نساء في حالة المسّ: سِير محكيّة من مصر


فئة :  مقالات

نساء في حالة المسّ: سِير محكيّة من مصر

نساء في حالة المسّ:

سِير محكيّة من مصر[1]


كلّفني المركز الوطني للبحث العلمي CNRS بمهمة بحثية في العاصمة المصرية القاهرة، وذلك في شهري فبراير ومارس من سنة 1954، وتمكنت خلالها من القيام بتحقيق موجز حول طقس الزَّارzār. وأودّ أن أقدّم هنا بعض الوثائق التي جمعتها إبّان هذا التحقيق، بينما سأعمل على نشر المادة المحصّلة خلال التحقيق جملة في كتاب هو حاليا قيد الإعداد.

لسنا هنا بصدد تقديم دراسة متكاملة حول الزَّار في مصر؛ فيكفي أن نذكر أنه توليفة ممارسات طقوسية علاجية للمصابين بالمس، وبالخصوص النساء اللواتي يشهدن بسببه اضطرابات نفسانية وعضوية مختلفة.

تحيل لفظة الزَّار، التي تعني في التداول المصري “الاحتفالية”، على أصول إثيوبية. كما يظهر بوضوح أنها انتقلت من خلال عملية استقدام الرقيق من بلاد السودان، فلا نجد شهادة على هذه الظاهرة في مصر قبل سنوات 1870. وقد انتشرت هذه الطقوس في مجال السواحل الغربية والجنوبية لشبه الجزيرة العربية، انطلاقا من الفضاء الإثيوبي.

لقد كان لمركز الانتشار الإفريقي الشرقي هذا، علاقات مع مركز إفريقي غربي يصعب حاليا تحديدها تاريخيا، يحمل فيه الطقس عينه اسم بوري Bori. وقد انبثت هذه الطقوس من إفريقيا الغربية من جهة أولى صوب بلاد المغارب، ومن جهة أخرى في عصر قديم نسبيا، صوب القارة الأمريكية، ودائما عبر الزنوج؛ إنّه الطقس المعروف جيدا تحت اسم الفودو vaudou بهايتي والبرازيل،...إلخ. وتتصف هذه الطقوس، في بعض الظروف الاجتماعية، بقدرة كبيرة على التوسع، نعاينها بوضوح جلي خاصة في أنحاء من إفريقيا والبرازيل.[2]

ثمة دوما اختصاصيون لديهم دراية بالطقوس الواجب القيام بها، في علاقة وثيقة بعالم الأرواح. وفي مصر غالبا ما يكون هؤلاء الاختصاصيون من النساء، و يحملن اسم الكودية Kūdyaأو الشيخة šēha، ويتحلق حولهن أتباع شبه دائمين ومرضى، يأتون لطرد الأرواح التي تسكنهم، وفرق من الموسيقيين والمغنيين والراقصين تهَبُ نفسها لخدمة الكودية، لا سيَّما أن للموسيقى والرقص دورًا أساسيا إبّان الاحتفال.

لقد درست بشكل خاص الدائرة المحيطة بكودية في القاهرة، التي تحمل اسم زمزم، وتعرف أكثر بكُنية أم عبد الله. تقطن بحي مسجد الغورية، بالمنزل رقم 10 من زقاق خوش قَدَم بالطابق الأرضي، وتُنَظّم بانتظام حَضْرَة كل اثنين بعد منتصف النهار. أما زوجها أبو عبد الله، فهو بائع متجول للَّبن الرائب.

العديد من المكترين للمنزل الذي تقطنه هم أتباع لها، أو يمدون لها يد المساعدة لتحضير طقوس الزَّار. بدر رمضان، أحد هؤلاء الأتباع، كان الوحيد الذي له دراية بالقراءة والكتابة، يشتغل عاملا، وهو ابن إحدى التابعات المواظبات على أم عبد الله. لقد تمكنت من إقناعه بأن يُدوّن لي تحت إملاء الكودية، وصفا لحفل الزَّار ومختلف التفاصيل المتعلقة به، كما طلبت منه استجواب بعض الممسوسات حول الطريقة التي تعرضن عبرها للمس. حصيلة هذه العملية هي هذه الصفحات المنشورة هنا، والتي، من دون شك، سيقف القارئ على أهميتها الإثنوغرافية والنفسانية الكبيرة.

لقد ارتأيت الإبقاء على أسلوب وتراكيب بدر النحوية، فربما يتيح لنا ذلك فرصة لدراسة مهمة حول الطريقة التي يتم بها تمثل العربية المكتوبة، الخاضعة لتأثير العربية المنطوقة لدى من حظوا بتعليم متواضع، ولم يتعدّ مستواهم الدراسي الطور الابتدائي. ولا أرى ضرورة لتكرار كلمة "هكذا"، التي كانت ضرورية في كلّ سطر، و اقتصرت على مراجعة متأنية للتأكد من تطابق النص المطبوع مع ما دوّنه بدر.

بعد انتهاء مهمّتي في مصر، شكّل النص المنشور هنا إلى جانب نصوص أخرى حرّرها بدر، موضوعا لسلسلة محاضرات ألقيت بالمدرسة التطبيقية للدراسات العليا (قسم العلوم التاريخية واللغوية). وقد ساهم متابعو هذه المحاضرات بشكل كبير في توضيح بعض المقاطع الصعبة، وأخص بالذكر منهم م.م. لوكا M.M. Louca، ومحمّد فريد غازي M.F. Ghazi، وياغي Yagi. فلهم منّي جزيل الشكر من هذا المقام.

مكسيم رودنسون.

النــــــصّ

مضى حوالي عامين، وسألت إحدى الملبوثات،[3] فقالت لي: كنت متزوجة بأحد المزارعين، وكانَ لها بنتان؛ واحدة في الرابعة، والثانية في الثانية من عمرها. وكان لها 6 أخوات؛ 4 ستات و 2 رجالة[4]، وكانت أسماء الرجالة كالتالي: واحد اسمه إبراهيم، وهو في الجيش، وعلي عامل في السرجة[5]. أما الستات، فاطمة وخديجة وآمنة وزينب، فهنّ متزوجات، وهي الخامسة. بينما كانت في البيت، وهي نائمة على المسطبة، وهي بناء على الأرض[6]، فنده عليها زوجها، فقامت من النوم ونزلت من المسطبة خبطًا على الأرض[7]، وكلمت زوجها، ورجعت كما كانت. وبعد ذلك شعرت بتعب في الجسم ولم تقوم[8]، وهي كانت حامل، ومضى عليها 3 شهور. ولدت وهي مريضة، ولكن لم تعرض على أطباء؛ فأهلها عرضوا أثرها[9] على الكودية، لأنها تكون نائمة فتقوم منزعجة. بعد ذلك أمرت الكودية، وكان اسمها حسنه شاه[10]، بحجبين رأس وحجاب قلب[11]، وختمين: خاتم مرجانه[12] وخاتم عليه آية الكرسي[13]، وجابت جدي أحمر وجوز، وجابت حمام أحمر، وجابت سقط عجل كامل، وجلابية بيضة على أخضر، وطرحة بيضة ومنديلين حرير رأس، وجزمة حمراء. ولما جابت هذا وعملت الزار خفِّت، وبعدما خفِّت بسنة رمت كل شيء من حاجات الزار، ولم يحصل عندها أي شيء بعد ذلك. أما لما كانت مريضة، كانت ترى كل يوم واحد عسكري و معه واحد أسود، وكان العسكري يأمر الرجل الأسود بأن يضربها، فكان الأسود يمتنع عن الضرب، فكان العسكري يضغط عليه، فلما يضربها كان يزيد عليها المرض، أما العسكري والأسود فلا تستطيع تفسيرهما.

مضى حوالي عام وشهور، وسألت امرأة ثانية، فقالت لي: كنت ماشية في شارع الدراسة، وكان سني 40 سنة، ومعي من الأولاد7 وبنت واحدة. البنت توفت وكان عمرها 4 سنوات، وأولادها السبعة همّا أحمد وعبد الرحمان وعبد الفتاح وعلي ومحمود وعبد الوهاب وعبد الجواد. وجوزها متزوج عليها، وهو مزارع في الريف، و عايش مع مراته الجديدة، وهي مقيمة في مصر. ولما كانت ماشية في الشارع، وكانت الساعة 3 صباحا في الليل، وهي تحسب الدنيا نهار علشان القمر كان نوره قوي، فإذا بواحدة لابسة أسود في أسود، وشعرها ملخبط، فقالت لها الملبوسة: صباح الخير، فلم ترد عليها، فخافت، وجريت. فالجنية جريت وراها، والست تصرخ وتجري حتى وصلت البيت، وندهت للجيران، فنزلوا وقالوا لها فيه إيه، فقالت الست بتجري ورايه وبصو عليها، فلم يروا أحدا. وبعد ذلك اتخضت، فالخضة أثرت عليها، فلم تعرف أي أحد ومرضت 6 شهور. فكانت ترى واحدة تفتح الباب عليها، وتخض وهي لابسة أبيض، فكانت تقوم تجري وتقول حوشولى الست حاتموتني، وكانت ترى واحدة تخرج لها من الكنيف[14]، وهي لابسة أسود وتخش عليها، فاستمرت على ذلك ثلاثة أشهر حين راحت للدكتور. فكان الدكتور إذا كتب لها أي دواء [كذا]، فكان المرض يزيد عليها، وجاء زوجها من الفلاحين، وقال إن ناس قالوا لى وديها الكنيسة[15]، فودوها الكنيسة فلم تخف. وبعد ذلك ودوا أثرها[16] للكودية، فقالت الكودية دي عاوزه زار، فعملت لها، وطلبت منها أن تجيب حجاب رأس وإسورة فضة وخاتم عليه آية الكرسي. وبعد الزار خفت، ولكن بعض الأوقات يرجع إليها مرض بسيط، ولكن الإسورة لم تقلعها من يدها أبدا. وهي لديها أختين: واحدة في الخمسين سنة، وواحدة [كذا] 47 سنة، واسمهما: حسنية (50)، وسميرة (47). وهما متزوجتان.

مضى حوالي 3 أعوام، وسألت الثالثة، فقالت لي: كنت في السابعة والثلاثين من عمري، وكنت متزوجة، وعندي ولدين، وكان عمر الأول 14 سنة، والثاني سنتان؛ وبنتين، الأولى 17 سنة والثانية 22 سنة. وكان زوجي يعمل بأحد المخابز البلدية، وكان لي 4 أخوات رجالة، وأخت واحدة، وهما عايشين في الريف، واحد اسمه محمد، والثاني سيد، وعلي ومصطفى، وأختي اسمها فاطمة. وأصف حكايتي: كنت في المستشفى بابني علشان كان مريض، فلما مات ابني في المستشفى كانت الساعة حوالي التاسعة مساء، وكانت المستشفى مفيهاش أحد غير واحد غفير، فلما طلعت من العنبر ومشيت من الصالة، فتهت، فدخلت على العنابر الفاضية، فحاولت أن أرجع، فلم أعرف كيف أرجع، فجريت في العنبر وإذا ورائي ناس كثيرة تجري معايه، فأنا رأيت هؤلاء الناس فجننت، ولم أعرف نفسي إلا وأنا في البيت. فكنت نائمة أرى واحدة ست تيجي وتقعد على قلبي، وأنا لم أتكلم وكأن لساني مربوط، لا أستطيع الكلام. فرحت للدكتور، ولم أرَ نتيجة، فرأيت في المنام واحدة تقول هاتيلي جوز حمام واذبحيه، وأنت تخفي. فعرضت هذا الكلام على إحدى الستات، فقالت لي: د هانت عليكِ زار[17]. فرحت للكودية، وقلت لها على كل شيء، فقالت لي هاتي حجاب رأس ذهب، وحجاب رأس فضة، وحجاب قلب فضة، وخلخال فضة، وختمين ذهب، واحد سملك[18]، والثاني بفص مرجان، وحلق دندش[19]، وجوز حمام، وخروف، وعملت الزار. ولكن صحتي ما زالت ضعيفة، والأسياد[20] طالبين زار ثاني، وربنا يشفي، الحمد لله.


[1]- M. Rodinson, Autobiographies de possédées égyptiennes, in Mélanges Louis Massignon, Institut Français de Damas, Damas, 1957, Tome III, pp.259-269

[2]- ظهرت بيبليوغرافية الزاربـ Bulletin des études arabes، العدد 14، سبتمبر-أكتوبر 1943، ص. 106، ومقال Gerulli، الزار، دائرة المعارف الإسلامية، الطبعة الفرنسية، الجزء الرابع، ص. 1286-1287

ومنذ ذلك الحين، كان أهم إصدار حول الزار هو لـ E. Littman, ArabischeGeisterbeschwörungenausÄgypten, Leipzig, O. Harrassowitz, 1950.

وقد قدمت إضافات بيبليوغرافية وزيادات على هوامش النص في تقريري المنشور بالمجلة الآسيوية، عدد 240، 1952، ص.129-132، وقدمت نظرة عامة عن المعارف المُحصلة حول الزار في مصر، ونتائج التحقيق الذي عملت عليه، في بحث مقتضب قدم يوم 16 يونيو 1954 ( ليس 18 نونبر 1953 كما كتب في المطبوع) ونشر بـ Comptes-rendus sommaires des séances de l’institut Français d’Anthropologie, 7e fascicule, nos 87 a 93, Janvier-Décembre 1953, pp. 21-24

[3]- الملبوثات للحديث عن الملبوسات التي تظهر في مواقع أخرى بالنص. إنها كلاسيكية مفرطة! هذه الممسوسة اسمها مشرّفة، كما أخبرني بذلك محرر النص أثناء مراجعتي إياه معه.

[4]- هذه التفاصيل تم تقديمها على إثر تأكيدي على ضرورة الحصول على أكبر قدر ممكن من التفاصيل، حول الوسط الذي تنتمي إليه النسوة المعرضات للمس. وقد بذل بدر جهده هنا مثل إثنوغرافي مبتدئ، لكنه طرح أسئلة غير ذات أهمية، بدل أسئلة أخرى كانت لتفيدنا أكثر .

[5]- اسم معصرة زيتون مصرية.

[6]تدقيق بطلب مني بطبيعة الحال. يتعلق الأمر بمقعد من التراب يستعمل كسرير بالمنازل الريفية.

[7]- اصطدمت بغتة أثناء نزولها من السرير بالأرض، كونها لم تستيقظ بشكل كامل من النوم، فحصل أن ضربت بذلك جنيا غير مرئي كان بالجوار. هكذا كان يحدث المس في غالب الأحيان.

[8]- لم تقوم ! تعلم بدر في المدرسة استعمال "لم" للجزم بعدم اكتمال الشيء، وقد استعملها بكثرة، لكنه لا يعرف جيدا كيف يركب هذا الزمن الأخير.

[9]- أثر (في العربية الفصحى أثر: ما بقي من رسم الشيء) هو كل شيء يخص المريض، يتم تقديمه للساحر لمساعدته على علاج الجن الذي مسه. انظر: (J. Walker, Folk Medicine in Modern Egypt, London, Luzac, 1934, p.40, n. 1)

Littmann, Arab. Geisterbeschwörungen, p.63 (bibliographie).

[10] يتسم هذا النوع من الأسماء بالغرابة، ويبدو أنه مفضل من طرف بعض الكوديات.

[11]- حجاب القلب، هو طلسم يحمل على الصدر. لاحظ شكل كتابة حجابين، خاتمين دون حركة المد. هل يتعلق الأمر هنا بظاهرة لسانية حقيقية؟

[12]- حول هذا الطلسم، انظر على الخصوص:

T. Canaan, Aberglaube und VolksmedizinimLande der Bibel, Hambourg, L. Friederichsen, 1914 (Abdhandlungen des HamburgischenKolonialistituts, Bd. XX), p. 48-9

[13]- القرآن، سورة البقرة، الآية255-256. انظر Canaan, ibid., p. 101.

[14]- عادة ما تقطن الجن المراحيض.

[15]- نموذج جيد للتوفيق بين الأديان بحثا عن العلاج السحري.

[16]- سبق و عرفنا بالأثر أعلاه، الإحالة رقم 9

[17]- يدل الزار هنا على الروح التي مست جسد المرأة، كما هو الحال في الأصل الإثيوبي. وهذا المعنى موجود في مصر، لكنه أقل تداولا من المعنى المعروف. وهو "احتفالية طرد الأرواح".

[18]- لا يوجد لفظ السملك في معجم اللهجة المصرية، ويجهله الكثير من المصريين. وقد أخبرني بعض أهل القاهرة أنه مصطلح تقني شعبي جدا (تمديد للفظ سمك؟) يعني غليظ وكبير، ويستعمل لوصف سمك الأنبوب.

[19]- يعرف سبيرو Spiro الدندش بكونه « beingheavilyjewelled (woman) ». وحسب مخبرين مصريين، يطلق الاسم على جواهر منقوشة بشكل جيد، وخصوصا عندما تكون لها أقراط متدلية تحدث طنطنة عند اصطدامها. ويقال عادة إتدندشت للمرأة التي تظهر جمالها، و تتغنج.

[20]- الأسياد؛ هذا هو اللفظ الشائع للإشارة إلى الأرواح التي تمس الإنسان، موضوع طقس الزار.