قراءة في المشروع الفكري لمحمود محمّد طه (1909 ـ 1985)


فئة :  مقالات

قراءة في المشروع الفكري لمحمود محمّد طه (1909 ـ 1985)

 قراءة في المشروع الفكري لمحمود محمّد طه (1909 ـ 1985)[1]


لاشكّ في أنّ محمود محمّد طه (1909- 1985) يمثل علمًا بارزًا في تجديد الفكر الإسلامي ذلك أنّ الرجل صدع بآراء طريفة دفع حياته ثمنًا لها. غير أنّ فكر طه بقي مجهولاً نتيجة تضييق السلطتين السياسية والدينية عليه. ولهذا ارتأينا في هذا الفصل التعريف بسيرته الذاتية وتقديم عدد من كتبه المنشورة وتحليل بعض آرائه ونقدها.

نبذة عن حياة طه:

ولد محمود محمد طه في مدينة رفاعة وسط السودان سنة 1909 ويعود نسبه إلى قبيلة الركابية المنتسبة إلى الشيخ المتصوف حسن ود بليل. بدأ دراسته بتعليم القرآن واللغة العربية ثم التحق بالمدارس النظامية وانتقل سنة 1932 إلى كلية غردون، حيث درس الهندسة وتخرّج منها سنة 1936 مهندسًا، ليشتغل بمصلحة السكك الحديدية. أسس في أكتوبر 1945 مع ثلّة من رفاقه حزبًا سياسيًّا سمّي بالحزب الجمهوري وقد كان رئيسًا لهذا الحزب. وفي نوفمبر 1968 حوكم بتهمة الردة أمام المحكمة الشرعية غير أنّ الحكم لم ينفذ. عارض سياسة جعفر نميري وخاصة قوانين سبتمبر 1983 المسماة بقوانين الشريعة الإسلامية لذلك سرعان ما أعيدت محاكمته فاتّهم بالردّة، وأصدرت المحكمة في حقّه حكمًا بالإعدام تم تنفيذه في 18 يناير 1985. لطه عدّة كتابات غير أنّها لم تطبع إلا مؤخرًا فقد جمعت ابنته أسماء محمود محمد طه وتلميذه النور محمد حمد ثلاثة من كتبه، وتم نشرها في مؤلف جامع بعنوان "نحو مشروع مستقبلي للإسلام"، طبع في المركز الثقافي العربي ودار القرطاس سنة 2002. وقد تضمّن هذا الكتاب الرسالة الثانية من الإسلام صدرت طبعتها الأولى سنة 1967 ورسالة الصلاة وقد صدرت طبعتها الأولى سنة 1966 وتطوير شريعة الأحوال الشخصية (طبعة أولى سنة 1971).

نبذة عن بعض مؤلفاته:

سنكتفي في هذه اللمحة السريعة بتقديم كتابين لطه، وهما "رسالة الصلاة" و"تطوير شريعة الأحوال الشخصية"، وسنخصص باقي البحث لدراسة أفكاره الصادرة في كتابه الرئيس "الرسالة الثانية من الإسلام".

* رسالة الصلاة:

اهتم محمود محمد طه في هذا الكتاب بالصلاة مفهومًا وممارسة وقد ميّز بين صلاة التقليد وصلاة الأصالة أي الصلاة الحق حسب وجهة نظره؛ فالصلاة عنده حركة من الغفلة إلى الحضرة ومن البعد إلى القرب ومن الجهل إلى المعرفة فهي قرب من الله. والصلاة منهاج "نستطيع به النظر إلى داخلنا حتى نلتقي بأنفسنا" (رسالة الصلاة ص 196) إنّ فهم الصلاة عند طه أقرب إلى فهم المتصوّف. فليست الصلاة تكرارًا لحركات معيّنة وإنّما هي مكاشفة ربّانية. فالصلاة عنده وسيلة إلى الرضا بصورة لا لبس فيها فإذا ما أحسن العبد التوسل بوسيلة الصلاة أعانته على الدخول في مقام الرضا بالله وهي بذلك طريق إلى مقام العبودية، وهو مقام النفس الراضية المرضية. والعبودية كالربوبية لا نهاية لها.

* تطوير شريعة الأحوال الشخصية:

يندرج هذا الكتاب في إطار رؤية طه لتطوير الفكر الإسلامي، والتي يرى فيها ضرورة تطوير مكانة المرأة في جلّ المستويات. وينطلق طه من مسلمة فكرية عمادها فكرة التطور. فإذا كانت المرأة في القرن السابع قاصرة عن شأو الرجل، فإنّ هذا التصور ليس أبديًّا وإنّما هو مرحلة من مراحل التاريخ تنقضي بمرور الزمن. فالأصل في الأشياء هو الرشد. لذلك، فإنّ للقرن السابع أحكامه وهي أحكام مؤقتة وجب تغييرها بما يناسب تطور الحياة لتنسجم مع القرن العشرين. لذلك، دعا طه إلى ضرورة الإقرار بالمساواة بين الرجل والمرأة ونقد تعدد الزوجات، وأعاد النظر في قانون الزواج والطلاق. إنّ كتاب "تطوير شريعة الأحوال الشخصية" هو محاولة لزحزحة الأحكام القديمة ونقدها قصد تأسيس علاقة جديدة وأحكام متطورة تنهض بمكانة المرأة في الإسلام.

* "الرسالة الثانية من الإسلام":

نروم بعد هذا التقديم دراسة فكر طه وتتبع وجوه الطرافة، وسنتوسل كتابه "الرسالة الثانية من الإسلام" ذلك أنّنا نعتبره كتابًا عمدة ضمّن فيه طه رؤيته إلى الإسلام. وسنسعى في مستوى أول إلى تدبر المنطلقات الفكرية لطه قصد تبين آرائه. أما في المستوى الثاني، فإنّنا سنحاول تبين حدود موقفه.

I. نقد الرؤية الغربية:

إنّ تطوير التشريع الإسلامي عند طه يندرج ضمن مشروع أكبر هو تطوير الرؤية الإسلاميّة وذلك بإعادة قراءة الإسلام وفق متطلبات العصر لذلك فإنّ تطوير التشريع إن هو إلاّ جانب من تطوير الرؤية الإسلاميّة، غير أنّ تطوير هذه الرؤية عند طه يقترن بثنائية النقد وتأسيس البديل. والنقد عند طه كان منصبًّا على الرؤية الإسلاميّة السائدة كما الرؤية الغربية، باعتبارها الرؤية المهيمنة وحاملة لواء التقدم والحداثة.

وينطلق طه في نقد الرؤية الغربية من التمييز بين المدنيّة والحضارة، وهو ما يشفّ عنه قوله "المدنيّة غير الحضارة وهما لا يختلفان اختلاف نوع، وإنما يختلفان اختلاف مقدار. فالمدنيّة هي قمّة الهرم الاجتماعي والحضارة قاعدته" (الرسالة الثانية ص 87). ويتمثل هذا الاختلاف في المقدار كون المدنيّة تجمع بين "حياة الفكر وحياة الشعور" (الرسالة الثانية ص 87) وبعبارة أخرى المدنيّة تجمع جمعًا لبقًا بين المادة والروح فهي تهتم بالحياة المادية قدر اهتمامها واحتفائها بالحياة الروحية للأفراد فتقيم بذلك نظامًا أخلاقيًّا به يتمكن الفرد من "حسن التصرّف في الحريّة الفرديّة المطلقة" (الرسالة الثانية ص 87) فالمدنيّة عند طه هي الأخلاق "من غير أدنى ريب!!" (الرسالة الثانية ص 87).

ويرى طه أنّ الحضارة الغربية بهذا المعنى لم تصل إلى مرحلة المدنيّة فالحضارة، على الرغم من منجزاتها العلميّة المتطورة وتحقيق الرفاهة للإنسان، فإنّ موازين القيم فيها مختل. فالمدنيّة الغربية الحاضرة ذات وجهين "وجه حسن مشرق الحسن، ووجه دميم... فأمّا وجهها الحسن، فهو اقتدارها في ميدان الكشوف العلميّة، حيث أخذت تطوّع القوى المادية لإخصاب الحياة البشريّة وتستخدم الآلة لعون الإنسان: وأمّا وجهها الدميم، فهو عجزها عن السعي الرشيد إلى تحقيق السلام" (الرسالة الثانية ص 88). ويرجع طه فشل الحضارة الغربية في عدم الوصول إلى المدنيّة لقيامها على أسس نظرية فلسفية وعملية عجزت عن تقديم جواب سليم على حقيقة علاقة الفرد بالجماعة وعلاقة الفرد بالكون. فكيف تجلت علاقة الفرد بالجماعة وعلاقة الفرد بالكون في الرؤية الغربية من وجهة نظر طه؟

يرى طه أنّ الفلسفات الاجتماعيّة - دون استثناء - إلى حدود الشيوعية قد فشلت في إدراك "العلاقة الصحيحة "بين الفرد والجماعة، لأنّها اعتقدت أنّ إيلاء الفرد حرية مطلقة سيكون حتمًا ضدّ مصلحة الجماعة"؛ فهي قد ظنت أنّ الفرد إذا وجد الفرصة في ممارسة حريته، فإنّ نشاطه سيكون ضدّ مصلحة الجماعة، ولمّا كانت الجماعة أكثر من الفرد فإنّ مصلحتها أولى بالرعاية من مصلحته" (الرسالة الثانية ص 93). لذلك سلبت هذه الفلسفات - كلّها - الفرد حريته في سبيل صلاح الجماعة لكن هل يمكن جمع الفلسفات الغربية كلّها - على الرغم من الاختلاف والتعدد بل التناقض بينها - في خانة واحدة ونفي إقرارها بإعطاء الفرد الحرية المطلقة؟. وهل يمكن الإقرار بهذه الحقيقة في بسط سريع ومقتضب دون تفحص كل فلسفة تفحصًا علميًّا صارمًا؟

أمّا في خصوص إدراك الفلسفات لعلاقة الإنسان بالكون، فإنّ طه يرى أنّ عجزها أكبر من عجزها عن إدراك العلاقة بين الفرد والجماعة. ذلك أنّ الفلسفات قد زرعت في "خلد الإنسان أنّ مكانه من الكون مكان اللدد والخصومة" (الرسالة الثانية ص 97) فأصبح الاعتقاد السائد في الغرب يكمن في أنّ الإنسان في علاقة صراع دائمة مع الكون وما من اكتشاف علمي يُحقق إلاّ انتصار على الكون وليس فهمًا له. ولعلّ هذا المنطق هو الذي دفع بالفلسفة إلى اعتبار الدين مرحلة طفولة الإنسان، وما دام الإنسان في هذا العصر قد اكتشف أسرار الكون ووصل إلى القمّة فلم "يجد ذلك الكائن الذي يدعونه الله" (الرسالة الثانية ص 97).

ويمكن القول إنّ إهمال الفلسفات الغربية الجانب الروحي في الإنسان هو العنصر الذي يساهم في إفقار هذه الفلسفات فما استطاعت تشكيل تصوّر ينسجم فيه الفرد مع الجماعة من جهة ولا مع الكون من جهة أخرى. ولذلك، فإنّه من البديهي أن يربط طه أقصى رتب الضلال في فهم علاقة الإنسان بالكون بالشيوعية وكيف لا يفعل ذلك وقد اقترنت الشيوعية في الأذهان بالإلحاد وعدم إيلاء الدين كبير أهمية!. وبذلك يمكن التأكيد أنّ بحث طه عن البديل كان مقترنًا بنقد الرؤية الغربية على أنّه يجب القول إنّ هذا النقد كان ذاتيًّا بمعنى أنّ الرؤية الغربية كما صوّرها طه هي نظرته هو للغرب ولثقافة الغرب. وإذا كانت هذه الرؤية الغربية فاشلة في تأسيس سعادة الإنسان فما البديل وعلى أية أرضية يجب أن يتأسس؟

II. تأسيس البديل:

1- رؤية الإسلام لعلاقة الفرد بالجماعة:

إذا كان التصوّر الغربي لعلاقة الفرد بالجماعة - حسب طه - قائمًا على سيطرة الجماعة على الفرد فإنّ "الفرد في الإسلام هو الغاية" (الرسالة الثانية ص 99) وهذه الفردية هي "جوهر التكليف" و"مدار التشريف" (الرسالة الثانية ص 99) إذ لا جزاء يمكن أن يُقام إلاّ في إطار المسؤولية والحرية الفردية. ولتدعيم هذه الرؤية يستند طه إلى النص القرآني "ولاَ تَزرُ وَازرَةٌ وزْرَ أُخْرَى" و"مَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ومَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ". وانطلاقًا من هذه الآيات التي تنص على مسؤولية الإنسان ومبدأ الفردية في الحساب يرى طه أنّها خير دليل على الحرية الفردية المطلقة في الإسلام. وإذا كان الفرد هو الغاية في الإسلام فكيف يمكن أن يحلّ التعارض بين حاجة الفرد وحاجة الجماعة؟

لا يفك التعارض حسب طه إلاّ بفضل التوحيد الذي جاءت شريعته على مستويين:

ـ مستوى الفرد، وذلك يظهر في العبادات بما هي علاقة مباشرة بين الفرد وخالقه.

ـ مستوى الجماعة، ويظهر في تشريع المعاملات التي هي تنظيم محكم بين الفرد والجماعة.

 ولا يرى طه اختلافًا بين المستويين، بل هما متكاملان "فتشريع المعاملات تشريع عبادات في مستوى غليظ وتشريع العبادات تشريع معاملات في مستوى رفيع والمقرر أنّه ليس للعبادة قيمة إن لم تنعكس في معاملتك الجماعة" (الرسالة الثانية ص 100). وفي إطار هذا التوحيد تقوم حرية الجماعة شجرة ثمرتها الحرية الفردية.

2- علاقة الفرد بالكون في الإسلام:

إنّ الفرد في الإسلام لا يكون إلاّ حرًّا "فالإسلام يرى أنّ الأصل في الحرية الإطلاق" (الرسالة الثانية ص 101) وإنّما كان الإسلام مقرًّا بالحرية المطلقة لأنّه "لا يرى في ترقي الفرد حدًّا يقف عنده، فهو عنده (الإسلام) ساير من المحدود إلى المطلق" (الرسالة الثانية ص 101) فالإنسان في تطوره نحو الأرقى، إنما يسعى دوما إلى التخلص من القيود والخوف إلى الحرية المطلقة أو بالأحرى إلى العبودية. ولا يفهمنَّ من كلام طه المعنى الشائع للعبودية بما هي سلب للحرية، العبودية عند طه "كالربوبية لا تتناهى لم يحققها إلاّ الأنبياء" (رسالة الصلاة ص 245) ولعلّه لا يمكن أن نفهم مفهوم العبودية عند طه إلا بالرجوع إلى الفكر الصوفي الذي يمثل رافدًا من روافد فكر طه. فالعبودية تصبح بهذا المعنى اتحادًا بالله وخروجًا من الجهل إلى العلم، من الشقاء إلى السعادة. ولا تكون الحرية عند طه إلا واعية مقترنة بحسن التصرف، فإذا ما حاد الإنسان عن السلوك السويّ صودرت منه. وهذا الفهم استخلصه طه من قصّة طرد ﺁدم. فقد كان في البدء حرًّا حرية مطلقة حتى امتحنه الله ليرى كيفية تسييره لهذه الحرية، فلما حاد بالحرية عن الصراط ولم يحسن الاختيار سلبت منه. ومن هنا نخلص إلى أنّ علاقة المسلم بالكون تقوم على أساس مفهوم الاستخلاف أي تحمّل المسؤولية في الكون قصد تعميره ولا يكون الاستخلاف إلا بالحرية المطلقة التي نصّ عليها الإسلام دون الفلسفات الغربية ذلك أنّ الإسلام "سلام الإنسان مع نفسه" (الرسالة الثانية ص 138) ومع الكون ومع خالقه. فتقوم بذلك علاقة المسلم بالكون لا على الخصومة والمصاولة، وإنّما على الانسجام والتـآلف ليستحيل الكون فضاءً لمغامرة الإنسان يعمره تحقيقًا لخلافة الله على الأرض.

ويمكن من خلال هذا أن نستنتج أنّ الحلّ كامن في الإسلام حسب طه لكن ما المقصود بالإسلام؟ أهو الإسلام كما يمارس ويفهم الآن أم هو فهم مخصوص يحاول طه توضيحه؟ وكيف يمكن حسب هذا الفهم المخصوص أن نحقق إنسانية الإنسان وسلامه مع ذاته وكونه وخالقه؟

III.تطوير التشريع الإسلامي:

ليس المقصود بالإسلام عند طه الإسلام كما هو ممارس منذ قرون فهذا الإسلام له نتائج واضحة فهو لا يحقق حرية الإنسان ولا تصالحه مع الكون وليس ذلك عيبًا في الإسلام ولكن العيب يتمثل في عدم تطوير المسلمين له. فالإسلام كما يمارس هو في الحقيقة عدول عن غايات الرسالة وأهدافها النبيلة لذلك سعى طه إلى تأسيس فهم جديد للإسلام يختلف به عن الفهم السائد لغرض ملاءمة الإسلام مع روح العصر.

فما هو مفهوم طه للإسلام؟

1- مفهوم الإسلام عند طه:

للإسلام في نظر طه مفهومان: مفهوم عام وآخر خاص.

أ- المفهوم العام:

ينطلق طه لتبين هذا المفهوم العام من المعنى المعجمي لكلمة "إسلام" فـ"الإسلام في، الحقيقة، الانقياد والاستسلام ونعني بالحقيقة ما فطرت عليه الأشياء" (الرسالة الثانية ص 139). وهذا الانقياد لا يخصّ الإنسان فحسب، بل الكائنات والأشياء ما دام الانقياد والاستسلام للخالق جِبلّة وفطرة "فطرت عليها الأشياء" فيكون الإسلام بهذا المعنى العام "دين الخلائق جميعها في البداية وفي النهاية وفيما بين البداية والنهاية" (الرسالة الثانية ص 139) ويدعم طه حجيّة هذا الرأي بالاستناد إلى فهم مخصوص للآية القرآنية "ولَهُ أسْلَمَ مَنْ فِي السَمَاوَاتِ والأرْض طَوْعًا وكَرْهًا وإليهِ يَرْجِعُونَ" وينتهي طه إلى القول بأنّ "الإسلام كدين بدأ ظهوره بظهور الفرد البشري الأول" (الرسالة الثانية ص 142). ويبدو واضحًا من خلال هذه الفكرة رؤيته الإيمانية التمجيدية للإسلام إذ هو يخلط عن وعي أو عن غير وعي بين حاجة الإنسان إلى الظاهرة الدينية - باعتبارها ظاهرة كونية إنسانية - وبين الإسلام الذي هو دين من بين جملة أديان عرفها الإنسان.

ولعلّ ما به دعّم طه فكرته هذه فجعل "الإسلام دين الخلائق جميعها" استناده إلى مفهوم الفطــــرة. ولا يخفى ما لهذا المفهوم من إشكال والتباس فهو يبقى مفهومًا زئبقيًّا لا يمكن حدّه، إذ ما الفطرة؟ وهل يمكن الإقرار بأنّ جميع الناس يشتركون في فطرة واحدة؟ وهل لبقية الكائنات - الحيوان والنبات - فطرة؟

وإذا كان البشر يشتركون في الفطرة فكيف يمكننا أن نفهم الاختلاف بين الأديان؟ فهل اليهودي مجانب للفطرة، وهل المسيحي مناف للفطرة وهل لا فطرة للملحد؟

ب- المفهوم الخاص:

إذا كانت فكرة الاعتقاد بأنّ الإسلام "دين الخلائق" ممّا يشترك فيه طه مع الفكر التقليدي فإنّ طرافة فكره تكمن في "الفهم المخصوص أو الخاص للإسلام" والمقصود بالإسلام هنا الدين الذي جاء به محمد بن عبد الله. فأين تكمن الطرافة في هذا الفهم؟ يرى طه أنّ الرسالة المحمدية تنقسم إلى رسالتين:

  • الرسالة الأولى:

الرسالة الأولى "وهي التي وقع في حقها التبيين بالتشريع وهي رسالة المؤمنين" (الرسالة الثانية ص 149) وتخص هذه الرسالة فترة المدينة. ويستوقفنا في هذا التعريف مفهومان هما التشريع والمؤمنون. فالتشريع هو جملة الأحكام القرآنية الخاصة بتنظيم علاقة المسلم بالمسلم من جهة وبالآخر المختلف من جهة أخرى، فهو شريعة الله بمعنى "القَدْرُ من الدين الذي يخاطب الناس - عامة الناس - على قدر عقولهم" (الرسالة الثانية ص 73) بمعنى أنّ التشريع هو الخطاب الذي وجهه الله إلى الناس حتى يستوعبوه، فيكون بذلك مطابقًا لواقعهم الاجتماعي ومستواهم الثقافي. ويكمن الإشكال في تعريف طه في لفظ المؤمنين؛ إذ يختلف "الإيمان" عند طه عن "الإسلام" فهو يعتبر أنّ الناس ينطلقون من فهم خاطئ للإيمان والإسلام معتبرًا أنّ الإسلام أرقى مرتبة من الإيمان "فما كلّ مؤمن مسلم ولكن كلّ مسلم مؤمن" (الرسالة الثانية ص 149). وإنّما ساد هذا الغلط من "فهم خاطئ حسب طه لآية "قَالَتِ الأعْرَابُ آمنَّا قُلْ لَمْ تُؤمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أسْلَمْنَا ولَمَّا يَدْخُلِ الإيمَانُ قُلُوبَكُم "و "ما علموا (الناس) أنّ الأمر يحتاج إلى نظر" (الرسالة الثانية ص 83). وما نفهمه من خطاب طه أنّ أمّة الإسلام أرقى من أمّة الإيمان، وما به يَحتج إلى هذا الفهم حديث الإخوان "وا شوقاه لإخواني الذين لم يأتوا بعد" (الرسالة الثانية ص 170). لذلك، يؤكد طه أنّ الرسالة الأولى - المنزّلة في المدينة - كانت خاصة بالمؤمنين، والمهمّ عنده أنّ هذه الآيات المدنيّــــة إنّما نزلت وهي محكومـــــة بإطار تاريخي واجتماعــــي وثقافي لا يمكن تجاوزه بمعنى أنّها كانت تراعي شروط العمران وثقافة المؤمنين في ذلك الوقت وبذلك، فهو ينفي أن يكون الرقّ وتعدّد الزوجات والجهاد مثلاً أصلاً من أصول الإسلام. ما دامت الرسالة الأولى قد ذكرتهم. فهذه الرسالة إنما كانت تنزل وفق حاجات ذلك المجتمع وتحرص على أن لا تحدث فيه كبير تغيير. على أنّ الطريف في موقف طه أنّه لم يقف عند هذه الفكرة، ولو فعل ذلك لبقي ضمن الخطّ الإصلاحي - عبده والحدّاد مثلاً - وإنما أقرّ بضرورة تجاوز الرسالة الأولى - رسالة المؤمنين -لتطبيق الرسالة الثانية - رسالة المسلمين - ففيم تتمثل الرسالة الثانية؟

  • الرسالة الثانية:

انطلاقًا من الأسس الفكرية نفسها يؤكد طه أنّه إذا كان القرآن قد بُنِيَ على لحظتين: لحظة تخصّ المدينة وأخرى تخصّ مكة فإنّ الرسالة الأولى - وهي الآيات المدنية الخاصة بالمؤمنين - كانت تنسجم مع أحوال عمرانهم وبنيتهم الثقافية والفكرية. أمّا الرسالة الثانية من القرآن - فقد أرجئ العمل بها حتى يتهيأ العصر والإنسان القادر على استيعابها. لكن إذا كان الفصل بين الرسالتين قائمًا على الفصل بين الآيات المكية والمدنية فما المقياس الذي أقامه طه حتى نضمن أنّ آية ما مدنية وليست مكية؟ يقيم طه تصنيفه للآيات المكية والمدنية انطلاقًا من بنية الخطاب القرآني "فكل ما وقع فيه الخطاب بلفظ "يا أيّها الذين آمنوا" فهو مدني ما عدا ما كان من أمر سورة الحجّ وكل ما ورد فيه ذكر المنافقين؛ فهو مدني وكل ما جاء فيه ذكر الجهاد (...) فهو مدني" وأما المكيّ فهو "كلّ ما وقع فيه الخطاب بلفظ "يا أيّها النّاس" أو "يا بني آدم" (الرسالة الثانية ص 150). إنّ اختلاف المخاطبين هو المعيار التصنيفي الذي استند إليه طه ومن قبله القدامى للتفريق بين ما هو مدني وما هو مكيّ. لكن إلى أي حدّ يمكن الاطمئنان لصحة هذا التصنيف خاصة والاستثناءات موجودة في كلام طه نفسه؟ وهل يمكن حصر هذه الاستثناءات في حدود آيات محددة أم القضية أعمق من ذلك؟ وهل يمكن أصلاً الفصل في القرآن بين آياته المكية وآياته المدنية؟ وعلى الرغم ممّا يثيره معيار الفصل بين آيات القرآن من إشكاليات، فإنّ الرسالة الثانية على الإجمال "لم يقع في حقّها التفصيل" (الرسالة الثانية ص 167) فهي الآيات المكية التي تخاطب البشر كافة وتحمل قدرًا كبيرًا من التسامح "لاَ إكرَاهَ فِي الدِينِ" "اُدعُ إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بالحكمَةِ والمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وجَادِلهم بالتِي هي أحسنُ إنَّ رَبَّكَ أعْلَمُ بمَنْ أظَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وهُوَ أعْلَمُ بالمُهْتَدِينَ".

إنّ هذه الرسالة حسب طه كانت فوق وعي الجماعة الإسلامية الأولى، لذلك ما كان لها أن تتحقق والدليل على ذلك هجرة الرسول وتغيير خطاب الوحي. غير أنّ طه يرى أنّه قد آن لهذه الرسالة أن تتحقق في عصرنا الحالي لتطوّر العقليات. فقد تهيأت الظروف لظهور أمّة المسلمين و"أصبح واجبًا على ورثة الإسلام - على ورثة القرآن - أن يدعوا إلى الرسالة الثانية تبشيرًا بالعهد الجديد الذي أصبحت البشرية تشعر بالحاجة الملحة إليه" (الرسالة الثانية ص 75). إنّ تطوير الشريعة ومن ثمة الرؤية الإسلامية حسب طه لا يتم إلا بهذه الرسالة الثانية المنفتحة وليس الانتقال من الرسالة الأولى إلى الثانية إلاّ "انتقال من نصّ إلى نصّ" (الرسالة الثانية ص 78)، من نصّ فرع تمّ تطبيقه في عصر الصحابة إلى نصّ أصل قابل للانفتاح على كلّ العصور.

ويمكن القول إنّ هذه النظرة التطوّرية للدين قامت على شكل هرمي "قمته (الدين) عند الله حيث لا عند، وقاعدته عند الناس" (الرسالة الثانية ص 185) وتكون القاعدة هي الشريعة التي تنزّلت لتحقيق حاجيات البشر حسب طاقتهم في زمن معلوم أمّا قمة الهرم فهي فوق مستوى التحقيق "وسيظلّ الأفراد يتطورون في فهم الدين كلّما علموا المزيد من آيات الآفاق وآيات النفوس" (الرسالة الثانية ص 185). وإذا كانت قاعدة الدين موافقة للرسالة الأولى فإنّ طريق القمة ينطلق من الرسالة الثانية، حيث يرتقي الإنسان المراتب لفهم مقاصد الله وتحقيق الحرية الفردية المطلقة.

 IV. حدود رؤية طه:

حاولنا في ما تقدّم تحليل أفكار طه لنتبيّن المنطلقات الفكرية والأسس المعرفية التي اجترح منها أطروحته وسنخصص هذا الجزء لنتبيّن الحدود المعرفية لهذه الرؤية ونقصد بالحدود هنا "سقف الفكر" الذي لا يمكن تجاوزه إمّا لقصور في البنية الثقافية، وإمّا لحدود المعرفة في زمنه أو للضغوط الاجتماعية والسياسية في عصره، فالفكر يبقى دائمًا رهين عوامل معقّدة تسمح له بأن ينتج أفكارًا طريفة لكنها أيضًا قد تمنعه من الانفتاح على أطر فكرية أرحب. غير أنّه قبل تبين حدود هذا الفكر يجب أن نؤكد أنّ طه كان من جملة المفكرين الذين بفضل وعيهم وحسّهم النقدي كانوا "أفضل من التقط المؤشرات المنتشرة في مجتمعاتهم عن الاستعداد لتبني مقتضيات الحداثة ومن ضمنها المطالبة بتشريعات تقدمية مستمدة من القيم القرآنية ومحققة للمزيد مـــن الحرية والعدل" (عبد المجيد الشرفي، الإسلام والحداثة ص 159) فكان يعبر عن حيوية الإسلام، باعتباره دينًا حيًّا انطلاقًا من رؤية تطورية واضحــة ووعي عميق بتاريخية الأحكام التشريعية بل حتى القرآنية. كما كان طه مفعمًا بروح الحداثة مدرجًا مشروعه ضمن الأفق الإنساني فهو حسب مقدمة الكتاب "داعية لتشكيل وعي ديني جديد (كوزمولوجي)، وفقه تبرز قامات إنسانية جديدة تحررت من الخوف، ومن الكبت، وسلمت دواخلها" (الرسالة الثانية ص 42)، إلا أنّه على الرغم من هذا كلّه، فإنّ لهذا الفكر حدودًا يقف عندها وإذا ما كانت قيمة فكر طه تكمن في مراجعة السابق ونقده السائد وإقراره بالاختلاف والتطوّر فلا بدّ من ممارسة هذه القيم نفسها على هذا الفكر فما هي أهم الحدود المعرفية في فكر طه؟

1- نقده للفلسفة الغربية:

يقوم فكر طه أساسًا على جعل الإسلام دينًا كونيًّا وفلسفة إنسانية عامة لذلك فإنّ نقده لم يسلط على الوضع الإسلامي فحسب وإنّما تجاوزه لنقد الفلسفة الغربية بتياراتها المختلفة وقد اتسمت لهجة النقد عنده للغرب بالاتزان ومحاولة الغوص في خصائص الفكر الغربي فلا أثر في لغته لعبارات التكفير ولا السخط شأن قطب مثلاً الذي يرى في الغرب شرًّا كلَّه. ولعلّ هذا الاتزان جعله يتفطن إلى كثير من سلبيات المدنية الغربية التي سيطر فيها البعد الاستهلاكي والمادي على الجانب الروحي. وطه في تفطنه إلى هذه الظاهرة لا يختلف عن الكثير من المفكرين الحداثيين بل عن فلاسفة مدرسة "فرانكفورت" في تشديدهم على هذه النقطة، غير أنّ طه لم تكن له الأرضية الفلسفية المعرفية الكافية ليصل بنقده إلى حدود وعي هذه المدرسة فاقتصر على تأكيد الظاهرة دون البحث في أسبابها. ولعلّ هذا الحدّ - افتقار الأرضية الفلسفية - يتضح خاصة لما سلّط نقده على الفلسفات الاجتماعية الغربية، وأكد أنّها "أهدرت حرية الفرد في سبيل مصلحة الجماعة" (الرسالة الثانية ص 93). والحق أنّ هذا الحكم يتسم بالتسرع وعدم الموضوعية ذلك أنّ هذه الفلسفات قامت على الحداثة التي منحت الفرد الحرية المطلقة في المجال السياسي والاقتصادي وحتى الجنسي. ولعلّ إيلاء الفرد مكانة مهمّة في فلسفات الحداثة هو الذي ضمن للحضارة الغربية حركيتها وقدرتها الدؤوب على مراجعة ذاتها. إنّ سلبَ طه الفلسفات الغربية إقرارها بالحرية الفردية حكم لا يجد سنده في الواقع الغربي ومهما يكن في التطبيق من ثغرات فهذا لا ينفي أنّ الفلسفاتِ الغربية قامت أساسًا على مبدأ إيلاء الفرد كبير أهمية في شتى المجالات. كما أنّنا نعتقد أنّ نقد طه للفلسفات الأوروبية جملة يحتاج إلى مراجعة، ذلك أنّ هذه الفلسفات تختلف اختلافًا جوهريًّا في أسسها النظرية ومنطلقاتها المعرفية زد على ذلك أنّ الفرد مهما كان اطلاعه دقيقًا، فإّنه غير قادر على دراستها دراســـة شاملة اللّهم إلا إذا كانت قراءته لها سطحية غير نافذة إلى أعماقها. وإجمالاً يمكن القول إنّ طه على الرغم من تنبهه إلى بعض ثغرات المدنية الغربية، فإنّ نقده لم يسلم من الذاتية وعدم الموضوعية، ولعلّ هذه النظرة الذاتية كانت مرتهنة بحد من حدود فكر طه وهو عدم التخصص في الفلسفات للحكم عليها.

2- مقاربة طه وتطوير الشريعة:

أما في خصوص مقاربته الساعية إلى تطوير التشريع الإسلامي، فإنّنا نراها مشدودة إلى حدود أهمها:

- البقاء في إطار نصّي:

ينطلق طه دائمًا ليشرّع لكلامه من نصوص قرآنية وأحاديث نبوية، وحتى التطوير عنده "ليس قفزًا عبر الفضاء، ولا هو قول بالرأي الفجّ، وإنّما هو انتقال من نص إلى نص.." (الرسالة الثانية ص 78) وهو بذلك لا يختلف عن التيار الأصولي ولا السلفي، فالكلّ متحيّلٌ على النص يُقوّله ما يريد هو قوله. ويبدو هذا التعامل جليًّا عند طه فهو في إيراده للنصّ القرآني يتعامل معه تعاملاً ذاتيًّا يخدم القصد الذي يريده منه فلا نجد أحيانًا قرائن نصيّة ولا معنوية تدعم فهم هذه الآية أو تلك بل هو أحيانًا في تأويله يقرب إلى التأويل الصوفي. ولعلّ صلة طه بهذا الفكر واضحة من خلال تأويله لعديد الآي مثل تأويله للحروف "آلم، كهيعص.." (الرسالة الثانية ص 151) أو تفريقه بين الإيمان والإسلام ففهمه مخالف لصريح الآية لذلك يمكن القول إنّ فهمه كان ذاتيًّا خادمًا لأغراضه غير قائم على أسس علميّة دقيقة يفسر بها النص. أمّا تعامله مع نصوص الحديث فتتسم بعدم الشك في الأحاديث وعدم البحث عن صدقها أو وضعها من ذلك حديث "غربة الإسلام" يتعامل معه طه دون وعي نقدي ولا بحث عن صدقه أو عن دلالة وضعه خاصة وأنّه يعبّر عن الموقف المتشائم من الدنيا، ويرى في الدين خلاصًا وفي الدنيا فسادًا كلما ابتعدنا عن زمن "الإسلام الصافي". ولا يخلو تعامله مع الحديث من التأويل الذاتي الذي يخدم أغراضه.

- فكر الداعية:

إنّ هذا التعامل الذاتي مع النصوص وعدم دراستها دراسة علمية دقيقة كان ناجمًا عن أنّ طه كان "داعية"، وفكر الداعية ليس فكرًا نقديًّا يقوم على النقد والتشكيك والتمحيص، وإنّما يقوم على جلب الحجج للانتصار إلى موقف، وتغلب عليه النفعية المباشرة للخروج من مأزق الخصم كما أنّ فكر الداعية ليس موجهًا أساسًا إلى العقل بقدر ما يتوجه إلى العاطفة والوجدان. وفضلاً عن ذلك نلاحظ أنّ هذا الفكر تتحكم فيه النظرة التمجيدية للإسلام، فاعتبار طه أنّ الإسلام "هو المنقذ من الضلال" وإنّ كل الفلسفات الغربية فاشلة دليل على اعتقاده أنّ الإسلام هو الحقيقة وأنّ غيره من الأديان والفلسفات حياد عن الحقّ وبدعة يجب تصحيحها. وما إقرار طه بأنّ اللغة العربية "أكمل اللغات" (الرسالة الثانية ص 153) لأنّها لغة القرآن إلا دليل على هذا الفكر التمجيدي أو على هذا الحد الذي يعوق الفكر عن المقاربة العلمية والموضوعية.

- القول بالنسخ:

إنّ النفعية والتعامل الذاتي مع النصّ والنظرة التمجيدية تمثّل حدودًا مشتركة بين طه والفكر السلفي عمومًا - وإن بتفاوت - غير أنّ طرافة فكر طه تكمن في قوله بالنسخ ذلك أنّ طه يعتبر أنّ القرآن نَصَّ على أحكام تخصّ مجتمع المدينة في حين أنّ القرآن المكي هو قرآن يشمل عموم البشر لذلك فإنّنا لا بدّ أن نقيم تشريعنا الحالي على الطور المكي لنؤسس لمرحلة الإسلام الكوني لكن هل يجوز التفريق بين القرآنين؟

إنّنا نرى أنّه كما لا يجوز التعامل مع آيات الأحكام في معزل عن سياقها النصي والمرجعي فإنّه أيضًا لا يجوز الفصل بين القرآنين لأنّ قيمة الرسالة تكمن في وحدتها كما أنّنا نرى أنّ المقياس الذي حدده طه للفصل بين القرآنين قاصر على التمييز الدقيق بين الآيات المكية والمدنية. على الرغم من أنّ النسخ موقف ينفرد به طه فإنّنا نراه قريبًا من رأي الإصلاحيين في الأخذ ببعض ما في الرسالة المحمدية وترك بعضها الآخر.

الخاتمة:

إنّ فكر طه، وإن كانت تعوقه حدود عدّة، بقي، وإن أوهم موقفه بالجدّة، في دائرة الفكر السلفي الإصلاحي وإنّ قيمة فكره لا تكمن في النتائج التي توصل إليها ولا في تفطنه إلى أنّ القرآن ينطق به الرجال وإنّما تكمن في أنّه مارس المنهج التطوري ووصل به إلى أقصى ما تمكنه ثقافته غير آبهٍ بقديم قد تكرس ولا بسائدٍ قد أحكمَ السيطرة وقمعَ كلَّ جديدٍ حتى بالتصفية الجسدية.

بيبليوغرافيا:

أسلفنا أنّ السلطتين السياسية والدينية قد حجبتا فكر طه وحرصتا على أن تبقى كتبه مغمورة، لذلك لم تطبع وبقيت مجهولة لدى القارئ العربي، ولم ينشر فكره إلا بعد أن جمعت ابنته أسماء محمود محمد طه وتلميذه النور محمد ثلاثة من كتبهن وتمّ نشرها في كتاب جامع بعنوان "نحو مشروع مستقبلي للإسلام" طبع في المركز الثقافي العربي ودار قرطاس سنة 2002.

أما الدرسات المهتمة بفكر طه فهي ضئيلة، ونشير هنا إلى بعض الكتب التي درست فكر طه: فقد أشار عبد المجيد الشرفي إلى فكر طه في كتابين:

* الإسلام والحداثة، تونس، الدار التونسية للنشر ط 2، 1991

* الإسلام بين الرسالة والتاريخ، بيروت دار الطليعة ط 1، 2002

و عثرنا على دراسة لفكر طه نشرت أخيرًا.

* عبد الله الفكي البشير، صاحب الفهم الجديد للإسلام: محمود محمد طه والمثقفون قراءة في المواقف وتزوير التاريخ، القاهرة دار رؤية.


[1]- هذا البحث من مشروع بحثي بعنوان" أعلام التجديد في الفكر الإسلامي" أشرف عليه الدكتور بسام الجمل في إطار مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث.