قراءة في رؤية حمدي الشريف لأيديولوجيات تَثوير الدين


فئة :  قراءات في كتب

قراءة في رؤية حمدي الشريف لأيديولوجيات تَثوير الدين

 

إن لقراءة النصوص الدينية أنواعًا؛ فهناك القراءة الأخلاقية، والقراءة السياسية، والقراءة الاقتصادية، والقراءة الاجتماعية، وغيرها من أنواع القراءات، أو بعبارة أدق هناك تفسيرات وتأويلات متعددة للنصوص الدينية، فهناك التفسيرات الأخلاقية، والسياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، وكل هذه التفسيرات يمكن أن تتطور لتصبح تأويلات عندما يقتضي الأمر ذلك، وذلك لحدوث كثير من التغيرات في مختلف أوجه الحياة. ويُعوّل على هذه الطريقة كثير من الفلاسفة والمفكرين من ذوي المرجعيات الدينية، ويمكن الوقوف على كثير من هذه التفسيرات خلال قراءة كتاب "الدين والثورة بين لاهوت التحرير المسيحي واليسار الإسلامي المعاصر" للدكتور حمدي الشريف، والذي صدر عن دار "مصر العربية للنشر والتوزيع" عام (2016م).

فبالنسبة إلى مُؤلف الكتاب، فهو الدكتور "حمدي عبد الحميد الشريف"، وهو باحث وأكاديمي مصري، يتميز بنضجه العقلي، وثقافته الواسعة، ومثابرته العلمية، وكتاباته الرائعة، وهو من الشباب الباحثين الواعدين في الفلسفة السياسية، كما أنه علاوة على ذلك صاحب دراسات فلسفية عميقة، وطموح فكري، وجدية في البحث العلمي. وقد احتلت السياسة جانبًا مهمًا في كتاباته، انطلاقًا من تخصصه في الفلسفة السياسية، ومن هنا رَكّز اهتمامه على صياغة أفكاره في مؤلفات وأبحاث مستقلة، فاهتم منذ بداية حياته العلمية بمعالجة القضايا والمشكلات الفلسفية والسياسية برؤية خاصة في ضوء حركة ومسار النظام العالمي ومتغيراته، وربطها كذلك بهموم الواقع العربي الراهن، فجاءت كتاباته مشتبكة مع الواقع وليست كتابات أكاديمية نظرية بالمعنى الخالص؛ وهذا ما نلاحظه منذ اختياره لموضوع العدالة ليكون محورًا لدراسته في الماجستير قبيل اندلاع ثورة يناير بعام واحد محاولًا بلورة رؤية للعدالة في ضوء فلسفة "مايكل ولتـزر" الذي يُعدّ من أهم الفلاسفة المعاصرين اهتمامًا بهذه القضية. وعندما نجحت ثورة يناير في إسقاط النظام القديم، وبدأت دلائل انتكاستها تظهر بتدخل جماعة الإخوان لتغيير مسارها والانقضاض عليها، وفرض نزعتها التسلطية، والادعاء بأنها حركة ثورية، وأنه من دونها لما نجحت الثورة، اهتم "الشريف" ببحث إشكالية العلاقة بين الدين والثورة، ومن هنا جاء اختياره لموضوع رسالته للدكتوراه في (2013م)؛ ليبحث في جدلية العلاقة بين الدين والثورة في الفكر السياسي المعاصر، وهو موضوع دراستنا في هذا البحث.

وقد نشر "الشريف" العديد من الأبحاث والدراسات التي تناولت موضوعات على جانب كبير من الأهمية في الفكر الفلسفي والسياسي، منها كتبه: "فلسفة الكذب والخداع السياسي"، "مفهوم العدالة في فلسفة مايكل ولتـزر"، "الأسطورة والتاريخ في فلسفة هانز بلومنبرج"، "أزمة الرأسمالية وتحولات الخطاب الليبرالي"، "الخطاب السياسي بين التحالف والتصارع". ويطول بنا المقام لو تتبعنا كل ما كتبه من أبحاث ومقالات في الفكر الفلسفي بوجه عام، والفكر السياسي الغربي بوجه خاص، لكن اهتمامه الأساسي انصب في معظم أبحاثه على دراسة قضايا ومشكلات مثل الديمقراطية، والأيديولوجيا، والثورة، والعنف، والكذب والخداع السياسي، والأسطورة، والشر السياسي، وغيرها من القضايا التي ترتبط بواقعنا الاجتماعي والسياسي، وهو بهذا يعد من الباحثين القلائل الذين هم بمثابة قلب نابض بهموم مجتمعنا المصري والعربي وقضاياه ومشكلاته، والذين تنبئ دراساتهم وأبحاثهم عن مشروع فكري واضح المعالم ومحدد الرؤية والأبعاد.

أما في كتابه "الدين والثورة بين لاهوت التحرير المسيحي واليسار الإسلامي المعاصر" - موضوع دراستنا في هذا البحث - ففيه يعالج "الشريف" واحدة من أهم الإشكاليات الفكرية بشكل عام والإشكاليات السياسية المعاصرة بشكل خاص، ألا وهي إشكالية العلاقة بين الدين والثورة في ضوء أفكار تيارين من أهم التيارات السياسية والفكرية المعاصرة في العالمين الغربي والإسلامي، وهما: تيار "لاهوت التحرير المسيحي" وتيار "اليسار الإسلامي المعاصر". فبين الدين والثورة علاقة جدلية دينامية هيرمنيوطيقية تستدعي طرح عدة تساؤلات من قبيل: كيف يمكن أن يصبح الدين أداة للتغيير؟ وكيف يمكن له أن يكون باعثًا للثورات عند البعض، ويكون أداة تبريرية للظلم عند البعض الآخر؟

لا يغيب عن المدقق، وهو ما أشار إليه "الشريف" أن حجز الزاوية والمحرك الخفي لتلك التوجهات التأويلية في تفسير النصوص، هو "الأيديولوجيا"؛ فعندما ينظر المفكرون إلى النصوص الدينية، فإنهم يفسرونها ويؤولونها بما يتفق وأيديولوجياتهم، سواء كانوا يؤمنون بهذه الأيديولوجيات عن قناعة أو مفروضة عليهم من الخارج، أو بسبب موالاة ومحاباة لأهل السلطة أو خوف من اضطهاد...إلخ.

وقد سعى "الشريف" بشكل جاد إلى استقراء تاريخ الفكر السياسي بخصوص هذه القضية؛ لا بهدف السرد التاريخي لأبعادها المتشابكة، وإنما بغية كشف النقاب عن المقدمات التأسيسية والتطورات الفكرية الدينية التي تخلقت في ضوئها جدلية العلاقة بين الدين والثورة، في محاولة من جانبه للانتقال من التشكلات التاريخية لهذه العلاقة الجدلية إلى التأصيلات الفلسفية لها، ثم الانتقال من المقدمات الدينية التأسيسية إلى صياغاتها اللاهوتية المهيمنة عبر تاريخ الفكر الإنساني. وفي ضوء ذلك، عالج أصول التشكل التاريخي لتيار "لاهوت التحرير المسيحي"، مناقشًا الأطروحات الفكرية لأهم أعلامه، لينتقل بعد ذلك لدراسة "الرؤية الفكرية العامة لليسار الإسلامي المعاصر"، والوقوف على آراء وتوجهات مفكري هذا التيار، لينتهي بنا إلى تحديد أوجه الاتفاق والاختلاف بين التيارين. وفي كل هذا، حدد الشريف كل من: زمان، ومكان، وتيارات، وشخصيات موضوع بحثه، فمن الناحية الزمنية، فهو يحدد نطاق بحثه في الفكر السياسي المعاصر. أما من الناحية المكانية، فهو يركز بشكل خاص على العالم العربي والإسلامي ودول أمريكا اللاتينية، ولذا فقد حدد تيارين معاصرين، وهما: "تيار لاهوت التحرير المسيحي" وتيار "اليسار الإسلامي المعاصر"، كما حدد الشخصيات الرئيسة لكل تيار من هذين التيارين، فاختار كل من: "كاميلو توريس" Camilo Torres (1929 - 1966م)، و"جوستافو جوتييريز" Gustavo Gutiérrez، و"هلدَّر كامارا" Hélder Câmara كنماذج بارزة ومضيئة للتيار الأول، واختار كل من: "علي شريعتي"، و"محمود محمد طه"، و"حسن حنفي"، و"الإسلاميين التقدميين" كنماذج فكرية للتيار الثاني.

ويتضح اهتمام "الشريف" بمعالجة الإطار النظري والأصول التاريخية والفلسفية والدينية القديمة التي تعكس الأبعاد والأسس المختلفة والمتطورة في تأريخ جدلية العلاقة بين الدين والثورة، وهو أمر ضروري في هذا المجال؛ لأنه بدون التَعرُّف على هذا المدخل النظري والتاريخي والديني لإشكاليَّة العلاقة بين الدين والثورة، لا يمكن فهم ماهية هذه العلاقة وأبعادها وأوجهها المختلفة في فكرنا المعاصر، خاصة وأننا نجد صداها يتكرر مرارًا وتكرارًا في العالمين الغربي والعربي في حقب زمنيَّة مختلفة، كما لا يمكن الوقوف على نحو دقيق وشامل على آراء مفكري لاهوت التحرير المسيحي، واليسار الإسلامي المعاصر، وذلك لأن كلّا منهم نهلوا من ذلك المدخل كل بطريقته وبمنهجه، فطرحوا رؤيتهم وفقًا لخصوصيتهم الحضارية والدينية والفكرية وما تمر به مجتمعاتهم من جو تكثُر فيهِ التناقضات الصَارِخة التي لا يَقبلها عقل.

وعلى سبيل المثال، وكما يؤكد الشريف: "توَّلدَّت من رَحِم الماركسية نظريَّات وتيَّارات ثوريَّة في العالم المعاصر، وقد حاولت التأسيس لوجود إنساني جديد بشكل أكثر تحرّرًا، ولعل من أبرز هذه الفلسفات: تيار لاهوت التحرير المسيحي في أمريكا اللاتينية، وتيار اليسار الإسلامي المعاصر؛ فقد أسس هذان التياران لمجموعة من المفاهيم الفكرية والسياسية العملية الجديدة، في ضوء قراءة جديدة للنصوص الدينية، وحيث تستند هذه القراءة بشكل أساسي إلى الأبعاد والجوانب الثورية في الأديان، بهدف نقد مجتمعاتهم التي يعيشون فيها، وتحقيق مستقبل أفضل، ومن هنا فقد وجد العديد من اللاهوتيين في أمريكا اللاتينية ضالتهم في الماركسية، حيث وجدوا فيها تقاربا كبيرًا مع المسيحية في كثير من الأهداف، والتي من أهمها: مناهضة الظلم، والثورة ضد الفقر، والاستغلال، والاستعباد".([1]) ومن هنا وانطلاقًا من كون الماركسية تركز بشكل أساسي بالعمل الاجتماعي، والثورة على الرأسمالية التي تمثل سببًا رئيسًا في وجود الفوارق الاجتماعية، والتي ستؤدي بدورها إلى الاستغلال والظلم، فلا يتسنى بالتالي القضاء على هذه الأمراض إلا من خلال تدمير العلة الرئيسة في وجودها، ومثل هذه السلبيات التي جاءت الماركسية أساسًا لتعالجها كانت في واقع الأمر هي الأمراض الاجتماعية التي كانت تئن منها مجتمعات أمريكا اللاتينية طوال القرن العشرين.

في الفصل الأول من كتابه، وضع "الشريف" تعريفًا إجرائيًا لمفهوم "الثورة" Revolution، حيث يعتبرها "وسيلة للتغيير الراديكالي للمجتمع بما تعنيه من نقد جذري للواقع الاجتماعي القائم، من أجل الانتقال به إلى واقع أكثر عدلًا، ومن ثمَّ فهي تشكل علاقة جدلية مع الواقع، وبداية لمخاض جديد في الحرية والعدالة والكرامة الإنسانية، فتُصبح الممارسة الاجتماعية والأفعال الثورية تعبيرًا عن رؤى جديدة للكون والعالم والمجتمع". الثورة إذن كما ينظر إليها "الشريف" لا تتحقق إلا من خلال "تحرك جماهيري واسع النطاق داخل دولة معينة، بهدف الإطاحة بالنظام القائم في المجتمع؛ لفقدانه المشروعية الأصلية التي كان يحوزها، ويتم ذلك عبر الفعل الاجتماعي والسياسي العام الذي قد يلجأ - في بعض الأحيان - إلى أعمال العنف الثورية كوسيلة لتحقيق ذلك الهدف الشعبي المتمثل في إحداث تغيير جذري في الوضع القائم، وبالتالي فمصطلح (الثورة) يتضمن في داخله عناصر أساسية مميزة منها: (تأييد كل طوائف الشعب)، و(الراديكالية)، و(الشمولية)، و(الجِدَّة والتجديد)"([2]).

والمتأمل في هذا المفهوم للثورة، يجد أنه لا يشتمل على كل الأفكار والرؤى الثورية، كما أنه لا ينطبق على جميع فلسفات لاهوت التحرير المسيحي، وكذلك لا ينطبق على كل الأطروحات الفكرية لأعلام اليسار الإسلامي المعاصر؛ لأنه يركز فحسب على "الفعل الثوري في ذاته"، ويهمل التأسيس النظري والفكري للقيام بهذا الفعل الثوري، فالثورة في رأينا ليست مُجرَّد ظاهرة شعبية راديكالية، بل هي أوسع من هذا بكثير، فهي تشتمل على بناء نظري - فكري وثقافي واجتماعي يطرحها في الغالب الفلاسفة والمنظرون الاجتماعيون، وبناء تطبيقي يتمثل في تبني ما تم طرحه في البناء النظري لدى الشعب بمختلف طبقاته، وهو ما قد يؤدي أحيانًا (وليس دائمًا) إلى "الفِعلِ الثوري" الذي يتسم بالسمة الراديكالية التي لا تتفق بدورها والتغيير الاجتماعي التدريجي الذي يتحقق خلال فترات طويلة، هذا فضلًا على أن الثورة لا تتفق كذلك والمنهج السلمي الذي يتبعه غالبية أنصار لاهوت التحرير واليسار الإسلامي على حد سواء، كما أن التأكيد على الراديكالية يلغي كثيرا من أفكار كلا التيارين، وسيجعل الثورة تتحقق فحسب خلال العنف المسلح من قِبَل الجماهير، وهو ما لا يتفق والواقع المسيحي والإسلامي على حدّ سواء.

هذه نقطة نود تسجيلها قبل الدخول في دهاليز هذا الكتاب المهم، ولكننا نمضي مع "الشريف"، حيث نراه يذهب إلى أن هدف الثورة هو الإصلاح والبناء والتعمير، وإن كانت الثورة أساسًا تختلف عن الإصلاح بمفهومه التقليدي، وللثورة جوانب عديدة في البناء، ويأتي على رأسها الحقل السياسي، وقد يصاحب الثورة الكثير من الظواهر الاجتماعية والسياسية، التي شرع "الشريف" بالفعل في تحليلها وبيان علاقتها بالثورة خلال الفصل الأول من كتابه، في ضوء آراء مختلفة ومتنوعة من فلاسفة السياسة المعاصرين، ومن هذه الظواهر: الانقلاب، والانتفاضة الشعبية، والعِصيان المَدني، والتمرُّد، والتَحرِير الوطني.

كما سعى "الشريف" في هذا الفصل إلى تحديد العوامل الرئيسة المُحركة للثورات، مستشهدًا بآراء الفلاسفة من أمثال "أرسطو"، الذي رأى أن "اللا مساواة" هي العلة الرئيسة لحدوث الثورات، وما يترتب عليها من: خوف، وإهانة، احتقار، التفاوت الطبقي، الإهمال، التفرقة بين أبناء الشعب، وهو ما يتفق - في رأي "الشريف" - مع عوامل قيام الثورات في العصر الحديث، والتي تتركز في عوامل مثل الاستبداد السياسي، والفساد الاجتماعي، والفقر، كما أن اجتماع هذه العوامل ليست بالمقدمات الضرورية التي تكون نتيجتها وقوع الثورة بشكل حتمي؛ لأن "الفُجائِيَّة" و"العفويَّة" - في رأي "الشريف" - تعدّان من أهم السمات التي تميز الثورة بمفهومها الدقيق، وخير مثال على ذلك الثورة الفرنسية 1789، والثورة الإيرانية 1979، وثورات الربيع العربي الأخيرة.

ومع هذا يرى "الشريف" أن هناك وضعية محددة تسبق اندلاع الثورة، وهي الوضعية التي يُطلق عليها "الحالة الثورية" Revolutionary Situation، والتي تجمع بين تنامي إثارة كل من الواقع القهري والوعي السياسي والاجتماعي. وهناك أيضًا "الأيديولوجيا الثورية" Revolutionary Ideology، وهي "مجموعة من الأفكار والمعتقدات السياسية والاجتماعية التي تدفع الجماهير إلى الفعل الثوري، والتي ترتكز على مرجعية إبستمولوجية مغايرة للأوضاع الاجتماعية والسياسية، ومن أهمها: تعزيز الوعي، ونقد الأوضاع القائمة، وتعزيز مجموعة قيم جديدة، وخارطة طريق، والالتزام، والتضحية بالنفس، ... إلخ. وبالتالي، فهي تنطوي على قدر من العنف أحيانًا.

وفي الفصل الثاني المعنون بـ "الثورة من التأسيس الديني إلى الصياغة اللاهوتية"، ناقش "الشريف" الحجج الرافضة للربط بين الدين والثورة، وأولها، أن الثورة ظاهرة حديثة، وهي الحجة التي تتبناها "حنة آرندت" في كتابها (في الثورة)، حيث تذهب إلى أن الثورة ظاهرة راديكالية حديثة تنطوي على استخدام العنف للإطاحة بالنظام القائم في المجتمع. وثانيها، أن أصول الثورة تتعارض مع أسس الإيمان الديني، ويستند أنصار هذه الحجة إلى أن نصوص كل من التوراة والإنجيل والقرآن تقرّ بعدم مشروعية أعمال العنف وبعدم وجوب الثورة وضرورة الخضوع للحاكم مهما كان مستبدًّا. وثالثها، أن الواقع التاريخي ينفي العلاقة بين الدين والثورة؛ أي إنه لا وجود لثورة سياسية أو اجتماعية حدثت عبر التاريخ، وكانت تستند إلى أسس دينية، ويُحسب للباحث تفنيد هذه الحجج حجة تلو الأخرى ببراهين عقلية.

وعلى الرغم من تفنيد الشريف لهذه الحجج الثلاث السابقة، فإنه ينتهي إلى رؤية فكرية خاصة ومحددة في دراسة العلاقة بين الدين والثورة، وتتمثل في أنه لا رابطة أو علاقة ضرورية بين الدين والسياسة عمومًا، والدين والثورة خصوصًا، حيث يقول: "إن الدين يميل إلى الإصلاح الذي يتحقق تدريجيًا، وليس إلى الثورة التي تهدف إلى التغيير الراديكالي للمجتمع، كما أن الدين عقيدة إلهية. أما الثورة، فهي فعل بشري، والدين يبدأ من رأس الداعية أو النبي. أما الثورة، فتبدأ من القاعدة الشعبية، والدين خضوع وطاعة وإذعان. أما الثورة، فخطة للعصيان والتمرد ...". وبذلك ينتهي "الشريف" إلى رفض الربط بين الدين بالثورة، أو البحث عن جذور ثورية داخل الدين، ولكن هذا لا يعني - كما يقول - عدم إمكانية تثوير الفكر الديني، أو استحالة تقديم قراءة ثورية للدين، مثلما عالج هو نفسه الأطروحات الدينية حول الثورة عند الفرق والتيارات الإسلامية والمسيحية القديمة والحديثة، والتي انطلقت من قراءة إيديولوجية ثورية للنصوص الدينية، فكان الدين عندهم أصل من أصول الثورة والخروج على أئمة الضعف، والفسق، والظلم، وإن اختلفوا في أشكال تناولهم لهذه المسألة وفقًا لاتجاهاتهم المذهبية والفكرية([3]).

ونحن بدورنا نرى أن مثل هذه الفرق التي جعلت الدين مرتكزًا أساسيًا في إثبات مشروعية الثورة قد عوَّلت على نوع من الهيرمنيوطيقا التطبيقية، التي لا تقف عند حد القراءة أو الفهم أو التفسير أو التأويل النظري للنصوص الدينية فحسب، بل تطرقت إلى نسج نظريات متكاملة الأركان تستند على أسس عقلية؛ لتبرير مشروعية الثورة، رغبة منها في تناغم الدين ومسايرته لحركة الواقع لتغييره أو على الأقل إصلاحه، ولكننا نتساءل: لصالح من هذا التناغم؟! هل لصالح الدين؛ ليتماشى وروح العصر؟ أم لصالح الواقع الاجتماعي بهدف تغييره لمناهضة الاستبداد بمختلف أنواعه باستخدام الدين؟ وبالتأمل العميق في مثل هذه الإشكالية الجدلية، نجد أن التناغم لصالح الاثنين؛ فالدين متغلغل في قلوب الغالبية العظمى من الناس، وليس هناك ما يمكن أن يحقق إجماع شعبي على شيء تستند إليه الثورة أكثر من الدين نفسه؟ وهو ما سيفطن إليه ويعيد إحياءه بشكل عصري أعلام لاهوت التحرير المسيحي في أمريكا اللاتينية، وكذلك منظرو اليسار الإسلامي المعاصر.

ويمضي الشريف في الفصل الثالث، فيتناول التَشَكُّل التاريخي للاهوت التحرير المسيحي. وبالنسبة إلى هذا التيار، فيعد أهم وأبرز التيارات الثورية التي ظهرت في الفكر المعاصر، وتحديدًا في أمريكا اللاتينية، فقد خرج من رحم الكنيسة الكاثوليكية، حيث شهدت أمريكا اللاتينية الكثير من الأحداث التاريخية والمأساوية في القرن العشرين، فبدأ بعض الكهنة والقساوسة واللاهوتيين ينددون بمأساوية هذه الأوضاع، فكانت الثورة في رأي بعضهم هي الحل، وخاصة عند تلاقي فكر هؤلاء الكهنة والقساوسة واللاهوتيين مع الفكر الماركسي، وبدأت تظهر كتابات عن الماركسية والمسيحية والثورة.

وفي معالجته للتخلق التاريخي لتيار لاهوت التحرير، يذهب "الشريف" إلى أن هناك أطوارًا أساسية تشكل من خلالها تيار لاهوت التحرير خاصة فيما يتعلق بنظرته للثورة، وهي كما يطرحها "الشريف" أربعة أطوار: الأول وهو طور "النشأة والتكوين" (1955 - 1968م)، والثاني طور "الصياغة والانتشار" (1968 - 1978م)، والثالث وهو طور "المواجهة والانحسار" (1979 - 1992م)، والرابع والأخير، وهو طور "التنقيح وإعادة البناء" (1993 - ...). وقد قام الشريف بمعالجة هذه الأطوار الأربعة، وكشف النقاب عن سياقاتها التاريخية وسماتها الفكرية والسياسية وقوة أفكارها وأعلامها بشكل دقيق. كما رسم بريشة فنان في الفصل الرابع حدُود الأرضية المشتركة بين المسيحية والثورة في لوحة نثرية تعبر عن مكنونات رؤاه الإبداعية في استخراج مدلولات الثورة من روح النصوص المسيحية، والتي يبلورها في عدة نقاط:

(1) تقرير المسيحية بالتوجه التفضيلي نحو الفقراء اقتداءً بالمسيح.

(2) كون البشارة الإنجيلية بشارة تحررية وتقدمية.

(3) التنظير اللاهوتي في ضوء النظر إلى واقع الفقراء والمهمشين.

(4) ربط الإيمان المسيحي بالنضال الاجتماعي.

وبهذا، كانت الثورة هي السبيل الأوحد للتحرير الإنساني في نظر العديد من أعلام لاهوت التحرير المسيحي.

وفي فصله الخامس الموسوم بــ "مفهوم الثورة بين السلمية والعنف"، عالج الشريف ثلاثة من أهم أعلام لاهوت التحرير المسيحي في أمريكا اللاتينية، الذين اهتموا بإشكالية العلاقة بين المسيحية والثورة، وهم: "كاميلو توريس"، و"جوستافو جوتييريز"، و"هلدَّر كامارا". فبالنسبة إلى "توريس"، يرى الشريف أن مشروعه مر بمرحلتين؛ الأولى "سلمية" والثانية "حربية"، ربط في الأولى بين المسيحية والإصلاح (أو التغيير السلمي). أما الثانية، فقد ربط فيها بين المسيحية والتغيير الثوري العنيف. وتستند رؤيته في الثورة السلمية على فكرة أساسية ألا وهي "المحبة"، فـ"المحبة" هي حجر الزاوية في المسيحية، وتعني محبة الإنسان لله، ومحبة الإنسان لأخيه الإنسان على حد سواء، ولا يمكن أن تقوم المحبة إلا بالالتزام بالعمل لخدمة الفقراء، ومن ثم فلابد أن تتجسد المحبة في أشكال اجتماعية فعالة، لخدمة مصالح الفقراء والتضحية من أجلهم([4])، وإلا فما قيمة المحبة إذا لم تتجلّ في الواقع الاجتماعي، ولهذا رفض "توريس" كون المحبة مصطلحًا نظريًا مفرغًا من المضمون، كما رفض كذلك كون المحبة مفهومًا دينيًا عقائديًا خالصًا لا يتجسد على أرض الواقع، بل قد أراد أن تكون المحبة شعلة لا تنير قلوب البشر فحسب، بل تتجلى في أبهى صورها في واقعهم الاجتماعي المعيش بشكل عملي تطبيقي فعلي.

والحق أن ما دعا إليه "توريس"، إنما يمثل نوعًا من فلسفة الفعل، حيث يستنكر اقتصار دور الكنيسة على العبادات والطقوس فحسب، بل يجب أن يتطرق دورها بشكل كبير إلى رفع الفقر بكافة صورة عن المجتمع، وهنا ينقل "توريس" الكنيسة من وظيفتها الروحية إلى وظيفة أخرى لا تقل أهمية عن وظيفتها الأولى ألا وهي تحقيق العدل الاجتماعي، وهذا لن يتحقق إلا بالثورة. كما يدعو إلى أهمية العمل الاجتماعي، بل يعتبره جزءًا لا يتجزأ من العبادات التي فرضها الله على المسيحيين. كما رفض خضوع الكنيسة لأنظمة الحكم، ونادى بضرورة استقلاليتها؛ لأنها بهذا ستصبح أداة تستخدمها الأنظمة في ممارسة هيمنتها، وستصبح شريكة في القمع والطغيان. ومن هذا المنطلق، يقرر "الشريف" أن "توريس" يبرر الثورة بوصفها الوسيلة الفعالة لإحداث التغير الاجتماعي، ومن ثم تحقيق مبدأ "المحبة".([5])

أما المرحلة الثانية، وهي مرحلة العنف المسلح، فتقوم عند "توريس" على فكرة مؤداها أنه لا سبيل إلى التغيير الاجتماعي الحقيقي إلا بالكفاح المسلح، وكانت صيحته الشهيرة بأن الثورة واجب على كل مسيحي، فــ "المسيحي الذي لا يلتزم بالثورة يعيش في خطيئة مميتة". وقد رأى "توريس" أنه لا يمكن إحداث أي تغير حقيقي في مجتمعات أمريكا اللاتينية إلا بتغيير البناء الطبقي فيها، ولن يحدث ذلك إلا بالإطاحة بالطبقة الحاكمة، والمتواطئين معها، وذلك من خلال الضغط الشعبي. ومن ناحية أخرى، فإن سلمية الثورة ترتبط بفطنة الطبقة الحاكمة، وتتمثل تلك الفطنة في قدرتها على تحليل الظروف والأوضاع الثورية الكامنة. أما إذا غابت عنها هذه الفطنة، فشرعت في استخدام العنف، وعلى حد قول توريس: "على كل ثوري مخلص أن يقر بأن الكفاح المسلح هو المخرج الوحيد الباقي. ولأن جوهر المسيحية محبة الآخرين؛ ولأن المحبة لا يمكن تحقيقها من دون ثورة مسلحة، فإن ما تفرضه الثورة من تضحية بالذات في سبيل الآخرين هو شرط المحبة الأخوية لإتمام الرسالة المسيحية بشكل مشرف"([6]).

والمتأمل لموقف "توريس" ودعوته لاستخدام الأداة السلمية والأداة الحربية من أجل تحقيق الثورة التي تتوافق مع المسيحية، وتنادي بها من خلال تعظيم مفهوم المحبة وتأويله نظريًا وعمليًا - المتأمل لذلك يجد أن توريس يخرج من الإطار العقائدي القلبي التَّعبُدي إلى الإطار الاجتماعي السِيَّاسي التَطبيقي، ومحاولة تحقيق أقصى استفادة من وجود الإنسان، سواء بطريق سلمية أو بطرق العنف، فبعد أن جرب توريس بنفسه الطريق "السِلمي" ووجده لا يحقق النتائج المرجوة منه، أخذ يدعو الشعب إلى استخدام "العنف" لتحقيق العدل بين جميع أطياف المجتمع.

أما بالنسبة لـ "جوستافو جوتييريز"، فيعد من أبرز وأهم لاهوتي التحرير في أمريكا اللاتينية، ومن أوائل الذين طرحوا مشروع متكامل حول لاهوت التحرير، كما أن منهجه ذو صبغة تاريخية، حيث يعوَّل على قراءة نصوص الكتاب المقدس في سياقها التاريخي والاجتماعي، ويقوم في الوقت ذاته بإسقاطها على الأوضاع المعاصرة([7])، وبهذا يعد من أهم المجددين للفكر الديني والخطاب الديني المسيحي المعاصر، فالقراءة المعاصرة للكتاب المقدس هو ما يجعل النص الديني يتسم بالحيوية والمرونة، ويلبي المستحدثات التي تفرضها التغيرات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في المجتمعات المعاصرة.

وتتبلور رؤية "جوتييريز" في ربطه بين تحرير الإنسان ومفهوم الخلاص في المسيحية. وطبقًا له، فإن التحرير الإنساني لا يقتصر على التحرير المادي وحده؛ أما التحرير الشامل، فينبغي أن يتضمن ثلاثة مستويات أساسية: التحرر الاجتماعي والسياسي، والتحرر الإنساني، والتحرر الديني، ويعنى الأول بتحرير الطبقات الفقيرة والمهمشة، وإزالة كل ما يتسبب في وجود الفقر والاستبداد، لتحقيق عدالة توزيعية - اجتماعية، واقتصادية، وسياسية - بين جميع أطياف المجتمع، ويعنى الثاني بتحرير الأفراد من كل ما يعيق حريتهم وممارستها على الوجه الأمثل، أما الثالث، فيعنى بالتحرر من الخطيئة بمفهومها الفردي والاجتماعي، للوصول إلى مرحلة الأخوة الإنسانية.([8])

ومتى ما نظرنا إلى عقيدة الخلاص عند "جوتييريز"، سنجده لم يقف عند مفهومها العقائدي، بل جعلها تلتصق والإنسان عبر تاريخه الوجودي الثوري للتحرير من الظلم والهيمنة والعبودية، وذلك خلال تأويله التطبيقي لتلك العقيدة لما ورد عنها في العهدين القديم والجديد، فيتحقق الخلاص زمنيًا وفقًا لأربعة أبعاد، وهم: "خلق العالم"، و"خروج شعب إسرائيل من مصر"، و"خلق يسوع المسيح"، و"الوعد بالخلاص الأخروي". والمتأمل لهذه الأبعاد الأربعة، سيلاحظ أن الخلاص يتحقق في بداية ونهاية العالم ولا يخرج عن اليهودية والمسيحية فقط، ورغم قول "جوتييريز" بأنه من الخطأ اختزال عقيدة الخلاص الدينية في البعد الديني وحده؛ لأن من يفعل ذلك تغيب عنه شمولية هذه العقيدة"، ورغم إقرار "جوتييريز" بضرورة قراءة عقيدة الخلاص قراءة شمولية، وهو ما قام به بالفعل - رغم ذلك، فإن شموليته اقتصرت فحسب على الخلاص اليهودي والخلاص المسيحي، وبالتالي فما قبل اليهودية وما بعد المسيحية، فهو خارج الخلاص الإلهي.

والتحرير في حقيقة الأمر هو ضرب من ضروب "الخلاص"، فـإذا كان "الخلاص" يمثل نهاية للخطايا والاستعباد الإنساني من قبل الله عز وجل، فإن التحرير يمثل بدوره نهاية للاستعباد والهيمنة والفقر من قبل الشعب، وبالتالي يمكن القول إن "التحرير" هو خلاص إنساني، و"الخلاص" هو تحرير إلهي. وبالتالي، فقد وُفق الشريف في وصف موقف جوتييريز من الخلاص بقوله: إن تفسير "جوتييريز" لعقيدة الخلاص بأنه خلاص إنساني، دنيوي، اجتماعي، هو تفسير معاصر، وأهم إنجازات لاهوت التحرير لديه هو أنه تجاوز المسافة ما بين المقدس والدنيوي، ما بين مملكة السماء ومملكة الأرض، وجمع بين الخلاص الديني والخلاص الدنيوي.([9])

أما ثالث شخصية، فهي شخصية اللاهوتي "هلدر كامارا" الذي اهتم بشكل كبير بالفقراء وقضاياهم، ليس في البرازيل ولا حتى في أمريكا اللاتينية فحسب، بل في جميع أنحاء العالم، فقد اهتم بهم وتكلم عنهم وباسمهم. فالفقراء بالنسبة إلى "كامارا" هم نبض القلب الإنساني، وهم الذين يعيشون في "أوضاع دون المستوى الإنساني" Sub-human Conditions، وهي الأوضاع التي يشعر فيها غالبية أفراد المجتمع بأنهم يعيشون في مستوى لا يتناسب مع كرامتهم الإنسانية. وهذه الأوضاع تعدّ شكلًا من أشكال "العنف المُمنهَج"، ولذلك نحا "كامارا" - فيما يرى "الشريف" - إلى أن "هناك اختلافات ودرجات في أعمال العنف الثورية، من بلد لآخر، ومن مجتمع لآخر. أما الطبقة الحاكمة والمجموعات المحتكرة للامتيازات، فإنها تجزع من وجود مناضلين يدافعون عن حقوق الفقراء والمقهورين، فيدعونهم عناصر تخريبية، وأحيانًا يكون هؤلاء المناضلون أفرادًا ملتزمين بأيديولوجية ثورية، فيتبنون في سبيل ذلك الكفاح المسلح، وفي أوقات أخرى يكونون أفرادًا تحركهم دوافع ومشاعر دينية، ويريدون أن يكون الدين عاملًا من عوامل تحرير أولئك الذين يعيشون في أوضاع دون المستوى الإنساني"([10]).

فالثورة هي شكل من أشكال العنف، والعلاقة بين "العنف المؤسسي" و"الثورة" علاقة– على مستوى ما يجب أن تكون - طردية، فكلما تزايدت شدة العنف من قبل المؤسسات المهيمنة على الشعب، كلما زادت الرغبة الشعبية في القيام بـ "العنف الشعبي"، والذي يعني "الثورة"، وخاصة عندما تقوم بها طبقة الفقراء؛ فمجمل ما يقع على كاهل الفقراء من فقر، وظلم، وهيمنة تُنبت لديهم رغبة قوية في التحرر منهم، وهذا لا يتحقق إلا بالعنف؛ فالعنف لا يرد إلا بعنف. ولكن هذا من شأنه أن يخلق حالة من الفوضى بين المؤسسات والفقراء، هذا فضلًا عن استخدام المؤسسات لكل ما تملكه من أدوات قهر ضد الثوار من الفقراء وغيرهم من طبقات الشعب، وهو ما سيؤدي منطقيًا إلى هلاك كثير من الأرواح، هذا فضلًا عن أن حدوث مثل هذا العنف يعيق عجلة التقدم واستقرار الدولة، ولأجل هذه الأسباب رفض "كامارا" العنف كأداة من أدوات تحقيق الثورة الشعبية، وهو بذلك يتفق مع "جوتييريز" و"توريس" في غايات لاهوت التحرير، ولكنه في الوقت ذاته يختلف معهما في وسائل ومناهج تحقيق تلك الغايات.

ولكن، ما السلاح الذي استخدمه "كامارا" للنضال ضد الظلم والفقر وما يترتب عليهما من تفاوتات شاسعة بين الطبقات الاجتماعية؟ لقد استخدم أسلوبًا سلميًا يتمثل في إيقاظ الوعي الأخلاقي في ضمائر أصحاب الطبقات العليا من الأغنياء ورجال السياسة والحكم، وحَثِّهم على أن التفاوت الكبير للغاية في الثروات بين طبقات الشعب المختلفة والظلم الواقع على كاهل كثير من أفراد الشعب لهو أمر يرفضه الله ورسله وأنبياؤه، فيجب أن نحذو حذو الأنبياء في تعاملهم مع الفقراء والمظلومين، وكيف نؤمن بالمسيحية، ولا نتحلى بتعاليمها؟ بل كيف نؤمن بها، ولا ننفذ ما كان يفعله الأنبياء والرسل الذين نؤمن بهم؟ فعدم الاقتداء بهم لهو ضرب من الرفض المتعمد لنصوص الكتاب المقدس، والسخرية غير المباشرة لما كان يقوم به الأنبياء والرسل الأولون.

إن المقاومة السلمية، عند "كامارا" هي الطريقة الأكثر فاعلية، وتتفق والمبادئ الأخلاقية، وفاعليتها لا تقل عن فاعلية المقاومة المسلحة، هذا فضلًا عن أن التحرير لا يجب أن يكون مقصورًا على إشباع الجانب المادي فحسب، بل يجب أن يشتمل كذلك على تحقيق حالة المساواة في الإنسانية؛ أي القضاء على التفرقة بين السادة والعبيد ويصبح الجميع سواسية؛ فالحرية الحقيقية التي يجب أن تتحقق هي إقرار العدل، وتحقيق العدل وممارسته هو الذي يجعل الفقراء يتحرروا من كل ما يكبل وجودهم المادي والإنساني على حد سواء.

كما أن الثورة والسلام عند "كامارا" عنصران متكاملان في عملية جدلية واحدة للتطور الإنساني المستمر؛ فالسلام عنده لا يمكن تقييمه في حد ذاته، بوصفه غاية الدولة فقط، وإنما يجب النظر إليه بوصفه وسيلة للنفي الفعلي للظلم؛ أي أن يكون وسيلة لثورة دائمة. إلا أن هذا الحل - فيما يرى حمدي الشريف - يعد حلًا يوتوبيًا، فمن الصعب على سبيل المثال إقناع الأغنياء بمحاولة التنازل عن جزء من ثروتهم للفقراء، فبشكل عام، قد يؤدي هذا المنهج السلمي إلى السلبية والانهزامية، ولكن يشفع لـ "كامارا" طرحه لهذا المنهج معاصرته لفشل كثير من الحركات الثورية التي استخدمت العنف في سبيل تحقيق أهدافها، وخاصة في كل من: "كولومبيا"، و"بوليفيا".([11])

وبهذا، يُعَوِّل أنصار لاهوت التحرير في أمريكا اللاتينية على التفسير الاجتماعي للعقيدة المسيحية، ومحاولة ربطها بالواقع الاجتماعي الذي يعيشه الإنسان، ومحاولة توظيف تلك التفسيرات لجعلها أداة لرفع الظلم بكافة أشكاله وضروبه، وتحقيق العدالة، ويحسب لهذا التيار التنوع في استخدام منهج تطبيق تلك التفسيرات، فمنهم من حبذ منهج "العنف" وآخرون رأوا أن منهج "السلم" هو الأجدر لتحقيق التحرير الاجتماعي، إلا إننا نرى أن أنصار لاهوت التحرير قد اعتمدوا على تأويل للكتاب المقدس تأويلًا اجتماعيًا ليس على المستوى النظري فحسب، بل يعدّ أنصار هذا التيار أول من سعوا إلى تطبيق النتائج التي توصلوا إليها من خلال تأويلاتهم على واقعهم الاجتماعي كثورة سياسية ذات أهداف اجتماعية في المقام الأول.

ومتى تحولنا إلى جدلية العلاقة بين الدين والثورة في الفكر السياسي والديني الإسلامي المعاصر (في الفصول الثلاثة من السادس إلى الثامن)، سنجد أن وجود اليمين واليسار في الفكر الديني، أدى إلى وجود ما يُعرف بــ "اليَسار الديني" و"اليمين الديني"؛ فالدين يمكن أن يُفسَّر بما يحقق مصلحة الفقراء والمستضعفين، ويمكن أن يفسر في الوقت ذاته لتحقيق مصالح الأغنياء وأصحاب القوة والنفوذ، فاليمين واليسار في الفكر الديني هما أساسًا وضعان اجتماعيان يدلان على وجود طبقتين اجتماعيتين، تحاول كل طبقة أن تدافع عن حقوقها وفقا لتفسير العقائد الدينية، فـيعني "اليسار" "النزعة الاشتراكية في الإسلام، التي تتجه إلى رفع الظلم عن الفقراء والمستضعفين، وإقرار المساواة بين أفراد المجتمع الواحد في الحقوق والواجبات". أما "اليمين"، فهو ذلك الاتجاه الذي يسمح بالفروق الشاسعة بين أفراد المجتمع الإسلامي، وهو الذي يحارب ضد اليسار لتظل فئة قليلة تحتفظ بالثروة، وتتحكم سياسيًا واجتماعيًا في غالبية المسلمين"([12]).

وبذلك يُعد "اليسار الإسلامي المعاصر" تيارًا ثوريًا بالمعنى الدقيق للكلمة في الحقل الاجتماعي والسياسي على حد سواء، وهو بهذا يتشابه مع "لاهوت التحرير المسيحي" في أمريكا اللاتينية، فرغم اختلاف كل من: الدين، والشخصيات، والمكان، إلا أن القضايا التي عالجها كلا التيارين كانت واحدة، والتي تجسدت في رفض كل من: الخضوع، والاستبداد، والهيمنة، والظلم، والفقر، ...إلخ. ويلقي "الشريف" الضوء على تيارات "اليسار الإسلامي المعاصر"، والتي بدأت في النصف الثاني من القرن العشرين تقريبًا، في بعض الدول العربية والإسلامية، هذا فضلًا عن التركيز على الملامح العامة لأعلامها، فهناك "اليسار الإسلامي في مصر" ويُمَّثِلَه "حسن حنفي" (1935 - ...)، و"اليسار الإسلامي في السودان" ويُمَّثِلَه "محمود محمد طه" (1909 - 1985)، و"اليسار الإسلامي في إيران" ويُمَّثِلَه "علي شريعتي" (1933 - 1977)، و"اليسار الإسلامي في تونس" ويُمَّثِلَه الإسلاميون التقدميون.([13])

يهدف اليسار الإسلامي إلى قراءة الدين قراءة ثورية بهدف التغيير الاجتماعي لتحقيق الكرامة الإنسانية؛ فمهمة اليسار الإسلامي، كما طرحها "حسن حنفي" في كتابه "الدين والثورة في مصر" هي محاولة كشف النقاب عن العناصر الثورية في الدين، أو بيان أوجه الاتفاق بين الدين والثورة، أو تأويل الدين على أنه ثورة؛ فالدين في ذاته ثورة، وقد كان الأنبياء ثوارا ومصلحين ومجددين، فقد مثَّل "إبراهيم" (عليه السلام) ثورة العقل ضد التقاليد الاجتماعية، وثورة التوحيد ضد التجسيم، ومثل "موسى" (عليه السلام) ثورة التحرُّر ضد القهر والطغيان، وكان "عيسى" (عليه السلام) يمثل ثورة الروح ضد المادة معبرًا عن تضامنه مع الفقراء والمهمشين والضعفاء ضِدَّ جبروت القوة، وكان سيِّدنا "محمد" (صلى الله عليه وسلم) يُمَثِّل ثورة الفقراء والعبيد المضطهدين ضد الأغنياء والأقوياء من أجل إقامة مجتمع الحرية والإخاء والمساواة. ولا يوجد نبي واحد قد أتى لتثبيت الوضع القائم، بل ليثور عليه وليؤسس مجتمعا أفضل.([14]) وبالتالي، فاليسار الإسلامي يرى نفسه بأنه يمثل ثورة إيديولوجية، وثورة يحتل فيها المُفَسِّر أو المُؤوِّل مكان الصدارة، إذ يقوم بعملية تفسير وتأويل النصوص الدينية تفسيرًا وتأويلًا اجتماعيًا يخدم المجتمع ويلبّي احتياجاته ومتطلباته.

ولكن وفيما يبدو، فإن "الشريف" لا يساير رؤية اليسار الإسلامي التي تقرر أن الأديان تمثل ثورة، بل هي رؤية معيبة وشكلية في نظره، ويتأكد ذلك من قوله: "إن ثمَة خلطًا واضحًا في رؤية العديد من أعلام اليسار الإسلامي بين طبيعة (الأديان) في ذاتها، وبين مراميها. فإذا كنا نُسلّم بأن الأديان ذات طابع إصلاحي تدريجي في بنيتها ومقاصدها، وقد أحدثت معظمها بالفعل تغيُّرات في النواحي الاجتماعية، والأخلاقية، والثقافية في حياة الأفراد والشعوب الإنسانية، فإنها في حدّ ذاتها لا يمكن اعتبارها ثورات بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة؛ لأن الثورة - حسب مفهومها المتفق عليه - هي فعل إنساني حرّ وواع يستهدف التغيير الجذري للواقع القائم. أما الأديان في ذاتها، فهي أنساق إلهية، وجميع الأنبياء مجبرون على تبليغ رسالاتهم"([15]).

ويبدو لي أنه يمكن الرد على رؤية الشريف هذه بأن "مفهوم الأديان" - وفقًا لليسار الإسلامي - لا يعني العقيدة الإسلامية فحسب، بل يعني جميع الأديان من مذاهب أرضية مثل: البوذية، والكونفوشيوسية، والزرادشتية، ...إلخ، والعقائد: اليهودية، والمسيحية، والإسلامية؛ فالأديان عندهم تشمل جميع الحركات والتيارات الدينية التي تدعو إلى مكارم الأخلاق، وتحقيق العدالة والمساواة، ورفع الظلم، والقهر، والاستبداد، والاستعباد، والفقر عن جميع البشر، سواء كان مصدرها إلهيا أو إنسانيا، ولما كان أنصار "اليسار الإسلامي" يؤمنون بالدين الإسلامي، فمرجعيتهم إسلامية بالضرورة مثلهم مثل أنصار لاهوت التحرير الذين يؤمنون بالمسيحية، وبالتالي فمرجعيتهم دينية مسيحية، وهكذا. كما أنه من الممكن وجود تيارات ثورية تخرج من رَحِمِ البُوذِيَّة، والزِرَادِشتيَّة، والكُونفشيُوسِيَّة، وليس بالضرورة كون الحركات الثوريَّة ذات مرجعية دينية إلهية.

كما يمكن الرد على قول "الشريف" بأن "الأديان ذات طابع إصلاحي تدريجي. أما الثورة، فتستهدف التغير الجذري للواقع القائم". وكذلك نصه الذي يرجع فيه إلى المؤرخ العربي الفلسطيني "بندلي جوزي" "بأن الأنبياء لم يكونوا ثوارًا يستهدفون إحداث انقلاب ثوري في حياة الشعوب ومعتقداتها، وإنما كانوا مصلحين اجتماعيين حاولوا تغيير الواقع القائم بطريقة تدريجية أكثر من أنهم حاولوا تغييره بطريقة جذرية... وإنهم لم يلجؤوا إلى وسائل راديكالية... بعد أن أصبحت في يدهم سلطة الأمر والنهي، لقد فضَّلُوا استعمال الوسائل الأخلاقية"([16]). فكما يبدو لي، فإن هذه حجة غير منطقية؛ لأن الذي يحدد متى يكون التغيير جذريًا، ومتى يكون التغيير تدريجيًا، هو السياق المهيمن آنذاك بكافة أشكاله: الدينية، والحضارية، والثقافية، والاقتصادية، والسياسية، والاجتماعية، ... إلخ التي كانت سائدة آنذاك، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، مدى قوة المخلص السياسي وقائد أو قادة الثورة - سواء كان نبيًا أو رسولًا، أو زعيمًا لحركة أو تيار - هذا فضلًا عن قوة تأثيره في من حوله، وكذلك عدد من يجتمعون حوله، وقوة إيمانهم بأهداف الثورة التي يريدون تحقيقيها، ... إلخ. وإذا كانت الأديان في حد ذاتها لا تعتبر في حقيقة الأمر ثورة، فكيف نجعل تلك الأديان ركيزة أساسية أقام عليها كل من لاهوت التحرير المسيحي واليسار الإسلامي المعاصر ثورتهم، فإذا كانت تلك الركيزة مفتقرة من حيث كونها ثورة، فبالتالي، من يعتمد عليها تفسيرًا وتأويلًا لإحداث ثورة لهو تناقض منطقي لا يقبله عقل.

وبالنسبة إلى تيار اليسار الإسلامي في إيران، فيعد "علي شريعتي" واحدًا من أهم أعلام هذا التيار، فقد سعى إلى بناء مشروعه الفكري فيما يعرف بــ "بناء الذات الثورية"، وذلك من خلال تفرقته بين "دين التوحيد" و"دين الشرك"؛ فالأول دين ثوري، يرفض الأوضاع القائمة التي تتسم بالظلم والهيمنة والاستبداد واتساع الفوارق الطبقية، تلك الأوضاع التي تتحقق مكاسبها لفئة معينة، وهو ما يرفضها ويتمرد ويثور عليها، أما الثاني فهو دين تبريري، يدعم ويشرعن الأوضاع القائمة؛ لأنها تحقق مكاسبها لفئة معينة، إذ تستند إلى أن هذا التفاوت والتعددية في مختلف السياقات الدينية، والاجتماعية، والسياسية هو في حقيقة الأمر تجسيد للمشيئة الإلهية، والتمرد على تلك السياقات يعني تمردًا على تلك المشيئة، وإن كان الهدف الحقيقي وراء ذلك المنهج التبريري هو هدف اقتصادي مادي في المقام الأول. كما أنه من الخطأ الاعتقاد بأن دين الشرك، وفقًا لــ "علي شريعتي"، هو الأديان التي تؤمن بتعدد الآلهة، بل يعني في حقيقة الأمر أي دين، يؤمن بالتوحيد أو بالتعددية، لكنه يتخذ لنفسه المنهج التبريري عقيدة يؤمن بها أتباعه.

ووفقًا لــ "شريعتي"، "فإن مهمة إعادة الطابع الثوري لدين التوحيد، وتثبيته في نفوس الناس، ينبغي أن تكون هي رسالة العلماء والمفكرين والمثقفين التقدميين، ودورهم يتمثل في غرس وجدان ديني يقظ واع يفهم الناس من خلاله معنى التوحيد، ويدركوا مدى تناقض دين التوحيد مع دين الشرك؛ كي يرفعوا نقاب الرياء - بكل أشكاله، وفي كل أرجاء المعمورة - عن دين الشرك، حتى يصلوا إلى دين ليس وليدًا للجهل، وليس وليدًا للخوف"([17]).

كما يعول "شريعتي" على مفهوم "العودة إلى الذات"؛ لأنه يؤمن بأن تلك الذات قد اغتربت عن نفسها بفعل الجهل، والانصياع وراء ذوات أخرى مشوهة، ولا يمكن تفنيد ذلك الاغتراب، حتى تتحقق العودة إلى الذات إلا من خلال الإحساس العميق بالقيم الروحية والإنسانية، وهو دور كل من المثقف والمفكر المخلص. فإذا كانت مهمة الرسل والأنبياء قديمًا هي تبلغ الرسالة الإلهية، إما إلى أمة بعينها أو شعب بعينه أو إلى جميع البشر، وإذا كانت مهمة رجال الدين هي شرح وتفسير تلك الرسالة الإلهية إلى الناس بعد موت الأنبياء والرسل، فإن مهمة المثقف والمفكر تتجسد في السعي نحو تحويل المعارف والطقوس والشعائر التي يدعو لها الدين إلى إيمان حي مليء بالحيوية والتفاعلية في قلب الإنسان، حتى يتطابق الإيمان مع القول والفعل، حتى يتسق النظر مع التطبيق، حتى تتجلى تعاليم الدين في أقوال وأفعال البشر، حتى نجد العدل يتحقق عند جميع البشر، حتى يتطابق "ما يجب أن يكون" مع "ما هو كائن".

وبناء الذات الثورية عند "شريعتي" يستوجب الاعتراف بأن: للإنسان دورًا في مسيرته التاريخية، ويجب أن تحلّ ذاته المبنية إيديولوجيًا محل ذاته المبنية وراثيًا، كما يجب القضاء على "الاغتراب" ذلك المرض الذي يصيب "الذات الإنسانية"، إما من خلال السجن في أطر تقليدية موروثة أو تبني وعي زائف، ويتحقق بناء الذات عند "شريعتي" من خلال تناغم ثلاثة محاور، وهم: الحرية، والوعي، والأخلاق. وتتحقق عملية بناء الذات الثورية في كل من: العبادة، والعمل، والنضال الاجتماعي([18]).

كما اهتم "شريعتي" بما أطلق عليه "مجتمع النباهة" و"مجتمع الاستحمار"، فيمكن أن يتحقق المجتمع الأول عندما يتحقق الوعي الوجودي لدى الإنسان، وهذا الأخير لا يمكن تحقيقه إلا بالإيمان بالدين، والوعي عنده نوعان: إنساني، واجتماعي، يتعلق الأول بوعي الإنسان بذاته، وإمكانياته، وقدراته، ومهاراته. أما الثاني، فيتعلق بوعي أفراد المجتمع بحقوقهم الاجتماعية، والسياسية، والاقتصادية، ...إلخ. وباللغة الاصطلاحية لشريعتي، فمتى تحقق هذان النوعان من الوعي في أيّ مجتمع من المجتمعات، أصبح مجتمعًا نابهًا، ومتى غابا عن أيّ مجتمع أصبح مجتمعًا استحماريًا، وبالتالي، فكلما تزايد الوعي الفردي والاجتماعي زاد في المقابل من درجات ترقي المجتمع في سُلَم النباهة، وكُلَّما قلّ الوعي بنوعيه، كلما زاد في الوقت ذاته كل من: "التجهيل" و"الإلهاء"، وهو ما يؤدي إلى انحطاط المجتمع، والذي يُرادِف المجتمع الاستحماري.

كما يستخدم أنصار المجتمع الاستحماري عددا من الأساليب؛ لإخضاع المقهورين والسيطرة عليهم، مثل: "التغريب"، ويعني السيطرة على العقول والتحكم فيها، وهناك "التفريق"، أي تفريق وتجزئة كلمة الأغلبية - المقهورون - حتى لا يكوِّنوا سلطة موازية لسلطة القاهرون، وهناك أيضًا "التلاعب"، وتعني استقطاب قادة الشعب المقهور، إما لإغوائهم أو لتهديدهم، وكذلك سلاح "الهيمنة الثقافية"؛ لتعطيل القدرات الإبداعية لدى المقهورين، من أجل إضاعة أصالتهم وتهديدهم بالزوال.([19])

أما بالنسبة إلى منهج "محمود محمد طه" في التجديد الديني، فإنه يقوم على تقسيم النصوص القرآنية إلى نصوص مَكِيَّة ونصوص مَدَنِيَّة، وليس طبقًا لمكان أو زمن النزول كما هو شائع، وإنما طبقًا لمستوى المخاطبين، فهذا المنهج يعد طريقة مبتكرة لإرساء قواعد جديدة، تسمح بتطبيق بعض الآيات القرآنية، وأحكام السنة المرتبطة بها من دون غيرها من الآيات والأحاديث؛ لتكون هي أساس التشريع الإسلامي، وليس في هذا إنكارًا لصحة وقدسية النصوص التي لا تُطبق، وإنما هو اختيار النصوص الأنسب لأن تحكم اليوم. ويحسب لهذا المنهج في حل العقدة المستحكمة بين أهداف الإصلاح، وبين أوجه قصور الشريعة التقليدية ووسائلها، فمنهجه يجنبنا مأزق الوقوع في دائرة الاتهام، بإعمال الرأي في النصوص القطعية، فما علينا إلا أن نتحرك من شريعة الفروع وفقهها الذي تبعها في القرون التي تلت فجر البعثة، نحو أحكام آيات الأصول؛ لأنها هي القادرة على استيعاب طاقات واحتياجات الحياة المعاصرة([20]).

ويدعو "محمود طه" إلى تأسيس مجتمع جديد يقوم على ثلاث دعائم من المساواة: الأولى، وهي المساواة الاقتصادية، وتتحقق في "الاشتراكية"، والتي تقوم على زيادة الإنتاج وتحقيق العدالة التوزيعية للثروات بشكل أمثل، والتي تتحقق بأن يكون هناك حد أدنى وحد أقصى للدخل، هذا فضلًا عن تحريم ملكية مصادر الإنتاج ووسائله، والاقتصار على الملكية مثل المنزل وما يدور في فلكه، على أن يكون ملكيتها حق انتفاع. فالأصل في الإسلام عنده شيوع المال، ووفقًا لهذه الوسائل تكاد تتفق ومبادئ الشيوعية الماركسية. والثانية، هي المساواة السياسية وتعني "الديمقراطية"، ولا تعني مجرد حكم الشورى؛ لأن هذه الأخيرة منهج الحاكم الرشيد في الحكم، الذي من واجباته أن يؤهل المجتمع ليصبح ديمقراطيًا. أما الثالثة، فهي المساواة الاجتماعية، والتي تقوم على المساواة بين الجميع، وتتحقق عندما يكون الناس شركاء في الثروة والسلطة معًا. أما بالنسبة إلى مفهومه للثورة وعلاقتها بالدين، فهناك ثورة إسلامية أولى قد حدثت، فيما يرى "محمود طه"، والتي تتمثل في الدعوة بالدين الإسلامي، والتي أُوحِيت إلى محمد (صلى الله عليه وسلم)، والتي تعد من أهم نماذج التغيير التي تمت بفعل الإقناع والفكر، ورفض العنف. أما الثورة الإسلامية الثانية، والتي يطلق عليها "الدعوة الإسلامية الجديدة"، وترمي إلى إحياء الرسالة الثانية من الإسلام خلال الوسائل السلمية القائمة على الإقناع وقوة الحق. وقد عالج "محمود طه" طبيعة الثورتين في كتابه "الثورة الثقافية"، مقررًا أنه عندما جاءت دعوة القرآن الأولى إلى التحرير، وإلى المساواة بين الناس، كانت خلال الإقناع، ولمَّا شعر الأقوياء وأصحاب الامتيازات أن هذه الدعوة تهدف التغيير، ومن ثم ستقوض نفوذهم وتحرر عبيدهم، فلم تنجح وسائل الإقناع، كما أن المستضعفين سقطوا فريسة لتضليل أصحاب النفوذ، وأصبح واضحًا بأنه ليس هناك فرصة للإقناع، فنُسِخَت الآيات التي تحض على التسامح ونزلت آيات الجهاد، التي تأمر بالقوة والعنف.([21])

وكان تبرير الإسلام للجوء إلى العنف من جهتين: الأولى، المقاومة التي لقيها من أصحاب النفوذ، والأخرى، استحالة الإقناع في وقت لم تكن فيه العقول مستنيرة، وإذا كانت الثورة الأولى للإسلام اقترنت فيها القوة بالعنف، فإن ثورته الثانية تقوم فيها القوة المبرأة من العنف، والتي يطلق عليها بأنها "تطور". وينتهي "محمود طه" إلى القول بأن رسالة الإسلام الأولى والتشريع المصاحب لها لم تعد تصلح للبشرية اليوم، لارتباط أحكامها بالسياقات التاريخية. أما الرسالة الثانية التي تتأسس على آيات الأصول تلك التي تصلح – حسب قوله – لإنسانية القرن العشرين وما بعدها، وتحقيق ذلك يحتاج إلى ثورة فكرية تعيد إحياء الرسالة الثانية التي ترتكز على مبادئ الاشتراكية، والديمقراطية، والمساواة الاجتماعية.([22])

فعلى الرغم مما يشوب رؤية "محمود طه" من راديكالية في تفرقته بين رسالة الإسلام الأولى ورسالته الثانية، وكذلك تفرقته بين ثورة الإسلام الأولى وثورته الثانية، وتصريح بضرورة تعطيل رسالة الإسلام الأولى والإبقاء فحسب على رسالته الثانية؛ لأنها الأقرب والأكثر اتفاقًا والحداثة، إلا أن فكره يعدّ فكرًا تجديديًا يحتاج إلى مزيد من التنقيب والتشريح لكشف مكنوناته الظاهرية والباطنية، للوقوف على إيجابياته وسلبياته، وهل هذا الفكر يمثل لاهوت تحرير إسلامي؟ أم إنه فكر راديكالي يقوم على التأويل الاجتماعي لبعض النصوص، ومحاولة إهمال الآخر، بحجة أنها لم تعد صالحة الآن في عصرنا الراهن؟!

وإذا نظرنا إلى تيار اليسار الإسلامي في مصر، سنجد من بين أعلامه "حسن حنفي" الذي يعدّ واحدًا من أهم المفكرين المصريين المعاصرين، إذ يمتلك كثيرا من الأدوات التي تؤهله أن يصبح مفكّرًا من طراز رفيع، ويتقن عددا من اللغات مثل اللاتينية، والفرنسية، والإنجليزية، والألمانية، والإيطالية، وهو ما مكنه من ترجمة الكثير من نصوص الفلاسفة؛ هذا فضلًا عن قراءته لهم بشكل مباشر، مما أتاح له فرصة التحاور معهم وتبني بعض أفكارهم، كما يتسم بأنه فيلسوف موسوعي، كتب في كثير من التخصصات الغربية والإسلامية على حد سواء، تتسم كتاباته بالعمق هذا فضلًا على تركيزه على قراءة الفكر الإسلامي في مرآة الفكر الغربي، وقراءة الفكر الغربي في مرآة الفكر الإسلامي، وهو نوع من المنهجية الحوارية بين الأديان والحضارات على حد سواء، تتيح له تبني أفكار تيارات فلسفية ورفض بعضها وفقًا لطبيعة الثقافة الإسلامية من حيث قابليتها على تبني مثل تلك الأفكار أو رفضها، ويقوم مشروع "حسن حنفي" على فكرة تجديد الفكر الديني من خلال قراءة التراث بشكل عصري من خلال الفلسفة الغربية.

وقد بدأ "حنفي" في تأسيس خطابه السياسي حول اليسار الإسلامي في السبعينيات، عندما سافر إلى أمريكا وتعرف هناك على تيارات اللاهوت الجديد التي ظهرت في أمريكا اللاتينية، وقد تأثر بمعظم حركات التحرر في العالم الثالث، وقرأ غالبية أعمال أعلام لاهوت التحرير، ومن هنا تحول اللاهوت عنده إلى تعبير إنساني عن الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي تعيش فيها الشعوب الإنسانية، وتحول الدين إلى أيديولوجيا ثورية للشعوب المقهورة، وحاول تأسيس "لاهوت تحرير إسلامي" على غرار "لاهوت التحرير المسيحي"([23]).

فموقف "حنفي" اليساري عامة ورؤيته السياسية خاصة تعتبر اتجاها ثالثًا بين العلمانية والحركات الدينية السلفية؛ فقد فشلت العلمانية نتيجة استيرادها لأفكار غربية وإسقاطها على الفكر الإسلامي، هذا فضلًا على أن العلمانيين من الطبقة المثقفة، والتي ظلت كثيرًا بعيدة كل البعد عن عامة الشعب والجماهير، وهو ما أدى إلى تنامي الحركات الدينية، والتي كانت تقوم على إثارة المشاعر الدينية لدى عامة الشعب، وذلك وفقًا لأيديولوجيتهم في الخطاب الديني، مما جعل انقيادهم وتحريكهم أمرا سهلا. وبهذا فتنامي التيار العلماني عند الطبقة المثقفة النخبوية أدى إلى تنامي الحركات الدينية في الوقت ذاته كرد فعل له، ولما كانت غالبية الشعب العربي من العامة والطبقة المثقفة قلة قليلة بالنسبة إليه، فنتج عن ذلك انهيار العلمانية وتنامي الحركات الدينية، وهو ما جعل "حنفي" يطرح خطابه السياسي.

سعى "حنفي" إلى تجديد التراث العربي الإسلامي في ضوء المتغيرات المعاصرة، وإعادة بنائه من منظور يساري تقدمي. والتراث عنده هو التراث المكتوب، والذي يتضمن العلوم النقلية الخالصة، والعلوم العقلية الخالصة، والعلوم النقلية العقلية، فتشمل الأولى القرآن، والحديث والتفسير، والسيرة والفقه، وتشمل الثانية: الرياضة والطبيعة والفلك والجغرافيا والتاريخ، وتشمل الثالثة: الفلسفة، والتصوف، وأصول الدين. فالتجديد يقوم عنده على تأويل نصوص الوحي وفقًا لمستجدات العصر الراهن، وهو ينظر إلى الوحي بوصفه ظاهرة دينية حقيقية؛ بمعنى أنه نازل من الله إلى الإنسان، كما ينظر إليه بوصفه ظاهرة ذهنية ماثلة أمام الشعور والوعي الإنساني؛ بمعنى أنه يصدر عن الإنسان الباحث عن الحقيقة الإلهية عبر تجربته وصراعه في الحياة.([24]) فالمنهج النقلي يعتمد على الانتقال من الإلهي إلى الإنساني. أما المنهج العقلي، فيعتمد على الانتقال من الإنساني إلى الإلهي، وفي كلا المنهجين يظل الوحي حقيقة جوهرية في تجربة الإنسان الدينية. ووجود هذين المنهجين وإمكانية استخدامهما لا يعني تناقضًا في نظرية الوحي عند "حنفي"، بل نظرية تتيح لكل من العقلانيين والدينيين قبول الوحي كل بمنهجه.

كما يلاحظ "أحمد سالم" - وهو فيما نعلم، أول باحث مصري يعد رسالة ماجستير عن "حسن حنفي" - أن نظرة "حنفي" للتراث هي نظرة براجماتية في الأساس؛ فالتراث عنده ليس قيمة في ذاته إلا بقدر ما يعطي من نظرية علمية في تفسير الواقع، والعمل على تطويره، وإعادة بناء الإنسان وعلاقته بالعالم من حوله. فتعامله مع التراث كان تعاملًا أداتيًّا، يقوم في أساسه على تصوره مجرد ذرائع يمكن تطويرها واستغلالها في عمليات النهضة والتنمية والتقدم. فالتراث في اعتقاده مازال قيمة حية في وجدان العصر يمكن أن يؤثر فيه، ويكون باعثًا على السلوك، وتجديده إذن ضرورة واقعية، ورؤية صائبة للواقع.([25])

وقد سعى "حنفي" لتحويل الدين إلى أيديولوجيا ثورية؛ وذلك حتى يمكن للمسلمين مواجهة الكثير من القضايا والمشكلات التي كثيرا ما يتعرضون إليها مثل الاستعمار، والصهيونية، والإقطاع، والرأسمالية، والتخلف، ولتحقيق ذلك فقد عول على علم أصول الدين، وهو عنده "العلم الذي يقرأ في العقيدة الإسلامية واقع المسلمين من احتلال وتخلف وقهر وفقر وتغريب"، والذي يتسم بالطابع العملي التطبيقي، على خلال علم أصول الدين القديم الذي يتسم بالطابع الميتافيزيقي، كما سعى "حنفي" لتجديد مادة الفقه القديم بأن جعل للمعاملات مرتبة لا تقل عن العبادات، هذا فضلًا عن محاولة لتجديد اللغة الدينية. ولكن، ما الطريق الأنسب لإحداث الثورة؟ فهي تحدث في كل من: العقيدة الدينية، والفكر، والثقافة، فالواقع لا يمكن أن يتغير إلا بتغيير الأفكار وطريقة فهم العقائد، فثورتنا على فهمنا للدين هي مقدمة ضرورية لإحداث ثورة سياسية واجتماعية بشكل تلقائي.

ويعرض "الشريف" لعدة أهداف كان يرمي إليها مشروع "حنفي" التنويري، من وراء "اللاهوت"، وهي([26]): "لاهوت التحرُّر"؛ لتحرير الأراضي العربية والإسلامية من الاحتلال والغزو الأجنبي، و"لاهوت الثورة"؛ لتحقيق الديمقراطية وتعزيز الحريات في مواجهة القهر والتسلط والطغيان، و"لاهوت العدالة الاجتماعية"؛ لتحقيق العدالة والمساواة في مواجهة سوء توزيع الثروة والتفاوت الطبقي، و"لاهوت الوحدة"؛ لتحقيق الوحدة الإسلامية ضد التفرقة والتجزئة، و"لاهوت الهوية"؛ لترسيخ الهوية الوطنية، وتعزيز الثقافة الإسلامية في مواجهة التغريب، و"لاهوت التنمية"؛ لتحقيق التنمية الشاملة في مواجهة التخلف الحضاري، و"لاهوت حشد الجماهير"؛ لتجنيد الجماهير وتعبئتها ضد السلبية واللامبالاة، حتى تكون قادرة على مواجهة الاستعمار والصهيونية العالمية.

والمتأمل لتلك الأهداف التي طرحها "حنفي" في الكثير من مؤلفاته، والتي من أهمها: "الدين والثورة في مصر"، و"التراث والتجديد"، والتي بلورها "الشريف"، يمكننا القول إنه ليس هناك ما هو مرجو من "لاهوت تحرير إسلامي" أكثر من تلك الأهداف التي طرحها خلال مشروعه حول "التراث والتجديد"، والذي لا يزال - حتى وقتنا الحالي - يدعو إليه في كثير من مؤلفاته ومقالاته.

أما بالنسبة "للإسلاميين التقدميين" في تونس، فهو تيار فكري إسلامي يقترب كثيرًا من فكر اليسار الاشتراكي، وترتكز رؤيتهم الفكرية على ثلاثة أسس: استلهام المبادئ العامة للتشريع الإسلامي، والاعتقاد أن المجتمع الإسلامي هو مجتمع إنساني يؤمن بالإنسان كذات معنوية، هذا فضلًا عن المنحى الجماعي للإسلام، كما أن خطابهم يرتكز على: الهوية الإسلامية، والوعي التاريخي، والتعددية الدينية، وأولوية الثقافة، والتنوير والعقلانية، وتجديد التراث، والفهم العقلاني للإسلام، والفهم المقاصدي للنصوص الدينية، والاهتمام بالمصالح العامة للشعب، والانفتاح الفكري. كما قسموا النصوص القرآنية إلى: نصوص أصولية، ونصوص الأحكام، وبقية النصوص الشرعية. كما أن أحكام القرآن عندهم نوعان، الأحكام الثابتة والأحكام المتغيرة، فالأولى هي التي ترتبط بواقع الإنسان وبتكوينه البشري وتتسق مع بنيته الوجودية بصرف النظر عن لونه أو جنسه ودون أن تهتم بمكان أو زمان. أما الثانية، فهي التي تفرضها مقتضيات التحولات المكانية والزمانية، وهي تلبّي احتياجات الإنسان في كل مكان وزمان وتستجيب لكافة المتغيرات([27]).

والواقع أن من أهم الأشياء التي ركز عليها الإسلاميون التقدميون هو رفضهم لانحسار الدين في نزعة براجماتية صرفة، إذ يظل الاهتمام بحيوية الإيمان قائمًا في قلوبهم، فيسير الترقي الروحي عندهم جنبًا إلى جنب والترقي الاجتماعي، والسياسي، والاقتصادي. كما أن الثورة عندهم لا تعني الثورة السياسية، بل تعني الثورة الثقافية؛ لأن هذا الأخيرة هي التي تبني الوعي الإنساني، فإذا تحقق بشكل كامل الوعي لتحققت الثورة في مختلف القطاعات المجتمعية، وهم في ذلك يسيرون على نهج "حسن حنفي".

ويمضي الشريف في الفصل التاسع، حيث يحدد أصول الاتفاق والاختلاف بين تيار لاهوت التحرير في أمريكا اللاتينية وتيار اليسار الإسلامي المعاصر، حيث يرى أن التيارين يتشابهان نسبيًا في عوامل النشأة التاريخية، حيث ظهر تيار لاهوت التحرير المسيحي لمناهضة الهيمنة السياسية والاقتصادية والاجتماعية. أما تيار اليسار الإسلامي، فجاء بدوره كرد فعل على فكر التيار العلماني والتيار السلفي على حد سواء، في محاولة لتحقيق نهضة إسلامية أصيلة، كما يتفق الاثنان على جعل الدين منطلقًا أساسيًا للثورة، ويتفقان كذلك من حيث الأهداف والغايات؛ فالتياران يهدفان إلى تجديد الفكر الديني وتحويل العقدية الدينية إلى إيديولوجيا ثورية، كما يتفق التياران في عدم تبني منهج واحد في تبرير العنف، فهناك مَن برَّرَ العنف وهناك مَن رفضهُ، في التيارين على حد سواء، على الرغم من وضع الشريف لهذه الفكرة في أوجه الاختلاف وليس الاتفاق، كما بيَّن الشريف برؤية تحليلية دقيقة أثر الماركسية على التيارين، ويتجلى هذا الأثر في عدَّة نقاط، من بينها: الربط بين النظر والممارسة، وتعميم مبدأ الصراع الطبقي، وجعل الثورة تنبع من الفقراء، وتبرير العنف المُسَّلح، وتبني الاشتراكية.

وفي الفصل العاشر والأخير الذي جاء بعنوان (الدين والثورة: رؤية مستقبلية)، طرح الشريف خلاصة فكره فيه، وهو من أهم الفصول المحورية التي بدت فيها رؤيته لهذه الإشكالية عن العلاقة بين الدين والثورة، وقد ناقش فيه مظاهر النجاح والإخفاق بين التيارين، كما أوضح فيه نظرته لخطاب حركات الإسلام السياسي، ورأى أن خطاب الحركات الإسلامية هو خطاب فاشل في الأساس، ولم يستطع حتى الآن تحقيق أي نجاحات ملموسة على أرض الواقع، وقد أرجع إخفاق الحركات الإسلامية إلى مجموعة من الأسباب التي حالت دون مواكبتها للتحولات الجديدة في المجتمعات العربية، ومن هذه الأسباب: (1) غياب البعد الاجتماعي للإصلاح؛ (2) انشغالها بالعمل التنظيمي والتعبوي، على حساب الجوانب الفكرية؛ لأن أقصى ما كانت تطمح إليه هو الاعتراف بها، من قبل السلطة الحاكمة، كأحزاب سياسية، تستطيع من خلالها الوصول إلى السلطة؛ (3) طغيان الجوانب العقائدية والأصولية في فكرها؛ (4) سيادة مَبْدأ التكفير، والعنف في نهجها السياسي، وتعطش بعض أنصارها للسلطة؛ (5) فقدان الضمانات الحقيقية للاهتمام بالأبعاد الاجتماعية في الدين.

ويرى "الشريف" كذلك، أن الحركات الإسلامية ما تزال في حاجة إلى بلورة مفاهيم الإسلام الاجتماعي في صيغ مُعاصرة، كما أن عليها تحليل واقع المجتمعات العربية والإسلامية؛ حتى يتسنى لها فَهْم مظاهر الخلل والحيف وأسبابه، والوصول إلى بلورة حلول بديلة. كما أنها ما تزال في حاجة إلى مزيد من الضمانات حتى لا تتغير مواقفها الإيديولوجية، وحتى تبقى الرؤى التقدمية في السياسة، والاقتصاد، والاجتماع قائمة، خاصة بعد أن تَتَسلم هذه الحركات السلطة. والواقع أن معظم هذه الحركات، التي تضمر منذ زمن بعيد، هدف إقامة دولة إسلامية، استشعرت بعد تسلمها السلطة بعد الثورة بدنُوَّ اللحظة؛ فما لبثت أن انقلبت على المضامين الاجتماعية للدين، والتي ارتكز عليها خطابها قبل ثورات الربيع العربي. ومع أن هذه الحركات تتشدق بتأييد مفاهيم الحرية، والديمقراطية، والحزبية السياسية، فإنه يوجهها دائمًا الاعتقاد بأن العودة إلى أصول الإسلام هو الحل لكل شيء. فهدفها الأكبر إِذَنْ هو إقامة الدولة الإسلامية (حسب فَهْمها هي)، و(أسلمة) المجتمع؛ إما من القاعدة صعودًا لأعلى، أو - إذا أتيحت لها فرصة الوصول إلى السلطة أو في وقت تكون فيه على يقين تام من الحصول على السلطة - من القمة نزولًا لأسفل، كما حدث في التجربة الإيرانية بعد ثورة 1979، والتجربة السودانية بعد انقلاب 30 يونيو 1989م([28]).

وأخيرًا، يمكننا القول إن كتاب "الدين والثورة" لـ "حمدي الشريف" يعد واحدًا من أهم المؤلفات التي عالجت بشكل تفصيلي نقدي جدلية العلاقة بين الدين والثورة من خلال قراءات تاريخية، وفلسفية، ولاهوتية قلما نجد مثيلها في المكتبة العربية، هذا فضلًا عن قراءته النقدية لأعلام كلا التيارين والمقارنة بينهم، إذ نجح في استحضارهم ومحاورتهم، كما أنه من أشمل وأفضل ما طُرح حول هذا الموضوع، كما نجح وهو الأهم أن يجعل القارئ العربي يشارك "الشريف" في مثل تلك المناقشات والهموم الفكرية، وهذا هو المطلوب من الدراسات الفكرية الجادة التي تشتبك مع الواقع من أجل الانتقال به إلى مستقبل أفضل تسوده القيم الإنسانية التي دعت إليها جميع الأديان.

[1] د/ حمدي الشريف: الدين والثورة بين لاهوت التحرير المسيحي واليسار الإسلامي المعاصر، القاهرة، دار مصر العربية للنشر والتوزيع، 2016، ص. 21

[2] المرجع السابق، ص. 23

[3]المرجع السابق، ص. ص. 82، 118، 119.

[4] المرجع السابق، ص.174

[5] المرجع السابق، ص.178

[6] المرجع السابق، ص. ص. 178، 179، 180

[7] المرجع السابق، ص.182

[8] المرجع السابق، ص. ص.182، 183

[9] المرجع السابق، ص.189

[10] المرجع السابق، ص. ص.191، 192

[11] المرجع السابق، ص. ص.200، 201

[12]المرجع السابق، ص. ص. 207، 208

[13] المرجع السابق، ص.ص. 209 – 215

[14] المرجع السابق، ص.217

[15] المرجع السابق، ص.218

[16] المرجع السابق، ص. ص. 218، 219

[17] المرجع السابق، ص.230

[18]المرجع السابق، ص. ص.232، 233

[19]المرجع السابق، ص.ص. 238، 239

[20] المرجع السابق، ص. 249

[21]المرجع السابق، ص ص. 249 - 254

[22] المرجع السابق، ص ص. 255 - 256

[23] المرجع السابق، ص. ص. 259، 260

[24] المرجع السابق، ص. 262

[25] راجع: د. أحمد سالم: إشكالية التراث في الفكر العربي المعاصر: دراسة نقدية مقارنة بين حسن حنفي وعابد الجابري، القاهرة: دار رؤية للنشر والتوزيع، 2010م، ص 222

[26] حمدي الشريف: المرجع السابق، ص. ص. 267، 268

[27] المرجع السابق، ص 269 - 271

[28] انظر أيضًا: د/ حمدي الشريف: الدين والسياسة وهموم أخرى، حوار أجراه الأستاذ حسام الحداد، منشور على موقع بوابة الحركات الإسلامية، بتاريخ: 25 - 7 - 2020. متاح على:

https://www.islamist-movements.com/54383

البحث في الوسم
لأيديولوجيات

مقالات ذات صلة

المزيد