الاستعمار الرقمي الكوكبي: جدلية الهيمنة والمقاومة في تشكيل النظام العالمي الجديد

فئة :  أبحاث محكمة

الاستعمار الرقمي الكوكبي:  جدلية الهيمنة والمقاومة في تشكيل النظام العالمي الجديد

الاستعمار الرقمي الكوكبي:

جدلية الهيمنة والمقاومة في تشكيل النظام العالمي الجديد

الملخص:

تتناول هذه الدراسة ظاهرة "الاستعمار الرقمي الكوكبي" كنمط جديد من أنماط الهيمنة والسيطرة في العصر الرقمي، وتحلل جدلية الهيمنة والمقاومة في هذا السياق، وتأثيرها على تشكيل النظام العالمي الجديد. تنطلق الدراسة من فرضية أساسية مفادها أن الاستعمار الرقمي الكوكبي يمثل تحولاً جذرياً في طبيعة الاستعمار، من السيطرة على الأراضي والموارد المادية إلى السيطرة على البيانات والمعلومات والوعي. كما تكشف عن البنية المتعددة الطبقات للهيمنة الرقمية الكوكبية، التي تتكون من ثلاث طبقات متشابكة: الهيمنة التحتية (السيطرة على البنية التحتية الرقمية العالمية)، والهيمنة التمثيلية (إعادة تشكيل العالم عبر الخوارزميات والمنصات)، والهيمنة القيمية (تصدير النموذج الثقافي الغربي كمعيار إنساني كوني).

وتحلل الدراسة تأثير الاستعمار الرقمي الكوكبي على تشكيل النظام العالمي الجديد، من خلال إعادة تشكيل مفهوم السيادة، وتحويل موازين القوة العالمية، وخلق تحديات جديدة للحوكمة العالمية، والتأثير على الهويات والثقافات. وتستكشف الجدلية المستمرة بين الهيمنة والمقاومة في الفضاء الرقمي الكوكبي، واستجلاء أشكال المقاومة المختلفة والاستراتيجيات المضادة لها. وتخلص إلى ضرورة تجاوز ثنائية الهيمنة والمقاومة، من خلال تطوير "وعي ما بعد رقمي" يتجاوز الحتمية التكنولوجية، ويعيد تعريف العلاقة بين الإنسان والتكنولوجيا، ويبني مشاعات رقمية، ويطور تكنولوجيات متجذرة في السياق، ويؤسس لوعي كوكبي نقدي. وتقدم الدراسة مجموعة من التوصيات على المستويات البحثية والسياسية والتكنولوجية والثقافية، لمواجهة تحديات الاستعمار الرقمي الكوكبي، وبناء فضاء رقمي أكثر عدالة وديمقراطية وتنوعاً واستدامة.

المقدمة

يشهد العالم المعاصر تحولات عميقة في بنية النظام العالمي وعلاقات القوة فيه، مدفوعة بالثورة الرقمية وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات. وفي قلب هذه التحولات، تبرز ظاهرة "الاستعمار الرقمي الكوكبي" كنمط جديد من أنماط الهيمنة والسيطرة، يتجاوز الحدود الجغرافية والسياسية التقليدية، ويخترق المجالات الخاصة والعامة، ويؤثر في تشكيل الوعي الفردي والجمعي.

تسعى هذه الدراسة إلى تقديم تحليل نقدي لظاهرة الاستعمار الرقمي الكوكبي، وفهم آلياتها وتجلياتها المختلفة، وتأثيرها على تشكيل النظام العالمي الجديد، والجدلية المستمرة بين الهيمنة والمقاومة في الفضاء الرقمي الكوكبي، وهي وتنطلق من فرضية أساسية مفادها أن الاستعمار الرقمي الكوكبي يمثل تحولاً جذرياً في طبيعة الاستعمار، من الاستعمار التقليدي القائم على السيطرة المباشرة على الأراضي والموارد المادية، إلى استعمار جديد يقوم على السيطرة على البيانات والمعلومات والوعي.

وتكتسب هذه الدراسة أهميتها من كونها تسعى إلى فهم وتحليل ظاهرة معاصرة ومتنامية، تؤثر بشكل عميق في تشكيل النظام العالمي الجديد وعلاقات القوة فيه، حيث تهدف إلى:

1. تطوير إطار مفاهيمي ونظري متكامل لفهم ظاهرة الاستعمار الرقمي الكوكبي وتحليلها.

2. تحليل البنية المتعددة الطبقات للهيمنة الرقمية الكوكبية، وفهم آلياتها وتجلياتها المختلفة.

3. دراسة تأثير الاستعمار الرقمي الكوكبي على تشكيل النظام العالمي الجديد، من خلال إعادة تشكيل مفهوم السيادة، وتحويل موازين القوة العالمية، وخلق تحديات جديدة للحوكمة العالمية.

4. تحليل الجدلية المستمرة بين الهيمنة والمقاومة في الفضاء الرقمي الكوكبي، وفهم أشكال المقاومة المختلفة وإمكانياتها وحدودها.

5. استكشاف إمكانيات تجاوز ثنائية الهيمنة والمقاومة، من خلال تطوير "وعي ما بعد رقمي" يعيد تعريف العلاقة بين الإنسان والتكنولوجيا.

كما اعتمدت على منهجية تحليلية نقدية، تجمع بين التحليل النظري والأمثلة والتطبيقات العملية، بالاستفادة من مجموعة متنوعة من المصادر والمراجع العربية والأجنبية، بما في ذلك الكتب والأوراق البحثية والتقارير والمقالات، حيث تبنت مقاربة متعددة التخصصات، تجمع بين مختلف المجالات (العلوم السياسية، الاقتصاد، علم الاجتماع، دراسات العلوم والتكنولوجيا، الفلسفة) لفهم أبعاد الظاهرة المختلفة. كما أنها سعت إلى تجاوز المركزية الغربية في التحليل، والانفتاح على رؤى ومفاهيم من مختلف التقاليد الفكرية والثقافية.

يجدر التنبيه إلى استفادة الدراسة من الأطر النظرية النقدية، وخاصة نظريات ما بعد الاستعمار والنظريات الديكولونيالية، التي تقدم أدوات تحليلية قيمة لفهم آليات الهيمنة والمقاومة في السياق الرقمي.

أولاً: مفهوم الاستعمار الرقمي الكوكبي

يمكن تعريف الاستعمار الرقمي الكوكبي بأنه "نظام متكامل من علاقات القوة غير المتكافئة في الفضاء الرقمي، يقوم على سيطرة قوى مهيمنة (شركات التكنولوجيا العملاقة والدول المتقدمة تكنولوجياً) على البنية التحتية الرقمية العالمية، والبيانات والمعلومات، وآليات إنتاج المعنى والقيمة، بهدف تحقيق مصالحها الاقتصادية والسياسية والثقافية، وإعادة إنتاج علاقات التبعية والهيمنة على المستوى الكوكبي".

ويتميز هذا المفهوم بعدة خصائص أساسية:

1. الطابع الكوكبي: يتجاوز الاستعمار الرقمي الحدود الجغرافية والسياسية التقليدية، ليشمل الكوكب بأكمله كمجال للهيمنة، مستفيداً من الطبيعة العابرة للحدود للتكنولوجيا الرقمية.

2. التغلغل في الحياة اليومية: يخترق الاستعمار الرقمي جميع مجالات الحياة اليومية، من العمل إلى الترفيه، من التعليم إلى الصحة، من العلاقات الشخصية إلى المشاركة السياسية.

3. الطابع الخفي والناعم: يعمل الاستعمار الرقمي بشكل خفي وناعم، من خلال آليات غير مرئية مثل الخوارزميات والبروتوكولات والواجهات، مما يجعله أكثر فعالية وأقل مقاومة من أشكال الاستعمار التقليدية.

4. استغلال البيانات كمورد استراتيجي: يقوم الاستعمار الرقمي على استخراج واستغلال البيانات كمورد استراتيجي جديد، في عملية أشبه بالاستخراج التعديني في الاستعمار التقليدي.

5. إعادة تشكيل الوعي والهوية: يسعى الاستعمار الرقمي إلى إعادة تشكيل الوعي والهوية، من خلال السيطرة على آليات إنتاج المعنى والقيمة في الفضاء الرقمي.

1- الجذور التاريخية

يمكن فهم الاستعمار الرقمي الكوكبي في سياق تاريخي ونظري أوسع، يربطه بتطور النظام الرأسمالي العالمي وتحولاته المختلفة. فكما يشير سمير أمين (2018)، فإن "الإمبريالية المعاصرة تتخذ أشكالاً جديدة تتجاوز السيطرة المباشرة على الأراضي والموارد، إلى السيطرة على آليات الإنتاج والتبادل والاستهلاك على المستوى العالمي".

وفي هذا السياق، يمكن النظر إلى الاستعمار الرقمي الكوكبي كامتداد وتحول للاستعمار التقليدي، يستفيد من التكنولوجيا الرقمية لإعادة إنتاج علاقات الهيمنة والتبعية بأشكال جديدة. وكما يوضح كويت (Kwet, 2019)، فإن "الاستعمار الرقمي يمثل نمطاً جديداً من الإمبريالية الأمريكية، يقوم على سيطرة الشركات التكنولوجية الأمريكية على البنية التحتية الرقمية والمنصات والتطبيقات في دول الجنوب العالمي".

2- طبقات الهيمنة في الاستعمار الرقمي الكوكبي

يتميز الاستعمار الرقمي الكوكبي ببنية متعددة الطبقات للهيمنة، تعمل بشكل متكامل ومتعاضد لتحقيق السيطرة الشاملة على الفضاء الرقمي وما يتصل به من مجالات. ويمكن تحليل هذه البنية إلى ثلاث طبقات رئيسة: الهيمنة التحتية، والهيمنة التمثيلية، والهيمنة القيمية.

2-1- الهيمنة التحتية: السيطرة على البنية التحتية الرقمية العالمية

تشكل السيطرة على البنية التحتية الرقمية العالمية الطبقة الأساسية للاستعمار الرقمي الكوكبي. وتشمل هذه البنية التحتية العناصر المادية (الكابلات البحرية، مراكز البيانات، أجهزة التوجيه والتبديل) والعناصر البرمجية (أنظمة التشغيل، البروتوكولات، لغات البرمجة) التي تشكل الأساس المادي والتقني للفضاء الرقمي.

كما يشير براتون (Bratton, 2016) في كتابه "The Stack"، فإن "البنية التحتية الرقمية العالمية تشكل نظاماً متكاملاً من الطبقات المترابطة، من المستوى الجيوسياسي إلى مستوى المستخدم، تعمل كآلية للسيادة والحوكمة العالمية". وتتجلى الهيمنة التحتية في عدة مظاهر:

  • السيطرة على شبكات الاتصال العالمية

تسيطر الشركات والدول الغربية، وخاصة الولايات المتحدة، على الجزء الأكبر من شبكات الاتصال العالمية، وخاصة الكابلات البحرية التي تنقل أكثر من 95% من حركة الإنترنت العالمية. وكما يوضح تقرير الاتحاد الدولي للاتصالات (2022)، فإن "توزيع البنية التحتية للاتصالات العالمية يعكس التفاوتات الاقتصادية والجيوسياسية القائمة، مع تركز معظم القدرات في الدول المتقدمة".

  • احتكار تكنولوجيا الحوسبة والتخزين

تحتكر شركات التكنولوجيا العملاقة، مثل أمازون ومايكروسوفت وجوجل، الجزء الأكبر من سوق الحوسبة السحابية العالمية، مما يجعل معظم دول العالم تعتمد على هذه الشركات في تخزين ومعالجة بياناتها. وكما يشير تقرير الأونكتاد (2021)، فإن "سبع شركات تكنولوجية فقط تسيطر على أكثر من 70% من سوق الحوسبة السحابية العالمية".

  • السيطرة على أنظمة التشغيل والبرمجيات الأساسية

تسيطر شركات مثل مايكروسوفت وأبل وجوجل على أنظمة التشغيل الأكثر استخداماً في العالم، مما يمنحها قدرة هائلة على التحكم في تجربة المستخدمين وجمع بياناتهم. وكما يلاحظ فوكس (Fuchs, 2019)، فإن "السيطرة على أنظمة التشغيل والبرمجيات الأساسية تمثل شكلاً جديداً من أشكال الاحتكار، يتيح للشركات المهيمنة فرض شروطها على المستخدمين والمطورين على حد سواء".

2-2- الهيمنة التمثيلية: إعادة تشكيل العالم عبر الخوارزميات والمنصات

تشكل الهيمنة التمثيلية الطبقة الوسطى للاستعمار الرقمي الكوكبي، وتتمثل في القدرة على إعادة تشكيل العالم وتمثيله عبر الخوارزميات والمنصات الرقمية. وتعمل هذه الطبقة على تحويل البيانات الخام إلى معلومات ومعرفة وقرارات، من خلال آليات التصنيف والترتيب والتوصية والتنبؤ.

وكما تشير كراوفورد (Crawford, 2021) في كتابها "Atlas of AI"، فإن "الذكاء الاصطناعي والخوارزميات ليست مجرد أدوات تقنية محايدة، بل هي أنظمة سياسية تعكس وتعيد إنتاج علاقات القوة القائمة". وتتجلى الهيمنة التمثيلية في عدة مظاهر:

  • السيطرة على محركات البحث وبوابات المعلومات

تسيطر شركات مثل جوجل وبينج على محركات البحث الأكثر استخداماً في العالم، مما يمنحها قدرة هائلة على التحكم في الوصول إلى المعلومات وترتيبها وتصنيفها. وكما توضح نوبل (Noble, 2018) في كتابها "Algorithms of Oppression"، فإن "محركات البحث ليست مجرد أدوات تقنية محايدة، بل هي أنظمة تعكس وتعيد إنتاج التحيزات الاجتماعية والثقافية القائمة".

  • هيمنة منصات التواصل الاجتماعي

تسيطر منصات مثل فيسبوك وتويتر وإنستغرام على الفضاء العام الرقمي، وتتحكم في تدفق المعلومات والتفاعلات الاجتماعية. وكما يشير فايديانثان (Vaidhyanathan, 2018) في كتابه "Antisocial Media"، فإن "فيسبوك أصبح البنية التحتية الأساسية للتواصل الاجتماعي في العالم، مما يمنحه قوة غير مسبوقة في تشكيل الرأي العام والخطاب السياسي".

  • خوارزميات التصنيف والتنبؤ

تلعب خوارزميات التصنيف والتنبؤ دوراً متزايد الأهمية في مختلف المجالات، من الائتمان المالي إلى التوظيف، من الرعاية الصحية إلى العدالة الجنائية. وكما توضح أونيل (O'Neil, 2016) في كتابها "Weapons of Math Destruction"، فإن "هذه الخوارزميات غالباً ما تعمل كصناديق سوداء غير شفافة، تعيد إنتاج وتعزيز أنماط التمييز والظلم القائمة".

2-3- الهيمنة القيمية: تصدير النموذج الثقافي الغربي كمعيار إنساني كوني

تشكل الهيمنة القيمية الطبقة العليا للاستعمار الرقمي الكوكبي، وتتمثل في تصدير النموذج الثقافي الغربي (وخاصة الأمريكي) كمعيار إنساني كوني، من خلال المحتوى الرقمي والمنصات والتطبيقات. وتعمل هذه الطبقة على إعادة تشكيل القيم والتصورات والتطلعات على المستوى العالمي.

وكما يشير ميغنولو (Mignolo, 2011) في كتابه "The Darker Side of Western Modernity"، فإن "الحداثة الغربية ارتبطت دائماً بالاستعمار، من خلال فرض نموذج معرفي وثقافي واحد كمعيار كوني، وإقصاء النماذج الأخرى"، وتتجلى الهيمنة القيمية في عدة مظاهر:

  • هيمنة المحتوى الثقافي الغربي

تسيطر المنصات والشركات الغربية، مثل نتفليكس وديزني وسبوتيفاي، على إنتاج وتوزيع المحتوى الثقافي العالمي، مما يؤدي إلى هيمنة النماذج والقيم الثقافية الغربية. وكما يلاحظ جين (Jin, 2015) في كتابه "Digital Platforms, Imperialism and Political Culture"، فإن "المنصات الرقمية تلعب دوراً محورياً في نشر وتعميم الثقافة الأمريكية على المستوى العالمي".

  • فرض نموذج معين للتقدم والتنمية

يتم تصدير نموذج معين للتقدم والتنمية، يرتكز على القيم الغربية مثل الفردانية والاستهلاكية والنمو الاقتصادي اللامحدود، كنموذج كوني يجب على جميع المجتمعات اتباعه. وكما توضح إيراني (Irani, 2019) في كتابها "Chasing Innovation"، فإن "خطاب الابتكار والريادة يعمل كآلية لفرض نموذج غربي للتنمية والتقدم، يتجاهل السياقات والاحتياجات المحلية".

  • تنميط الهويات والتطلعات

تعمل المنصات والتطبيقات الرقمية على تنميط الهويات والتطلعات، من خلال تقديم نماذج معيارية للنجاح والجمال والسعادة، مستمدة من السياق الغربي. وكما يشير حجازي (2018) في كتابه "الإنسان المهدور"، فإن "وسائل الإعلام والتواصل الرقمية تلعب دوراً محورياً في تشكيل صورة الذات والآخر، وفي خلق حالة من الاغتراب الثقافي والهوياتي".

ثانياً: تأثير الاستعمار الرقمي الكوكبي على تشكيل النظام العالمي الجديد

يؤثر الاستعمار الرقمي الكوكبي بشكل عميق على تشكيل النظام العالمي الجديد، من خلال إعادة تعريف مفاهيم أساسية مثل السيادة والأمن والقوة، وتحويل موازين القوة العالمية، وخلق تحديات جديدة للحوكمة العالمية. ويمكن تحليل هذه التأثيرات في عدة مستويات مترابطة.

1- إعادة تشكيل مفهوم السيادة في العصر الرقمي: يؤدي الاستعمار الرقمي الكوكبي إلى إعادة تشكيل مفهوم السيادة، الذي كان يرتبط تقليدياً بالسيطرة على الإقليم الجغرافي والموارد المادية. وفي العصر الرقمي، أصبحت السيادة مرتبطة أيضاً بالقدرة على التحكم في البيانات والمعلومات والبنية التحتية الرقمية. كما يشير عبد المجيد (2019) في دراسته حول "تحولات مفهوم السيادة في عصر العولمة الرقمية"، فإن "السيادة الرقمية أصبحت بعداً أساسياً من أبعاد السيادة الوطنية، وشرطاً ضرورياً للاستقلال السياسي والاقتصادي في القرن الحادي والعشرين". وتتجلى إعادة تشكيل مفهوم السيادة في عدة مظاهر:

*- ظهور مفهوم السيادة الرقمية: ظهر مفهوم "السيادة الرقمية" كمفهوم جديد يشير إلى قدرة الدولة على التحكم في بياناتها ومعلوماتها وبنيتها التحتية الرقمية، وحماية مواطنيها في الفضاء الرقمي. وكما يوضح ديبيرت (Deibert, 2020) في كتابه "Reset"، فإن "السيادة الرقمية أصبحت ساحة صراع رئيسية بين الدول، مع سعي كل دولة إلى تأكيد سيطرتها على الفضاء الرقمي داخل حدودها".

*- تآكل السيادة التقليدية: في المقابل، يؤدي الاستعمار الرقمي الكوكبي إلى تآكل السيادة التقليدية للدول، من خلال قدرة الشركات التكنولوجية العملاقة والدول المتقدمة تكنولوجياً على اختراق الحدود الوطنية وجمع البيانات والتأثير في الرأي العام. وكما يشير إبراهيم (2020) في دراسته حول "الاستعمار الرقمي وتحديات السيادة الوطنية في العالم العربي"، فإن "الدول العربية تواجه تحديات غير مسبوقة لسيادتها الوطنية، في ظل قدرة الشركات التكنولوجية العالمية على جمع ومعالجة واستغلال البيانات الوطنية دون رقابة أو محاسبة".

*- صراع النماذج السيادية: يشهد النظام العالمي صراعاً بين نماذج مختلفة للسيادة الرقمية: النموذج الأمريكي الذي يعطي الأولوية للشركات الخاصة، والنموذج الصيني الذي يؤكد على سيطرة الدولة، والنموذج الأوروبي الذي يحاول الموازنة بين حقوق المواطنين ومصالح الشركات والدولة. وكما يلاحظ تقرير المنتدى الاقتصادي العالمي (2022) حول "حوكمة التكنولوجيا العالمية"، فإن "تعدد نماذج السيادة الرقمية يؤدي إلى تجزئة الفضاء الرقمي العالمي، مع ما يترتب على ذلك من تحديات للتعاون الدولي والتجارة العالمية".

*- تحويل موازين القوة العالمية: يؤدي الاستعمار الرقمي الكوكبي إلى تحويل موازين القوة العالمية، من خلال خلق أشكال جديدة من القوة والنفوذ، وإعادة تشكيل التحالفات والصراعات الدولية. وتتجلى هذه التحولات في عدة مظاهر:

2-ظهور القوة الرقمية كبعد جديد للقوة العالمية: أصبحت القوة الرقمية (القدرة على التحكم في البيانات والمعلومات والبنية التحتية الرقمية) بعداً أساسياً من أبعاد القوة العالمية، إلى جانب القوة العسكرية والاقتصادية والثقافية. وكما يشير السيد (2018) في كتابه "النظام العالمي الجديد"، فإن "القوة في القرن الحادي والعشرين أصبحت متعددة الأبعاد، مع تزايد أهمية القوة الناعمة والقوة الرقمية في تشكيل علاقات القوة العالمية".

3-صعود شركات التكنولوجيا كفاعلين عالميين: أدى الاستعمار الرقمي الكوكبي إلى صعود شركات التكنولوجيا العملاقة كفاعلين عالميين، يمتلكون قوة ونفوذاً يتجاوز في بعض الأحيان قوة ونفوذ العديد من الدول. وكما توضح منظمة العفو الدولية (2021) في تقريرها حول "عمالقة المراقبة"، فإن "شركات مثل جوجل وفيسبوك أصبحت تمتلك قوة غير مسبوقة في التأثير على حياة مليارات البشر، من خلال سيطرتها على البنية التحتية الرقمية العالمية والبيانات الشخصية".

4-تعميق الفجوة الرقمية العالمية: يؤدي الاستعمار الرقمي الكوكبي إلى تعميق الفجوة الرقمية بين الدول المتقدمة تكنولوجياً والدول النامية، مما يعزز علاقات التبعية والهيمنة على المستوى العالمي. وكما يشير العيسوي (2020) في دراسته حول "الفجوة الرقمية وتحديات التنمية في الدول العربية"، فإن "الفجوة الرقمية أصبحت عاملاً رئيساً في إعادة إنتاج التفاوتات الاقتصادية والاجتماعية على المستوى العالمي، مع تركز القدرات التكنولوجية والرقمية في عدد محدود من الدول والشركات".

5-تحديات جديدة للحوكمة العالمية: يخلق الاستعمار الرقمي الكوكبي تحديات جديدة للحوكمة العالمية، تتجاوز قدرة الأطر والمؤسسات التقليدية على التعامل معها. وتتجلى هذه التحديات في عدة مظاهر:

*- قصور الأطر القانونية والتنظيمية التقليدية: تعاني الأطر القانونية والتنظيمية التقليدية من قصور في التعامل مع التحديات الجديدة التي يفرضها الفضاء الرقمي، مثل حماية البيانات الشخصية، ومكافحة الجرائم الإلكترونية، وتنظيم الذكاء الاصطناعي. وكما يشير باسكال (Pasquale, 2015) في كتابه "The Black Box Society"، فإن "الأطر القانونية والتنظيمية الحالية غير قادرة على مواكبة التطور السريع للتكنولوجيا الرقمية، مما يخلق فجوات تنظيمية تستغلها الشركات التكنولوجية العملاقة".

*-صراع الولايات القضائية والتنظيمية: يشهد النظام العالمي صراعاً بين ولايات قضائية وتنظيمية مختلفة، مع سعي كل دولة إلى فرض قوانينها وأنظمتها على الفضاء الرقمي. وكما يوضح تقرير منتدى حوكمة الإنترنت (2021)، فإن "تعدد الأطر التنظيمية وتضاربها يؤدي إلى تعقيد الحوكمة الرقمية العالمية، ويخلق تحديات للشركات والمستخدمين على حد سواء".

*-الحاجة إلى نموذج جديد للحوكمة الرقمية العالمية: في ظل هذه التحديات، تبرز الحاجة إلى نموذج جديد للحوكمة الرقمية العالمية، يتجاوز النماذج التقليدية القائمة على سيادة الدولة أو هيمنة السوق. وكما تشير توصية اليونسكو (2021) بشأن أخلاقيات الذكاء الاصطناعي، فإن "الحوكمة الرقمية العالمية تتطلب مقاربة متعددة الأطراف، تشمل الدول والشركات والمجتمع المدني والمجتمعات المحلية، وتستند إلى مبادئ الشفافية والمساءلة والعدالة والتنوع".

*-التأثير على الهويات والثقافات: يؤثر الاستعمار الرقمي الكوكبي بشكل عميق على الهويات والثقافات، من خلال فرض نماذج ثقافية وقيمية معينة، وتهميش الثقافات والهويات المحلية. وتتجلى هذه التأثيرات في عدة مظاهر:

*-تهديد التنوع الثقافي واللغوي: يؤدي الاستعمار الرقمي الكوكبي إلى تهديد التنوع الثقافي واللغوي، من خلال هيمنة اللغة الإنجليزية والثقافة الغربية في الفضاء الرقمي. وكما يشير المسيري (2002) في كتابه "العولمة والحضارة"، فإن "العولمة الرقمية تؤدي إلى تآكل الخصوصيات الثقافية والحضارية، وفرض نموذج ثقافي واحد يستند إلى القيم الغربية".

*-أزمات الهوية والانتماء: يخلق الاستعمار الرقمي الكوكبي أزمات هوية وانتماء، خاصة في المجتمعات التي تعاني من تناقض بين قيمها التقليدية والقيم التي تروج لها المنصات والتطبيقات الرقمية. وكما يوضح حمودة (2007) في كتابه "الخروج من التيه"، فإن "الثورة الرقمية تؤدي إلى حالة من الاغتراب الثقافي والهوياتي، مع تزايد الفجوة بين الواقع المعيش والعالم الافتراضي".

*-ظهور هويات وثقافات هجينة: في المقابل، يؤدي الاستعمار الرقمي الكوكبي أيضاً إلى ظهور هويات وثقافات هجينة، تجمع بين العناصر المحلية والعالمية، وتعيد تشكيل مفاهيم الانتماء والمواطنة. وكما يشير الزيات (2021) في دراسته حول "الوعي الكوكبي والتحولات الثقافية"، فإن "الفضاء الرقمي يخلق إمكانيات جديدة للتعبير عن الهوية والانتماء، تتجاوز الحدود التقليدية للدولة والأمة".

ثالثاً: جدلية الهيمنة والمقاومة في الفضاء الرقمي الكوكبي

يشهد الفضاء الرقمي الكوكبي جدلية مستمرة بين الهيمنة والمقاومة، حيث تواجه آليات الاستعمار الرقمي أشكالاً متنوعة ومتطورة من المقاومة، تنبع من مختلف المستويات والفاعلين. وفي المقابل، تطور القوى المهيمنة استراتيجيات مضادة للمقاومة، تهدف إلى احتوائها وتحييدها وإضعافها. وتشكل هذه الجدلية المستمرة محركاً أساسياً لتطور الفضاء الرقمي والنظام العالمي.

1- أشكال المقاومة في الفضاء الرقمي الكوكبي:

تتخذ المقاومة في الفضاء الرقمي الكوكبي أشكالاً متنوعة، تتراوح بين المقاومة الفردية والجماعية، المقاومة التقنية والسياسية والثقافية، المقاومة المباشرة وغير المباشرة. ويمكن تحليل هذه الأشكال في عدة مستويات:

1-1- المقاومة التقنية: تطوير بدائل وأدوات مضادة

تتمثل المقاومة التقنية في تطوير بدائل وأدوات مضادة للتكنولوجيات المهيمنة، مثل البرمجيات الحرة ومفتوحة المصدر، وتقنيات التشفير وحماية الخصوصية، والشبكات اللامركزية. وكما يشير تقرير مؤسسة موزيلا (2022) حول "صحة الإنترنت"، فإن "المجتمعات التقنية حول العالم تطور باستمرار أدوات وتقنيات تهدف إلى استعادة السيطرة على البيانات والخصوصية، ومقاومة المراقبة والتتبع".

وتلعب حركات مثل البرمجيات الحرة ومفتوحة المصدر دوراً محورياً في هذه المقاومة، من خلال تطوير بدائل للبرمجيات المملوكة، وتعزيز قيم الانفتاح والتشاركية والشفافية. وكما يوضح تقرير مؤسسة الحدود الإلكترونية (2022) حول "الدفاع الذاتي ضد المراقبة"، فإن "أدوات التشفير وحماية الخصوصية أصبحت سلاحاً أساسياً في مقاومة المراقبة الشاملة، وحماية الحقوق الرقمية الأساسية".

1-2- المقاومة السياسية والقانونية: تطوير أطر تنظيمية بديلة

تتمثل المقاومة السياسية والقانونية في تطوير أطر تنظيمية بديلة للفضاء الرقمي، تهدف إلى الحد من هيمنة الشركات التكنولوجية العملاقة، وحماية الحقوق الرقمية، وتعزيز العدالة الرقمية. وتتجلى هذه المقاومة في مبادرات مثل اللائحة العامة لحماية البيانات (GDPR) في الاتحاد الأوروبي، وقوانين مكافحة الاحتكار الموجهة ضد شركات التكنولوجيا العملاقة.

وكما يشير عبد الله (2021) في دراسته حول "السيادة الرقمية العربية"، فإن "تطوير أطر قانونية وتنظيمية وطنية وإقليمية للفضاء الرقمي يمثل خطوة أساسية في مقاومة الاستعمار الرقمي، واستعادة السيادة على البيانات والمعلومات". وتلعب منظمات المجتمع المدني والحركات الاجتماعية دوراً محورياً في هذه المقاومة، من خلال الضغط من أجل سياسات وتشريعات أكثر عدالة وإنصافاً في الفضاء الرقمي.

1-3- المقاومة الثقافية والمعرفية: تطوير خطابات ورؤى بديلة

تتمثل المقاومة الثقافية والمعرفية في تطوير خطابات ورؤى بديلة للتكنولوجيا والتقدم والتنمية، تتجاوز الخطاب المهيمن القائم على الحتمية التكنولوجية والنمو اللامحدود. وتتجلى هذه المقاومة في حركات مثل "التكنولوجيا المناسبة" و"التصميم الديكولونيالي" و"المشاعات الرقمية".

وكما يشير إسكوبار (Escobar, 2018) في كتابه "Designs for the Pluriverse"، فإن "التصميم الديكولونيالي يسعى إلى تجاوز النماذج الغربية المهيمنة في تصميم التكنولوجيا، والانفتاح على رؤى ومعارف متنوعة من مختلف الثقافات والمجتمعات". وتلعب الجامعات ومراكز البحث والمؤسسات الثقافية دوراً محورياً في هذه المقاومة، من خلال تطوير أطر نظرية ومفاهيمية بديلة، وتعزيز التنوع المعرفي والثقافي في الفضاء الرقمي.

1-4- المقاومة الاقتصادية: تطوير نماذج اقتصادية بديلة

تتمثل المقاومة الاقتصادية في تطوير نماذج اقتصادية بديلة في الفضاء الرقمي، تتجاوز نموذج الرأسمالية الرقابية المهيمن، مثل اقتصاد المشاعات والاقتصاد التضامني والاقتصاد الدائري. وتتجلى هذه المقاومة في مبادرات مثل التعاونيات الرقمية، ومنصات الاقتصاد التشاركي، ومشاريع التمويل الجماعي.

وكما يشير سرنيسيك (Srnicek, 2017) في كتابه "Platform Capitalism"، فإن "التعاونيات الرقمية تمثل بديلاً واعداً للمنصات الرأسمالية المهيمنة، من خلال تمكين المستخدمين من المشاركة في ملكية وإدارة المنصات، وتوزيع القيمة المنتجة بشكل أكثر عدالة". وتلعب الحركات الاجتماعية والمبادرات المجتمعية دوراً محورياً في هذه المقاومة، من خلال تجريب وتطوير نماذج اقتصادية بديلة في الفضاء الرقمي.

2- استراتيجيات مضادة للمقاومة

في مواجهة هذه الأشكال المتنوعة من المقاومة، تطور القوى المهيمنة في الفضاء الرقمي الكوكبي استراتيجيات مضادة، تهدف إلى احتواء المقاومة وتحييدها وإضعافها. ويمكن تحليل هذه الاستراتيجيات في عدة مستويات:

2-1- الاحتواء والتطويع: دمج عناصر المقاومة في النظام المهيمن

تتمثل استراتيجية الاحتواء والتطويع في دمج بعض عناصر المقاومة في النظام المهيمن، مع تفريغها من محتواها الراديكالي. وتتجلى هذه الاستراتيجية في ظواهر مثل "الغسيل الأخضر" (Greenwashing) و"الغسيل الأخلاقي" (Ethicalwashing) في مجال التكنولوجيا، حيث تتبنى الشركات التكنولوجية العملاقة خطاباً يبدو نقدياً ومسؤولاً، دون تغيير جوهري في ممارساتها.

وكما يشير موروزوف (Morozov, 2013) في كتابه "To Save Everything, Click Here"، فإن "الحلولية التكنولوجية (Technological Solutionism) تعمل كآلية لاحتواء النقد الراديكالي للتكنولوجيا، من خلال اختزال المشكلات الاجتماعية والسياسية المعقدة إلى مشكلات تقنية يمكن حلها من خلال المزيد من التكنولوجيا".

2-2- التفتيت والتشتيت: إضعاف التضامن والعمل الجماعي

تتمثل استراتيجية التفتيت والتشتيت في إضعاف التضامن والعمل الجماعي في الفضاء الرقمي، من خلال تعزيز الفردانية والتنافسية، وخلق انقسامات وصراعات بين مختلف الفاعلين. وتتجلى هذه الاستراتيجية في آليات مثل خوارزميات التوصية التي تعزز غرف الصدى والفقاعات المعلوماتية، وتقنيات التلاعب النفسي التي تستغل الانحيازات المعرفية والعاطفية.

وكما توضح توفيكسي (Tufekci, 2017) في كتابها "Twitter and Tear Gas"، فإن "وسائل التواصل الاجتماعي تخلق حالة من 'الاتصال بدون تنسيق'، حيث يمكن للناس التواصل والتعبئة بسرعة، ولكن دون القدرة على بناء هياكل تنظيمية متينة وقيادة فعالة، مما يجعل الحركات الاجتماعية أكثر هشاشة وعرضة للتفكك".

2-3- المراقبة والتحكم: استغلال البيانات للسيطرة الاجتماعية

تتمثل استراتيجية المراقبة والتحكم في استغلال البيانات والخوارزميات للسيطرة الاجتماعية، من خلال تتبع ومراقبة الأفراد والجماعات، وتصنيفهم وتقييمهم، والتنبؤ بسلوكهم والتأثير فيه. وتتجلى هذه الاستراتيجية في ظواهر مثل "الرأسمالية الرقابية" (Surveillance Capitalism) و"الائتمان الاجتماعي" (Social Credit) و"الشرطة التنبؤية" (Predictive Policing).

وكما تشير زوبوف (Zuboff, 2019) في كتابها "The Age of Surveillance Capitalism"، فإن "الرأسمالية الرقابية تمثل نمطاً جديداً من الرأسمالية، يقوم على استخراج واستغلال البيانات السلوكية للأفراد، بهدف التنبؤ بسلوكهم والتأثير فيه، وتحقيق أرباح هائلة من خلال بيع هذه القدرة التنبؤية للمعلنين وغيرهم".

2-4- القمع والإسكات: استهداف المعارضين والنشطاء

تتمثل استراتيجية القمع والإسكات في استهداف المعارضين والنشطاء في الفضاء الرقمي، من خلال آليات مثل الرقابة والحجب والملاحقة القانونية والهجمات الإلكترونية. وتتجلى هذه الاستراتيجية في ظواهر مثل "إغلاق الإنترنت" (Internet Shutdown) و"المراقبة المستهدفة" (Targeted Surveillance) و"التشهير الإلكتروني" (Online Defamation).

وكما يشير تقرير منظمة Access Now (2022) حول "الحقوق الرقمية في الجنوب العالمي"، فإن "النشطاء والصحفيين والمدافعين عن حقوق الإنسان في العديد من دول الجنوب العالمي يواجهون تهديدات متزايدة في الفضاء الرقمي، من الرقابة والحجب إلى المراقبة المستهدفة والملاحقة القانونية".

رابعاً: نحو تجاوز ثنائية الهيمنة والمقاومة: الوعي ما بعد الرقمي

في ظل هذه الجدلية المستمرة بين الهيمنة والمقاومة، تبرز الحاجة إلى تجاوز هذه الثنائية، من خلال تطوير "وعي ما بعد رقمي" يتجاوز الحتمية التكنولوجية، ويعيد تعريف العلاقة بين الإنسان والتكنولوجيا، ويبني مشاعات رقمية، ويطور تكنولوجيات متجذرة في السياق، ويؤسس لوعي كوكبي نقدي.

1- تجاوز الحتمية التكنولوجية

يتطلب الوعي ما بعد الرقمي تجاوز الحتمية التكنولوجية، التي ترى التكنولوجيا كقوة مستقلة تحدد مسار التاريخ والمجتمع، والاعتراف بأن التكنولوجيا هي نتاج اجتماعي وثقافي وسياسي، يمكن تشكيله وتوجيهه وفقاً لقيم ومصالح مختلفة. وكما يشير غرينفيلد (Greenfield, 2017) في كتابه "Radical Technologies"، فإن "التكنولوجيا ليست قدراً محتوماً، بل هي مجال للصراع والتفاوض والتشكيل الاجتماعي".

إعادة تعريف العلاقة بين الإنسان والتكنولوجيا

يتطلب الوعي ما بعد الرقمي إعادة تعريف العلاقة بين الإنسان والتكنولوجيا، من علاقة هيمنة واستغلال (سواء من الإنسان للتكنولوجيا، أو من التكنولوجيا للإنسان)، إلى علاقة تكاملية وتعاونية، تحترم استقلالية وكرامة كل طرف. وكما يشير هاركورت (Harcourt, 2015) في كتابه "Exposed"، فإن "التحدي الأساسي في العصر الرقمي هو إعادة تعريف الذات والعلاقات الاجتماعية، في ظل التغيرات العميقة التي أحدثتها التكنولوجيا الرقمية".

2- بناء المشاعات الرقمية

يتطلب الوعي ما بعد الرقمي بناء مشاعات رقمية، تقوم على مبادئ الانفتاح والتشاركية والاستدامة، وتتجاوز ثنائية الدولة/السوق في تنظيم الفضاء الرقمي. وكما يشير تقرير مؤسسة المشاعات الرقمية (2021)، فإن "المشاعات الرقمية تمثل نموذجاً بديلاً لإدارة الموارد الرقمية، يقوم على المشاركة الجماعية والحوكمة الديمقراطية، بدلاً من الملكية الخاصة أو السيطرة الحكومية".

3- تطوير تكنولوجيات متجذرة في السياق

يتطلب الوعي ما بعد الرقمي تطوير تكنولوجيات متجذرة في السياق، تستجيب للاحتياجات والقيم والتطلعات المحلية، وتحترم التنوع الثقافي والاجتماعي. وكما تشير أرورا (Arora, 2019) في كتابها "The Next Billion Users"، فإن "مستخدمي الإنترنت الجدد في الجنوب العالمي يطورون ممارسات وتطبيقات مبتكرة للتكنولوجيا الرقمية، تتجاوز النماذج الغربية المهيمنة، وتستجيب لاحتياجاتهم وسياقاتهم المحلية".

4- تأسيس وعي كوكبي نقدي

يتطلب الوعي ما بعد الرقمي تأسيس وعي كوكبي نقدي، يدرك الترابط العالمي ولكنه يدرك أيضاً علاقات القوة غير المتكافئة والظلم البنيوي، ويؤسس لتضامن عالمي حقيقي. وكما يشير دوسيل (Dussel, 2018) في مقالته "Anti-Cartesian Meditations"، فإن "الوعي الكوكبي الحقيقي يتطلب تجاوز المركزية الأوروبية والغربية، والانفتاح على تعددية المعارف والرؤى للعالم، والاعتراف بالآخر كذات مساوية وليس كموضوع للهيمنة أو الإقصاء".

الخاتمة:

في ختام هذه الدراسة حول "الاستعمار الرقمي الكوكبي: جدلية الهيمنة والمقاومة في تشكيل النظام العالمي الجديد"، نصل إلى مجموعة من الاستنتاجات والتوصيات التي تفتح آفاقاً جديدة للتفكير والعمل في مواجهة هذه الظاهرة المعقدة والمتشابكة.

1-تحول جذري في طبيعة الاستعمار: أظهرت الدراسة أن الاستعمار الرقمي الكوكبي يمثل تحولاً جذرياً في طبيعة الاستعمار، من الاستعمار التقليدي القائم على السيطرة المباشرة على الأراضي والموارد المادية، إلى استعمار جديد يقوم على السيطرة على البيانات والمعلومات والوعي. وهذا التحول يجعل الاستعمار الرقمي الكوكبي أكثر تغلغلاً وشمولية وخفاءً من أشكال الاستعمار السابقة. كما يشير كولدري وميخياس (Couldry & Mejias, 2019) في كتابهما "The Costs of Connection"، فإن "استعمار البيانات يمثل مرحلة جديدة من الرأسمالية، تقوم على تحويل جميع جوانب الحياة البشرية إلى بيانات يمكن استخراجها واستغلالها وتحويلها إلى قيمة اقتصادية".

2-بنية متعددة الطبقات للهيمنة الرقمية: كشفت الدراسة عن البنية المتعددة الطبقات للهيمنة الرقمية الكوكبية، التي تتكون من ثلاث طبقات متشابكة ومتعاضدة: الهيمنة التحتية (السيطرة على البنية التحتية الرقمية العالمية)، والهيمنة التمثيلية (إعادة تشكيل العالم عبر الخوارزميات والمنصات)، والهيمنة القيمية (تصدير النموذج الثقافي الغربي كمعيار إنساني كوني). وكما يوضح بيغو وإيسين وروبرت (Bigo, Isin, & Ruppert, 2019) في كتابهم "Data Politics"، فإن "سياسات البيانات تعمل على مستويات متعددة ومترابطة، من البنية التحتية المادية إلى الخوارزميات والبروتوكولات، إلى الخطابات والتمثيلات الثقافية".

3-تأثيرات عميقة على النظام العالمي: بينت الدراسة التأثيرات العميقة للاستعمار الرقمي الكوكبي على تشكيل النظام العالمي الجديد، من خلال إعادة تشكيل مفهوم السيادة، وتحويل موازين القوة العالمية، وخلق تحديات جديدة للحوكمة العالمية، والتأثير على الهويات والثقافات. وكما يشير تقرير الأونكتاد (2021) حول "الاقتصاد الرقمي"، فإن "التحول الرقمي يعيد تشكيل الاقتصاد العالمي والعلاقات الدولية بشكل جذري، مع تركز القوة الرقمية في عدد محدود من الشركات والدول، مما يخلق تحديات جديدة للتنمية والعدالة على المستوى العالمي".

4-جدلية مستمرة بين الهيمنة والمقاومة: أوضحت الدراسة وجود جدلية مستمرة بين الهيمنة والمقاومة في الفضاء الرقمي الكوكبي، حيث تواجه الهيمنة الرقمية أشكالاً متنوعة ومتطورة من المقاومة، تنبع من مختلف المستويات والفاعلين. وفي المقابل، تطور القوى المهيمنة استراتيجيات مضادة للمقاومة، تهدف إلى احتوائها وتحييدها وإضعافها. وكما تشير أندريجيفيتش (Andrejevic, 2019) في كتابها "Automated Media"، فإن "المقاومة في العصر الرقمي تواجه تحديات جديدة، مع قدرة أنظمة المراقبة والتحكم الآلية على التكيف والتطور باستمرار، واستيعاب أشكال المقاومة التقليدية".

5-إمكانية تجاوز ثنائية الهيمنة والمقاومة: قدمت الدراسة رؤية لإمكانية تجاوز ثنائية الهيمنة والمقاومة، من خلال تطوير "وعي ما بعد رقمي" يتجاوز الحتمية التكنولوجية، ويعيد تعريف العلاقة بين الإنسان والتكنولوجيا، ويبني مشاعات رقمية، ويطور تكنولوجيات متجذرة في السياق، ويؤسس لوعي كوكبي نقدي. وكما يشير كيخانو (Quijano, 2007) في مقالته "Coloniality and Modernity/Rationality"، فإن "تجاوز الاستعمار يتطلب تجاوز الأطر المعرفية والمفاهيمية التي أنتجها وأعاد إنتاجها، وتطوير أشكال جديدة من المعرفة والوجود والفعل".

التوصيات والآفاق المستقبلية:

في ضوء هذه الاستنتاجات، تقدم الدراسة مجموعة من التوصيات والآفاق المستقبلية للبحث والعمل في مجال مواجهة الاستعمار الرقمي الكوكبي:

◄على المستوى البحثي والأكاديمي

1. تطوير أطر نظرية ومفاهيمية متكاملة: هناك حاجة إلى مزيد من البحث لتطوير أطر نظرية ومفاهيمية متكاملة لفهم وتحليل ظاهرة الاستعمار الرقمي الكوكبي، تتجاوز الأطر الغربية المهيمنة، وتدمج رؤى ومفاهيم من مختلف التقاليد الفكرية والثقافية.

2. دراسات حالة متنوعة: إجراء دراسات حالة متنوعة لتجليات الاستعمار الرقمي الكوكبي في سياقات مختلفة، وأشكال المقاومة والبدائل التي تتطور في هذه السياقات، لفهم أفضل للتنوع والتعقيد في هذه الظاهرة.

3. بحوث متعددة التخصصات: تشجيع البحوث متعددة التخصصات التي تجمع بين مختلف المجالات (العلوم السياسية، الاقتصاد، علم الاجتماع، الأنثروبولوجيا، دراسات العلوم والتكنولوجيا، الفلسفة، القانون) لفهم أبعاد الظاهرة المختلفة.

◄على المستوى السياسي والتنظيمي

1. أطر تنظيمية متكاملة: تطوير أطر تنظيمية متكاملة للفضاء الرقمي، تتجاوز التنظيمات الجزئية والمتفرقة، وتعالج مختلف أبعاد الهيمنة الرقمية (التحتية، التمثيلية، القيمية).

2. تعاون إقليمي ودولي: تعزيز التعاون الإقليمي والدولي في مجال الحوكمة الرقمية، وخاصة بين دول الجنوب العالمي، لبناء قوة تفاوضية أكبر في مواجهة القوى المهيمنة.

3. مشاركة المجتمع المدني: ضمان مشاركة فعالة للمجتمع المدني والمجتمعات المحلية في صنع السياسات والقرارات المتعلقة بالفضاء الرقمي، لضمان تمثيل مصالح واحتياجات مختلف الفئات.

على المستوى التكنولوجي والاقتصادي

1. بناء بدائل تكنولوجية: تشجيع ودعم بناء بدائل تكنولوجية للمنصات والخدمات المهيمنة، تقوم على مبادئ الانفتاح والتشاركية والخصوصية والاستدامة.

2. تطوير قدرات محلية: تطوير القدرات المحلية والوطنية في مجال التكنولوجيا الرقمية، من خلال الاستثمار في التعليم والبحث والتطوير، وبناء بنية تحتية رقمية مستقلة.

3. نماذج اقتصادية بديلة: تطوير وتجريب نماذج اقتصادية بديلة في الفضاء الرقمي، تتجاوز نموذج الرأسمالية الرقابية المهيمن، مثل اقتصاد المشاعات والاقتصاد التضامني والاقتصاد الدائري.

◄على المستوى الثقافي والتربوي

1. تربية رقمية نقدية: تطوير وتعميم برامج للتربية الرقمية النقدية، تمكن المواطنين من فهم وتحليل ونقد آليات الهيمنة الرقمية، والتعامل الواعي مع التكنولوجيا.

2. حوار ثقافي متكافئ: تعزيز الحوار الثقافي المتكافئ حول التكنولوجيا والتنمية والتقدم، بين مختلف الثقافات والرؤى، لتجاوز الهيمنة الثقافية الغربية.

3. إنتاج ثقافي بديل: دعم وتشجيع الإنتاج الثقافي البديل في الفضاء الرقمي، الذي يتحدى الهيمنة ويقدم رؤى بديلة للعلاقة بين الإنسان والتكنولوجيا.

وفي ختام هذه الدراسة، نؤكد أن مواجهة الاستعمار الرقمي الكوكبي ليست مجرد تحدٍ تقني أو اقتصادي، بل هي في جوهرها معركة سياسية وثقافية وأخلاقية حول مستقبل الإنسانية والعلاقة بين التكنولوجيا والمجتمع. وهي معركة لا يمكن خوضها بشكل فعال إلا من خلال فهم عميق لطبيعة وآليات الهيمنة الرقمية، وتطوير استراتيجيات متكاملة ومتعددة الأبعاد لمواجهتها.

وكما يشير غروسفوغيل (Grosfoguel, 2011) في مقالته "Decolonizing Post-Colonial Studies"، فإن "التحرر من الاستعمار يتطلب تحولاً جذرياً في أنظمة المعرفة والسلطة والوجود، وبناء عالم يتسع لعوالم متعددة، بدلاً من عالم واحد يفرض نفسه كمعيار كوني".

ونؤكد أيضاً على أن بناء فضاء رقمي كوكبي ما بعد استعماري، يقوم على العدالة والديمقراطية والتنوع والاستدامة، ليس مجرد حلم طوباوي، بل هو إمكانية واقعية تتشكل من خلال النضالات والتجارب والمبادرات المتنوعة التي تتطور في مختلف أنحاء العالم. وهذه الإمكانية تستند إلى الإيمان بقدرة الإنسان على تشكيل التكنولوجيا وفقاً لقيمه وتطلعاته، وليس الخضوع لها كقوة حتمية خارجة عن سيطرته.

 

المراجع

أولاً: المراجع العربية

1-      إبراهيم، أحمد. (2020). "الاستعمار الرقمي وتحديات السيادة الوطنية في العالم العربي". مجلة السياسة الدولية، المجلد 55، العدد 2، ص 78-95

2-      حجازي، مصطفى. (2018). "الإنسان المهدور: دراسة تحليلية نفسية اجتماعية". بيروت: المركز الثقافي العربي.

3-      الحمامي، صادق. (2019). "الاستعمار الرقمي: قراءة في آليات الهيمنة التكنولوجية الجديدة". المجلة العربية للعلوم السياسية، المجلد 62، ص 112-130

4-      حمودة، عبد العزيز. (2007). "الخروج من التيه: دراسة في سلطة النص". الكويت: عالم المعرفة.

5-      الزيات، محمد. (2021). "الوعي الكوكبي والتحولات الثقافية في عصر العولمة الرقمية". مجلة عالم المعرفة، العدد 487، الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب.

6-      السيد، رضوان. (2018). "النظام العالمي الجديد: تحولات القوة في القرن الحادي والعشرين". بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية.

7-      عبد الله، عصام. (2021). "السيادة الرقمية العربية: التحديات والآفاق". مجلة شؤون عربية، العدد 185، ص 45-62

8-      عبد المجيد، وحيد. (2019). "تحولات مفهوم السيادة في عصر العولمة الرقمية". السياسة الدولية، العدد 216، ص 28-42

9-      العيسوي، إبراهيم. (2020). "الفجوة الرقمية وتحديات التنمية في الدول العربية". القاهرة: المركز العربي للبحوث والدراسات.

10-  المسيري، عبد الوهاب. (2002). "العولمة والحضارة: دراسة في المفاهيم والنماذج". القاهرة: دار الشروق.

 

ثانياً: المراجع الأجنبية

1-      Amin, S. (2018). "Modern Imperialism, Monopoly Finance Capital, and Marx's Law of Value". New York: Monthly Review Press.

2-      Andrejevic, M. (2019). "Automated Media". New York: Routledge.

3-      Arora, P. (2019). "The Next Billion Users: Digital Life Beyond the West". Cambridge, MA: Harvard University Press.

4-      Couldry, N., & Mejias, U. A. (2019). "The Costs of Connection: How Data Is Colonizing Human Life and Appropriating It for Capitalism". Stanford, CA: Stanford University Press.

5-      Crawford, K. (2021). "Atlas of AI: Power, Politics, and the Planetary Costs of Artificial Intelligence". New Haven: Yale University Press.

6-      Dussel, E. (2018). "Anti-Cartesian Meditations: On the Origin of the Philosophical Anti-Discourse of Modernity". Journal for Cultural and Religious Theory, 13(1), 11-53

7-      Escobar, A. (2018). "Designs for the Pluriverse: Radical Interdependence, Autonomy, and the Making of Worlds". Durham: Duke University Press.

8-      Fuchs, C. (2019). "Rereading Marx in the Age of Digital Capitalism". London: Pluto Press.

9-      Greenfield, A. (2017). "Radical Technologies: The Design of Everyday Life". London: Verso.

10-  Harcourt, B. E. (2015). "Exposed: Desire and Disobedience in the Digital Age". Cambridge, MA: Harvard University Press.

11-  Kwet, M. (2019). "Digital Colonialism: US Empire and the New Imperialism in the Global South". Race & Class, 60(4), 3-26.

12-  Mignolo, W. D. (2011). "The Darker Side of Western Modernity: Global Futures, Decolonial Options". Durham: Duke University Press.

13-  Morozov, E. (2013). "To Save Everything, Click Here: The Folly of Technological Solutionism". New York: Public Affairs.

14-  Noble, S. U. (2018). "Algorithms of Oppression: How Search Engines Reinforce Racism". New York: NYU Press.

15-  O'Neil, C. (2016). "Weapons of Math Destruction: How Big Data Increases Inequality and Threatens Democracy". New York: Crown.

16-  Pasquale, F. (2015). "The Black Box Society: The Secret Algorithms That Control Money and Information". Cambridge, MA: Harvard University Press.

17-  Srnicek, N. (2017). "Platform Capitalism". Cambridge: Polity Press.

18-  Tufekci, Z. (2017). "Twitter and Tear Gas: The Power and Fragility of Networked Protest". New Haven: Yale University Press.

19-  Vaidhyanathan, S. (2018). "Antisocial Media: How Facebook Disconnects Us and Undermines Democracy". Oxford: Oxford University Press.

20-  Zuboff, S. (2019). "The Age of Surveillance Capitalism: The Fight for a Human Future at the New Frontier of Power". New York: Public Affairs.