قراءة في كتاب حسام تمام: "الإخوان المسلمون؛ سنوات ما قبل الثورة"


فئة :  قراءات في كتب

قراءة في كتاب حسام تمام:  "الإخوان المسلمون؛ سنوات ما قبل الثورة"

لم تعد جماعة الإخوان المسلمين، وقد جاوزت التّسعين سنة وتمدّدت في كلّ أنحاء البلاد، مجرّد إطار سياسي أكبر من حزب وأقلّ من دولة، كما لم تعد كونها مجرّد مؤسّسة أو كيان دعوي. لقد خلقت مجتمعا موازيا له شبكة علاقاته وأدواره السّياسية والدّعوية، بل ومصالحه ومكتسباته الاقتصاديّة. لذلك حظيت هذه الجماعة باهتمام كبير من طرف الباحثين والأكاديميّين؛ فما صدر من كتب ودراسات في هذا الإطار يفوق غيرها، ربّما باستثناء حزب الوفد الذي وجد اهتماما مساويا لها، غير أنّه في الوقت الذي انحسر الاهتمام به في العقود الأخيرة، مازالت العناية بدراسة جماعة الإخوان المسلمين في ازدياد.

وفي هذا الإطار، يأتي كتاب "الإخوان المسلمون: سنوات ما قبل الثورة" للكاتب الرّاحل حسام تمّام[1]، وهو كتاب صادر عن دار الشّروق المصريّة في طبعة أولى (2010)، يقع في 211 صفحة من الحجم الكبير، قسّمه الكاتب إلى مقدّمة وأربعة أقسام، كلّ قسم يضمّ تحته مجموعة من المباحث، وقد كان الهدف منه كما يظهر من المقدّمة، هو "محاولة فهم الأطر الحاكمة التي حدّدت مسار الجماعة واختياراتها مع إرهاصات الثّورة الأولى، كما يحاول توفير بنية تحليليّة يمكن من خلالها استشراف مواقف ورؤى الجماعة في المحطّات القادمة"[2].

الإخوان المسلمون والإصلاح: قراءة في الجدل والتّدافع الدّاخلي

يرى الكاتب أنّ السّاحة السّياسية بعد الانتخابات التّشريعية التي عرفتها مصر سنة 2005 كانت مؤهّلة لقبول خطاب مختلف يتناغم مع حمّى التّغيرات التي اجتاحت البلاد؛ ومن ثمّ كانت لحظة صعود نادرة للتيّار الإصلاحي في جماعة الإخوان المسلمين، وهو التيّار الذي عزّز موقعه داخل الحياة السّياسية المصريّة في ظلّ ازدياد الطّلب المحليّ والعالميّ على مثل هذا الخطاب. وفي المقابل، كان التيّار المحافظ داخل الجماعة متغاضيا عن هذه التّطورات. ومن هنا، انطلق جدل إخواني داخلي حول وضع الجماعة والصّورة التي يراها الإخوان المسلمون لمستقبلهم في واقع جديد تحوّلوا فيه إلى الرّقم الأهمّ في المعادلة السّياسية المصريّة؛ "فالإخوان أصبحوا في مواجهة الوضع الأنسب للتّواجد داخل النّظام السّياسي في مصر بعد أن تحوّلوا إلى القوّة السّياسية المعارضة الأولى بعد الانتخابات التّشريعية (2005)، ولأوّل مرّة منذ عقود ممتدّة في تاريخ الجماعة، ظهر إلى العلن نقاش إخوانيّ داخليّ حول مسألة الخيار بين التّحول إلى حزب سياسيّ، وما يستتبعه ذلك من ضرورة الحصول على موافقة النّظام والنّزول الكثيف للتّفاعل مع كلّ الأطياف السّياسية الموجودة على السّاحة، أو البقاء في صورة الجماعة الدعويّة"[3].

لقد شكّلت انتخابات 2005[4] نقطة التّحول الكبرى لجماعة الإخوان المسلمين، حيث راجعت الجماعة مواقفها من الخلافة والدّولة الإسلاميّة، وأسقطت كلّ ما يتعلق بالقضيّة الأولى –أي الخلافة- ليس على مستوى البرنامج السّياسي فقط، بل وحتّى على مستوى "الرّمزية"؛ إذ خلت الدّعاية الانتخابيّة من أيّة إشارة إلى دولة "الخلافة الإسلاميّة"، أو حتّى "الدّولة الإسلاميّة"، وكانت مفارقة مدهشة أنّ قارب النّجاة أو السّفينة التي كانت محور الدّعاية الإخوانيّة في انتخابات 1987، والتي كانت ترمز لجماعة الإخوان طرأ على شراعها التّعديل؛ إذ لم يعد سداسيّا كما كان يرمز إلى مراحل المشروع الإخوانيّ الستّ، كما صاغها المرشد المؤسّس الإمام حسن البنا (وهي: بناء الفرد المسلم، فالأسرة المسلمة، فالمجتمع المسلم، فالحكومة الإسلاميّة، فالدّولة الإسلاميّة، فالخلافة الإسلاميّة وأستاذيّة العالم)، لقد جرى تعديلها لتصبح رباعيّة وأُسقطت منها خطّتا إقامة الدّولة الإسلاميّة وإعادة الخلافة الإسلاميّة[5].

لقد عمل الإخوان المسلمون في العقدين الأخيرين على تخطّي التّصور الدّيني لشكل الدّولة إلى التّصور المدني، متجاوزين بذلك خطاب الأزهر والمؤسّسة الدّينية الرّسمية. وبهذا الانتقال تكون الجماعة قد صارت أقرب إلى حزب وطني قطري، بل وحتّى حزب يميني ذي توجّهات ليبراليّة في المسألة الاجتماعيّة الاقتصاديّة، حيث القبول أو عدم الممانعة بالتّحولات التي طالت البلاد باتجاه إقرار سياسات التّحول الاقتصاديّ نحو تبنّي اقتصاد السّوق القائم على الخوصصة، وإعادة الهيكلة وحريّة التّجارة وانسحاب الدّولة.

لكن مع سنة 2010، ستوجّه الدّولة ضربات موجعة للجماعة؛ وذلك عن طريق اعتقال بعض كبار رجالاتها، وهو الأمر الذي أدّى إلى تراجع موجة التّفاؤل التي كانت تقود "شراع التّيار الإصلاحيّ في الإخوان، وربّما في المشهد السّياسي برمّته بعد أن هدأت حمّى التّغيير، وتبدّلت الريّاح الدّولية التي كانت مواتية. سنلاحظ إذن كيف سيبدأ التّيار التّنظيمي حملة ممنهجة لما نسمّيه بعمليّة نزع الشّرعية عن كلّ الأفكار الإصلاحيّة[6] التي تمّ بناؤها خلال النّزول السّياسي والإعلاميّ للإخوان إلى ساحة العمل العام وخاصّة خلال التّجربة البرلمانيّة الأخيرة"[7]، وهو ما سينعكس ويظهر جليّا خلال الانتخابات الدّاخلية التي أجرتها الجماعة بعد هذه الأحداث، حيث انكسرت وتراجعت الأصوات الإصلاحيّة لحساب التيّار المحافظ ورموزه، واتّجهت الجماعة لمزيد من التّشدد على المستوى التّنظيمي من حيث الضّبط والرّبط والتّشدد في معايير التّصعيد والتّرقي داخل الجماعة لمصلحة هذا التيّار الأخير.

بين إكراهات الأزمة وإمكانات التنظيم:

قد يتبادر إلى ذهن المتتبّع أسئلة جوهريّة في هذا الباب من قبيل: لماذا لم تنشقّ جماعة الإخوان المسلمين؟ وما موقف الجماعة من الحركات الاحتجاجيّة؟، وهما سؤالان حاول حسام تمّام الإجابة عنهما في القسم الثّاني من كتابه؛ فهو يرى أنّ جماعة الإخوان المسلمين مرّت خلال مطلع 2010 بظروف قاهرة؛ حيث كان الخلاف على أشدّه أثناء انتخاب المرشد العام، وقد تجاوزت الجماعة هذه الأزمة العاصفة دون انفجار أو انشقاق وانتخبت قيادة جديدة، وقد عزا منظّروها ذلك لاعتبارات تتعلّق فقط ب ـ"الرّبانية" و"الرّسالية" التي تعلو بها عن كلّ آفات التّنظيمات والكيانات السّياسية الأخرى.

لكنّ المتتبّع والدّارس لتاريخ هذه الجماعة، سيجد أشكالا من الانشقاق مرّ بها الإخوان المسلمون في محطّات مختلفة[8]، لكن دون أن يؤثّر ذلك على التّوجه العام الذي رسمته الجماعة لنفسها، وقد عزا حسام تمّام مناعة الإخوان الذّاتية لسببين اثنين[9]؛ أوّلهما: أنّ التّنظيم يتمدّد في فترات الانفتاح السّياسي، بينما ينكمش على المنتمين إليه في فترات الانسداد؛ فيجري العودة إلى استدعاء العلاقات الهرميّة ومبدأ الطّاعة للقيادة حفاظا على وحدة الصفّ الإخوانيّ؛ وذلك يعني أنّ الأبعاد التّنظيميّة جوهريّة في الحركة الإخوانيّة، حيث يبدو أنّ فكرة التّنظيم تشكّل رهان البقاء على قيد الحياة بالّنسبة إلى الجماعة منذ مواجهتها مع النّظام النّاصري في الخمسينيّات من القرن الماضي، وثانيهما: هو أنّ التّنظيم كان ومنذ منتصف السّبعينيات يتمدّد أفقيّا وعموديّا، ليشغل مساحات مجتمعيّة كانت بعيدة عن سيطرة الدّولة، وشكّلت معينا مهمّا لانتشار الأطروحة الإخوانيّة من جديد وموارد مهمّة للتّعبئة والحشد، حيث يصعب الحديث عن تراجع فعليّ للتنظيم الإخوانيّ الذي يرتبط بطبيعة الإيديولوجيّة الإخوانيّة أيضا.

أمّا عن موقف الجماعة من الاحتجاجات الشّعبية، فيمكن القول إنّ موقفها تحكمه ثلاثة مستويات مهمّة، أوّلها: طبيعة الانفتاح السّياسي الموجود داخل النّظام السّائد، وثانيها: درجة توزيع المهامّ داخل جماعة الإخوان المسلمين، وثالثها: طبيعة الموارد المتاحة ممّا يحدّد سلوك الجماعة السّياسي تجاه القوى الجديدة وآليات التّغيير.[10]

ولفهم أسباب موقف الإخوان المسلمين من الحركات الاحتجاجيّة، من المهمّ التّأكيد أنّه عُرف عن الإخوان قلّة تعاطيهم مع العمل الجبهويّ أو الدّخول في تحالفات حقيقيّة؛ وذلك بسبب طبيعة التّربية والتّكوين داخل تنظيم مغلق نوعا ما يقوم على مبدأ السّمع والطّاعة للقيادة، ومعتاد على العمل والتّحرك في بيئة متجانسة بل وخالصة إيديولوجيّا وتنظيميّا، ومن ثمّ فقد إلى حدّ كبير القدرة على التّوازن بين جماعيّة العمل والالتقاء مع التيّار العامّ في المعارضة.

ترييف الإخوان أو كيف تراجعت الجماعة عن تراثها في المدينة؟

"الترييف" الذي تحدّث عنه الكاتب هنا، يعني إشاعة ثقافة ونمط علاقات جديدة يختلف عمّا كان سائدا منذ نشأة الإخوان المسلمين كجماعة حضريّة؛ فالجماعة شهدت في السّنوات الأخيرة سيّادة ثقافة ريفيّة تخالف ما نشأت عليه، ثقافة يطغى عليها الإيمان بالقيم "الأبويّة"، حيث الطاعة المطلقة والإذعان للمسؤول التّنظيمي، وانتشار ثقافة الثواب والعقاب والتخويف حتّى في العلاقات التنظيميّة، وأبرز مظاهر هذا "الترييف" تبدو في ضعف احترام فكرة اللوائح والقوانين المنظّمة والمؤسّسة للعلاقة داخل الجماعة، كما برز على نحو واضح في الانتخابات الأخيرة (2008) التي كانت الأسوأ من حيث التعتيم الإعلاميّ والتنظيمي، ومن حيث تضارب المعلومات الحقيقيّة والضّرورية بشأنها، وكذلك من حيث التّهميش وتغييب اللوائح الحاكمة. وبتأثير هذا "الترييف" لم يعد مهمّا أن تكون هناك انتخابات شورى أو تنظيميّة داخليّة أو أن تدار هذه الانتخابات وفق الشّروط واللّوائح المنظّمة، بل أصبح المهمّ ومحور الحديث ضرورة احترام القيادة ووجوب الثقة المطلقة فيها.

سنلاحظ إذن أنّه في ظلّ هذا "الترييف" وبسببه، انتشرت التّكتلات أو "جيوب" الولاء الفرعيّة بناء على العلاقات غير المؤسّسية، فصارت مناطق ومحافظات بكاملها ينظر إليها، باعتبارها منطقة نفوذ أو تبعيّة لقيادة تنظيميّة نافذة بعينها، فيقال محافظة أو مدينة معيّنة بأنّها "تبع" الأستاذ فلان أو عمّ الحج فلان أو هي مقفولة عليه وعلى أنصاره. في مثل هذه الأجواء، يصعب إنفاذ أمر تنظيميّ على غير رغبة هذه القيادة أو رضاها، حتّى وإن لم يعرض عليها الأمر، كما يتمّ تصعيد القيادات تنظيميّا على أساس القرابة من هذه القيادة أو تلك وقوة علاقته بها، كما تتضاءل تدريجيّا فرص التّعددية والتّنوع الذي دائما ما كان مصدر قوّة للجماعة[11].

موقف الإخوان المسلمين من الجهاد والحركات الجهاديّة: [12]

في هذا الباب، يرى الكاتب أنّ علاقة الإخوان المسلمين بالعمل المسلّح كانت إلى وقت قريب في طريقها إلى الطيّ، باعتباره من الماضي لولا التّطورات التي شهدتها الجماعة في مصر والجدل الذي دار حولها مؤخّرا، فقد أثار أبو العلا ماضي - القيادي الإسلاميّ ووكيل مؤسّسي حزب الوسط - الجدل مجدّدا حول علاقة الجماعة بالعنف والعمل المسلح، حين كشف عمّا اعتبره دورا للإخوان في العمل الجهاديّ في الشّيشان إبّان ذروة الحركة الانفصاليّة التي شهدتها منتصف التّسعينيات، كما ذكر حديثا قديما، يعود لأواخر السّبعينيات من القرن الماضي، للمرشد الخامس (مصطفى مشهور) تحدّث فيه عن تنظيم سريّ للإخوان في الجيش على استعداد للتّحرك من أجل الوصول إلى السّلطة.

وقبل ذلك، كانت أولى علاقات الإخوان بالعمل المسلح إبّان فترة الشّيخ حسن البنا الذي أسّس تنظيما سريّا كان يتلقّى أفراده تدريبا عسكريّا، والذي شارك في عمليّات المقاومة ضدّ العصابات الصّهيونية في فلسطين، لكنّه سرعان ما تورّط في عمليّات عنف ضدّ خصوم الجماعة السّياسيين داخل مصر؛ كان من أبرزها اغتيال رئيس الوزراء محمود فهمي النّقراشي، وهيّ العملياّت التي عجّلت بالردّ السّريع بحلّ الجماعة وحظرها، ثمّ اغتيال مؤسّسها ومرشدها حسن البنا، الشّيء الذي سيدفع بالإخوان المسلمين إلى محاولة تجاوز هذه التّجربة مرّة بالإدانة المباشرة والصّريحة، والنّظر إليها باعتبارها خروجا عن الخطّ العامّ للجماعة والتّبرؤ من منفّذي الاغتيالات ومن يقبلون بالعنف وسيلة لحسم الصّراعات السّياسية؛ ومرّات أكثر بمحاولة تبريرها بربطها بالسّياق التّاريخي، حين كانت كلّ الحركات الوطنيّة لا تتورّع عن توظيف السّلاح لتحقيق مشروعها السّياسي، وهو ما سيتأكّد على أرض الواقع حين اصطدمت الجماعة مع ضبّاط ثورة يوليو (تموز) ونظامها النّاصري، حيث ولد تنظيم 1965 الانقلابيّ الذي يمكن اعتباره امتدادا وتطوّرا طبيعيّا لفكرة النّظام الخاصّ وخبرته.

لا ترفض إذن الجماعة فكرة الجهاد المسلح، "سواء في مواجهة الاحتلال أو في مواجهة الدّولة غير الإسلاميّة، لكنّهم لا ينخرطون بأنفسهم في هذا الجهاد، ويفضلون أن يقوم به آخرون. لذلك، ومع بدء حركة الجهاد الأفغانيّ ضدّ الاحتلال السّوفياتي حسم الإخوان، بعد خلافات كبيرة، خيارهم برفض الانغماس في الجهد الحربي والاكتفاء بالدّعم المادّي واللوجيستي، وهو القرار الذي اتّخذته اللجنة المسؤولة عن ملف الجهاد الأفغانيّ وقتها، وكان يرأسها الدّكتور أحمد الملط، وكان قرارا يعكس قدرا كبيرا من الإدراك السّياسي؛ لقد خشيت الجماعة من أن تنقلب الأنظمة العربيّة الدّاعمة للجهاد على المجاهدين، فيوظّف الأمر لاحقا ضدّ الإخوان، وهو ما جرى فعليا، فاتّجه الإخوان إلى دعم الرّاغبين في الجهاد، ولكن امتنعوا عن بناء أيّ تشكيلات عسكريّة، بل ورفضوا مشاركة أفرادهم. في أفغانستان، استفاد الإخوان من درس تجربة التّطوع بالآلاف في حرب فلسطين، وقرّروا أنّ الأولويّة لمصلحة بناء تنظيمهم داخل مصر وتقويته سياسيّا مع الاستفادة دعائيّا من قضيّة الجهاد. وقد تكرّر الأمر في حرب البوسنة والهرسك التي اقتصر فيها الدّور الإخواني على الدّعم المادي والإغاثي. ففي البوسنة، كان الدّرس قد تأكّد للإخوان، وزاد عليه درس العائدين من أفغانستان وما نالهم من مطاردات وملاحقات، لذلك اقتصر عملهم على الإغاثة، ولم تكن لهم أيّة صلات مباشرة بالعمل أو العتاد العسكريّ"[13].

موقف حركة الإخوان إذن من موضوع الجهاد حسب حسام تمّام، له علاقة بتطوّرات بيئتها السّياسية المحيطة من فرص وإكراهات من جهة، وبحسابات الحركة نفسها في تفاعلها مع هذه التّطورات من جهة أخرى؛ وهي الحسابات المتعلّقة بالحفاظ على الحدّ الأدنى من قدرتها على تحقيق أهدافها، "وعلى رأسها في حالة الجماعة بقاؤها واستمراريّتها منذ مواجهتها الأولى مع النّظام عقب اغتيال مرشدها الأوّل حسن البنا، هذان المتغيّران (الفرص والإكراهات) يساهمان بقسط وافر في تأطير النّقاشات الدّاخلية في الجماعة بشأن تعريف الجهاد وتوقيته...، حيث تتضمّن الإيديولوجيّة الإخوانيّة منذ مرحلة البنّا تكييفا للفكرة الجهاديّة مع المتغيّرات الخارجيّة أكثر منه تغليبا للرؤية الفقهيّة"[14].

الحركة الإسلاميّة والعمل السّياسي: في أوجه الاختلاف بين الإخوان وحزب العدالة والتّنمية التّركي

أثناء إجراء الكاتب لمقارنة بين جماعة الإخوان المسلمين في مصر، وحزب العدالة والتّنمية التّركي على مستوى العمل السّياسي؛ أكّد أوّلا أنّ تركيا ومصر تتقاسمان عددا من نقاط التّشابه المهمّة؛ فالسكّان في غالبيّتهم مسلمون سُنّة، كما أنّ الدّولتين معا واجهتا فترات من حكم الحزب الواحد تلتها مراحل الانفتاح السّياسي والدّيني، ولكنّ النّقطة الأهمّ التي تفيد في هذا الباب هي أنّ هناك علاقة بين الإسلام والتّحديث في الدّولتين، يعكسها الصّدام الذي وقع بين القوى الدّينية في المجتمع، وبين النّظم التي قادت عملية التّحديث والعصرنة. لكنّ الاختلاف واضح من حيث تراث الممارسة السّياسية في تركيا التي أفضت إلى نظام ديمقراطي تشارك فيه الأحزاب السّياسية الإسلاميّة في العمليّة السّياسية منذ السّبعينيات من القرن العشرين، حتّى وصلت إلى السّلطة منذ 2002، بينما لا تزال مصر تراوح في مرحلة صراع سياسيّ بين الحزب الحاكم وجماعة الإخوان المسلمين[15].

لم يكن إذن - كما أكّد حسام تمّام في نهاية كتابه- موقف الإخوان المصريّين من المشاركة السّياسية في النّظام قد تبلور إلا مع منتصف الثّمانينيات حين دخل في تحالف مع حزب الوفد في الانتخابات التّشريعية عام 1984 ومع حزب العمل عام 1987، وكان ذلك تطوّرا لافتا بالنّظر إلى الموقف العامّ من العمليّة السّياسية الذي ميّز سنوات المحنة لدى الإخوان، حيث كان التّركيز بالغا على تنمية هياكل التّنظيم وزيادة قدرة الجماعة على التّغلغل في المجتمع المصريّ دون التّفكير في ولوج المؤسّسات السّياسية، لكنّ التّغييرات التي طالت التّركيبة الدّاخلية للإخوان منذ نهاية السّبعينيات كانت سببا في تغيّر توجّهات الجماعة؛ فالأجيال الأصغر سنّا التي دخلت ميدان المنافسات الانتخابيّة في الاتّحادات الطلابيّة، ثم النّقابات المهنيّة هي على نحو ما المسؤولة عن تطوّر رؤية الجماعة تجاه قضايا المواطنة والمرأة والموقف من الحزبيّة ومن المشاركة...، على خلاف حزب العدالة والتّنمية الذي يبدو أقرب إلى مؤسّسة تعمل وفق برنامج محدّد سلفا وقطعت على نحو بالغ مع الإشكالات المعياريّة[16].

وماذا بعد سنوات الثّورة؟

لم تمهل الموت حسام تمّام حتّى يشهد موجة الرّبيع العربي، ويرصد تحوّلات جماعة الإخوان المسلمين، فقد تمكّنت الجماعة من تحقيق فوز بنسبة 47 % من أصوات النّاخبين في التّشريعيات التي تلت ثورة 25 يناير 2011، وبالتّالي انتخاب أحد قياداتها رئيسًا لمجلس الشّعب المصريّ قبل أن يحلّ المجلس بحكم من المحكمة الدّستورية المصريّة فيما بعد، كما تحصّل حزب "الحريّة والعدالة" الذّراع السّياسية لجماعة الإخوان المسلمين على نسبة 58 % من الأصوات في انتخابات مجلس الشّورى المصريّ (الغرفة الثانية للبرلمان)، ليصل بذلك محمّد مرسي إلى سدّة الرّئاسة بعد سقوط نظام حسني مبارك، وتصبح جماعة الإخوان المسلمين هي السّلطة الحاكمة في مصر بعد أن كانت جماعة محظورة.[17]

بعد الوصول إلى الحكم، عملت جماعة الإخوان المسلمين في شخص محمّد مرسي على اتّخاذ مجموعة من القرارات المستعجلة، والتي رأى فيها كثير من المحللين أنّها قرارات انفراديّة غرضها السّيطرة على السّلطة والتّحكم بمفاصلها والتّمكن من مؤسّساتها، كما أنّ هذه القرارات كان لها أثر سلبي من جهة أخرى، على قدرة الجماعة على خلق تحالفات سياسيّة جديدة مع مختلف القوى الفاعلة في المجتمع المدنيّ، وهو ما سيضع الإخوان المسلمين في مواجهة كتلة متنامية من السّاخطين والمتخوّفين من إعادة إنتاج حكم الحزب الواحد، كتلة سترفع شعار "لا لأخونة الدّولة"، وتطالب بشكل علنيّ بتدخّل المؤسّسة العسكريّة لإنقاذها من حكم المرشد، وهو ما تأتّى لها في الثّالث من يوليو/تموز من سنة 2013.

وكتقييم لأداء الإخوان المسلمين بعد الانقلاب، يمكن القول إنّه انطلاقا ممّا حدّده مؤسّس الجماعة - حسن البنّا- من مراحل ثلاث، والتي يجب أن تحكم سير أيّة عملية، والمتعلّقة أوّلا بالدّعایة والتّبشیر بالفكرة، وثانيا بالتّكوین واختیار الأنصار والأعضاء، وثالثا بالتّنفیذ والعمل والإنتاج. وعلى ضوء ما حقّقته الجماعة من نجاح في المرحلتین الأولیین اللتین كانت الأیدیولوجیا حاضرة فیهما، فإنّه كان من الأجدر في المرحلة الثّالثة (التي بدأت وانتهت سریعا بسقوط محمّد مرسي) الانتقال من عالم الأفكار إلى الواقع، أو الانتقال من الإیدیولوجیا إلى المیثودولوجیا؛ وذلك بما یتناسب مع الانتقال من المعارضة إلى الحكم. أمّا على مستوى السّیاسات والتّكتیكات، فقد فشل الإخوان المسلمون في التّصرف كقوّة حاكمة واثقة ولدیها رؤیة واضحة للمستقبل؛ فعلى مدار حكم الرّئیس مرسي اعتمدت جماعة الإخوان آلیة وحیدة لتحقیق التّوازن مع القوى السّیاسیة المنافسة، وهي الحشد والتّعبئة حتّى وهي في الحكم، كما أنّها افتقرت للخبرات والمهارات التي تمكّنها من تكوين نخبة سياسيّة بيروقراطيّة فعّالة، يمكنها إدارة دولة بحجم مصر وتعقيداتها. والحقّ أنّ كثيرا من كوادر الإخوان جرت تنشئتهم داخليّا في محاضن الجماعة، كي يكونوا معارضين وليسوا حكّامًا، أضِفْ إلى ذلك أنّ نظام حسني مبارك حرم جماعة الإخوان طيلة حكمه من أن تدیر أيّة مؤسّسة عامّة، أو أن یحصل كوادرها على خبرة تكنوقراطیّة أو بیروقراطیّة. لذا واجه الإخوان مقاومة شدیدة من هذه البیروقراطیّة حین حاولوا إصلاحها، وفي المحصّلة أضعفت هذه المشكلات وغیرها من قدرة الإخوان المسلمين على التّحول من مربّع المعارضة إلى مربّع السّلطة، وقلّلت من قدرتهم على فهم تعقیدات الدّولة المصریّة التي ظلت تعاملهم لأكثر من ستّة عقود كقوّة خارجیّة[18].

ومن الملاحظات السّلبية كذلك، على نشاط حزب الحريّة والعدالة في إدارة الحكم، والتي عجّلت بسحب البساط من تحت قدمي الإخوان المسلمين هو النّزوع الإقليميّ والقطريّ في الخبرة السّياسية، وعدم حرصهم على الاستفادة من التّجارب البرلمانيّة العربيّة والإسلاميّة والغربيّة؛ وذلك عن طريق الاتّصال والتّواصل والاطلاع والتّفاعل معها ومع مؤسّساتها، فتجارب الشّعوب ثروة إنسانيّة ينبغي توظيفها في التّحرك والعمل مهما اختلفت المشارب والرّؤى والأهداف.[19]

ختاما، لقد تنامت ظاهرة الإسلام السّياسي مع أحداث الرّبيع العربيّ التي جاءت لتدفع بالأسئلة الإصلاحيّة بقوّة، لكنّ فشل التّجربة المصريّة التي كان يقودها الإخوان المسلمون أدّى إلى مراجعات داخليّة جوهريّة حول المسألة الوطنيّة، وسلطة القانون، والشّراكات السّياسية، وفصل الدّعوي عن السّياسي وغيرها. وبهذا تكون السّنوات التي تلت الثّورة قد شكّلت الهزّة الكبرى لأعضاء الجماعة، ودفعت بأسئلة جوهريّة حول طموح الإخوان السّياسي وشراكاتهم مع باقي مكوّنات المشهد السّياسي، كما أنّ فشل التّجربة الإخوانيّة جعل أغلب أعضائها يدركون أنّ مطالبهم الاجتماعيّة والسّياسية تتّفق مع مطالب الكثير من أبناء الأحزاب والاتّجاهات الأخرى، فتولّد لديهم بذلك اقتناع بأنّهم لا يحتكرون المطالبة بهذه الإصلاحات، وأنّهم على مساحة متقاربة مع غيرهم. ولهذه الأسباب مجتمعة، يرى أغلب الباحثين أنّه من الضّروري على أعضاء الجماعة - إن هم أرادوا الخروج من هذه الأزمة - مراجعة أفكارهم، والاطلاع على كتابات غيرهم النّاقدة؛ من قبيل كتابات محمّد عابد الجابري وبرهان غليون ومحمّد مختار الشنقيطي وغيرهم، ممّن نقدوا العقل العربي والإخوان المسلمين، وقدّموا أطروحات مختلفة تماما عمّا اعتاد عليه أعضاء الجماعة في دوائرهم التّربويّة.

[1] حسام تمّام (1972- 2011): هو أحد أبرز المهتمّين بشؤون الإسلام السّياسي، وأحد مؤسّسي المرصد المتخصّص في دراسة الحركات الإسلاميّة. شغل منصب مدير تحرير قطاع الحركات الإسلاميّة في موقع «إسلام أون لاين»، وصدرت له كتب وترجمات عدّة في الحركات الإسلاميّة أبرزها: «مع الحركات الإسلاميّة في العالم: رموز وتجارب وأفكار»، و«تحوّلات الإخوان المسلمين: تفكّك الأيديولوجية ونهاية التّنظيم». كان محاضراً في جامعة زيورخ، وساهم في كثير من الإصدارات المتخصّصة في الشّرق الأوسط، بالتّعاون مع عدد من الجهات البحثيّة الأوروبيّة.

[2] حسام تمّام، الإخوان المسلمون سنوات ما قبل الثّورة، دار الشّروق، القاهرة، الطبعة الأولى، 2010، ص: 13

[3] نفسه، ص: 20

[4] في عام 2005 رشّحت جماعة الإخوان المسلمين في مصر 160 مرشّحا تحت بند المستقلين، فاز منهم 88 مرشّحا بعضويّة مجلس الشّعب؛ أي 20 بالمائة من مقاعد المجلس ليصبحوا أكبر كتلة معارضة في مصر، في حين حصلت قوى المعارضة الأخرى مجتمعة على 12 مقعدا، فكانت هذه النّتائج الانتخابيّة مدهشة حتّى للإخوان المسلمين أنفسهم.

[5] انظر: حسام تمّام، تحوّلات الإخوان المسلمين: تفكّك الأيديولوجيا ونهاية التّنظيم، مكتبة مدبولي، القاهرة، الطبعة الثانية، 2010، ص: 9

[6] نزع الشّرعية عن الأفكار الإصلاحيّة كان مع بداية عودة التّيار التّنظيمي المحافظ، والذي سعى في البداية إلى تعميم القول على كلّ قواعد الجماعة بأنّ كلّ المقولات "الإصلاحيّة" التي ملأت فضاء القاهرة كانت في أفضل الأحوال مجرّد اجتهادات لأصحابها غير معتمدة من الجماعة، وأنّ الجماعة ستدرسها وتبثّ فيها لاحقا، ثم قيل إنّها آراء شخصيّة، وإنّ أصحابها لم يرجعوا فيها إلى الجماعة، ثم قيل إنّها تمثّلهم وحدهم ولا تعبّر عن الجماعة، وتواصلت متوالية نقض المقولات والأفكار التي أطلقها الإصلاحيّون عروة عروة، حتّى اكتملت عمليّة نزع الشّرعية عن التّيار الإصلاحيّ في النّهاية (انظر: حسام تمّام، تحوّلات الإخوان المسلمين: تفكّك الأيديولوجيا ونهاية التّنظيم، ص: 61).

[7] حسام تمّام، الإخوان المسلمون سنوات ما قبل الثورة، ص: 26

[8] شهدت الجماعة عدداً مهمًا ومؤثراً من الانشقاقات الدّاخلية، بدأ بعضها مع بداية الجماعة نفسها، بل وقام بأحدها الرّجل الثّاني في الجماعة بعد مؤسّسها الشّيخ حسن البنّا، وهو أحمد السكّري الذي كان من مؤسّسي الجماعة، قبل أن يختلف مع مرشدها ويخرج عليه، ولم تكن واقعة خروج أحمد السكّري الوحيدة في حياة مؤسّس الجماعة ومرشدها الأوّل، بل شهدت الجماعة خروج مجموعة صغيرة كان أبرزها مجموعة محمّد رفعت، وجماعة شباب سيّدنا محمّد. أمّا أكبر حركة انشقاق حقيقي ومؤثّر، فهي التي شهدتها الجماعة في عهد مرشدها الثّاني حسن الهضيبي، وقد بدأت بخروج عدد من قادة النّظام الخاصّ رفضوا قيادة المرشد ودبّروا لإقالته، وكان منهم قائد النّظام الخاصّ عبد الرحمن السّندي وعدد من كبار مساعديه، وقد تصاعد الانشقاق وانضم إليه عدد من الرّافضين للهضيبي والمعترضين على سياسته في العلاقة مع ثورة يوليو، وانضمّ لهذا الانشقاق عدد كبير من شيوخ الجماعة الأزهريّين، ومنهم محمّد الغزالي وسيّد سابق وعبد المعزّ عبد الستّار، والتحق كثير من المنشقّين بنظام ثورة يوليو، وتولّى عدد منهم مناصب مهمّة في مؤسّسات الدّولة المختلفة ليست الدّينية فقط (سيّد سابق والغزالي) ولا حتّى المؤسّسات السّياسية (عبد العزيز كامل)، بل والمؤسّسات الأمنيّة أيضا (نجيب جويفل)، ثمّ عانت الجماعة انشقاقًا فكريًا وليس تنظيميًا هذه المرّة أثناء محنة تنظيم 1965، فقد تأثّر كثيرون بأفكار سيّد قطب المرجع الفكريّ للتّنظيم عن الحاكميّة والجاهليّة، وجرت بينهم وبين قيادة الجماعة مناقشات واسعة أثناء السّجن، خاصّة بعد أن أصدرت الجماعة رسالتها الشّهيرة (دعاة لا قضاة) التي أرادت بها مواجهة ما رأت فيه خروجًا فكريًا على منهج الإخوان كما خطّه مؤسّسها الإمام حسن البنا. (انظر: حسام تمّام، لماذا لا تنشقّ جماعة الإخوان المسلمين، جريدة الدستور المصرية، عدد: 8228، بتاريخ: 10 مارس 2008، الرابط: http://dostor.org/weekly/reportage/10/march/2/8228)

[9] حسام تمّام، الإخوان المسلمون سنوات ما قبل الثّورة، ص ص: 34-35

[10] نفسه، ص: 54

[11] حسام تمّام، تحوّلات الإخوان المسلمين: تفكّك الأيديولوجيا ونهاية التّنظيم، ص: 54

[12] لمزيد من التّفصيل في هذا الباب انظر: حسام تمّام، في تناقضات الحركات الجهاديّة، جريدة الشّرق الأوسط، العدد 11385، بتاريخ: 29 يناير 2010

[13] انظر: حسام تمّام، النّظام والإخوان: سياسات المواجهة الشّاملة، مجلة لوموند ديبلوماتيك (النّسخة العربيّة)، عدد 961، 1 سبتمبر 2005، ص: 54

[14] حسام تمّام، الإخوان المسلمون سنوات ما قبل الثورة، ص ص: 160-161

[15] نفسه، ص ص: 183-184

[16] نفسه، ص: 189

[17] علي محمّد مصطفى ديهوم، حركات الإسلام السّياسي، مجلة العلوم الاقتصاديّة والسّياسية، كليّة الاقتصاد والتّجارة بجامعة المرقب، العدد الثّاني، 2013، ص ص: 557-558

[18] انظر: خليل العناني، جماعة الإخوان المسلمين في مرحلة ما بعد مرسي، مجلّة سياسات عربيّة، المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السّياسات، الدّوحة، العدد 4، سبتمبر 2013، ص ص: 18-19. بتصرّف.

[19] عبد الله النفيسي، الحركة الإسلاميّة ثغرات في الطّريق، آفاق للنّشر والتّوزيع، الكويت، الطّبعة الأولى، 2012، ص: 185


مقالات ذات صلة

المزيد