نوايا غامضة: الصين قوة محافظة أم تعديلية تسعى إلى مراجعة النظام الدولي؟

فئة :  مقالات

نوايا غامضة: الصين قوة محافظة أم تعديلية تسعى إلى مراجعة النظام الدولي؟

نوايا غامضة: الصين قوة محافظة أم تعديلية تسعى إلى مراجعة النظام الدولي؟

شكَّل الصعود الاقتصادي والعسكري المتسارع للصين، خلال العقود الأخيرة، حافزًا كبيرًا لتعزيز مكانتها كقطب عالمي وازن في النسق الدولي، وزاد من طموحاتها كقوة متحدية ومهدِدة لهيمنة الولايات المتحدة الأمريكية التي تنفرد منذ انتهاء الحرب الباردة وانفراط عقد الاتحاد السوفيتي، قبل أكثر من ثلاثة عقود، بقيادة النظام الدولي الجديد أحادي القطب الذي تشكَّل على أنقاض الثنائية القطبية. وقد أثار هذا الصعود الصيني، ولا يزال، جدلًا واسعًا في الأوساط الأكاديمية والسياسية، لا سيما في المؤسسات والدوائر الغربية، حول ما إذا كانت الصين تعد دولةً قائمةً على الوضع الراهن تسعى للحفاظ على النظام الدولي القائم وتكريس قواعده دونما محاولة للتغيير أو التوسع، أم إنها بمثابة قوة تعديلية تطمح إلى تغيير بنية هذا النظام ومؤسساته ومعاييره ومن ثم إعادة تشكيله بما يخدم مصالحها الخاصة ويعكس مكانتها كقوة عظمى.

تأسيسًا على ذلك، يسعى هذا التحليل للإجابة عن السؤال المحوري التالي: هل تعد الصين الصاعدة قوةً محافظة على الوضع الراهن أم قوةً مراجعة لديها نوايا تعديلية؟ وذلك من خلال التمييز، أولًا، بين مفهومي دولة الوضع الراهن والقوة التعديلية أو المراجِعة، ثم محاولة تفسير نوايا الصين تجاه النظام الدولي من منظور هذه الثنائية عبر تفنيد الحجج والمؤشرات التي تؤكد موقف الصين كدولة محافظة على الوضع الراهن، وكذلك الحجج المقابلة التي تعضّْد توجه الصين كقوة تعديلية، لكن التحليل يحاول أن يتجاوز هذه الثنائية الضيقة، ليطرح تصوُّرًا آخر للصين، ليس بوصفها قوة محافظة أو تنقيحية، بل كقوة معتدلة توازن بين التكيف مع النظام الدولي والسعي الاستراتيجي لتعديله.

أولًا- "دولة الوضع الراهن" و"القوة التعديلية" وموقفهما من النظام الدولي

يميز علماء العلاقات الدولية، في إطار وصفهم لتفاعلات الدول الصاعدة أو القوى العظمى تجاه النظام الدولي القائم ومدى قابلية هذه الوحدات الدولية للتكيف مع قواعد ومؤسسات النظام القائم أو معارضتها، بين نوعين من الدول، يُشار إلى النوع الأول بـ "دول الوضع الراهن"، فيما يعرف النوع الثاني بـ "القوى التعديلية أو المراجعة".

1- قوى الوضع الراهن:

يستخدم مفهوم دولة الوضع الراهن Status Quo Powers في العلاقات الدولية للإشارة إلى الدول الساعية إلى الحفاظ على النظام الدولي القائم، بمكوناته ومنظماته وقواعده المعيارية، وتوسيع انخراطها في مؤسساته السياسية والاقتصادية والتجارية، ويرجع ذلك إلى كونها قوى مستفيدة من هذا النظام وتخشى حدوث تغييرات جوهرية يمكن أن تهدد مصالحها، أو تزعزع الاستقرار وتقود إلى الفوضى، وتعد فرنسا والمملكة المتحدة، وكذلك اليابان من أمثلة دول الوضع الراهن التي تبدي رضاها عن النظام الدولي القائم وتطمح إلى استمراره.

ومما تجدر ملاحظته أن بعض دول الوضع الراهن قد لا تكون راضيةً عن النظام الدولي أو نمط توزيع القوى فيه، لكنها لا تمتلك القدرة على تحدي هذا النظام أو منافسة الدولة المهيمنة، وبالتالي لا تكشف عن نواياها التعديلية إلى أن تصل إلى مستوى مكافئ من القوة للدولة المهيمنة، وتمثل ألمانيا النازية مثالًا واضحًا لذلك، فخلال فترة ما بين الحربين العالميتين، لم تكن ألمانيا راضيةً تمامًا عن الترتيبات الدولية التي فرضتها القوى المنتصرة بعد الحرب العالمية الأولى من خلال معاهدة فرساي لعام 1919، بيد أنها لم تكن تمتلك من القوة الاقتصادية أو العسكرية ما يمكنها من تحدي هذا الواقع حتى وصول النازيين إلى السلطة في ثلاثينيات القرن الماضي، حيث أدّى تحديها للنظام الدولي إلى اندلاع الحرب العالمية الثانية.

2- القوى التعديلية أو المراجعة:

خلافًا لدول الوضع الراهن، تطمح القوى التعديلية Revisionist Powers إلى تغيير النظام الدولي القائم بدلًا من الحفاظ عليه. وليس بالضرورة أن تكون القوى التعديلية رافضة أو غير راضية عن كافة عناصر وجوانب النظام الدولي، فقد يستهدف هذا التغيير موازين القوى الإقليمي، أو وضع قواعد ومعايير ومؤسسات بديلة لتلك التي تنظم السياسة الدولية، ومن ثم يمكن القول إن القوى التعديلية ليست عدوانيةً بطبيعتها أو تستهدف زعزعة الاستقرار، لكنها تحاول أن تعبر عن رفضها للنظام الدولي القائم كونه مقيدًا لها أو محجمًا لمصالحها، ويمكن أن ينطوي هذا الرفض على وسائل دبلوماسية للتغيير، وقد يرقى إلى استخدام القوة العسكرية[1].

الشكل من إعداد الباحث

فالدولة المراجعة، إذن، تتملكها غالبًا نزعة انتقامية تجاه النظام الدولي الذي يهدد أمنها ومصالحها، فتسعى جاهدةً إلى تغيير هذا النظام وتحسين مكانتها كفاعل مؤثر. لذلك، فإن القوى التعديلية تقف على طرف نقيض من قوى الوضع الراهن التي تسعى للحفاظ على توازن القوى الحالي[2]. وتعد إيران، وكوريا الشمالية من الدول التي توصف بأنها قوى تعديلية، كونهما تتحديان النظام الدولي وقواعده، وكذلك روسيا الاتحادية بعد تدخلها عسكريًّا في أوكرانيا في فبراير 2022، حيث فُسر هذا السلوك العدواني من قبل موسكو بأنه تعبير عن رفضها للنظام الدولي والأحادية القطبية.

وضمن هذا السياق، يرى جون ميرشايمر John Mearsheimer، رائد الواقعية الهجومية، أن وجود الولايات المتحدة كقوة مهيمنة على رأس النظام الدولي منذ انتهاء الحرب الباردة وتفكك الكتلة الاشتراكية لن يدوم طويلًا؛ لأن دوافع الدول الأخرى في هذا النظام تظل دائمًا مقرونةً برغبتها في تعظيم المكاسب الجيوسياسية وانتزاع الحد الأقصى من القوة، ومن ثم فإن القوى الكبرى، لاسيما روسيا والصين الشعبية، لن ترضى أبدًا باستمرار هذا التوزيع الحالي للقوة، وستسعى إلى تغييره، مجبولةً في هذا الأمر بنواياها التعديلية[3].

ثانيًا- الصين الصاعدة: قوة محافظة أم مراجعة للنظام الدولي؟

أثارت مسألة صعود الصين كقوة عالمية على المسرح الدولي نقاشات واسعة ومعمقة بين أوساط الأكاديميين، ضمن ما يعرف بالمطارحات أو الجدالات النظرية في حقل العلاقات الدولية، حيث بدأت هذه النقاشات بالحديث حول مسألة ما إذا كان هذا الصعود الصيني سيكون سلميًّا، أم سينطوي على صدام عسكري حتمي مع القوة المهيمنة وهي الولايات المتحدة، ثم انتقل النقاش بعد ذلك إلى جانب آخر يتعلق بموقف الصين من النظام الدولي الحالي؛ هل هي قوة محافظة على الوضع الراهن ولديها نوايا حقيقية للالتزام بمعايير هذا النظام الدولي ومؤسساته، أم إنها غدت بالفعل قوةً تعديليةً تنحو باتجاه معارضة هذا النظام وتهدف إلى تغييره، جزئيًّا أو كليَّا، بالكيفية التي تستوعب طموحاتها وتحقق أهدافها القومية؟

وفي هذا السياق، تتباين الآراء حول موقف الصين من النظام الدولي، فبينما يراها البعض دولةً قائمةً على الوضع الراهن تطمح للحفاظ على النظام القائم، يراها آخرون قوةً مراجعة للنظام الدولي، وتسعى إلى إعادة تشكيله وفقًا لمنظورها. ويعضّْد أنصار الاتجاه الأول، الذين يحاججون بأن الصين قوة داعمة للنظام الدولي وتستفيد من وضعها كقوة مؤثرة فيه، موقفهم بجملة من الشواهد التي يعكسها الواقع الدولي، أهمها أن الصين، منذ تبنيها سياسة الانفتاح والإصلاح عام 1978، باتت أكثر الأطراف الدولية استفادةً من الفرص التي وفرها لها النظام الدولي الراهن، ففي ظل العولمة شهدت الصين نموًا اقتصاديًّا هائلًا، ما مكنها من تجاوز الاقتصاد الفرنسي عام 2005، ثم اليابان عام 2010 لتصبح القوة الاقتصادية الثانية عالميًّا من حيث الناتج المحلي الإجمالي (GDP) خلف الولايات المتحدة، كما غدت الصين قوةً تجاريةً عالمية والشريك التجاري الأول لكثير من دول العالم بفضل عضويتها في منظمة التجارة العالمية منذ عام 2001.

علاوةً على ذلك، تركز خطابات السياسية الخارجية الصينية منذ عقود على عدة مبادئ رئيسة، كالسيادة الوطنية للدول، وسلامة الأراضي، وعدم التدخل، والمنفعة المتبادلة، والتعايش السلمي، كما تحض القيادة الصينية على الامتثال لقواعد القانون الدولي والتأكيد على دور المنظمات والمؤسسات الدولية، كالأمم المتحدة ومنظمة التجارة العالمية، في تحقيق التنمية والعدالة الاجتماعية للشعوب، وهو ما يعكس دعم الصين للنظام الدولي ومؤسساته وقواعده كإطار سياسي وقانوني يحدد المصير المشترك للبشرية جمعاء، مع رفضها الشديد للأحادية الأمريكية[4].

يبرز موقف الصين الداعم لأجندة الوضع الراهن أيضًا من خلال انخراطها الموسَّع في أنشطة الأمم المتحدة، ولاسيّما دورها النشط في مجس الأمن الدولي، بوصفها أحد الأقطاب الخمس الدائمة العضوية المتمتعة بحق الاعتراض (الفيتو)، فحتى عام 2010 لم تستخدم الصين حق الاعتراض سوى 8 مرات فقط، في حين أنها لجأت إلى استخدامه ضعف هذا العدد في الفترة من أكتوبر 2011 إلى مارس 2024[5]، مما يعكس اهتمامها المتزايد بدور وأهمية مجلس الأمن كآلية أساسية في النظام الدولي.

من الحجج الأخرى التي تؤكد توجه الصين لدعم الوضع الراهن أن القيادة الصينية لا تعرِّف نفسها كقوة تعديلية أو مراجعة، فعلى الرغم من رفضها للأحادية الأمريكية ودعواتها المتكررة إلى إيجاد نظام دولي متعدد القوى، إلا أنها لا تزال تبدي التزامها الراسخ بالمبادئ الأساسية الحاكمة للنظام الدولي، مثل ميثاق الأمم المتحدة وقواعد القانون الدولي، بالإضافة إلى ذلك، تشدد بكين على أهمية الدفاع عن النظام التجاري متعدد الأطراف والقواعد الدولية، وتدعو إلى تعزيز التعاون العالمي والتجارة الحرة، ما يؤكد دعمها للحوكمة العالمية كأساس لتوطيد العلاقات التجارية والتعاون الاقتصادي بين الدول.

في المقابل، يرى أنصار الاتجاه الثاني أن الصين، كقوة عالمية صاعدة، لا تستهدف الحفاظ على الوضع القائم، بل هي قوة مراجعة للنظام الدولي القائم وتتملكها نزعة قوية نحو تغييره، كونها غير راضية عن بنية هذا النظام أو التوزيع القائم لعلاقات القوة بين أطرافه، ونعرض فيما يلي عددًا من الحجج والشواهد التي نرى أنها تمثل مؤشرات كاشفة لنوايا الصين التعديلية:

1- الخطاب الصيني المناهض للأحادية الأمريكية:

لم تخف الصين رفضها لفكرة الأحادية الأمريكية، وتدعو بدلًا من ذلك إلى إيجاد نظام دولي متعدد الأقطاب أكثر توافقًا وانسجامًا مع الديناميكات الدولية المتغيرة؛ حيث تتهم بكين الأحادية القطبية بتعزيز الفوضى وعدم الاستقرار انطلاقًا من رؤية الولايات المتحدة لذاتها كدولة فوق القانون، وهو ما تجلى في تعدياتها العسكرية المتكررة على السيادة الوطنية للدول والتدخل في شئونها الداخلية، وعدم احترامها للمؤسسات والمنظمات الدولية، كمنظمتي التجارة والصحة العالميتين، وأيضًا منظمة اليونسكو المعنية بالتربية والعلوم والثقافة، كما تُتَّهم الولايات المتحدة من قبل الصين بأنها قوة حمائية تستغل الرسوم الجمركية والانسحاب من المنظمات الدولية لتحقيق مصالحها دونما اعتبار لمصالح الدول أو الكيانات الأخرى.

وضمن هذا السياق، تعمل الصين على تقديم نفسها كشريك استراتيجي يمكن أن يوفر بدائل اقتصادية للمبادرات التي تقودها الولايات المتحدة، وتصوِّر نفسها كقوة عظمى لديها القدرة على إرساء دعائم نظام عالمي متعدد الأقطاب، وكانت قمة منظمة شنغهاي للتعاون، التي عقدت بنهاية أغسطس 2025 بمدينة تيانجين الصينية، قد شهدت تأكيدًا صينيًّا على أهمية أن يتجاوز العالم مرحلة الأحادية القطبية؛ فخلال أعمال هذه القمة طرح الرئيس الصيني، تشي جين بينغ، ما أسماه مبادرةً للحوكمة العالمية تستهدف بناء نظام عالمي أكثر مساواةً وعدلًا، داعيًا منظمة شنغهاي لأن تضطلع بدور قيادي أكبر في المرحلة المقبلة تنفيذًا لهذه المبادرة.

2- تطوير مؤسسات مالية بديلة للمؤسسات الدولية:

تعمل الصين، مدفوعةً في ذلك برغبتها في تعزيز نفوذها وتقليل الاعتماد على الدولار الأمريكي في المعاملات المالية والتجارية، على تطوير مؤسسات مالية بديلة للمؤسسات الدولية المعروفة، مثل بنك التنمية الجديد (NDB) والبنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية (AIIB)، وهما بنكان إنمائيان متعددا الأطراف يهدفان إلى منافسة المؤسسات التي يهيمن عليها الغرب مثل البنك الدولي، كما تطوِّر الصين أنظمةً جديدةً للدفع عبر الحدود؛ حيث تستخدم الصين "الرنمينبي" لسداد نحو 55% من مدفوعاتها عبر الحدود[6].

الشكل من إعداد الباحث

3- التهديد بضم تايوان وإعادة توحيدها مع البر الصيني:

لا تزال الصين تتمسك بمطالبها السيادية تجاه جزيرة تايوان وتؤكد على خيار إعادة التوحيد باستخدام القوة العسكرية، وتبرز هذه التهديدات من خلال المناورات العسكرية الضخمة التي تجريها بكين بالقرب من مضيق تايوان، والتي تحاكي من خلالها حصار الجزيرة أو توجيه ضربات إلى منشآتها الحيوية، وبحسب مراقبين فإن هذه المناورات تعد مؤشرًا على استعداد حقيقي لغزو تايوان[7]. ولا شك أن هذه التهديدات تعكس نوايا الصين وتؤكد رغبتها في تعديل نظام "الوضع الإقليمي الراهن" الذي يحكم العلاقات بين حكومتي بكين وتايبيه منذ عقود، واستبداله بنظام جديد تكون للصين فيه السيادة المطلقة على ضفتي المضيق.

4- سعي الصين لصياغة معايير عالمية جديدة:

تطمح الصين إلى صياغة معايير عالمية جديدة لتكون نموذجًا بديًلا للحوكمة الغربية في مجالات الإنترنت والذكاء الاصطناعي، ويبرز ذلك من خلال الخطة التي أطلقتها بكين بعنوان "معايير الصين 2035"، والتي تهدف إلى التأثير على التقنيات الناشئة مثل الذكاء الاصطناعي، وشبكات الجيل الخامس، وتعكس هذه الخطة أهداف الصين الأوسع نطاقًا، والمتمثلة في أن تصبح قوة رائدة عالميًّا في ابتكارات التكنولوجيا المتقدمة، وتعزيز نموها الاقتصادي ونفوذها الجيوسياسي[8]. ويُنظر إلى هذه الخطوة الصينية باعتبارها تمردًا على أسس النظام الدولي، ومحاولةً لتطوير أسس بديلة تعكس رؤية بكين للنظام الجديد.

5- إطلاق الصين مبادرة الحزام والطريق (BRI):

في عام 2013، طرح الرئيس الصيني، تشي جين بينغ، أثناء زيارته لدول آسيا الصغرى، مبادرة الحزام والطريق الصينية، وهي مجموعة واسعة من مبادرات التنمية والاستثمار، تهدف في الأصل لربط شرق آسيا وأوروبا من خلال عدد من مشاريع البنية التحتية، ثم توسعت المبادرة لتشمل إفريقيا وأوقيانوسيا وأمريكا اللاتينية، مما زاد من النفوذ الاقتصادي والسياسي للصين بشكل كبير[9]، ويرى بعض المحللين أن هذه المبادرة تشكل امتدادًا مقلقًا لقوة الصين الصاعدة، بل يمكن اعتبارها بمثابة رؤية بديلة للحوكمة العالمية تتحدى النهج الذي تروج له القوى الغربية المهيمنة وفي مقدمتها الولايات المتحدة.

6- تنامي طموحات الصين الإقليمية:

ينظر كثير من المحللين إلى مساعي الصين الرامية إلى فرض هيمنتها الإقليمية في منطقتي بحر الصين الشرقي والجنوبي، وموازنة النفوذ الأمريكي في المنطقة عبر إقامة شبكة من التحالفات الاقتصادية والأمنية تعزز من خلالها قيادتها لنظام إقليمي متمركز حولها في مواجهة الأنظمة الحليفة للغرب (اليابان، كوريا الجنوبية، فيتنام، والفلبين)، على أنها تمثل مؤشرات واضحة لنوايا بكين التعديلية تجاه النظام الدولي.

ثالثًا- الصين بوصفها قوةً معتدلةً توازن بين التكيف مع النظام الدولي والسعي الاستراتيجي لتعديله

يمكن القول إن محاولة تقييم نوايا الصين وتفسير تفاعلاتها الخارجية تجاه النظام الدولي وحصرها ضمن ثنائية الوضع الراهن والنزعة التعديلية تمثل إطارًا تفسيريًّا ضيقًا، وقد لا تقدم فهمًا حقيقيًا لنوايا الصين الفعلية، بالنظر إلى الطبيعة المتغيرة لديناميات النظام الدولي ومصالح الوحدات السياسية المكونة لبنية هذا النظام، الأمر الذي يستدعي الخروج عن هذه الثنائية الضيقة كي يتسنى لنا تفسير الموقف الصيني تجاه النظام الدولي ضمن إطار أكثر اعتدالًا وواقعيةً، بحيث يتجاوز هذا الإطار تعريف الصين كدولة قائمة على الوضع الراهن أو كقوة مراجعة للنظام الدولي، ليصورها كقوة معتدلة توازن بين التكيف مع النظام الدولي والسعي الاستراتيجي لتعديله.

فالاستراتيجية الصينية في التعاطي مع النظام الدولي الراهن تكشف عن رغبة الصين في تحقيق التوازن بين التكيف مع عناصر هذا النظام من خلال المشاركة الانتقائية في المؤسسات الدولية مثل قمة آسيان ومنظمة التجارة العالمية، وتعزيز مفاهيم مثل الأمن المشترك والاعتماد المتبادل بدلًا من الأمن الأحادي الجانب، وبين السعي الاستراتيجي لإعادة الهيكلة من خلال تطوير مؤسسات جديدة[10]، لاسيما في مجال الحوكمة المالية العالمية، فبينما تدعو بكين، معولةً في ذلك على ثقلها الاقتصادي، إلى إصلاح تدريجي لمؤسستي بريتون وودز (البنك وصندوق النقد الدوليين)، فإنها تعمل في الوقت نفسه على إنشاء وتطوير مؤسسات وهياكل بديلة مثل بنك التنمية الجديد والبنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية.

فالصين وفقًا لهذا التفسير، لا تنشد دعم النظام الدولي أو الحفاظ عليه كما هو بالصورة التي يبدو عليها، كما أنها لا تسعى إلى تعديله أو تغييره بصورة جذرية، بل تنتهج استراتيجية متوازنة يمكن أن تفضي إلى تعديل هذا النظام تدريجيًّا أو دفعه إلى التكيف مع مصالحها ورؤيتها الأوسع نطاقًا؛ حيث تدعم الصين المؤسسات والاتفاقيات الدولية التي تتوافق مع أهدافها، مثل اتفاقية باريس بشأن تغير المناخ، ومن جانب آخر، تراجع المؤسسات والمعايير التي تراها تضر بمصالحها، كتلك المتعلقة بحقوق الإنسان أو القيم الليبرالية، وفي حين أن الصين أصبحت قوةً مؤثرةً في الحوكمة العالمية، فهي تعمل في الوقت ذاته على توطيد الشراكة مع دول أخرى، مثل روسيا، لوضع معايير بديلة تعكس مصالحها الخاصة[11].

في الختام، يمكن القول إن نوايا الصين تجاه النظام الدولي القائم معقدة وغامضة جزئيًّا؛ إذ لا تطمح إلى إحداث تغيير ثوري يشمل كافة جوانب وقواعد النظام الدولي الذي تعد من أكثر المستفيدين منه، فهو الذي غذى نموها الاقتصادي وعزز نفوذها العالمي على مدى العقود الماضية، لكنها تسعى، بدلًا من ذلك، إلى إدخال تغييرات جزئية، تعكس رؤيتها المعتدلة لإصلاح النظام الدولي، بما يجعله أكثر ملاءمةً لأهدافها واستجابةً لمخاوفها الأمنية، وأكثر استيعابًا لطموحاتها ونموذجها السياسي والاقتصادي، فبينما تستفيد القيادة الصينية من النظام الليبرالي وتنخرط فيه بوسائل شتى، فإنها تتحدى، في الوقت ذاته، قواعده ومؤسساته وتعمل على تطوير بدائل ومعايير جديدة.

 

قائمة الإحالات والمراجع:

[1] Andrew Latham, "What is a revisionist state, and what are they trying to revise?", The Conversation, 31 March 2025, available at: https: //n9.cl/u7xm9

[2] صاليحة مماد، دور القوى التعديلية في إعادة تشكيل النظام الدولي "روسيا والصين نموذجًا"، مجلة القانون الدستوري والمؤسسات السياسية، مجلد 7، العدد الأول، 2023، ص380

[3] جون ميرشايمر، مأساة سياسة القوى العظمى، ترجمة: مصطفى محمد قاسم (الرياض، جامعة الملك سعود، 2012).

[4] Zenel Garcia, Stop Calling China a Revisionist Power, The Diplomat, 14 November 2023, available at: https: //n9.cl/sdf8n

[5] هشام قدري أحمد، مجلس الأمن بين هيمنة القوى الكبرى وفرص الإصلاح (القاهرة، دار الفجر للنشر والتوزيع، 2025)، ص366

[6] Meyrick Chapman, Elena Kiryakova, and Rebecca Nadin, "Disrupting the world’s money: China’s ambitions for global finance", ODI Global, 1 August 2025, available at: https: //n9.cl/1nm1v

[7] هشام قدري أحمد، "تصعيد ممنهج: هل تُعد المناورات العسكرية الصينية مؤشرًا على استعداد حقيقي لغزو تايوان؟"، مركز مسارات للدراسات الاستراتيجية، 7 يوليو 2025، متاح على https: //n9.cl/58u8y

[8] Alexander Chipman Koty, "What is the China Standards 2035 Plan and How Will it Impact Emerging Industries?", China Briefing, 2 July 2020, available at: https: //n9.cl/vshsh

[9] James McBride, Noah Berman, and Andrew Chatzky, "China’s Massive Belt and Road Initiative", Council on Foreign Relations, 2 February 2023, available at: https: //n9.cl/d3z22

[10] M. Taylor Fravel, "China: Balancing the US, increasing global influence", Chatham House, 27 March 2025, available at: https: //n9.cl/medxn

[11] "China’s Approach to Global Governance", Council on Foreign Relations, available at: https: //n9.cl/0ek7aw