قراءة في كتاب المصباحي: " من أجل حداثة متعددة الأصوات، ورش عمل في فلسفة الحق"


فئة :  قراءات في كتب

قراءة في كتاب المصباحي: " من أجل حداثة متعددة الأصوات، ورش عمل في فلسفة الحق"

قراءة في كتاب المصباحي:

" من أجل حداثة متعددة الأصوات، ورش عمل في فلسفة الحق"

قراءة التراث والحداثة بعقل التحولات ولغة الصيرورة*


إن المتتبع لأعمال الدكتور محمد المصباحي الفكرية والفلسفية، بشكل دقيق، لا يستغرب من كلامه عن فكر الحداثة وتحولاتها الحاصلة أو بالأحرى قراءته لبعض مشاهد التنوير المتمثلة في نزعات ليبرالية تحررية. وعلة ذلك، أن الرجل لم يتردد عن ممارسة النقد والمراجعة في سياق بناء دلالات أو مفاهيم العقل والوحدة في تاريخ الفلسفة العربية الإسلامية.

وبهذا، يعتبر كتاب "من أجل حداثة متعددة الأصوات"، من النصوص الأساسية في مسار تفكير المفكر المغربي محمد المصباحي، إنه مسار من التحولات والصيرورات والانتقال التي طرأت على رؤيته الفلسفية والفكرية. هذا شاهد ودليل على إيمان الرجل بالمراجعة والنقد والتطوير والتعديل...ذلك أن الفكر الذي لا يرسمه طريقه من حيث هو فكر لا من حيث هو فلسفة أو مذهب أو أيديولوجيا..هو فكر سائر إلى حصد الهزائم والويلات. لذا لا عجب أن يتحدث "هايدغر" عن نهاية الفلسفة وبداية الفكر.

إذن، فهذه الرؤية هي التي يشتغل الدكتور المصباحي في قراءاته للتراث الفلسفي العربي القديم والفلسفات المعاصرة.

ومن الواضح، أن تفكيك محمد المصباحي لمفهوم الإنسان القرسطوي الخالي من كل ملامح فردانية تنويرية بحكم هيمنة مقولة العقل الهيولاني وإطلاقية الحقيقة[1]. فضلا عن توجيه انتقادات جذرية وقاسية للقول الرشدي في الكثير من المسلمات من قبيل التمييز بين الخاصة والجمهور، وبرهانية الفلسفة والضرورة والسببية[2]، ويترتب من هذا، أن لحظة الحداثة في الكتابة الفلسفية عند الكاتب محمد المصباحي هي لحظة مركزية تم استجماع عناصرها ومكوناتها النظرية والتأويلية في نص: "من أجل حداثة متعددة الأصوات".

لعل الرهان هو اعتبار أن التنوير هو الأفق الأعلى لكل فكر فلسفي عقلاني مهما تعددت الانتقادات وتباينت المراجعات لمقولة التنوير من قبل النزعات الما بعد-الحداثية (post-modernisme). إذ أن ماهيته (التنوير) تبقى ثابتة، بالرغم من اختلاف أشكالها وإمكاناتها.

لقد سارع الكاتب إلى بيان فرضيته المركزية من جراء اعتبار أن من داخل الحداثة هناك، في الحقيقة، حداثات أو خطابات أو أصوات تختلف من فليسوف لآخر وفق موجهات القراءة وآليات التأويل. وهذا بطيعة الحال دفع لتصور تقليدي بائس يروم حصر الحداثة في عقلانية صارمة أو ذاتية مغلقة أو مثالية مطلقة. فضلا عن ذلك، أن هاجس الكتاب هو التفكير في قضايا العقل العملي المتصلة بفلسفات السياسة والحق والثقافة ومجتمع المعرفة والتعدد الثقافي وحقوق الإنسان إلخ.

من البين أيضا، أن من عناصر الرؤية المنهجية للدكتور المصباحي هو محاولته النظر إلى علاقة التراث بالحداثة، علاقة الكل بالجزء في سياق منطق جدلي لا يغيب فيه خصوصيات الهوية المرنة المستوعبة لمصيرها ومرحلتها التاريخية. بمعنى أدق لم تكن عملية تقويض التراث الفلسفي العربي من دواخله بفعل أدوات الحداثة ومنجزاتها إلا بغية تحقيق أمرين اثنين هما:

أما الأمر الأول، فهو بيان مدى محدودية التفكير الفلسفي العربي مع الفارابي وابن باجة وابن رشد...ولا يشي في اعتقادي دعوة المصباحي للقطيعة مع التراث بقدر ما هو محاولة تفجير أسئلة وإشكالات جديدة تكون منفذا لتعدد التراث وأصواته بعيون العقل النقدي التنويري الحديث. وأما الأمر الثاني، فهو التماهي مع الفكر الكوني العالمي المتمثل في النزعات الحقوقية والإنسانية والتحررية التي تدعو إلى الإنارة والتنوير ومقاومة القصور الذاتي والموضوعي.

لقد كان الجمع بين تقويض التراث من الداخل وبيان محدوديته وبين إبراز التعدد الخطابي، إن صح التعبير، في دائرة الحداثة وما بعدها من خلال مفاهيم التوتر الإشكالي والإمداد الدلالي الذي يتجلي للقارئ في استثمار د. المصباحي لأدوات ونظريات أرسطية (الجانب الإجرائي والصوري) في تقريب قضايا العقل العملي ولواحقه، وهو أمر يجعلنا نقر أيما إقرار أن في ذلك الاستثمار الدلالي (القوة والفعل، المكان المحايد (العقل الهيولاني)، الفعل والانفعال...) خاصية إبداعية هائلة تتخطى الكثير من التقليد في التأليف الفلسفي العربي اليوم.

وهكذا، جاء في هذا المعرض كتاب: "من أجل حداثة متعددة الأصوات. ورش عمل في فلسفة الحق"، كتعبير قوي عن محاورته لفلاسفة محدثين من أمثال: هوبز وكانط وهابرماس وهايدجر ومحمد عزيز الحبابي وناصيف نصار والعروي...إلخ، وهو اختيار يشي بأن الأمر يتعلق بقناعة فكرية راسخة، تتمثلبضرورة وجود فضاء متعدد لجميع الهويات والجماعات الثقافية والحساسيات الفكرية والسياسية، بعيدا عن ترسيخ ثقافة الكلام عن الحق باسم الإنسانية، لأن ذلك سلب حق الغير في التعبير عن ذاته.

إن الفعل بما هو إنساني، يفترض اعتبار الآخر ذاتا لا موضوعا"[3]. وهذا هو معنى التنوير الكانطي الذي يتأسس عن طريق "تخليص الذات من جبنها وكسلها"[4]. وتحريرها "من وصاية الغير...وتوجيهه لها"[5]. وينتج عن هذا، أن الحرية هي محركة "الحداثة وصورتها وغايتها في آن واحد".[6]

لا شك أن "كانط" قد عمل على ترسيخ هذه الحرية في تفكيره في الدين من حيث هو دين خالص. يقول المصباحي: "لذلك كان لابد من وجود الفاعل هو الحرية، وإن كانت من الأشياء في ذاتها".[7]

ومن المؤكد، أن تطوير هذا التصور الفلسفي الحداثي لفكرة الدين قد كان من قبل "هابرماس" أيضا الذي اعتبر أن مسألة "التعدد الثقافي" هو من "نتائج الإقرار بتعدد العقل والعقلانيات والتخلي عن الإيمان التقليدي بفعل حداثة الواحد ووحدانية كلية وشمولية"[8]. فضلا عن ذلك، أن مبدأ المساواة والحرية لا يتم إلا من خلال الالتزام بقواعد "النقاشات الديمقراطية التي تسعى للوصول إلى حلول وسطى مبنية على أسس عقلانية وملبية مصالح الجميع"[9]، إذ أن الثقافات التراثية، كما يقول د. المصباحي، لا تضمن بقاءها إلا عن "طريق العمل على تجديد نفسها بنفسها في ظل التغيير المستمر الجاري في عالم اليوم".[10]

ومن البين كذلك، أن "ليو شتراوس"، كما يقدمه الكتاب، صوت آخر من أصوات الحداثة الذي يروم العودة إلى تاريخ الفلسفة من "أجل تأسيس اللاهوت السياسي". يقول المصباحي في هذا المعرض: "كان مشروع شتراوس السياسي يرمي إلى ربط السياسي بالديني، يتوسط الفلسفة أو بالأحرى أزمة الحاضر".[11]

من المعلوم أن تطوير هذا الكتاب لفرضيته لم يتم إلا من خلال بيان محدودية فلسفة "هوبز" السياسية، كوجه من أوجه الحداثة، والتي أقل ما يقال عنها أنها بعيدة عن "الحساسية المعاصرة لحقوق الإنسان"[12]. وذلك بعلة بناء "هوبز" لعملية إدماج حقيقي ما بين "المصلحة الخاصة بالمصلحة العامة" عن طريق "الواحد بالعدد"، وهو ارتداد صارخ على التنوير الكانطي من داخل فكر الحداثة ذاته. وكأن الحداثة لا تتمخض إلا من بؤرة التناقض والتضاد.

وبهذا الاعتبار، فإن محاور الكتاب الأربعة، إنما تتخللها وجهات نظر نقدية تتجلى في مظهرين. فأما المظهر الأول، فينجلي في عملية بناء - المؤلف - لرؤية جديدة للتراث الفلسفي العربي القرسطوي عن طريق بيان محدوديته المضمونية والمعرفية وانسداد أفقه التاريخي. يقول المصباحي في سياق نقد فلسفة ابن باجة:" فمثلا عندما كان يفكر ابن باجه في مفهوم "الاتصال" مع العقل الفعال. فقد كان بفعل ذلك انطلاقا من المفاهيم العلمية، مما أدى به إلى أن يزج بفكره في طريق مسدود"[13]. ويقول كذلك: "وبهذه الجهة، لم يكن كانط يخشى – كما كان بالنسبة لابن رشد- من تنوير الشعب والجمهور..."[14]، بل امتدت هذه الرؤية النقدية الجذرية إلى تقويض مرتكزات الفكر الفلسفي العربي على وجه العموم المتمثل في غياب "الذات"، لأننا لم نستطع بعد تحقيق حتى لحظته الأساسية والأصلية، لحظة الذاتية"[15]. بالرغم من وجود عمليات البحث عن الحلول للمآزق الفكرية والوجودية من قبيل تجريح مسار المقاربة التوحيدية بدل المقاربة التقابلية، والتي هي "مقاربة تنظر إلى العقل الإنساني بوصفه عقلا واحدا، وأن الاختلاف فيه ينحصر في كيفية ملء مقولاته وجهة استعمالها (الزمان، الفعل، الانفعال، الأخلاق، المواطنة، وحقوق الإنسان..)، فتكون العقول كالشرائع واحدة بالقوة كثيرة بالفعل."[16]

وأما المظهر الثاني، فينجلي في رصد المؤلف لحالة المغرب المعاصر وما طرأ عليه من تحولات إيجابية من رفع المحنة عن الفلسفة، وفسح المجال لحقوق الإنسان...بيد أن الأمر ما زال وفق تعيينات تشخيصية قام بها د. المصباحي، والتي تتطلب "القيام بما يشبه ثورة ثقافية أو أخلاقية، يكون هدفها إعادة ثقة الإنسان المغربي في موطنته ووطنيته، أن يتصالح مع انتمائه لدولته ووطنه..."[17]، بمعنى أن استرداد الإنسان المغربي لكرامته هو أن يعامل "كذات لا كموضوع. وهذا هو طريق حداثتنا في هذه اللحظة".[18]

ويتحصل من جميع ما تقدم، أن التفكير في الحداثة من قبل محمد المصباحي لم يكن إلا من أجل إبراز محدودية التراث الفلسفي العربي وتخلفه عن ركب الحداثة والتنوير والحرية والحق والتعدد الثقافي إلخ من جهة أولى. وأما من الجهة الثانية، فهو العمل المستمر والدؤوب على النظر إلى التراث في اختلافه وتكوثره، وفحص الحداثة في تعدد أصواتها وتنوع خطابتها، وهو رهان الفلسفة ذاتها، بلْ قل ْ مهمة الفكر في زمن الحداثات المعاصرة. إنها لغة الحركة والصيرورة والانفتاح والإمكان...لا لغة الثبات والهوية والفعل والتحقق.


*- قراءة وتقديم لكتاب: "من أجل حداثة متعددة الأصوات، ورش عمل في فلسفة الحق"، المؤلف محمد المصباحي، الصادر عن دار الطليعة للطباعة والنشر، الطبعة الأولى 2010

[1]- يقول المصباحي: "إن نشأة نظرية الكوجيتو كانت على أنقاض نظرية العقل، إذ الأولى هي التي وضعت حدا نهائيا لوجود الثانية ولأثرها على العلم..." راجع ص33

- ويقول أيضا: "ومع ذلك، فإن هذه النظرة إلى العلم تبقى في معظمها ذات سمة انفعالية سلبية لا تستطيع بمتطلبات الإنسان الحديث، ولا إشباع نهم العقل في شوقه الجارف للتواصل مع الوجود ومخاطبته." ص51، راجع كتاب: "تحولات في تاريخ الوجود والعقل. بحوث في الفلسفة العربية الإسلامية"، دار الغرب الإسلامي، الطبعة الأولى 1995

[2]- راجع الفصل الثالث: "الوجه الآخر لحداثة ابن رشد من كتاب: "الوجه الآخر لحداثة ابن رشد"، دار الطليعة-بيروت، ط1 1998

[3]- المصباحي (محمد)، كتاب: "من أجل حداثة متعددة الأصوات، ورش عمل في فلسفة الحق"، ص160

[4]- المرجع ذاته، ص15

[5]- المرجع ذاته، ص15

[6]- المرجع ذاته، ص215

[7]- المرجع ذاته، ص41

[8]- المرجع ذاته، ص81

[9]- المرجع ذاته، ص 88 و89

[10]- المرجع ذاته، ص115

[11]- المرجع ذاته، ص157

[12]- المرجع ذاته، ص67

[13]- المرجع ذاته، ص58

[14]- المرجع ذاته، ص22 و23

[15]- المرجع ذاته، ص25

[16]- المرجع ذاته، ص234

[17]- المرجع ذاته، ص202

[18]- المرجع ذاته، ص211