المعرفيّة والتاريخيّة، في عالم يتغيّر بإيقاع سريع وجارف. ولأنّ التقليد متواصل في مجتمعنا بصور وآليّات جديدة، فإنّنا نفترض أنّ النخب الجديدة مدعوة إلى مواصلة حفر مجارٍ أخرى، لمغالبة صور الممانعة والانكفاء المتواصلين في حياتنا.

إنّ الإيمان بحتميّة كسر شوكة التقليد والانتصار عليه، قصد فتح الباب أمام مجتمع الحرية والتحرّر في مجتمعاتنا، يَهَبُ المؤمنين به طموحات وقدرات هائلة لمحاصرة جيوب التقليد التي تروم اليوم نشر معطيات شبكاتها التواصلية الجديدة وتعميمها، محاولة الاستفادة من مكاسب تقنيات الاتصال والتواصل.

لم تتوقّف معارك التحديث في الثقافة العربيّة، تحديث المجتمع والسياسة والذهنيّات، وقد اتخذت صورا جديدة في النصف الثاني من القرن الماضي، الأمر الذي ولَّد بالمقابل أشكالا أخرى من تحصُّن دعاة التقليد بخطابات إطلاقيّة في موضوع الهويّة والتاريخ. إلاّ أنّ اللافت للنظر في موضوع استمرار هيمنة التقليد، هو أنّ أغلب المعارك التي دارت وتدور في جبهتنا الثقافية، لم تنتج التراكم الذي يُطوِّر ويراكم الدعائم الفكريّة، القادرة على بناء نقط ارتكاز فكريّة حداثيّة، ومن هنا أهمّيّة مواصلة الجهود الثقافيّة والسياسيّة، بهدف إبداع مخارج لمشروعنا المُنْتَظر في التحديث الثقافي والسياسي.

وبناء عليه، فإنّنا نرى أنّ ترجمة نصّ روائي أو مسرحي، يتيح لنا فرصة الإحاطة بجوانب معينة من إشكالات التقليد وأدواره الكابحة داخل المجتمع، وهو يعادل الأدوار التي يمارسها التفكير النظري في معضلات التأخّر واستمرار التقليد داخل مجتمعاتنا. ولهذا السبب قرأت بعناية كبيرة ترجمة الأخ حمد العيسى مسرحيةَ وارث الريح لجيروم لرونس وروبرت لي (2005)، وأدرجتها لحظة متابعتي حواراتها، ضمن أفق تعميم آداب الحرية والحريات في الثقافة الفنّيّة العربيّة.

تقدّم المسرحيّة نصّا قويّا في موضوع حرّيّة الفكر داخل المجتمع الأمريكي، ومع أنّها مسرحية قصيرة، مقتبسة من واقع محاكمة أمريكيّة شهيرة، حصلت في منتصف عشرينيات القرن الماضي، إلاّ أنّ الحوار المنسوج في قلبها بكثير من القوّة والدقّة والإيحاء، يضع القارئ أمام موضوع موصول بأسئلة حرّيّة الفكر في المجتمعات العربية.

تثير القضيّة في مستوى الوقائع المسرودة في النصّ المسرحيّ المُتَرجم، معطيات تتعلق بنظريّة التطور، ومسألة تعارض أو عدم تعارض الدين مع قيم العلم. ويتّجه نسيج الحوار بين شخصيّاتها، إلى تناول معطيات تشير إلى الموضوعات المذكورة، إلاّ أنّ عمق كلّ ما سبق، يتجه كما بيّنّا إلى الإحاطة بقضية الحقّ في حرّيّة التفكير، وما يترتّب عنه من حقوق أخرى، موصولة بمسألة احترام مبدأ الحريات، والعمل على توسيعه وتعميمه داخل المجتمع العربي.

إنّ المهمّ في وقائع المحكمة والمُحاكمة التي تحوّلت إلى نصّ مسرحي بأسماء ورموز ومعطيات أخرى مختلفة عن مجريات الوقائع الفعلية، وتحوّلت بعد ذلك إلى شريطين سينمائيين، ثم شريطين تلفزيّين، هو منح النص سياقات فنية عديدة، والهدف كما تجلى لنا، هو تبيلغ رسالة قويّة بتوسط فضاءات وأساليب فنية مختلفة، يتعلق الأمر بتعميمِ قيمٍ تنتصر لحرية الفكر.

يتيح النصّ المترجم للقارئ العربي معاينة معارك وتصورات، موصولة بجوانب عديدة من أسئلته، وهو يواجه قضايا مماثلة. كما يتيح له توسيع دوائر الاقتراب من بعض إشكالات الفكر العربي بالوسائط الفنية، المساعدة في عمليّات تعميم القيم التي تحملها. وإذا كنّا على بيّنة من درجات رسوخ التقليد في ثقافتنا، استطعنا أن نتبيّن الأدوار التي يمكن أن تقوم بها نصوص مماثلة، وهي تعمل في أفق خلخلة سقف التقليد، بل تكسيره، تطلعا نحو مزيد من إطلاق مناخ الحريات في فضائنا الثقافي وتوسيعه.