كورونا وآلهة العصر


فئة :  مقالات

كورونا وآلهة العصر

لكلّ عصر أسطورته للخلود؛ فحجر الفلاسفة الذي ينشأ من تحويل المعادن الرخيصة إلى معادن ثمينة كالذهب، يمثّل إكسير الحياة، وكذلك نبات الألوفيرا عند المصريين، أو شراب الآلهة عند اليونانيين. تكشف هذه الأساطير عن نزعة الإنسان إلى تحويل ما يعرفه من أشياء مألوفة إلى أشياء ساحرة تقوده نحو الخلود وامتلاك القوة. المعلومة والسرعة هما أسطورة هذا العصر، وصفة العالم السحرية للتمدن والتطور، وأدوات القوة التي يتنافس عليها الإنسان بشكل محموم.

اشتُهر الفيلسوف الفرنسي (paul Virilio) (1932-2018) بدراسته للسرعة، وابتدع مفهوم (Dromoligie) الذي أسس، من خلاله، حقلاً لدراسة السرعة لفهم إنسان العصر الحالي. وبحسب دراساته في هذا المجال، أفضت التقنياتُ العالية، التي تُستخدم لاختصار الزمن وسرعة الانتقال والعبور إلى تحوّل أنثروبولوجي عميق في المجتمعات الإنسانية، فمن يتحرّك بشكل أسرع هو من يمتلك القوة، ويستطيع هزيمة الأقلّ سرعة، ويُضاف إلى السرعة مجال الهيمنة على المعلومات، فمن يقبض على أكبر قدرٍ من المعلومات يسيطر على التوجهات العالمية.

الخوف والقلق الذي يجتاح العالم، ليس سببه نسبة الوفيات، وإنما الخوف من المجهول الذي لا نعرف عنه يقيناً سوى انكسار أسطورة العصر أمامه

الصراع المحموم على امتلاك الـ (Big Data)، التي تمزج تقنيات جمع المعلومات بتقنيات سرعة المعالجة والفحص والمراقبة، هو الصراع الحقيقي بين الولايات المتحدة والصين، الصراع على تخزين وإدارة وخدمات التحكم في المعلومات وشبكات نقلها ومعالجتها. فبقدر ما تمتلك دولةٌ ما قدرةً فائقة على جمع وتخزين ومعالجة البيانات وتحليلها، ترفع كفاءة المراقبة والتحكم إلى مستويات عالية جدّاً. لقد قامت الصين بأوّل تجربة شاملة لاستخدام هذه الاستراتيجية في مكافحتها لانتشار فيروس كورونا، وتمكّنت، بفضل هذه التقنية، مع مزيج من الديكتاتورية التي تسهّل آلية اتخاذ وتنفيذ القرارات والإجراءات، واستخدام تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي؛ من تقديم نموذج فعّال في القدرة على الاحتواء.

هذا الصراع على الـ (Big Data) يكشف أسباب تلك الحرب التي نشبت بين الولايات المتحدة والصين بشأن شركة هواوي، التي شرعت ببناء تكنولوجيا الجيل الخامس وتركيب شبكاتها. لقد كان دخول الصين في هذا المجال، مع الشكوك الأمريكية بوجود ثغرات يمكن أن تنفذ إليها الاستخبارات الصينية؛ يعني امتلاك الصين منظومة قدرةٍ على جمع وتحليل ومراقبة بيانات الدول الأخرى، ما يضع الولايات المتحدة بأجهزتها الاستخباراتية خلف الصين بمسافة كبيرة.

لقد أصبحنا مجتمعات تستهلك بشكل فاحش التكنولوجيا وأدوات التواصل، وتمتصّ التقنيات العالية بياناتها، وتعيد تصنيفها ومعالجتها وتشكيلها لتُباع سلعةً لإنتاج سلع أخرى، أو لخدمة مسارات الهيمنة. لم يعد الإنسان بوصفه إنساناً هو ما يهم، وإنّما الإنسان بوصفه كتلة من البيانات هو المهم. مشاعرنا، وعواطفنا، وفرحنا، وقلقنا، وحزننا كلّ ذلك تحوّل إلى (click) وتعابير (emoji)، لتسهيل التعامل معها كبيانات.

في هذا العالم، لم تعد علاقتنا، بوصفنا بشراً، مع الأشياء هي التي تصنع المستقبل، وإنّما هي علاقة بين أشياء (الإنسان الجديد)، وبين أشياء أخرى. في عالم التكنولوجيا والسرعة الفائقة، ليس هناك مكان للميتافيزيقيا أو الآلهة المحتجبة، لأنها مرتبطة بنا «بشراً» وليس «أشياءَ». التكنولوجيا والسرعة الفائقة هي آلهة هذا العصر، التي تتطلب مجتمعات عارية ومكشوفة، تعيش داخل الأنظمة الرقمية. تؤسس علاقتها بنا على أننا «أشياء» (أي ينبغي أن نكون كذلك) لتتمكن من أداء دورها «بوصفها آلهة» في المراقبة والاستشراف والتحكم.

الاهتمام الكبير بتطبيقات الذكاء الصناعي هو، بشكلٍ ما، محاولة للاستغناء عن أكبر قدرٍ ممكن من الاعتماد على الإنسان في مجالات شتّى؛ هو، بتأويل آخر، إحلال الروبوت محلّ الإنسان الذي قد يتمرّد على تشييئِهِ، ويربك توقّعات سيرورة التمدن كما هو مخطط لها.

هذا العالم الذي صنعناه مصمَّمٌ لخدمة الأشياء، لخدمة الإنسان، باعتباره شيئاً، وللدفاع عن هذه الأشياء، وتقنين الصراع عليها.

في نهاية كانون الأول/ديسمبر، بدأ كائن لا يُرى بالعين المجرّدة التحرّكَ، ولم تكن التقنيات الهائلة قادرةً على كشفه قبل أن يعلن هو عن نفسه، كان محتجباً عنها مختفياً في مكان صغير، أو في أحشاء حيوان يعيش ويتحرك في الظلام. في شهر كانون الثاني/يناير، بدأ يعلن عن نفسه، فاتجهت أدوات الرقابة وجمع المعلومات لاكتشافه، ولكنّه هنا أيضاً فاقها بالسرعة والقدرة على الانتقال، وأصبح يراوغ بين الظهور والاحتجاب، ويربك توقعاتها. لقد انفلت من التكنولوجيا الفائقة وأدواتها الرقابية الاستباقية، ثمّ تجاوزها بسرعته، وبدأ يعلن انتصاراته على أهمّ سمات هذا العصر (السرعة والتكنولوجيا الفائقة). هناك ما هو أخطر من ذلك وأبعد أثراً، فهذا العدو لا يتعامل مع الأشياء ولا يكترث لها، فلا يعنيه النفوذ ولا أسواق المال، أو النفط والغاز، أو المعادن النادرة، وإنّما يهاجم الإنسان لمجرّد أنه إنسان، بل لا اهتمام له حتى بالحيوان. النظام العالمي، الذي صُمِّم عالماً يهتم بالأشياء، وعدّته وعتاده وقدراته المصمّمة للدفاع والاستحواذ والصراع على الأشياء، لا يمكنه التعامل بكفاءة وفاعلية مع التهديدات التي تواجه الإنسان بوصفه إنساناً، ولا يتحرّك بشكل فاعل وقويّ إلا عندما يصل التهديد نحو تدمير أشيائه.

إن تصميم العالم الذي صنعناه ونعيشه غير مؤهّل لمحاربة عدوٍّ يستهدف الإنسان؛ لأنه مصمم للدفاع عن الأشياء، حتى لو تمّ سحق الإنسان

كان المسؤولون والخبراء والسياسيون يهدِّئون مخاوف الناس بالأرقام، بنسب الوفيات التي لا تتجاوز (2٪)، ومقارنتها بالإنفلونزا العادية التي تقتل مئات الألوف في العام، وحوادث السيارات، والأخطاء الطبية. ولكنّنا بشر، والخوف والقلق والخشية على من نحبّ هي الجوانب التي تشغلنا، وتلك هي الطبيعة الإنسانية، فنحن لسنا أرقاماً أو أشياء.

التأثيرات لا تحسب بالأرقام وبنسب عدد الوفيات، وإنما بما تشكله من تهديد لمشاعرنا وعواطفنا وعلاقاتنا، وبما تثيره من قلق ومخاوف، ومدى تمزيقها لصورة العالم التي نستبطنها. طبيعة الإنسان لا تفزع مما هو معروف أو متوقع، فحوادث السيارات، ونسب الوفيات من الإنفلونزا العادية، ونسب الإصابة بالسرطان، أو مرض السكري، وغير ذلك، كلها ضمن حدود التوقع والتنبؤ؛ أي إنها لا تهزم سمات هذا العصر من تكنولوجيا وسرعة. أما هذا العدو، فقد كان، منذ البداية، مجهول الهوية منفلتاً من أدوات الرقابة، وأسرع من تكنولوجياتنا، فحرّك وأيقظ أكبر مخاوف الإنسان؛ لأن الإنسان المعاصر (الإنسان الشيء)، الذي أصبح عبداً لآلهة التكنولوجيا والسرعة، رأى آلهته تنكسر أمام عينيه. ما أقنعناه به لعهود بدأ يتلاشى، وهو يرى أنّ كل ما يمتلكه من قوى وتقدّم علمي وطبّي وتقني وسرعة في الاتصال والتواصل، ينهزم أمام هذا الكائن الصغير.

على الرغم من أنّ التكنولوجيا فكّكت أدقّ صفاته (خريطته الجينية)، مع ذلك لم تستطع مختبرات العالم وتقنياته، بكلّ الدعم الموجود، أن تكبح جماحه، أو تحدّ من سرعته.

الخوف والقلق الذي يجتاح العالم من كائن لم يقتل، حتى الآن سوى بضعة آلاف، ليس سببه نسبة الوفيات، وإنما الخوف من المجهول الذي لا نعرف عنه يقيناً سوى انكسار أسطورة العصر أمامه، وعجزها عن ترويضه. صحيح أنّ الصين استطاعت أن تكبح جماحه، ولكن مازلنا لا ندري كيف سيتصرّف بعد تخفيف القيود التي فُرِضت عليه. فضلاً عن ذلك، رأينا كيف أصاب هذا الكائن بالشلّل ثاني أقوى اقتصاد في العالم، فكيف بباقي العالم، وكيف ستكون آثار الإجراءات الصارمة لاحتوائه؟

لو كان العالم مصمّماً من أجل الإنسان بوصفه إنساناً، لما تمكن هذا الكائن من نشر هذا الخوف والذعر، ولنأخذ مثلاً واقعياً هنا:

لم تتمكن الصين من احتواء الفيروس بشكل تقريبي، إلا بعد أن قامت بتطبيق حجر صحي كامل على منطقة هوبي، وتطلب ذلك نزول ثاني اقتصاد في العالم بكلّ طاقته وعدته وعتاده لمدة شهرين، مستخدماً التكنولوجيا الفائقة بأدواتها الشمولية في المراقبة والتتبع، ليتمكن من احتواء الوباء.

من المؤسف والمعيب أن باقي الدول لم تتعلم الدرس الصيني بحدّه الأدنى، وعندما بدأت إيطاليا تتحوّل إلى بؤرة انتشار، بقيت حدودها مفتوحة، ودخلت الأحزاب في تنابز، وتراشق السياسيون الاتهامات، سواء بالمبالغة أم بعدم تقدير حجم المشكلة، ومؤخراً اعترف العديد منهم بهذا الخطأ. أما الاتحاد الأوروبي، فلم يتخذ أيّ إجراء حقيقي لمحاصرة الفيروس في إيطاليا، تحت مبررات عدة تدور حول آلية اتخاذ القرار كدول اتحاد أوروبي، وعدم إثارة الذعر حتى لا يصاب الاقتصاد العالمي بالشّلل، وأيضاً أقرت رئيسة المفوضية الأوروبية باستخفافهم بالمرض، وعدم اتخاذ إجراءات صارمة كان يجب أن تتخذ منذ البداية.

لو كان الإنسان على رأس أولويات هذا النظام العالمي، ولم ترضخ القرارات لاعتبارات اقتصادية أو لضغوطات أصحاب رؤوس الأموال والشركات العابرة للقارات، وصراعات السياسيين، ما كانت الأمور وصلت إلى هذا الحد. كان من الأجدى أن يتم إغلاق الحدود كاملة مع إيطاليا، وإيقاف الرحلات إلى شمال إيطاليا منذ البداية، ثم أن تتوجه جهود الاتحاد الأوروبي والعالم ومنظمة الصحة العالمية لمساعدة إيطاليا مالياً واقتصادياً وطبياً وتكنولوجياً، لاحتواء الفيروس في تلك المنطقة. بكل بساطة، كان يمكن للعالم أن يضعف سرعة هذا الفيروس بشكل كبير، وأن يستنفر تكنولوجياته لمحاصرته، ليتسنّى له الوقت لصناعة اللقاح أو العلاج، ثمّ يمكن ترميم تضرّر الاقتصاد الإيطالي بسهولة. لقد برهن النظام العالمي، الذي لا يضع الإنسان على رأس أولوياته، أنه فاشل في التعامل مع الأزمات التي تستهدف الإنسان، واتضح أن الدول المتقدمة بديمقراطياتها، وتكنولوجيتها الفائقة، وتقدمها العلمي والطبي، ومؤسساتها الدولية؛ قد فشلت فشلاً ذريعاً في التعامل مع هذا الوباء، حتى إنك لا تجد فارقاً يذكر بينها، وبين دول متخلفة عنها في نتائج مكافحتها لانتشار هذا الفيروس.

هذا مجرد مثال حول التعاطي العالمي ككل مع هذه الأزمة؛ فقد كانت التصريحات تعلن من دول عديدة أن مثل هذه الإجراءات الشديدة ستثير الذعر وتضر بالاقتصاد العالمي. لا يحتاج الأمر إلى كبير عناء لاكتشاف مدى تفاهة الخطاب الذي كان يحاصرنا، وما علينا سوى مراجعة التصريحات، لنتأكد من عمق اللامبالاة بالإنسان، وكيف كانت تكرر كلاماً ممجوجاً وأجوف لا معنى له؛ فإمّا أنها لا تعلم ما هو قادم، وتلك مصيبة تنم عن جهل غير مقبول من قادة دول متقدمة ومؤسسات دولية، وإمّا أنها تعلم وتلك مصيبة أكبر.

مرحلة انتشار العدوى في الصين كانت كافية لدراسة نمط انتشار هذا الفيروس ومعرفة خصائصه، والجميع عرف أننا أمام عدوٍّ سريع الانتقال، يعيش على الأسطح عدة أيام، ويخفي أعراضه أكثر من أسبوعين، وكل مريض يمكن أن ينقل العدوى إلى اثنين أو ثلاثة بالحد الأدنى؛ أي إن كبح انتشاره، في ظلّ بقاء حركة الناس الاعتيادية، يعدّ أمراً شبه مستحيل. المعادلة الرياضية بسيطة جدّاً كلّ مريض من المحتمل أن يعدي اثنين: (1*2=2, 2*2=4, 4*2=8)، وهكذا، أين سيصل الرقم بعد عشرين محطة من الضرب باثنين؛ أي تقريباً عشرين يوماً؟ سيتجاوز نصف المليون، وتصريحات قادة الدول حالياً تقدر الإصابات الحقيقية بأضعاف مضاعفة للأرقام المسجلة رسمياً، التي تجاوزت الـ (200,000) إصابة.

على الرغم من هذه المعلومات والتقديرات البسيطة، استمر العزف على سمفونية الخوف من الخوف، حتى لا يؤثّر هذا الخوف في مصالح الشركات وأسواق المال والأسهم.

إن تصميم العالم الذي صنعناه ونعيشه غير مؤهّل لمحاربة عدوٍّ يستهدف الإنسان؛ لأنه مصمم للدفاع عن الأشياء، حتى لو تمّ سحق الإنسان. لذلك كانت الإجراءات، التي اتُّخِذت، تدور في فلك الدفاع عن الأشياء وليس الإنسان، فكان الفشل مصيرها الحتمي.

لعل النموذج الصيني يقدّم دليلاً على أن التكنولوجيا الفائقة، بما تستبطنه من شمولية رقابية، واستباحة للخصوصيات، وسيطرة وتحكم كاملين، يمكن الاستفادة منها استفادة قصوى في الأنظمة الدكتاتورية؛ لأنّها تتسق معها في كلّ جوانبها. بينما في الدول الديمقراطية، التي تنكر ولا تفصح عن الوجه الآخر لهذه التكنولوجيا إلا خلف أبوابها المغلقة، لا تستطيع تحقيق الاستفادة القصوى من خصائصها التي تُعدّ مناقضة لادعاءات الديمقراطية.

ستنتهي هذه الجائحة كما انتهى غيرها، وسوف يهزمها الإنسان نفسه، أو تهزمها الطبيعة التي تمتلك دفاعاً ذاتياً ضد إخلال التوازن، وسيبقى الإنسان ولن يفنى، فهذا العدو، على الرغم من شراسته بالعدوى وإثارته للذعر، أقل قتلاً وهو رحيم بأطفالنا وشبابنا.

صراعنا مع هذا النمط من الكائنات صراع طويل ولن ينتهي، يخترق ويرعب عمق تصوراتنا عن العالم وعلاقتنا به، وهو أحد العوامل الرئيسة التي تسهم في تغيير فهمنا للعالم. في القرون الماضية، أرعبت الأمراض المجهولة -قبل أن نكتشف البكتيريا والفيروسات- الإنسان وفتكت به، واستفزت تصوراته عن العالم غير المرئي، وأفضى البحث لمحاربة هذا المجهول إلى تطورات طبية مهمة، وفهم أعمق لما يدور محتجباً عن أعيننا، وساهم في نزع «السحر عن العالم». هذه الكائنات تهدّد اليوم، وتكشف بشكل رئيس عورة الآلهة الجديدة، كما كشفت عورة القديمة، وتفضح قصورها وضعفها، عندما وُضِعت لخدمة الأشياء وليس الإنسان.

مما لا شك فيه، أنّ العالم لن يكون كما كان عليه، وسوف ينقسم التاريخ إلى ما قبل الجائحة وما بعدها، وسنخرج من منازلنا بعد انقضائه كيوم البعث

هذه تجربة جديدة كل الجدة على الإنسان وغريبة نوعاً ما، حيث يصبح التوقف عن الحركة أنجع سلاح لإيقاف حركة العدو، حيث يكون ما نعدّه سلاحاً وقوّةً (الحركة السريعة) هو نقطة ضعفنا في حربه علينا. الحجر الصحي هو حالة جمود شبه تامة، حالة توقف للنشاط البشري، المصانع، والمتاجر، والمطاعم، وحركة التجارة، والسفر والتسوق...إلخ... هو امتناع عن معظم أنشطة الاستهلاك والإنتاج إلا الضروري. لعلها المرة الأولى في التاريخ الحديث التي تتنفس البيئة فيها هواءً سليماً ويتوقف التلوث. مؤخراً، في مقال لبروفسور من قسم علوم نظام الأرض في جامعة ستانفورد، قال: «من المحتمل أن تنقذ تخفيضات تلوث الهواء في الصين، بسبب هذا الاضطراب الاقتصادي، أرواحاً أكثر بعشرين مرة في الصين، مما فقد في الوقت الحالي بسبب الإصابة بالفيروس في ذلك البلد»[1]. أَهو عدوٌّ أم حالة دفاع خلقتها الطبيعة، لتعيد التوازن وتخفّف من حدّة ما أفسده طمع الإنسان وشراهته للاستهلاك؟

ثمّة أسئلة كثيرة حول هذا الحدث غير المسبوق: ماذا سنتعلّم منه؟ كيف سيكون شكل العالم بعده؟ كيف سيؤثّر في عادات الناس ومواقفهم وسلوكهم وأولوياتهم؟ أَستبقى مراكز القوة كما هي، أم ستتغير؟

مما لا شك فيه، أنّ العالم لن يكون كما كان عليه، وسوف ينقسم التاريخ إلى ما قبل الجائحة وما بعدها، وسنخرج من منازلنا بعد انقضائه كيوم البعث، ولعلّنا نشهد صورةً جديدة للعالم. مصانع هوليوود التي أتخمتنا بأفلامها التي تصور الولايات المتحدة منقذةً للعالم عند حدوث الكوارث، برهنت هذه الأزمة العالمية بأنها تتصرف بكل أنانية، ولم تقدم أيّ شيء للعالم، بل تحاول الاستحواذ على جهود المختبرات البحثية (خارج أمريكا) لاكتشاف لقاح للمرض لفائدتها فقط، كما فعلت مع شركة CureVac الألمانية. الرئيس الصربي ألكسندر فوتشيتش صرح مؤخراً بأن التضامن الأوروبي مجرد "قصة خرافية على الورق"، بعد أن أصدر الاتحاد الأوروبي قرارات بمنع بلاده من استيراد المعدات الطبية، مناشداً الرئيس الصيني المساعدة.

سوف تنكشف لاحقاً الكثير من الأمور وتكثر الفضائح، وستسقط فعلاً الكثير من الخرافات والادعاءات. أمّا إذا عدنا وعادت صورة العالم القديمة، فلننتظر، إذن، جائحةً جديدة لن ترحمنا.

  


[1] https: //edition.cnn.com/2020/03/17/health/china-air-pollution-coronavirus-deaths-intl/index.html