مسألة التأصيل في الفكر المغربي المعاصر


فئة :  مقالات

مسألة التأصيل في الفكر المغربي المعاصر

يكثر عندنا في المغرب الحديث عن التأصيل، وهو مفهوم لن يكون من السهل علينا تحديد دلالته، نظرا لأنه يتخذ صورا متنوعة حسب المفكرين، وهي صور تتراوح بين مجرد العودة الباردة إلى التراث، وبين محاولة إقامة علاقة متجددة للماضي بالمستقبل تتخذ هي نفسها صيغا متعددة. صحيح أن تلك الصيغ تكاد لا تتمايز، وقد نلفيها جميعَها عند المفكر الواحد حسب الفترات والمناسبات. ومع ذلك، فإن للمفهوم أهميته من حيث إنه سيسمح لنا بأن نستعرض مختلف المواقف التي يتخذها الفكر المغربي المعاصر من التراث العربي الإسلامي. ذلك أن اللفظ أصبح يحل محل عبارة "تملك التراث" واستيعابه. ويقصد به في المجمل عملية التبيئة الثقافية، ومحاولة إرساء المرجعية داخل ثقافتنا للمفاهيم التي تشكل قوام الحداثة، وذلك بربطها بما قد يكون لها من أشباه ونظائر في تراثنا. يرتبط المفهوم إذاً بمقابله، إلا أن هذا الربط بين التحديث والتأصيل لا ينحل إلى ما اعتدنا أن نسميه "توفيقا" بين الأصالة والمعاصرة. لن يسمح لنا المقام بطبيعة الحال باستعراض مختلف المواقف من هذه المسألة، وإنما سنكتفي بوضع نمذجة عامة، ونعتقد أن باستطاعتنا أن نميز في هذا المضمار بين نماذج ثلاثة:

ـ النموذج الأول يجيء إلى التراث، ليتساءل: هل تحصَّل فيه رصيد يمكن أن يؤسس حديثنا اليوم بلغة الحداثة واستعمالنا لمفهوماتها. فالحداثة تتكلم عن العقل والعلم والفعالية والنسبية والاختلاف والكونية والمثقف... فهل في تراثنا ما من شأنه أن يكون أساسا وأصولا لحديثنا الآن عن هذه المفهومات. الرجوع إلى التراث هنا يتم بهدف فحص ما إذا كان التراث مساعدا -أو عائقا- على تكوين عقلية حديثة. غير أن هذا النموذج غالبا ما لا ينتهي إلا نهاية سلبية، وذلك بعد طريق غير قصير. فهو يعلن في النهاية، أنه لم يجد في التراث ما افترضه فيه، ويشعرك أن عملية التنقيب كانت يائسة منذ انطلاقتها. لكن فضيلته، بالرغم من ذلك، تتجلى في كونه لا يكتفي بإعلان "قطيعة" مبدئية وتلقائية بين التراث والحداثة، وإنما يعمل على إثباتها وتأكيدها بصدد كل مسألة، بل في مستوى كل مفهوم على حدة.

وعلى الرغم من ذلك، فهذا النموذج يتحدث هو كذلك عن التأصيل: يتساءل واحد ممن يمثلونه ربما خير تمثيل: "هل تحصل من هذا كله رصيد يمكن أن يُسند دعوانا الآن إلى مشروعية الاختلاف في الرأي وإلى ترسيخ قواعد الحوار وتقاليده؟" فيجيب: "هناك مواقف في تراثنا حصل فيها القبول بالرأي المختلف والمخالف، وأنتج مناظرات أغنت الفكر العربي، إلا أنها حالات قليلة طابعها الانقطاع".

وعندما يتساءل هذا المفكر المغربي نفسه، في مؤلف آخر، عن الدور الذي يمكن أن يناط بالمثقف العربي حاليا، يقرن سؤاله بسؤال آخر: "ما هو السند الذاتي للمثقف العربي في تراثه الثقافي حين يدَّعي لنفسه دورا وحين يطمح إليه؟ لمن كانت السلطة العلمية وباسم ماذا؟ وما حدودها ؟"، وهو يجيب على ذلك قائلا : "إن الكاتب العربي المعاصر، وهو يدعو إلى "الالتزام" فإنه لا يجد لدعواه أي سند في تاريخ مجتمعه، بل هي دعوى حديثة، عليه أن يناضل أولا من أجل توفير شروطها".

بهذا المعنى يكون التأصيل حسب هذا النموذج إرجاع الأمور إلى أصولها، ورد فعل ضد كل المواقف التي تقوم على الخلط بين العصور؛ أي ضد كل القراءات التأويلية للحداثة وللتراث معا.

لا يهمنا الآن الحكم لهذا الموقف أو عليه، ما دام هدفنا بالأوْلى هو استعراضَ مختلف المواقف من مسألة التأصيل. وعلى الرغم من ذلك، فقد نجد له ما يبرره، خصوصا إن وضعناه ضمن سياق ثقافي تكثر فيه الأطراف التي توظف التراث من أجل دعاوى مختلفة. حينئذ يبدو هذا الموقف تقويما لوضع، ورد فعل ضد أولئك الذين يرون في تراثنا سبقا مطلقا لكل ما جاد به التاريخ، وما سيجود به. ثم إن من بين فضائل هذا النموذج كذلك أنه لا يكتفي بالإعلان عن "قطيعة" مبدئية وتلقائية بين التراث والحداثة، وإنما يعمل على إثباتها وتأكيدها بصدد كل مسألة، بل في مستوى كل مفهوم على حدة.

هذا بالضبط ما يميزه عن نموذج آخر يجزم من البداية بأنه لا فائدة من هذا النقد الجزئي. وما يفيد هو "طي الصفحة؛ أي القطيعة المنهجية".

يجزم أصحاب هذا النموذج منذ البداية، بأننا لو انطلقنا من إنجازاتنا الثقافية لاستحال أن نصل بمحض الاستنباط إلى المفهومات التي تقوم عليها الحداثة الفكرية: "يستحيل أن نجد الآن عند الغزالي مفهوم الأدلوجة مكتملا، ولا عند ابن عربي مفهوم الحرية مكتملا... ولا عند ابن خلدون مفهوم التاريخ مكتملا، ولا عند ابن رشد مفهوم العقل مكتملا".

منذ البداية، يعلن هذا الموقف انفصاله عن التراث، ويحكم عليه انطلاقا من مفهومات غير نابعة من صلبه، وهو يرى أن بين مفهوماتنا ومفهوماته "يوجد فارق فاصل، وهو بكل بساطة التاريخ". وحينما يتم فحص الإنجازات الفكرية في التراث داخل هذا الموقف، فليس بهدف التنقيب عما من شأنه أن يغذي تفكيرناالحالي. ذلك أننا في نظره لا يمكن أن نحكم على التراث إلا "انطلاقا من مفاهيم غير نابعة من صلبه".

لن يتعلق الأمر، لتوضيح هذا الموقف، بأخذ بعض مفهومات الحداثة، والنظر ما إذا كانت لها مقابلات في التراث، كما فعلنا بصدد الموقف السابق، لأن هذا النموذج الثاني، كما قلنا، يريد أن ينفصل توّاً عن التراث، وهو يحكم عليه في كليته ليثبت أن ذهنية عامة تسوده تخالف كل المخالفة الذهنية الحديثة. وهذه الذهنية التي تسوده "يخضع لها الفيلسوف الباطني والفقيه والمتصوف إلخ… ومن أهم مميزاتها أنها لا تكتفي بتحديد العقل بالمعقول، بل تجعل الثاني سابقا على الأول. وهذا المعقول السابق على العقل الذي يحل فيه ولا يتولد عنه، هو "العلم" بالمعنى المطلق". صحيح أن هذا المعقول يتلون، وهو "يعرف باسم خاص في كل مذهب: يسمى الخبر أو الحكمة أو السنة أو التقليد أو سر الإمام أو الكشف الخ… وهو في كل الأحوال، العلم" إلا أن هناك اتجاها عاما يقضي بأن العلم حاصل، وبالتالي مستقل عن طريق تحصيله، وهو كذلك شامل ثابت "لا يتبعض ولا يتفاضل ولا يتغير"، وهو "أصل تقرر في علم الكلام ومنه انتقل إلى العلوم الأخرى".

إذا كان الأمر على هذا النحو، فلماذا العودة إلى الأصول؟ وما جدوى التأصيل والحالة هاته؟ يجيب أصحاب هذا النموذج: ذلك أن هاته الذهنية الكلامية ما زالت معاصرة لنا، وهي بالضبط ذهنية "دعاة الإصلاح المعاصرين". إنها ذهنية الأوائل، لكنها أيضا ذهنية الذين يحاولون التجديد، إلا أن الفارق بينهما كبير. فالمادة التي اعتمدها الأوائل كانت كل ما كان متاحا للبشرية في عهدهم. هذه قضية موضوعية، غير متعلقة بشخصية مفكر بعينه. لقد كان هؤلاء من دعائم التاريخ الكوني، وهذا ما لا نستطيع قوله بالنسبة لمن يدعون التجديد، لأن ما كان أفقا عند الأقدمين انقلب سدا عند المحدثين".

ليس التأصيل هناتبيئة للمفاهيم الحديثة، وإنما ردا للأمور إلى أصولها، ولكن، هذه المرة، بشكل مبدئي كلي، إلا أنه ما كان ممكنا من غير تحديث؛ أي وقوف عند "منطق الفكر الحديث الذي انفصل عن الفكر القديم".

لكن، أليس بإمكاننا أن نرد على هذا الموقف بلغته، فنقول: إننا لا يمكن أن نتمثل الحداثة الفكرية إلا من موقعنا وعبر تراثنا ولغتنا؟ هذا ما يأخذه عليه بالضبط أصحاب النموذج الثالث الذين يعتبرون أن كل تحديث للفكر العربي مشروط بالتأصيل كما "يعتبرون العكس صحيحا". والتأصيل هنا هو "عملية التبيئة الثقافية" و"محاولة إرساء المرجعية داخل ثقافتنا، للمفهومات التي تشكل قوام الحداثة، وذلك بربطها بما قد يكون لها من أشباه ونظائر في تراثنا، وإعادة بناء هذه، بطريقة تجعل منها مرجعية للحداثة عندنا". ذلك أن ما هو مطلوب منا، إزاء ما ننقله، "سواء أتعلق الأمر بالأفكار والنظريات أم بالنظم والمؤسسات، هو العمل على تبيئتها في وسطنا واستنباتها في تربتنا".

لا يتعلق الأمر بإثبات سبق للفكر العربي في جميع الميادين، ولا بمحاولة إيجاد المفهومات ذاتها هنا وهناك، وإنما بالقيام بمجهود فكري غير يسير متعدد الواجهات يطلق عليه أبرز الممثلين لهذا النموذج "تجديد ثقافتنا من داخلها". وهذا "التجديد من الداخل" يتبع استراتيجية ذات ثلاثة أبعاد: نقد التراث، ونقد الحداثة نفسها والكشف عن مزالقها ونسبية شعاراتها، ثم التأصيل الثقافي للحداثة في فكرنا ووعينا.

ذلك أن طريق الحداثة عندنا "يجب أن تنطلق حسب هذا الموقف من الانتظام النقدي في الثقافة العربية نفسها". فلا يعني التحديث هنا "القطيعة مع الماضي بقدر ما يعني الارتفاع بطريقة التعامل مع التراث إلى مستوى ما نسميه بالمعاصرة". وهذا ما يمكن أن ينقذنا من مخاطر الحداثة الرائجة عندنا، والتي "تستوحي أطروحاتها، وتطلب المصداقية لخطابها من الحداثة الأوروبية التي تتخذها "أصولا" لها".

السؤال الأساس الذي يطرحه أحد أبرز الممثلين لهذا الموقف، هو "كيف يمكن للفكر العربي المعاصر أن يستعيد ويستوعب الجوانب العقلانية في تراثه، ويوظفها توظيفا جديدا؟"، وهو يصرح أن اهتمامه بالتراث يستجيب لحاجة عملية يفرضها وضعنا الحالي. كما يعلن أن استراتيجيته لا تبغي الهدم، وإنما تبحث "عما يمكن أن يسهم في إعادة بناء الذات العربية، وهي المهمة المطروحة في الظرف الراهن". إنه، كما يقول، يروم تدشين عصر تدوين جديد "تعاد فيه كتابة التاريخ الثقافي العربي بتوجيه من طموحاتنا، نحن العرب، في التقدم والوحدة"، لذا فهو لا يجد مفرا من العودة إلى التراث، ومن الوقوف عند عصر التدوين، لا كلحظة ممتازة من لحظات التاريخ الكرونولوجي، ولا كعصر مضى، وإنما من حيث هو عصر "حاضر في الماضي العربي الإسلامي السابق له، وفي كل ماض آخر منظوراً إليه من داخل الثقافة العربية الإسلامية، كما هو حاضر في مختلف أنواع الغد التي أعقبته". العودة إلى الأصول إذن، تعني متابعة الكيفية التي ترسخت بها "طرق في العمل والإنتاج، وأساليب في الإقناع، ومقاييس للقبول والرفض".

لكن، لكي تغدو هاته العودة إلى الأصول تأصيلا، ينبغي "جعل التراث معاصرا لنا" ، ومحاولة إرساء المرجعية داخله للمفهومات التي تشكل قوام الحداثة. يقوم تأصيل المفهوم إذن على نقله إلى ثقافتنا و"إعطائه مضامين داخلها تتناسب مع المضامين التي يتحدد بها أصلا في الثقافة الأوروبية التي منها نقلنا هذا المفهوم".

المسلمة الأساسية هنا هو أن لكل من التراث والمعاصرة طابعا عالميا و"الطابع العالمي لتراثنا العربي الإسلامي والطابع العالمي للفكر المعاصر، يجعلان طرح الأصالة في مقابل المعاصرة بمثابة وضع الفكر الإنساني في مقابل نفسه".

وبعد...

لعل القارئ يلمس أهمية مفهوم التأصيل الذي انطلقنا، من حيث إنه مكننا من أن نحيط بالفكر المغربي المعاصر في مختلف جوانبه. ولا بأس أن نذكّر من جديد أن هدفنا، كما هو الأمر في كل نمذجة، لم يكن الحكم لأحد النماذج على حساب الآخر، والمفاضلة بين هذا وذاك، بقدر ما كان استعراضا لمختلف المواقف من مسالة التأصيل. وإن كان لنا في الختام أن نبحث عن خيط رابط بين هذه النماذج الثلاثة، فربما هو أن كلا منها لا يستخف بالوزن الكبير الذي يتمتع به التراث في حياتنا الفكرية، والعناية التي يوليها إياه، حتى وإن ادعى تجاوزه.